إن أهل الزيغ والضلال اتبعوا ما ورد من مشكل في بعض روايات هذا الحديث وزعموا أن هذا الرجل شك في قدرة الله تعالى وفي علمه عز وجل ، وأنه مع هذا الشك كان مؤمناً موحداً . فهم كعادة أسلافهم من أهل الزيغ والضلال اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة والإضلال وتحريف التوحيد الذي هو أصل الأصول .
وهذا الرجل لا يمكن أن يكون شاكاً في علم الله عز وجل بمكان تواجد ذراته المتفرقة في البر والبحر ، ولا يمكن أن يكون شاكاً كذلك في قدرة الله عز وجل على جمع ذراته المتفرقة في البر والبحر ، وإحيائه بعد أن صار رماداً متفرقاً في البر والبحر ، وذلك للأسباب التالية :

الأول : إن هذا رجل موحد كما دلت عليه رواية أحمد في مسنده ، وكما دلت عليه الروايات بمجموعها أنه رجل من أهل الجنة . والإنسان لا يكون موحداً لله بل ولا عارفاً بالله إلا بالإيمان الجازم واليقيني أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم ، وهذا بإجماع المسلمين الموحدين خلا أدعياء التوحيد .

الثاني : إن الله عز وجل وبَّخ أشد ما توبيخ من استبعد قدرته على النشأة الثانية في غير ما آية في كتاب الله عز وجل منها قوله تعالى : [ أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ] (يس: 77-83) حيث اكتفى الله عز وجل بقدرته على خلق الإنسان من العدم كدليل على قدرته على خلقه من جديد حتى ولو صار عظاماً بالية متفتتة ، واستدل على قدرته على خلق الإنسان من العظام البالية بإخراج النار من الشجر الأخضر ، وبقدرته على خلق السماوات والأرض .
وقد اعتبر الله عز وجل استبعاد قدرته على إعادة الإنسان بعد أن أصبح تراباً ( أي كالعدم ) قولاً عجباً ، وتوعد القائلين به ، وذلك في قوله عز وجل : [ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] (الرعد: 5) فلو كان هذا الرجل شاكاً في قدرة الله عز وجل لوبخه الله عز وجل على ذلك .
وكذا فإن الله عز وجل قد اكتفى بدليل الخلق على علم الخالق سبحانه لما خَلَقَهُ ، حيث قال : [ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ] (الملك: 13-14) ، فلو كان هذا الرجل شاكاً في علم الله عز وجل لوبخه الله عز وجل على شكه في علمه سبحانه . لكن الرجل لم يشك في قدرة الله عز وجل ولا في علمه سبحانه وتعالى طرفة عين ولذلك لم يحتج إلى هذا التوبيخ .

الثالث : إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة وخاصة رواة الحديث أنهم نفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند سماعهم للحديث مستوضحين ما اضطربت فيه أقوال المتأخرين ، فإنهم كثيراً ما كانوا يستوضحون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أشكل عليهم ، فلو فهموا من هذا الحديث أن هذا الرجل كان شاكاً في قدرة الله عز وجل أو في علمه سبحانه ومع هذا دخل الجنة لاستشكل عليهم الأمر ، ولسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه . ولم يثبت كذلك لا عن التابعين ولا عن تابعيهم أي استشكال لهذا الحديث ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سلامة فهمهم واتفاقهم على تأويله بعيداً عن المعنى الكفري .

الرابع : إن الرجل صدَّر قوله ( لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ ) بتعظيم الله عز وجل ، كما اتفقت عليه كل روايات الحديث ، حيث قال « فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ » وأنت إذا تأملت تصدير كلامه بتعظيم الله عز وجل ألا وهو الحلف باسم الله عز وجل ، لدلَّك ذلك على أن كلام هذا الرجل كلام معظم لله عز وجل ، لا كلام من يظن به سوءًا ونقصاً في صفاته سبحانه .

الخامس : إن الرجل أوصى بما أوصى من شدة خشيته لله والخوف من أليم عقابه كما اتفقت عليه كل روايات الحديث ، وهذا دليل على تعظيمه لله وتكبيره في نفسه لا على ظنه بالله ظن السوء كما يدعي أهل السوء من أهل الزيغ والضلال .

السادس : إن هذا الرجل قد ذكر وصيته وعدَّها من أفعال الخير ، وذلك في رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل ، فلو كانت وصيته سببها شكه المزعوم في قدرة الله عز وجل أو في علمه سبحانه لما عدَّ ما فعله من أعمال الخير .

السابع : إن هذا الرجل قال جواباً على سؤال الله عز وجل له عن السبب الباعث له على وصية التحريق : ( مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ) (صحيح مسلم ، ط. المطبعة العامرة (8/97) ، ط. المكنز (2/1159) أو ( ص 1415 ، حديث رقم 7156 ) .) ، وإن الله عز وجل لم يكذبه ، مما يدل على أنه إنما أوصى بما أوصى من خشية الله عز وجل وليس شكاً في قدرة الله عز وجل أو في علمه سبحانه ، ويدل قول الرجل ( وَأَنْتَ أَعْلَمُ ) على أن هذا الرجل يؤمن بأن الله عز وجل يعلم ما يخفيه في صدره ، ويؤمن بأن الله عز وجل يعلم السر الذي غيَّبه في صدره عن السبب الباعث له على وصية التحريق ألا وهي خشية الله عز وجل وخوفه سبحانه وتعالى ، فكيف يقال بعد ذلك أنه طمع أن يخفى على علم الله عز وجل إذا غاب رماده في البر والبحر ؟!! وكيف يقال مع إقراره لله عز وجل بالعلم بأن هذا الرجل يشك في قدرة الله عز وجل على خلقه من جديد بعد أن يصبح رماداً مبثوثاً في البر والبحر ؟!!
الثامن : هذا الرجل تحديداً لا يمكن أن يكون شاكاً في قدرة الله عز وجل على جمع رماده المتفرق في البر والبحر وإحيائه من جديد . لأنه يعلم يقيناً أن المقبور سيكون بعد فترة عدماً لأنه كان نباشاً ينبش القبور فلا بد أنه يعرف أكثر من غيره أن الإنسان بعد فترة يبلى ويتحول إلى تراب ولا يبقى من جسده شيئًا . فلو كان شاكاً في قدرة الله عز وجل لما أمر بحرقه وذري رماده في البر والبحر لأنه كما أنه بذري رماده في البر والبحر يكون كالعدم فإن المقبور أيضاً بعد فترة بتحوله إلى تراب يكون كالعدم فلا فرق . إلا أنه أراد من التحريق وذري الرماد معنى آخر أشرنا إليه في شرح الحديث ، وبالله ملك الملوك جل جلاله توفيقنا .
ولأدعياء التوحيد مذاهب شتى في تأويل هذا الحديث ابتغاء الفتنة والإضلال ، وتحريف التوحيد الذي هو أصل الأصول ، وظناً منهم أنهم يستطيعون أن يطفئوا بذلك نور الله عز وجل ، [ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ] (الصف: 8) ، وإننا فيما يلي سنكشف الستار عن هذه المذاهب الشركية بفضل الله عز وجل ، وننقضها بمعونة ملك الملوك جل جلاله ، وبالله التوفيق .
--------------------------------------------------------------------------------
منقول من كتاب توفيق اللطيف المنان في بيان أن الشاك في الله ليس من أهل الإيمان وأن الموالي له في الحكم سيان ، للشيخ المهتدي بالله عبد القادر بن إسماعيل الإبراهيمي .
(1 / 270 - 272 ) ، ولقد شرح فيه هذا الحديث شرحا وافيا ، ورد على مذاهب المشركين المتعددة في شرح هذا الحديث ، فانظر الكتاب للفائدة الأتم .

http://www.2shared.com/file/7835928/...awfiq_pdf.html
أو
http://www.mediafire.com/?eznrmbtj5ln

والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا .