تنعيم الخط وتدقيقه ، وجمع الكتاب الكبير أو الكتب الكثيرة في مجلد واحد .
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى – مُعَلِّقاً على ما سبق في حاشيته على كتاب : " توجيه النظر إلى أصول الأثر " ، للشيخ طاهر الجزائري ( 2 / 802 ، 803 ، 804 ، 805 ) :
توجهت همم بعض العلماء إلى تنعيم الخط جداً ، وجمع الكتاب الكبير أو الكتب الكثيرة في مجلد واحد ، بحيث لو طُبع ذلك الكتاب أو ما في ذلك المجلد من كتب في عصرنا هذا لخرج في مجلدات كثيرة جداً . وباعثهم إلى هذا قديماً ثلاثة أسباب :
1 - الفقر ، والفقر - كما نعلم - صديق العلماء ورفيقهم .
2 - التخفيف من أثقال كثرة الكتب في الأسفار والارتحال إلى العلماء للسماع منهم والأخذ عنهم ، فقد كانوا يحملون كتبهم على ظهورهم ويمشون بها في الأيام والليالي المسافات الطوال ، إذ كانوا لفقد المال يفقدون الركوبة أو أجرتها ، فإذا نَعَّمُوا خط الكتاب صَغُرَ حجمه ، وخَفَّ حمله ، وقلت تكلفته . وفي خبر الخطيب التبريزي ( ت : 502 هـ ) مع كتاب " الهذيب في اللغة " للأزهري شاهد ناطق من حال هؤلاء النفر من العلماء ، وقد حكى واقعته هذه ياقوت الحموي في معجم الأدباء ( 5 / 629 ) ، قالا : يحكى أن سبب رحلته إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة للأزهري ، فجعل الكتاب في مخلاة ، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة ، ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً ، فنفذ العرق من ظهره إليها ، فأثر فيها البلل . وهذه النسخة في بعض المكاتب الموقوفة ببغداد إذا رآها من لا يعرف خبرها ظن أنها غريقة ، وليس بها سوى عرق الخطيب .
3 - ضيق المكان الذي يعيشون فيه ، فالعلماء قديماً كانوا – على الغالب – يسكنون الحُجَر في المدارس ، فلا تتسع هذه الحُجْرة للكتب الكثيرة ، مع القيام والمنام والطعام فيها .
وأذكر هنا بعض النماذج من تلك الكتب :
1- نسخة من كتاب " تهذيب الكمال للمزي ، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في شرحه على المُسند ( 15 / 249 ) ، وهو يذكر المراجع التي استعان بها في شرحه : " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " للحافظ المزي ، وهو أصل كتاب " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر ، وهو يقع في عدد كبير من المجلدات الضخام ، تختلف باختلاف النسخ ، ولكنه يكاد يوازي ضِعْفَ حجم " تهذيب التهذيب " المطبوع في اثني عشر مجلداً كبيراً . وجدنا نسخة مخطوطة منه نفيسة بدار الكتب المصرية ، بخط نسخي دقيق جداً ، أمكن من كتابة الكتاب كلِّهِ في مجلد واحد متوسط ، على ورق رفيع جميل ، وهي منقولة عن نسخة نُقِلت عن خط المؤلف ، وقوبلت وصُححت ، يغلب عليها الصحة ، وفرغ من كتابتها في 8 من ربيع الآخر سنة 1051 هـ .
2 – نسخة من " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ، ومعها كتب أخرى متعددة كلها في مجلد واحد . رأيتها في الخزانة العامة في مدينة الرباط ، في مكتبة شيخنا العلامة المُحَدِّث عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى ، برقم ( 583 ) ، مكتوبة بخط ناعم ، وهي في ( 1293 ) صفحة لا ورقة ، من القطع الكبير ، بخط مغربي دقيق . وكتب الأخ الصديق الشيخ محمد إبراهيم الكتاني أمين المخطوطات في الخزانة رحمه الله تعالى بخطه على وجه النسخة هذه : " هذه النسخة العجيبة من فتح الباري في مجلد واحد ، هي بخط المُحَدِّث الكبير أبي العباس أحمد بن العربي بن سليمان الأندلسي ثم الفاسي ، المتوفى سنة 1141 هـ ، قال الإمام محمد بن جعفر الكتاني أثناء ترجمته من " سلوة النفاس " : ومن براعته نسخ نسخة من فتح الباري في سِفْرٍ واحد . وهي هذه " كتبه محمد إبراهيم الكتاني . قال عبد الفتاح : ويسبق أول هذه النسخة ( 46 ) صفحة ، فيها الكتب التالية : شرح ألفية العراقي في المصطلح له ، من الأول حتى صفحة ( 29 ) ، ثم يليه : شرح نظم في الحديث للسيد المُحَدِّث عبد القادر الفاسي ، من صفحة ( 30 - 35 ) ، ثم يليه : منظومة أبي العباس أحمد بن زكري في المصطلح ، من صفحة ( 36 - 37 ) ، ثم يليه : متن " نخبة الفكر " للحافظ ابن حجر ، من صفحة ( 37 - 38 ) ، ثم : متنم الألفية للعراقي من صفحة ( 38 – 46 ) . وكلها بخط ناعم دقيق لكاتب فتح الباري ، وبعض الصفحات تحوي ( 120 ) سطراً ، فكأن الكتاب كُتِبَ برأس الإبرة .
3 – قرأت في كتاب " نيل الوطر في تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر " للعلامة محمد بن يحيى زُبَارَة اليمني ( 2 / 279 ) في ترجمة الشيخ العلامة المُحَدِّث محمد عابد السِّندي المكي ، المتوفى سنة 1257 هـ ، رحمه الله تعالى ، ما يلي :
" واشتغل بجمع الأمهات الست في مجلد واحد ، ونسخ " فتح الباري بشرح البخاري " في مجلد واحد ، ولما أكمل الأمهات جمع الأعيان من أبناء الزمان لذلك الشأن ، وأظهر السرور ، وكذلك فعل عند إكماله لفتح الباري " . انتهى .
وقال شيخنا العلامة عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس والأثبات ( 2 / 722 ) في ترجمة العلامة السِّندي المُحَدِّث المذكور : " وخلف مكتبة نفيسة ، أوقفها في المدينة المنورة ، اشتملت على نفائس وأصول عتيقة ، عليها سماعاتُ أعلام الحفاظ . ومن أهمها وأغربها وأنفسها سفر واحد اشتمل على الموطأ ، والكتب الستة ، وعلوم الحديث لابن الصلاح ، مقروءة مُهمَّشة بخط واضح ، وهو سفر لا نظير له فيما رأيت من عجائب ونوادر الآثار العلمية ، على كثرتها في أطراف الدنيا.
4 – وجاء أيضاً في فهرس الفهارس والأثبات ( 2 / 1044 ) في ترجمة محمد بن علي السنوسي ، ما يلي :
" قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن صعد التلمساني الأنصاري في كتابه " روضة النسرين في مناقب الأربعة المتأخرين " : كان سيدي أبو القاسم حافظ المغرب في وقته وإمام الدنيا يعني العبدوسي الفاسي نزيل تونس ممن فتح عليه في حفظ البخاري ، والقيام عليه نسخاً وفهماً وقراءةً ، رأيت في بعض التقاييد أنه نسخ منه ثماني نسخ وربما فعل أكثر ، أكثرها في سفر واحد ، ونسخ أيضاً من صحيح مسلم تسع نسخ ، وأما غيرهما من كتب الحديث والفقه فنسخ من ذلك ما لا يأتي عليه العد والإحصاء ... " . انتهى .
ومعذرةً من إطالة هذه التعليقة ، فقد أردت بها تحميض القارئ ؛ لطرافتها وغرابتها . اهـ .