بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده، وبعد:
فهذا مبحث مستلٌّ من رسالة الشيخ د. عادل بن عبدالشكور الزرقي للدكتوراه: (مرويات الإمامين قتادة بن دعامة ويحيى بن أبي كثير المعلة في كتاب العلل للإمام الدارقطني)، وقد تكلم فيه عن تدليس قتادة.
فقال -رعاه الله-:
اشتهر عند أهل العلم بأن قَتادة كان يدلِّس في الحديث .
قال شعبة عنه : « إذا جاء ما لم يسمع يقول : قال سعيد بن جبير ، وقال أبو قلابة … »([1]) .
وقال أبو داود : « حدَّث قَتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم »([2]) .
وقدَّم أبو حاتم قَتادة على أيوبَ في معاذة بقوله : « قَتادة إذا ذكر الخبر – يعني إذا بيَّن السَّماع »([3]) .
وممن وصفه بالتَّدليس ابن حبان([4]) والحاكم([5]) والخطيب ([6]) .
وقال الذَّهبيُّ : « مدلِّس معروف بذلك »([7]) .
وقد ذكره ابن حجر في الطَّبقة الثالثة من طبقات المدلِّسين الذين أكثروا من التَّدليس ، فلا يحتجُّ الأئمَّة من أحاديثهم إلا ما صرَّحوا فيه بالسَّماع([8]) .
وفي ذكره في هذه الطبقة نظر ، بل هو مرجوح للغاية ، فمثله في المرتبة الثانية - على أقل تقدير – وهم من احتمل الأئمة عنعنتهم ، وأخرجوا له في الصَّحيح وإن لم يصرِّحوا بالسَّماع لعدة أسباب منها :-
1. أن مصطلح التَّدليس عند من وصف بعضَ الرُّواة بالتَّدليس جارٍ على كلامهم بلغة العرب قبل نشأة المصطلح ، والتَّدليس لغة التَّكتم ، وكتمان العيب([9]) ، قال البزَّار : « التَّدليس ليس بكذب ، وإنَّما هو تحسين لظاهر الإسناد »([10]) . فهو أعمُّ مما عند أهل المصطلح المتأخر . فكل تكتُّم لعيب في الإسناد يعدُّ تدليساً فصاحبه مدلِّس ، ومن حدَّث عن أناس لم يسمع منهم أو لم يلقهم أصلاً ، وكتم هذا العيب على عموم النَّاس ، فقد دلَّس عليهم ، وإن علم بذلك خواص أهل العلم ، فلا يخرجه ذلك من هذا الوصف إجمالاً ، فتنْزيل كلامهم على ما اصطلحوه مؤخراً غير صحيح . ومن شواهد ذلك :-
*أ- قول ابن حبَّان في يحيى بن أبي كثير : « كان يدلِّس ، فكلما روى عن أنس فقد دلَّس عنه ولم يسمع من أنس ، ولا من صحابي شيئاً »([11]) . وقال أيضاً : « بشير بن المهاجر الغنوي ، من أهل الكوفة ، يروى عن عبد الله بن بريدة ، وقد روى عن أنس ، ولم يره ، دلَّس عنه »([12]) .
*ب- قول ابن عبد البر : « يدلِّس كثيراً عمن لم يسمع منه »([13]) .
2. أنَّ كلَّ من وصفه بالتَّدليس ، لم يذكر اشتهاره به ، سوى ما نقله ابن حجر عن النَّسائي ، ولم يحكِ لفظه ، فيضعف الاحتجاج به نوعاً ما ، ولا يلزم من الاشتهار بالشيء الإكثار منه ، فالإكثار أخص من الاشتهار ، والذي يظهر لمن سبر أحاديثه وعللها ، أنَّ تدليسه قليل في جنب ما روى ، ولعل وصفه بالكثرة نسبي لمن يشدِّد فيه ، أو لأنَّ أهل البصرة قد أكثروا من ذلك عموماً .
3. أن من وصفه بالتَّدليس من العلماء – كشعبة – ذكر أسماء معينة كان قَتادة يفعل ذلك معهم ، لا مع كل راوٍ ، فكيف إذا كان شيخه أنس -رضي الله عنه- ، وقليلٌ أن يصرح عنه في جنب ما روى عنه .
4. أنَّ الأسماء التي ذكرت في روايته عنهم – ولم يسمع منهم – تخرج المسألة من التَّدليس الاصطلاحي إلى الإرسال الخفي في اصطلاح ابن حجر والانقطاع عموماً عند من سلف ، فكيف يحتجُّ بذلك في باب التَّدليس هذا ، وقد ذكر أبو داود أنَّه حدَّث عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم كما سبق قبل قليل ، وليس هذا بتدليس عند من تأخر ، وهو كذلك عند السابقين بعموم التعمية .
5. أن البخاريَّ ومسلم والتِّرمذيَّ وابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم وغيرهم - ممن ألَّف في الصَّحيح أو تميَّز بالحكم على كثير من الأحاديث – صحَّحوا كثيراً من أحاديث قَتادة التي عنعن فيها ، ولم يردُّوها بالعلَّة هذه ، بل بعلةٍ أخرى إن وجد للحديث علة ما ، فأين الأئمَّة الذين يقول ابن حجر بأنهم يردُّون عنعنتهم ؟
ولذا قال ابن دقيق العيد بعد كلام طويل عن هذا الإشكال : « … وإلا فيجوز أن يرى أنها محمولة على السَّماع حتى يظهر الانقطاع ، وإذا جاز وجاز ، فليس لنا الحكم عليه بأحد الجائزين مع الاحتمال » ، إلى أن قال : « والأقرب في هذا أن نطلب الجواب من غير هذا الطَّريق ، أعني طريق القدح بسبب التَّدليس »([14]) .
6. أن صفات الطَّبقة الثَّانية منطبقة عليه تماماً ، وبيانه :-
أ*. أن الأئمَّة احتملوا عنعنة قَتادة ، وأخرجوا له في الصَّحيح معنعناً كما سبق ، وقول ابن حجر : « من احتمل الأئمة تدليسه » ، فيه تجوز ، فإن الأئمَّة لا يحتملون التَّدليس عن غير الثِّقة إذا ثبت لهم ، ولعل ابن حجر أراد أن يقول : « عنعنته »([15]) ، ويلزم على ظاهر كلام ابن حجر قبول عنعنة كل من في الطبقة الثالثة للوصف الذي ذكره ، وهو ما أراد الحافظ أن يبعد عنه !
ب*. أن قَتادة من أئمَّة الحديث ، وهذا متفق عليه بينهم ، وقد تقدَّم أن قَتادة ممن تدور عليه الأسانيد ، ففي اشتراط تصريحه ردٌّ لكثير من الأحاديث الصحيحة .
ت*. أن الثابت من تدليسه في جنب ما روى لا يكاد يعدُّ شيئاً ، بدليل كثرة ما رواه معنعاً في كل الطُّرق – وليس له متابع فيه – بجنب ما ردَّه الحفَّاظ بسبب عنعنته . وقد روى مئات الأحاديث عن أنس -رضي الله عنه- وغيره بالعنعنة ، ومن يستطيع أن يثبت أنه دلَّس في عشر عشر ذلك ، بل لم يرد عن السَّلف رد حديث واحد سليم متنه وإسناده بعنعنته .
فالأصح أنَّ قتادة في الطبقة الثانية من المدلسين وأنَّ عنعنته – لا تدليسه - مقبولة بالشُّروط التَّالية :-
1) سلامة المتن من الشذوذ أو النَّكارة ، وهذا يعرفه غالباً من له اشتغال بالسُّنة النَّبوية ، ومقاصد الشريعة ، فإذا لم نجد علة في الحديث سوى عنعنة قَتادة مع ما في المتن من نكارة ، أُلزق ذلك باحتمال تدليس قَتادة ، هذا الشرط للحدِّ من التشدد في عنعنته ، أما مع التَّوسط فيقال بقبول عنعنته ، مالم يظهر بجلاء نكارة في المتن .
2) سلامة السَّند من الشذوذ أو المخالفة للأرجح ، ويقال هنا أيضاً ما قيل في الأول .
3) وجود قرائن تدلُّ على ثبوت سماعه من الراوي ، كذكره في شيوخه ونحو ذلك
قال ابن عبد البرِّ في بيان هذين الشرطين : « وقَتادة إذا لم يقل سمعت ، وخولف في نقله فلا تقوم به حجَّة لأنه يدلِّس كثيراً عمن لم يسمع منه ، وربَّما كان بينهما غير ثقة »([16]) . فبقوله : « وخولف » ، وقوله : « عمَّن لم يسمع منه » ، يتبين لنا الشَّرطان الأخيران .
4) ألا يوجد تعليل أو تضعيف لإمام حافظ من السَّابقين - لتلك الرِّواية التي لم نجد فيها علة تذكر – سوى عنعنة قَتادة – لم نطَّلع نحن على ما اطَّلع عليه من سبب يوجب القدح في تلك الرِّواية .
فإذا فُقِد أحد هذه الشُّروط جاز التَّوقف للعالم بالحديث في صحة الرِّواية لاحتمال تدليس قَتادة ، دون أن يجزم بلا علم بأنَّ في الحديث تدليس قَتادة كذا بدون برهان قاطع ، أما ردُّ حديثه بمجرد عنعنته ، فقد حكم عليه ابن عبد البر بأنه تعسُّف([17]) .
أما إذا أرسل قَتادة الحديث عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ، أو عمَّن لم تثبت قرينة على سماعه منه ، فقد كان القطَّان لا يرى إرسال الزُّهري وقَتادة شيئاً ، ويقول : « هو بمنْزلة الرِّيح » ويقول : « هؤلاء قوم حفَّاظ ، كانوا إذا سمعوا الشيء عَلِقُوه »([18]) .
---------------------------------------------
([1]) الكفاية (ص401) .
([2]) التهذيب (3/430) .
([3]) الجرح (7/135) .
([4]) الثقات (5/322) .
([5]) معرفة علوم الحديث (ص103) .
([6]) الكفاية (ص496) .
([7]) السير (5/271) .
([8]) تعريف أهل التقديس (ص63و146) .
([9]) القاموس (ص703) ، (دلس) .
([10]) النكت للزركشي (2/81) .
([11]) الثقات (7/592) .
([12]) الثقات (6/98) .
([13]) التمهيد (3/307) .
([14]) النكت للزركشي (2/96-97) .
([15]) من النصوص المهمة التي يُرَدُّ بها على من أعل بعنعنة المدلس أن أبا زرعة ضعَّف حديثاً فيه عنعنة بقية ، فقال له ابن أَبي حاتم : «تعرف له علة ؟ قال : لا » – العلل (1/488) .
([16]) التمهيد (3/307) .
([17]) التمهيد (19/287) .
([18]) المراسيل لابن أبي حاتم (1) .