شهر رمضان فضله وبعض ما يشرع فيه من العبادة
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
فإذا أفطر من شرع له الفطر بسبب المرض لزمه أحد أمرين:
إما القضاء بعدد الأيام التي أفطرها، أو الإطعام عن كل يوم مسكينا نصف صاع من الطعام، على التفصيل الآتي بيانه: فالمريض الذي يرجى برؤه إذا أفطر لزمه القضاء، ولا يلزمه الإطعام، ولا يجزئه لو فعله.
فإذا استمر به المرض بعد رمضان ولم يتمكن من القضاء، حتى مات، لم يلزمه شيء، ولا يلزم ورثته أيضا شيء. أما إن تمكن من القضاء ففرط ولم يصم حتى مات؛ فإنه يشرع لوليه أن يصوم عنه؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"متفق عليه؛ ولأنه دين عليه؛ ودين الله أحق بالوفاء.
أما المريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه لا يلزمه إلا الإطعام، فإن أطعم سقط عنه الفرض، وله أن يطعم جمعا من المساكين بعدد الأيام التي أفطرها، في يوم واحد، بأن يصنع لهم وليمة ويدعوهم إليها أو يوزعها عليهم.
فإن شفي من المرض بعدما أطعم لم يلزمه القضاء؛ لأنه فعل الواجب عليه فبرئت ذمته. وإن مات وهو لم يطعم، أطعم عنه من ماله قبل قسمة التركة؛ لأنه دين ثابت في ذمته، حتى لو مات في أثناء الشهر ولم يطعم عما مضى من الأيام أطعم عنه من ماله.
ومن الأعذار المبيحة للفطر في نهار رمضان، السفر، فإن المسافر مسافة قصر يشرع له الفطر لقوله تعالى:
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [سورة البقرة: 184].
فإذا أفطر المسافر في سفره، لزمه القضاء بصيام يوم مكان كل يوم من رمضان أفطره في سفره.
والتفضيل بين الفطر والصوم في السفر مسألة مشهورة عند أهل العلم، والخلاف فيها معروف ولكل دليله، وينبغي أن يعلم أن هذا الخلاف فيما إذا كان الصوم لا يشق على المسافر، أما إن كان شاقا عليه، فلا شك حينئذ في استحباب فطره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما رأى رجلا قد ظلل عليه، قد أعياه الصوم في السفر: ليس من البر الصيام في السفر". [صحيح البخاري الصوم (1844)،صحيح مسلم الصيام (1115)].
بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شدد في هذا كثيرا، فإنه "لما خرج عام الفتح وكان صائما، فلما بلغ كراع الغميم، قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصوم، فأفطر وأمر الناس بالفطر، فبلغه أن أناسا لا يزالون صياما، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أولئك العصاة، أولئك العصاة". [صحيح مسلم الصيام (1114)، سنن الترمذي الصوم (710)، سنن النسائي الصيام (2263)].
وإذا كان القوم صحبة في سفر، وكان بعضهم صائما وبعضهم مفطرا، فإنه لا ينبغي أن ينكر هذا على هذا؛ لأن كلا منهما قد اتبع سنة، فالصائم عمل بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غالب أسفاره. والمفطر عمل بقوله وبفعله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانت هذه حالهم في أسفارهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول أنس رضي الله عنه: "كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" [صحيح مسلم الصيام (1117)، سنن الترمذي الصوم (713)، سنن النسائي الصيام (2310)، مسند أحمد بن حنبل (3: 50)].
ومن الأعذار التي يشرع لأجلها الفطر للصائم سواء كان رجلا أو امرأة: الكبر، فالكبير إذا شق عليه الصوم أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [سورة البقرة: 184]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليست بمنسوخة. وهو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا" رواه البخاري.
ومن الأعذار التي يختص بها النساء دون الرجال:
الحيض والنفاس، فالحائض لا يجوز لها الصوم، ولا يصح منها لو فعلت، وهي آثمة بصومها حال حيضها، وذلك بالإجماع. دليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث خطبته لأحد العيدين، "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن يا معشر النساء، قلن له: وما نقصان عقلنا وديننا؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها" متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والنفساء لها حكم الحائض.
ويجب على كل من الحائض والنفساء، قضاء يوم عن كل يوم أصابها فيه الحيض والنفاس أثناء رمضان، لحديث معاذة، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قالت: لست بحرورية، ولكنني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" رواه الجماعة بألفاظ متقاربة.
ومن الأعذار التي يختص بها النساء أيضا، الحمل والإرضاع:
فإن الحامل أو المرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما جاز لهما الفطر، أفتى بذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فإن أفطرت الحامل أو المرضع خوفا على نفسها، لزمها قضاء يوم مكان كل يوم أفطرته بسبب ذلك. وإن أفطرتا خوفا على ولديهما، لزمهما مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، وهذا مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين ثم أنه يحسن هنا التنبيه لبعض الأمور:
أولًا: أن النية في شهر رمضان واجبة، ويكفي أن ينوي العبد المسلم أنه سيصوم رمضان في أول الشهر، ويستصحب حكمها بقية الشهر، بمعنى ألا يقطع الصيام لا بفعله ولا بنيته، فإن قطعه بفعل أو بنية لزمه استئناف نية جديدة.
وأمر النية قد يشكل على كثير من المسلمين، وقد يورث عند بعضهم الوسوسة، وهو أمر يسير، فالنية إنما هي العزم على الصيام، والعبد المسلم منذ أن يعلم أن غدا من رمضان وهو عازم على صيامه إلا إن كان فيه مانع من الموانع، ومحل النية القلب ولا يجوز التلفظ بها.
ثانيًا: ينبغي للمسلمين أن يحرصوا على السنة في تعجيل الفطور، لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه.
وفي تأخير السحور جاء حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: "تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قمنا إلى الصلاة. قلت- أي الراوي عن زيد-: كم كان قدر ذلك؟ قال: خمسين آية" متفق عليه.
ثالثًا: يلاحظ على كثير من المسلمين السهر في ليالي هذا الشهر الكريم على الملهيات، حتى إذا اقترب وقت السحر ناموا، ففاتهم فضل السحور وفضل إدراك وقت النزول الإلـهي، وربما فاتتهم صلاة الفجر والعياذ بالله، فالواجب على العبد الحزم في ذلك، وأن يجعل شهره هذا موسما للازدياد من الطاعات، وأن لا ينشغل بما يصده عن الله من الملهيات.
ومن العبادات المشروعة في هذا الشهر الكريم عبادة القيام، قيام الليل فإنه دأب الصالحين، وقد شرعه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولأمته في كل أيام العام، بل كان واجبا عليهم ثم خفف الله عنهم يقول الله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [سورة المزمل: 20].
وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقيام الليل فقال: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [سورة الذاريات: 17].
وصلاة الليل هي أفضل الصلوات بعد الفرائض؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل" الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
والأفضل تأخير قيام الليل إلى جوف الليل لمن وثق بالقيام؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر، ثم ليرقد، ومن وثق بقيام من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن قراءة آخر الليل محضورة، وذلك أفضل" رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
والأصل في صلاة الليل أن تكون مثنى مثنى ثم يوتر بواحدة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى" متفق عليه.
والأفضل أن يختم صلاته بالليل على وتر؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" [صحيح البخاري الجمعة (953)،صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (751].
ولا حد لصلاة الليل فإن صلى إحدى عشرة ركعة فحسن، وإن صلى ثلاث عشرة فحسن أيضا؛ فإن هذا مما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فإن صلى ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو تسعا، أو زاد فصلى خمس عشرة أو سبع عشرة، أو إحدى وعشرين أو ثلاثا وعشرين، أو أكثر من ذلك فلا بأس إذا قطعها على وتر؛ لأن الأصل في صلاة الليل عدم التحديد كما تقدم من الآية، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم: "صلاة الليل مثنى مثنى". وهذا جواب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن صلاة الليل، ولو كانت محدودة بعدد قلة وكثرة لبين ذلك له.
والمسلم ينبغي ألا يغفل عن صلاة الليل، وإن لم يدرك ذلك فلا أقل من الوتر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" متفق عليه.
هذا، وإن قيام الليل ليتأكد في رمضان ويزيد فيه الأجر والفضل يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"رواه الجماعة.
ويشرع في هذا الشهر الكريم قيام الليل جماعة وهو ما يسمى بـ (التراويح) فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك مع أصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال، أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين. وقد سنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه طوال الشهر وهذا ثابت عنه في الصحيحين أيضا.
وينبغي للإمام مراعاة حال مأموميه قوة وضعفا، فلا يطيل بهم إطالة تشق عليهم، ولا يخل بمقصود الصلاة فينقرها نقرا، بل تكون صلاته معتدلة نافعة يسمع فيها من يصلي خلفه القرآن، من غير مشقة زائدة عليهم.
ومن العبادات المشروعة في هذا الشهر الكريم، تلاوة القرآن كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وشهر رمضان هو شهر القرآن: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [سورة البقرة: 185].
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن جبريل عليه السلام، كان يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مرة كل عام وذلك في رمضان، ودارسه إياه عام قبض - صلى الله عليه وسلم - مرتين في رمضان.
وقد كان للسلف أحوال يطول ذكرها مع القرآن في هذا الشهر الكريم، والمقصود هنا التنبيه على أفضل ما يشرع من العبادات في هذا الشهر الكريم، وإن كان جنسها مشروعا في غير رمضان لكن فضلها في رمضان أكبر وأجرها أعظم.
ومما يشرع أيضا في هذا الشهر كثرة البذل والصدقات؛ فإن هذا من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة" [صحيح البخاري الصوم (1803)، صحيح مسلم الفضائل (2308)].
ومما يشرع في هذا الشهر الكريم من العبادات الاعتكاف.
والاعتكاف في اللغة: من العكوف، وهو بمعنى الإقامة على الشيء، ولزومه.
وفي الشرع: التعبد لله عز وجل، بلزوم بيت من ييوت الله، من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة.
وهو مشروع في المساجد كلها لعموم قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [سورة البقرة: 187] ولا حد لأكثره باتفاق. واختلفوا في أقله، فمن قائل أقله يوم وليلة، ومن قائل بل يوم أو ليلة، ومن قائل بل ساعة، ومنهم من قال بل يكفي المرور بنية الاعتكاف. ومنهم من اشترط الصوم للاعتكاف، والصحيح عدم اشتراطه؛ لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك فاعتكف ليلة"رواه البخاري ومسلم.
ويتجنب المعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، وهو البول أو الغائط؛ ففي الصحيحين أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا" هذا لفظ البخاري، وزاد مسلم: "إلا لحاجة الإنسان". وفسرها الزهري رحمه الله بالبول والغائط.
وكذلك يجوز له الخروج من المسجد للأكل والشرب إذا لم يكن له من يحضر الطعام والشراب في معتكفه. وإذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه جمعة، وأدركته الجمعة وجب عليه الخروج ليصليها في مسجد تقام فيه الجمعة. ولا يخرج لغير ذلك من الحوائج لا لعيادة مريض ولا لاتباع جنازة ولا غيرها، إلا إذا شرطها.
والجماع يفسد الاعتكاف بـالإجماع. ويجـوز لزوج المعتكف وأهله زيارته في معتكفه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه، فعن علي بن الحسين قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وعنده أزواجه، فرحن، فقال لصفية بنت حيي: "لا تعجلي حتى أنصرف معك" الحديث رواه البخاري.
وينبغي للمعتكف أن يستشعر حقيقة هذه العبادة، وأن يملأ وقته في المسجد، بأنواع العبادات من صلاة، وتلاوة لكتاب الله وذكر ودعاء واستغفار، والتنويع بين العبادات يبعث العبد على النشاط في العبادة وعدم الملل، فيحصل له بذلك الأجر الكثير.
وينبغي هنا التنبيه على ما يفعله بعض إخواننا من اتخاذ المعتكف مكانا لمجلبة الزوار، وتجاذب أطراف الأحاديث، والانشغال بأمور الدنيا ومتابعتها، إما من طريق من يزورهم أو عبر هواتفهم ونحو ذلك. وكل هذا ينافي المقصود من الاعتكاف وهو الإقامة على طاعة الله وملء الوقت بعبادة الله.
وأفضل الأوقات للاعتكاف هو شهر رمضان وأفضل أيام الشهر ولياليه، هو العشر الأخيرة منه، وقد استقرت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاعتكاف في العشر الأخيرة من رمضان تحريا لليلة القدر، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قلت: هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ليلة القدر؟ قال: نعم، "اعتكفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان، قال فخرجنا صبيحة عشرين. قال فخطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبيحة عشرين، فقال: إني أريت ليلة القدر، وإني أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في وتر، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، ومن كان اعتكف مع رسول الله فليرجع، فرجع الناس إلى المسجد، وما نرى في السماء قزعة، قال: فجاءت سحابة، فمطرت وأقيمت الصلاة فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطين والماء، حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته". رواه البخاري.
ويشرع لمن أراد اعتكاف العشر أن يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح من اليوم الحادي والعشرين؛ لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه" متفق عليه.
وقد ذكر بعض العلماء أن المعتكف ينبغي له أن يبدأ في اعتكافه من غروب شمس يوم العشرين من رمضان؛ ليدرك ليلة إحدى وعشرين وهي إحدى الليالي الوتر التي يرجى فيها ليلة القدر، بل قد حصل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين، كما مر قريبا في حديث أبي سعيد الخدري.
وأجاب هؤلاء العلماء عن حديث عائشة بأنها رضي الله عنها إنما ذكرت دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - المعتكف في صبيحة إحدى وعشرين، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتخذ مكانا مهيأ له في المسجد ليعتكف فيه، وهذا لا يمنع كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد مكث في المسجد من غروب الشمس حتى الصبح، ثم دخل المعتكف بعد صلاة الصبح، ولعل هذا القول هو الأقرب.
وينبغي للمسلم أن يتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويهتدي بهديه، ويحرص على اتباع سنته، فيعتكف اعتكافا كما اعتكفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقته وهيئته وأن يبتعد عما يخدش ذلك أو يبطل اعتكافه من الأقوال والأعمال فالأمر يسير والأيام قليلة، فعلى العبد أن يوطن نفسه على الصبر في مواطن الطاعات، فإن ذلك من أجل القربات.
ثم إن على المسلم أن يحرص في آخر هذا الشهر بكثرة العبادات والاجتهاد فيها خصوصا في ليالي العشر، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله، وإحياء الليل يكون بالصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن والاستغفار، وغير ذلك من العبادات.
إخواني:
إن شهر رمضان من الأزمان الفاضلة والمواسم الخيرة التي ينبغي للمسلم اغتنامها بالصالحات، والحرص على الطاعات، فكم من أخ لنا انتظر هذا الشهر ولم يستقبله، وكم ممن استقبله لم يكمله، وكم ممن أكمله لم يدركه من قابل.
والله سبحانه تفضل على عباده المسلمين بهذا الشهر الكريم وشرع لهم من العبادات ما يكون لهم به الأجر العظيم، والخير الكثير. وقد خص الله هذه الأمة على سائر الأمم بمزيد منه وعطائه، فالأعمار قصيرة، والأعمال قليلة، والأجور مضاعفة كثيرة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملا وأكثر أجرا، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" رواه البخاري.
اللهم اجعلنا ممن أدرك هذا الشهر الكريم، ووفقته فيه للصيام والقيام والذكر والدعاء وسائر الطاعات، اللهم واجعل عملنا فيه صالحا، ولوجهك خالصا، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللهم واجعلنا ممن أدرك ليلة القدر، فكتبت له فيها عظيم الأجر، اللهم وفقنا للأعمال الصالحة بعد رمضان، وأعده علينا أعواما عديدة والأمة الإسلامية في خير حال يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية - العدد: 61 - من رجب إلى شوال لسنة 1421هـ.