المحلى : 523 - مسألة - وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره،
والعبد، والحر، والمقيم، وكل من ذكرنا يكون اماما فيها، راتبا وغير راتب، ويصليها المسجونون، والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس، وتصلى في كل قرية صغرت أم كبرت، كان هنالك سلطان أو لم يكن، وان صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدا جاز ذلك * ورأى أبو حنيفة ومالك والشافعي أن لاجمعة على عبدو لا مسافر.
* واحتج لهم من قلدهم في ذلك بآثار واهية لا تصح: أحدها مرسل، والثانى فيه هريم وهو مجهول والثالث فيه الحكم بن عمرو، وضرار بن عمرو، وهما مجهولان ولا يحل الاحتجاج بمثل هذا *
ولو شئنا لعارضناهم بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفر، وخطبهم يتوكأ على عصا) ولكننا والله الحمد
في غنى بالصحيح عما لا يصح * واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهر في صلاة الظهر بعرفة، وكان يوم جمعة * قال على: وهذه جرأة عظيمة! وما روى قط أحد أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والقاطع بذلك كاذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قد قفا مالا علم به * وقد قال عطاء وغيره: إن وافق يوم عرفة يوم جمعة جهر الامام * قال على: ولا خلاف في أنه عليه السلام خطب وصلى ركعتين وهذه صفة صلاة الجمعة، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام لم يجهر لما كان لهم في ذلك حجة أصلا، لان الجهر ليس فرضا، ومن أسر في صلاة جهر أو جهر في صلاة سر فصلاته تامة، لما قد ذكرنا قبل * ولجأ بعضهم إلى دعوى الاجماع على ذلك وهذا مكان هان فيه الكذب على مدعيه * وروينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: من ادعى الاجماع كذب * حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا احمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ومحمد بن عبد السلام الخشنى، قال ابن وضاح: ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع، وقال محمد بن عبد السلام الخشنى: ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدى، ثم اتفق وكيع، وعبد الرحمن كلاهما عن شعبة عن عطاء بن أبى ميمونة عن أبى رافع عن أبى هريرة: أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين؟ فكتب إليهم: أن جمعوا حيثما كنتم، وقال وكيع: انه كتب * وعن أبى بكر بن ابى شيبة: ثنا أبو خالد الاحمر عن عبد الله بن يزيد قال: سألت سعيد ابن المسيب: على من تجب الجمعة؟ قال: على من سمع النداء * وعن القعنبى عن داود بن قيس سمعت عمرو بن شعيب وقيل له: يا أبا ابراهيم، على من تجب الجمعة؟ قال: على من سمع النداء * فعم سعيد وعمر وكل من سمع النداء ولم يخصا عبدا ولا مسافرا من غيرهما * وعن عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار ثنا صالح بن سعد المكى: أنه كان مع
عمر بن عبد العزيز وهو متبدى بالسويداء (1) في امارته على الحجاز، فحضرت الجمعة، فهيؤا
له مجلسا من البطحاء، ثم أذن المؤذن بالصلاة، فخرج إليهم عمر بن عبد العزيز، فجلس على ذلك المجلس، ثم أذنوا أذانا آخر، ثم خطبهم، ثم أقيمت الصلاة، فصلى بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقراءة، ثم قال لهم: إن الامام يجمع حيثما كان * وعن الزهري مثل ذلك، وقال: إذ سئل عن المسافر يدخل قرية يوم الجمعة فينزل فيها؟ قال: إذا سمع الاذان فليشهد الجمعة * ومن طريق حماد بن سلمة عن أبى مكين عن عكرمة قال: إذا كانوا سبعة في سفر فجمعوا، يحمد الله ويثنى عليه ويخطب في الجمعة والاضحى والفطر * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أيما عبد كان يؤدى الخراج فعليه ان يشهد الجمعة، فان لم يكن عليه خراج أو شغله عمل سيده.
فلا جمعة عليه * قال على: الفرق بين عبد عليه الخراج وبين عبد لاخراج عليه دعوى بلا برهان، فقد ظهر كذبهم في دعوى الاجماع * فلجؤا إلى ان قالوا: روى عن على بن أبى طالب: لاجمعة على مسافر * وعن أنس: أنه كان بنيسابور سنة أؤ سنتين فكان لا يجمع * وعن عبد الرحمن بن سمرة: انه كان بكابل شتوة أو شتوتين فكان لا يجمع * قال على: حصلنا من دعوى الاجماع على ثلاثة قد خالفتموهم أيضا، لان عبد الرحمن، وأنسا رضى الله عنهما كانا لا يجمعان، وهؤلاء يقولون: يجمع المسافر مع الناس ويجزئه، ورأى على أن يستخلف بالناس من يصلى بضعفائهم صلاة العيد في المسجد أربع ركعات، وهم لا يقولون: بهذا، وهذا عمربن الخطاب يرى الجمعة عموما * قال على: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا
إلى ذكر الله وذروا البيع) * قال على: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى اله عليه وسلم.
وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه وفعله أن صلاة الخوف ركعة * وأما امامة المسافر، والعبد في الجمعة فان أبا حنيفة، والشافعي، وأبا سليمان وأصحابهم قالوا: يجوز ذلك، ومنع مالك من ذلك: وهو خطأ، أول ذلك قوله: إن المسافر، والعبد إذا حضر الجمعة كانت لهما جمعة، فما الفرق بين هذا وبين جواز إمامتهما فيها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليؤمكم أكبركم) و (يؤم القوم أقرؤهم)؟ فلم يخص عليه السلام جمعة
من غيرها، ولا مسافرا، ولا عبدا من حر مقيم، ولا جاء قط عن أحد من الصحابة منع العبد من الامامة فيهما، بل قد صح أنه كان عبد لعثمان رضى الله عنه أسود مملوك أميرا له على الربذة يصلى خلفه أبو ذر رضي الله عنه وغيره من الصحابة الجمعة وغيرها، لان الربذة بها جمعة * وأما قولنا: كان هنالك سلطان أو لم يكن -: فالحاضرون من مخالفينا موافقون لنا في ذلك الا أبا حنيفة، وفى هذا خلاف قديم، وقد قلنا: لا يجوز تخصيص عموم أمر الله تعالى بالتجميع بغير نص جلى، ولا فرق بين الامام (1) في الجمعة والجماعة فيها وبين الامام (2) في سائر الصلوات والجماعة فيها، فمن أين وقع لهم رد الجمعة خاصة إلى السلطان دون غيرها؟ * وأما قولنا: تصلى الجمعة في أي قرية صغرت أم كبرت: فقد صح عن على رضى الله عنه: لا جمعلة ولا تشريق الا في مصر جامع، وقد ذكرنا خلاف عمر لذلك وخلافهم لعلى في غير ما قصة * وقال مالك: لا تكون الجمعة إلا في قرية متصلة البنيان * قال على: هذا تحديد لا دليل عليه، وهو أيضا فاسد، لان ثلاثة دور قرية متصلة
البنيان، والا فلا بدله من تحديد العدد الذى لا يقع اسم قربة على أقل منه، وهذا ما لا سبيل إليه * وقال بعض الحنيفيين: لو كان ذلك لكان النقل به متصلا * فيقال له: نعم قد كان ذلك، حتى قطعه المقلدون بضلالهم عن الحق، وقد شاهدنا جزيرة (ميورقة) (3) يجمعون في قراها، حتى قطع ذلك بعض المقلدين لمالك، وباء باثم النهى عن صلاة الجمعة.
* وروينا أن ابن عمر كان يمر على المياه وهم يجمعون فلا ينهاهم عن ذلك * وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يأمر أهل المياه أن يجمعوا، ويأمر أهل كل قرية لا ينتقلون بأن يؤمر عليهم أمير يجمع بهم *
ويقال لهم: لو كان قولكم حقا وصوابا لجاء به النقل المتواتر، ولما جاز أن يجعله ابن عمر، وقبله أبوه عمر، والزهرى وغيره، ولا حجة في قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم * وأما قولنا: إن الجمعة جائزة في مسجدين فصاعدا في القرية -: فان أصحاب أبى حنيفة حكوا عن أبى يوسف: أنها لا تجزئ الجمعة إلا في موضع واحد من المصر، إلا أن يكون جانبان بينهما نهر، فيجزئ أن يجمع في كل جانب منهما * ورووا عن أبى حنيفة ومحمد بن الحسن وأبى يوسف ايضا: أن الجمعة تجزئ في موضعين في المصر، ولا تجزئ في ثلاثة مواضع * وكلا هذين المذهبين من السخف بحيث لا نهاية له لانه لا يعضدهما قرآن، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا إجماع، ولاقياس * وقد رووا عن محمد بن الحسن: أنها تجزئ في ثلاثة مواضع من المصر *
فان قالوا: صلى على العيد في المصلى واستخلف من صلى بالضعفاء في المسجد، فهما موضعان وهذا لا يقال: رأيا * قلنا لهم: فقولوا: انه لا تجزئ الجمعة الا في المصلى، وفى الجامع فقط، والا فقد خالفتموه، كما خالفتموه في هذا الخبر نفسه، إذ أمر رضى الله عنه الذى استخلف أن يصلى بهم العيد أربعا * فقلتم: هذا شاذ فيقال لكم: بل الشاذ هو الذى أجزتم، والمعروف هو الذى أنكرتم وما جعل الله تعالى آراء كم قياسا على الامة، ولا عيارا في دينه! وهلا قلتم: في هذا الخبر كما تقولون في خبر المصراة وغيره: هذا اعتراض على الآية لان الله تعالى عم الذين آمنوا بافتراض السعي إلى الجمعة، فصار تخصيصه اعتراضا على القرآن بخبر شاذ غير قوى النقل في أن ذلك لا يجب الا في مصر جامع؟! * ومنع مالك والشافعي من التجميع في موضعين في المصر * وراينا المنتسبين إلى مالك يحدون في أن لا بكون بين الجامعين أقل من ثلاثة أميال! وهذا عجب عجيب! ولا ندرى من أين جاء هذا التحديد؟ ولا كيف دخل في عقل ذى عقل حتى يجعله دينا؟ نعوذ بالله من الخذلان.
قال الله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم) فلم يقل عزوجل: في موضع ولا موضعين ولا أقل، ولا أكثر (وما كان ربك نسيا) *.
فان قالوا: قد كان أهل العوالي يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة * قلنا: نعم وقد كان اهل ذى الحليفة يجمعون معه أيضا عليه السلام، روينا ذلك من طريق الزهري.
ولا يلزم هذا عندكم، وقد كانوا يشهدون معه عليه السلام سائر الصلوات، ولم يكن ذلك دليلا على أن سائر قومهم لا يصلون الجماعات في مساجدهم، ولم يأت قط نص بأنهم كانوا لا يجمعون سائر قومهم في مساجدهم، ولا يحدون هذا أبدا *
ومن البرهان القاطع على صحة قولنا: أن الله تعالى انما افترض في القرآن السمى إلى صلاة الجمعة إذا نودى لها، لاقبل ذلك وبالضرورة أن من كان على نحو نصف ميل أو ثلثى ميل لا يدرك الصلاة أصلا إذا راح إليها في الوقت الذى أمره الله تعالى بالرواح إليها، فصح ضرورة أنه لابد لكل طائفة من مسجد يجمعون فيه إذا راحوا إليه في الوقت الذى أمروا بالرواح إليه فيه أدركوا الخطبة والصلاة، ومن قال: غير هذا فقد أوجب الرواح حين ليس بواجب، وهذا تناقص وايجاب ما ليس عندهم واجبا * ومن أعظم البرهان عليهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المدينة وانما هي قرى صغار مفرقة، بنو مالك بن النجار في قريتهم حوالى دورهم اموالهم ونخلهم، وبنو عدى بن النجار في دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الاشهل كذلك، وسائر بطون الانصار كذلك، فبنى مسجده في بنى مالك بن النجار، وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة، ولا مصر هنا لك، فبطل قول من ادعى أن لاجمعة إلا في مصر، وهذا امر لا يجهله أحد لا مؤمن ولا كافر، بل هو نقل الكواف من شرق الارض إلى غربها.
وبالله تعالى التوفيق * وقول عمربن الخطاب: (حيثما كنتم) اباحة للتجميع في جميع المساجد * وروينا عن عمرو بن دينار أنه قال: إذا كان المسجد تجمع فيه للصلاة فلتصل فيه الجمعة * ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج: قلت لعطاء بن ابى رباح: ارأيت اهل البصرة لا يسعهم المسجد الاكبر؟، كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم.
وهو قول أبى سليمان، وبه نأخذ *