بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المسلمين يتفاوتون فيما بينهم في مقدار الاستقامة والصلاح والتمسك بتعاليم دينهم باطنًا وظاهرًا، وعلى ما بينهم من هذا التفاوت العظيم ما بين ارتكاب الموبقات إلى أعلى مراتب الورع؛ إلا أنهم مشتركون في القاعدة الجامعة وهي التوحيد ومطلق الإيمان، وهذا يمنحهم اشتراكًا في الحرمة والحقوق، فـ ((كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وماله وعرضه))، فلم يفرِّق صلوات والله وسلامه عليه بين الصالح والفاسق.
وقال تعالى "وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" .
وهذا يعم كل من صدق عليه اسم الإيمان.
وقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
فانظر-رعاك الله- كيف جعل القاتل أخًا للمقتول.
وقال جل وعلا "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ".
فها هو ولاءُ الإسلام، وها هي إخوته تتسع دائرتها حتى تشمل المسلمين جميعًا ، محسنَهم ومسيئهم، بَرَّهم وفاجرَهم حتى من ارتكب أعظم الموبقات بعد الشرك بالله –وهو القتل-.
إن حقًّا على المسلم أن يوالي كلَّ مسلم مهما أسرف على نفسه، وأيًا كان مظهرُه، وأينَما كان بلدُه، وإن كان الولاء يزيد وينقص بحسب ما عُلِّق به من وصف الإيمان كمالًا ونقصانًا. لكنَّ أصل الولاء لم تَضِقْ دائرته إلا عن المشركين والمنافقين.
فليس للمسلم -إذن- أن يوِّزع ولاءاته حسَبَ مصالحِه وأهوائه.
وإذا كان المسلمُ ممنوعًا من أن يسع ولاؤه غير المسلمين؛ فمن الخطأ والمنكر كذلك أن يحجِّمَ ولاءَه في دائرةٍ أضيقَ من دائرة الإسلام، فيجعلَه مخصوصًا بطائفةٍ أو بلدٍ أو عِرقٍ أو حزب.
إن أحدَنا ليس بأغيرَ من الله على دينه حتى يَضِيق مطلقُ ولائه عن بعض عصاة المؤمنين، فهذه غَيرةٌ لا تُحمد؛ إذ هي تحجِّرُ واسعًا وتنفِّر قريبًا، فلا تزيد هذا العاصي القريب إلا بُعدًا عن الطاعة وإسرافًا.
وهذا باب غير باب هجر أهل المعاصي؛ فإن لذاك فقهًا في التأصيل والتطبيق ليس ذا مجالَه.
وتأمل معي –حفظك الله- قول الله تعالى"ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ".
فأنت ترى-سُدِّدتَ- أن المؤمنين كلَّهم مُحسنهم ومسيئهم ومسرفهم ومقتصدهم وأولهم وآخرِهم قد أشركهم الله جميعًا في وصفٍ تشريفيٍ يمتازون به على غيرهم، وهو الاصطفاء، فكيف لا يكونون كلُّهم في أصل المحبة والولاء مشتركين؟!
لقد كانت مجتمعات المسلمين ولا تزالُ أمشاجًا مختلطةً، ففيها الظالمُ لنفسه، وفيها المقتصدُ، وفيها السابق بالخيرات بإذن الله، وستظلُ كذلك كما هي سنة الاختلاف.
وهذا التفاوت يعم أعمال القلوب وأعمال الجوارح كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في غير موضع.
فالأَولى أن يكون هذا التفاوتُ في درجة الصلاح داعيًا إلى التناصحِ، لا إلى التنافرِ والتضاد، فإن هذه الأمشاجَ على تفاوتِها في الدرجات تلتقي في قاعدةٍ مشتركةٍ عريضةٍ هي خيرُ وأعظمُ ما يمكن أن يلتقيَ عليه المختلفون، ألا وهي قاعدة الإيمان والتوحيد.
ونحن معنيون أن نبحث عما يُجمِّع من الأصول، لا أنْ نُفرِّقَ بالفروع، فذلك يفقدنا خيرًا كثيرًا موجودًا بين الناس.
والقدْرُ المشترك الذي يلتقي فيه المسلمون كلُّهم في هذا المجتمع متمثِّل في دائرةِ التوحيد وأصول الإيمان العريضة التي لا يمكن أن يندّ عنها فرد من المسلمين مهما أسرفَ على نفسه بالمعاصي؛ لأن الخروج عنها يعني الخروج من دائرة الإيمان إلى دائرةِ الكفر عياذًا بالله.
وهذا القدر المشترك هو أعظم شيءٍ جاءت به الرسل والأنبياء، والتقت عليه رسالاتهم، وهو أعظمُ الأمور التي يمكن أن نلتقي عليها.
فلماذا لا نجعل هذا القدر المشترك هو الرابطةَ التي يجتمع حولها المسلمون ظالمُهم ومقتصدُهم وسابقُهم، يأتلفون عليها ويتحابون في ظِلالها، كما كان النبي صلى لله عليه وسلم يُذكِّرُ بهذا القدْرِ المشتركِ كلما بدتْ بين المسلمين نُفرةٌ أو ظهرت منهم على أحدٍ غِلظةٌ أو جفوةٌ.
خرج الشيخان عن عِتبان بن مالك أنه أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصليَ لهم، ووددت ـ يا رسول الله ـ أن تأتيَني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فأتى رسول الله فقال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت إلى ناحية من البيت، فصلى ، وآب إلى البيت رجال من أهل الدار، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُنِ؟ فقال بعضهم: ذلك منافقٌ لا يحب الله ورسوله، ود بعضُهم أن النبي دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شرٌ، فقال النبي : ((أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!)) فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فقال : ((لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخلَ النار أو تطعمه)).
وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب الخمر، فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجلدُه، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله)).
فهذا الذي ذكّر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حال ذلك الرجل لم يكن شيئًا متميِّزًا يبز به أقرانه، بل فيهم –قطعًا- من هو أولى منه بهذا الوصف،
وإنما ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك القدر المشترك الذي يجمعهم به في رباط واحد ووشيجة واحدة، ألا وهو محبةُ الله ورسوله.
على أن المتأمل الفطن يلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَقُل هذا الكلام والرجلُ يقارف المعصية، فذلك مدعاةٌ إلى أن يحتقر تلك المعصية ويفرطَ في التوبة، ولكن قالها بعد أن كفر عن ذنبه بالحد؛ ليشعره ويشعرهم أن قلبه لا يزال طيب الغراس حسن المنبت، وفي الإمكان أن يكون خيرًا مما كان.
وهكذا الظالم لنفسه من أهل الإيمان يكون فيه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، فالشخص الواحد قد تجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب. وهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة كثير.
وأما الوعيدية القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة القائلين: إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وإنه لا شفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعدها؛ فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب وحسنات وسيئات بل من أثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب.
إنَّ تحجيمَ الولاء في دائرة ضيقةٍ تحكمُها بعضُ سمات الصلاح الظاهر يُفضي إلى تشطير المجتمع إلى فئاتٍ متنافرةٍ، أو على أقل تقدير غيرِ متعاونة، تتسع بينها الفجوةُ والجفوة، وتصبح كأنّها لا تلتقي على شيء.
فالواجب أن توضع هذه السماتُ الظاهرة حيث وضعها الشرع بلا تهويل ولا استهانة، والذي يعني أنها شعيرة من الشعائر، لا شارة كمال تُضفي على صاحبها الصلاحَ المطلق، ولا أن تُجعلَ أصلاً من أصول الإسلام يكون فرقانًا بين الولاء والبراء والمحبة والبغض. ومتى أُعطِيَتْ أكثر من ذلك تواردتْ عليها اللوازمُ الباطلة، من إطلاق الصلاح بإطلاق، أو نفيِه بإطلاق.
وينبغي أن يفطنَ إلى أن وجود بعضِ سمات الصلاح الظاهر لا يدل على كمالِ صلاحِ الباطن بالضرورة، وعدم وجودها لا يدل بالضرورة على فساد الباطن، فلماذا يجعلها بعضُنا حَكَمًا يفرض عليه طريقةَ التعامل ويصرِّف العلاقات؟!
وكيف يُعوَّل على أمرٍ لا يدل إلا على نفسه؟!
وقد قال العليم الخبير تبارك وتعالى في المنافقين (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).
واستفاض في الصحاح والسنن وغيرها من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الخوارج فقال:
"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
إنك قد تفتقدُ في بعض الناس بعضَ السمات الظاهرة للصلاح، لكنّك لا تفتقد فيه معالم أخرى للصلاح؛ كطيبة القلب وعِفَّة اللسان وسلامة الفكر ولين الجانب وسخاء اليد في المعروف والحرص على الصلاة والتذمُّم للناس وأداء حقوقِهم، فهل تلغَى هذه المعالم العظيمة للصلاح لأجل افتقاد شيءٍ من السمات الظاهرة للصلاح؟!
لابد أن يصحح مفهوم التديّن لدى الناس، حتى يدركوا أن وصفَ التدين لا تحتكرُه سماتٌ خاصةٌ بالمظهر تمنحُ هذا اللقب كلَّ من قامت به وتخلعُه عن غيره، وأن هذا الوصف الجليل لا يختص بطائفة تتميَّز بمظهرها فقط.
إن مفهوم التدين الذي ينبغي أن ننصاع إليه وتتّزن بها النظرة هو غلبةُ خيرِ الإنسان مع تحقيق أصول الإسلام وأركانِه، فإذا تحقق فيه ذلك كان أهلاً أن يضفَى عليه هذا الوصف الممدوح. والناس بعد ذلك متفاوتون في درجات الكمال "ولكل درجات مما عملوا".
ونحن نقصد من تصحيح مفهوم التديّن إلى أن نزيلَ النفرة التي قد تبدو من بعض الناس تُجاه آخرين، ولأجل أن نبطلَ طريقة التمييزِ الخاطئة، والتي تعوِّل على أول نظرة للظاهر دون سبرٍ للأخلاق والفكر والمشاعر.
وإلا فقل لي بربك : إذا كان من أعفى لحيته وقصر ثوبه يوسم بالالتزام والتدين-عند طائفة- ولو كان مقصرًا فيما هو من أعظم الحقوق كحق الوالدين والأرحام والزوجة ونحوها، أفلا يكون من قام بهذه الحقوق أحق بهذه السمة من صاحبه ولو حلق لحيته وأسبل ثوبه؟!
فماذا لو أضيف إلى ذلك حسن الخلق وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالوعد وطلاقة الوجه وسلامة الصدر ...؟
فلو كان هذا غيرَ مستحق لوصف التدين فالأول كذلك بل أولى.
إننا صرنا نئن من سوء أخلاق ومعشر بعض هؤلاء الموسومين بالتدين بلا بينة ولا برهان إلا بعض سمات الظاهر.
في وقت نرى بعضًا ممن تفتقد فيه بعض هذه السمات محققًا لأصول الإسلام، حسنَ الأخلاق كريمَ السجايا.
أفيقاس النفع المتعدي بالقاصر؟!
وماذا تستفيد الزوجة مثلًا من زوج صوام قوام لكنه بخيل غليظ جاف سيء المعشر؟
وهل هو أنفع لها ممن يؤدي الفرائض ولايزيد ثم هو يكرمها ويعاشرها بالمعروف؟!
وقل مثل ذلك في الأصحاب والخلان، وفي الوظائف والتجارات...
إن اختزال وصف التدين في الظواهر –مع أهميتها- بات خطئًا كبيرًا، فكيف ببعض الظواهر؟!
بل كيف بما يدخله التأويل ويسوغ فيه الخلاف منها؟!
وليعلم أن تصحيح مفهوم التدين وتوسيع دائرته يجعلنا جميعًا مسؤولين أمام كل هجمة تُراد بها عقيدتنا ومناهجنا وتديننا بعامة.
إن الأقلام الليبرالية والعلمانية المسمومة ما فتئت تساوم على ما بقي من القيم لدى مجتمعاتنا، وقد اجترأتْ على لمز الدين والطعن في مناهج الدعوة والنيل من أعلام الأمة، فتوجهت في خطابها إلى فئة مخصوصة قصدتهم قصدًا؛ لتجعل منهم مطيةً إلى تلك الغايات الدنيئة، وأطلقت عليهم وصفَ (الإسلاميين)، لتجعل باقي المجتمع في وضع الحياد معها، وكأننا في مجتمع ملحد مرجعيته لغير الإسلام.
مع أن القضية في المرجعية غير القضية في العمل والتطبيق لأنها في المرجعية قضية إيمان وكفر ولا ثالث لهما "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا... فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا".
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
أما في العمل فثَم العاصي والمسرف على نفسه، وثَم التقي الورع.
وهؤلاء الخبثاء من أعداء الإسلام يريدون من خلال هذه التسميات ومن خلال توجُّهِ نقدهم ولمزهم إلى فئة مخصوصة، يريدون أن يجعلوا باقي فئات المجتمع بمعزل عن المواجهة والمسؤولية في دفع هذه الحملة المغرِضة.
وهم خاطئون عن عمد وخبث بهذا الإطلاق، ويخطئ معهم من يفهم أن الإسلاميين فئةٌ لها سمات معينة هي المعنية بهذه الهجمة، ويظل غيرُهم في مأمن من الفتنة.
إن هذا القدر المشترك بيننا من أصول التوحيد وأركان الإيمان يحمِّلنا جميعًا مسؤولية الدفاعِ عن هذا الدين والذبِّ عن منهج المصطفى .
فكل مسلم تَحاكُمُه إلى الله ورسوله ومرجعيتُه الكتاب والسنة فهو إسلامي، وتلك صفة كاشفة، فليس ثم مسلم إلا كذلك ومن سواه فليس من المسلمين.
ثم إنه بعد ذلك يقال:
إذا كان ظاهر الإنسان لا يدل على باطنه ولا على فكره ولا أخلاقه بإطلاق، فمن باب أولى أن لا يدلَّ على باطن غيره وفكره وأخلاقه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يؤخذ أحد بجريرة غيره، إنما من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
وقد نرى شخصًا واقعًا في فاحشة أو مرتكبًا لكبيرة موبقة، وقد تفتقد فيه بعض سمات الصلاح الظاهر، فهل يعني هذا لزامًا أن يكون كل من شاكله في الظاهر مشاكلاً له في السلوك والفكر والباطن؟! كلا، ولا أظن عاقلاً يرى غير هذا. فإذا كان هذا فكذلك الأمر بالعكس، إذا رأينا شخصًا قد وقع في موبقة أو غلو وعليه شيء من سمات الصلاح الظاهر، فهذا لا يعني أن كل من شاكله في هذا الظاهر مشاكِلٌ له في الفكر والسلوك والباطن. وعلى هذا لا يجوز أن تُجعل بعضُ السمات ميسمًا يُعرف به الإرهاب والغلو، لا سيما إذا كانت سنةً ثابتةً عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
وأخيرًا، فكل شعيرة من شعائر الإسلام صغيرةً كانت أو كبيرةً فهي جزء من هذا الدين من أتى بها فهو أكمل من غيره في هذه الجزئية بعينها، وليس يلزم من ذلك التفضيل المطلق.
ثم لا يجوز لأحد التحقير من شأن شعيرة ولا الاستهزاء بها، ولا الاستهانة بقدرها، ولا السخرية من أصحابها، فإن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر مخرج من الملة، (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
وأما الاستهزاء بمن قامت فيه تلك الشعيرة فهو سخرية بإنسان محفوظ الكرامة والعرض في الإسلام، وقد قال جل ذكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ).
وقال صلوات الله وسلامه عليه "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
وبعد:
فهذا المقال يُهدف منه إلى تصحيح المفاهيم، ومراجعة بعض التوجهات والأفكار غير المنضبطة، ليتحقق التعاون على البر والتقوى، ويسودَ بين عباد الله التكامل ويتآكل التآكل.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم