روى يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أَتتْ قريشٌ اليهودَ ، فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات ؟ قالوا : عصاه ويدُهُ بيضاء للناظرين ، وأَتَوا النصارى ، فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : يُبرِئ الأَكمهَ والأَبرصَ ويُحيي الموتى . فأَتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادعُ لنا ربَّكَ يجعل لنا الصَّفا ذهباً . فأنزل الله تعالى : (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)) (1) .
أخرجه : ابن المنذر في " تفسيره " (1260) ، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/841 ( 4655 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (4616) وفي
( تحفة الأخيار ) ( 5936 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 12322 ) ، والواحدي في "أسباب النـزول" ( 158 ) بتحقيقي واللفظ له ، من طريق يحيى الحماني ، بهذا الإسناد .
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/299 و2/193 وعزاه لابن مردويه ، عن ابن عباس .
هذا الحديث فيه يحيى الحماني ، قال عنه ابن نمير فيما نقله الذهبي في " الميزان " 4/392 ( 9567 ) : (( كذاب )) وقال مرة أخرى
: (( ثقة )) ، وقال أحمد بن حنبل فيما نقله ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 9/207 ( 695 ) ، والذهبي في " الميزان " 4/392 ( 9567 ) : (( كان يكذب جهاراً )) ، وقال البخاري في" التاريخ الكبير " 8/171 ( 3037 )
: (( يتكلمون فيه رماه أحمد وابن نمير )) وفي " الضعفاء الصغير " ، له (398 ) قال : (( سكتوا عنه )) ، وقال النَّسائيُّ في " الضعفاء والمتروكون " ( 625 ) : (( ضعيف )) ، وقال ابن حجر في " التقريب " (7591) : (( حافظ إلا أنَّهم اتهموه بسرقة الحديث )) ، إلا أنّ ابن معين قال في " تاريخه " ( 899 ) برواية الدارمي : (( صدوق مشهور ، ما بالكون مثل ابن الحماني ، ما يقال فيه إلا من حسد ))(2).
وفيه أيضاً يعقوب القمي قال عنه النسائي : (( ليس به بأس )) ، و قال الدارقطني : (( ليس بالقوي )) هذا فيما نقله الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/300 ، وقال ابن حجر في " التقريب " (7822) : (( صدوق يهم )) .
وفيه جعفر بن أبي المغيرة قال عنه أحمد بن حنبل في " الجامع في العلل " 2/120 (1057) : (( ثقة )) ، وقال الذهبي في " الميزان " 1/417 ( 1536 ) : (( وكان صدوقاً )) وقال : (( قال ابن منده : ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير )) ، وقال ابن حجر في " التقريب " (960) : (( صدوق يهم )) .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 8/297عقب ( 4569 )
: (( رجاله ثقات إلا الحماني فإنَّه تكلم فيه ، وقد خالفه الحسن بن موسى فرواه عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد مرسلاً ، وهو أشبه )) .
وحديث سعيد بن جبير المرسل الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر .
أخرجه : عبد بن حميد كما في " العجاب " لابن حجر 2/816-817 عن الحسن بن موسى .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 1990 ) ط. الفكر و 3/7 ط. عالم الكتب عن محمد بن حميد الرازي .
كلاهما : ( الحسن ، وابن حميد ) عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : سألتْ قريشٌ اليهودَ ... فقالتْ قريشٌ عند ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم :
ادعُ اللهَ أنْ يَجعلَ لنا الصَّفا ذهباً فنـزْداد يقيناً ، ونَتقوَّى به على عدونا . فسأل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه ، فأَوحى إليه : إني مُعطيهم ، فأجعل لهم الصَّفا ذهباً ، ولكن إنْ كذبوا عذّبتهُم عذاباً لم أعذبْه أحداً منَ العالمينَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم
: (( ذَرْني وَقَومِي فَأَدْعُوهُم يَوماً بِيومٍ )) فأنزل اللهُ عليه : (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) الآية ، إنَّ في ذلك لآيةً لهم ، إن كانوا إنَّما يريدون أنْ أجعل لهم الصَّفا ذهباً ، فخلق الله السمواتِ والأرض واختلاف الليلِ والنهارِ أعظم من أنْ أجعلَ لهم الصَّفا ذهباً ليزدادوا يقيناً(3) ، مرسلاً .
قال ابن حجر في " العجاب " 2/817 : (( وأخرجه : ابن أبي حاتم والطبراني من رواية يحيى بن عبد الحميد ، عن يعقوب موصولاً يذكر ابن عباس فيه . والمرسل أصح )) .
هذا حديث ظاهره الإرسال ، ولكن يعتبر مسنداً ؛ وذلك لقول يعقوب القمي الذي نقله أبو داود في " سننه " عقب ( 1302 ) قال : (( سمعت
محمد بن حميد يقول : سمعت يعقوب يقول : كل شيء حدثتكم عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو مسند ، عن ابن عباس ، عن النبيِّ صلى الله علية وسلم )) .
قلت : بقي فيه يعقوب القمي ، وجعفر بن أبي المغيرة وقد تقدم الكلام عليهما ، كما أنَّ فيه علة أخرى وهي المعارضة ، قال الحافظ ابن كثير في
" تفسيره " : 429 : (( وهذا مشكلٌ فإنَّ هذه الآية مدنية ، وسؤالهم أنْ يكون الصفا ذهباً كان بمكة ، والله أعلم )) وقال في : 431 : (( وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية والمشهور أنها مدنية )) .
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 8/297 عقب ( 4569 )
: (( وعلى تقدير كونه محفوظاً وصلُهُ ، ففيه إشكال من جهة أنَّ السورة مدنية وقريش من أهل مكة ، قلت : ويحتمل أنْ يكون سؤالهم لذلك بعد أنْ هاجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة )) .
والدليل على أن هذه الآية مدنية ما رواه عطاء بن أبي رباح من حديث عائشة .
أخرجه : ابن المنذر في " التفسير " (1261) ، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (542) من طريق أبي جناب الكلبي .
وأخرجه : ابن حبان ( 620 ) ، وأبو الشيخ في "أخلاق النبيِّ" ( 566 ) من طريق إبراهيم النَّخعي ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان .
كلاهما : ( أبو جناب ، وعبد الملك ) عن عطاء ، قال : دخلتُ أنا وعُبيدُ ابنُ عُمير على عائشة(4) ، فقالت لعُبيد بن عُمير : قد آنَ لكَ أنْ تزورنا ، فقال : أقولُ يا أُمَّه كما قال الأولُ : زُرْ غبًّا تزدد حُبًّا(5) . قال : فقالت : دعُونا من رَطَانتكُمْ هذهِ . قال ابنُ عُمير : أخبْرينا بأعجبِ شيءٍ رأيتهِ منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فسكتتْ ثم قالتْ : لما كانَ ليلةٌ من الليالي قال : (( يا عائشةُ ، ذريني أتعبَّد الليلة لربي )) . قلتُ : واللهِ إني لأحبُّ قُربَكَ ، وأحبُ ما سرَّكَ . قالت : فقام فتطهرَ ، ثمَّ قام يصلي . قالت : فلم يزلْ يبكي حتى بَلَّ حجرَهُ ، قالت : ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بَلَّ لحيتهُ(6) ، قالتْ : ثم بكى فلمْ يزلْ يبكي حتى بَلَّ الأرض ، فجاء بلالٌ يؤذنُهُ بالصلاةِ ، فلما رآهُ يبكي ، قال : يا رسول الله ، لِمَ تَبكي وقدْ غفرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ وما تأخّرَ ؟ قال : (( أفلا أكون عَبداً شكوراً ؛ لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ ، ويلٌ لمنْ قرأها ولم يتفكر فيها : (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ..)) الآية كلها (7) .
قال الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " عقب (4618) وفي ( تحفة الأخيار ) عقب ( 5938 ) : (( فقال قائل : فهذا بخلاف حديث ابن
عباس ... ؛ لأنَّ في حديث ابن عباس أنَّ إنزال الله تعالى كان لهذه الآية على رسوله للسبب الذي ذكره ابنُ عباس في حديثه ، وفي حديث عائشة
– رضي الله عنها – هذا إنزاله إياها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الذي كان منه من صلاته ورِقّة قلبه عندها . فكان جوابنا له في ذلك : أنْه لا اختلافَ في هذين الحديثين ولا تضادَّ ؛ لأنَّ الذي في حديث ابن عباس هو ذكر سؤال قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ذكر من سؤالها إياه فيه ، وتخيير الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الشيئين المذكورين في ذلك الحديث ، واختياره صلى الله عليه وسلم لسائليه ما هو في العاقبة أَحمدُ ، ومآلهم فيه السبب الذي يكون إيصالاً لهم إلى الجنة ، وفوزاً لهم من عذابه ، وكان إنزال الله عز وجل الآية التي أقام بها الحجةَ عليهم في الليلة التي أنزلها فيها
عليه ، وهو في بيت عائشة ، وكان ابن عباس قد تقدّم علمُهُ بالسبب الذي كان من أجله نزولها ، ولم يكن ذلك تقدَّم عند عائشة ، فعاد بحمد الله ونعمته جميع الآثار التي رويناها في هذا الباب إلى انتفاء التضاد لها ، والاختلاف عنها ، والله الموفق )) .
قلت : كلام الطحاوي لا ينفي التعارض بين الحديثين فحديث ابن عباس يقتضي كون الآية مكية ، في حين أنَّ حديث عائشة صريح في كون الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، كما أنَّ المشهور في كتب التفسير أن سورة آل عمران مدنية .
وانظر : "جامع المسانيد" 30/205( 392 ) ، و "إتحاف المهرة " 17/407 (22507) .
.............................. .............................. .......
([1]) آل عمران : 190 .
(2) قال المعلمي : (( عادة ابن معين في الرواة الذين أدركهم أنه إذا أعجبته هيئة الشيخ سمع منه جملة من أحاديثه ، فإذا رأى أحاديث مستقيمة ظن أن ذلك شأنه فوثقه ، وقد كانوا يتقونه ويخافونه ، فقد يكون أحدهم ممن يخلط عمداً ، ولكنه استقبل ابن معين بأحاديث مستقيمة ولما بعد عنه خلط ، فإذا وجدنا ممن أدركه ابن معين من الرواة من وثقه ابن معين ، وكذبه الأكثرون أو طعنوا فيه طعناً شديداً ، فالظاهر أنه من هذا الضرب ، فإنما يزيده توثيق ابن معين وهناً ، لدلالته على أنه كان يتعمد )) . " بلوغ الأماني من كلام المعلمي اليماني " : 180 .
(3) اللفظ للطبري .
(4) في رواية أبي جناب قول عطاء : (( دخلت أنا وعبد الله بن عمر ، وعبيد بن عمير ، .. فقال ابن عمر .. )) .
(5) هذا الكلام روي مرفوعاً ، ولا يصح ، وهو في كتابي الجامع في العلل .
(6) عبارة : (( ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته )) ليست موجودة عند أبي الشيخ .
(7) اللفظ لابن حبان ، وهذا النص يتشرق منه أنَّ عطاءً مرة يضيف إلى نفسه عبد الله بن عمر ومرة لا يذكره ، ومرة يجعل المتكلم ابن عمر ومرة يجعله عبيد بن عمير والرواية التي فيها ابن عمر هي رواية أبي جناب ، وقد ضعفوه ، والرواية التي فيها عبيد بن عمير رواية عبد الملك وهو أرسخ قدماً من أبي جناب .