إبتليت الأمة الإسلامية بمدلسين يدافعون على دعاة الضلالة الذين أغرقوا الناس في الحرام بدعوى عدم وجود نصوص صريحة في التحريم لمجرد وجود إحتمال في الدليل الظاهر و يقول المدافع عنهم لما يقابل بالحجة "أن المجتهد مخالف الدليل الظني لا شيئ عليه" إلا أن الأمر ليس على عمومه فهي عبارة حق أريد بها باطل, لا شك أن العالم إن زل في إجتهاده فخالف الدليل الظني إجتهادا لا شيئ عليه لكن من كان منهجه إبطال كل دليل ظني بدعوى الإحتمال و إباحة الحرام بدعوى التيسير فلا شك أنه ضال مضل وجب التحذير منه لأنه ليس كل إحتمال معتبر و لو إعترضنا على حجية الأدلة لكونها ظنية لأبطلنا اغلب نصوص الشريعة.
قال تعالى مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا . المائدة 46
قال القرطبي :
يتأولونه على غير تأويله . وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي " الكلام " . قال النحاس : و " الكلم " في هذا أولى ؛ لأنهم إنما يحرفون كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام اهــ
قال الشاطبي في الموافقات :
الاعتراض على الظواهر غير مسموع .
والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ، ولسان العرب يعدم فيه النص أو يندر ؛ إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة ، وهذا نادر أو معدوم ، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب ، فالاحتمالات دائرة به ، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين ، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل ، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف ، فالظاهر هو المعتمد إذا ، فلا يصح الاعتراض عليه ؛ لأنه من التعمق ، والتكلف .
وأيضا ، فلو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد ؛ لورود الاحتمالات وإن ضعفت ، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل ، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها ، وليس كذلك باتفاق .
ووجه ثالث : لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتبولا لإرسال النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك فائدة ؛ إذ يلزم ألا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات ؛ إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها ، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول ، فما يلزم عنه كذلك .
ووجه رابع : وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها ، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ، ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي عن نفسه في كتابه " المنقذ من الضلال " ، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم ، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية ، أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية .
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى ، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله : " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ " وأشباه ذلك ، بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه ، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل ، فذموا بذلك وأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالحذر منهم .
ووجه خامس : وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية ، والعمومات المتفق عليها ، كقوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون إلى أن قال : سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم ، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء .
وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ العنكبوت : 61 ] يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعدما أقروا فيدعون لله شريكا .
وقال تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله : ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ الزمر : 5 - 6 ] وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه ، وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ، ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم ، لكن الأمرعلى خلاف ذلك ، فدل على أنه ليس مما يعترض عليه .
وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات ، وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات ، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا ، بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية ، فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية ، كقوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ الروم : 28 ] .
وقوله : ألهم أرجل يمشون [ الأعراف : 195 ] وأشباه ذلك .
واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهية ، ولا قريبة من البديهية ، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية ، فدخلوا في أشد مما منه فروا ، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها ، وهم المخاطبون أولا بالشريعة ، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم ، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا ، وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود .
وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وأن طرق العقل إليها احتمالا ، فكذلك العبارات ؛ لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها .
ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات ، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله ، فإذا لا يصح في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة ، إلا أن يدل دليل على الخروج عنها ، فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح ، أو في باب البيان ، والله المستعان . اهــ
و من قبيل هذا المدندنون حول حديث الآحاد فإذا خالف عقولهم أبطلوه بحجة أنه ظني فتراهم يعمدون إلى حديث غمس الذباب فيضربون به عرض الحائط إرضاء للغرب و خوفا من إنتقادهم للإسلام قبّح الله فعلهم و هل الدليل يحرف عندكم لأن أعداء الدين إنتقدوه ؟
قال تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. البقرة
ثم يعمدون لحديث قتل المرتد فيتأولونه على غير فهم السلف الصالح ضاربين بذلك الاجماع عرض الحائط قائلين أن هذا في المحارب !!!!!! هذا تلاعب بنصوص الشريعة و تحريف للأدلة بمجرد الهوى.
و العجيب أن هناك من يدافع عن مثل هؤلاء زاعما أن المجتهد إن خالف الدليل الظني في إجتهاده لا شيئ عليه فأقول لهم إتقوا الله و لا تحرفوا مقولة العلماء في الأدلة الظنية فلا يجوز لمجتهد أن يحيد عن ظاهر النص ما لم يكن لديه قرينة و من كان منهجه تحريف النصوص عن ظاهرها بمجرد العقل و ابطال النصوص بالاحتمالات و لا يترك قولا شاذا للعلماء إلا أعتمده فلا يجوز إستفتاؤه و الله المستعان