وربمّا يظهر له أنّ كثيراً من هذه الاختيارات مخُالِف لأحاديثٍ يحفظها صِغَار طلبة العلم...
تَنَاقشنا مرة مع أستاذٍ لنا في القسم بخصوص مسألة فقهية...
فكان أن بَادَرنا بالسؤال قبل أن يتكلّم لنا عنها...
فتدافعنا للإجابة عنها، وأعطينا حُكمَها جميعاً بِسُرعة.
فقال لنا: من قال بهذا القول ؟.
فسارعت أنا بالإجابة مُتحمِساً:
رسول الله هو من قال،...
وذكرت له قول النبي .
فقال لي:
ولكن فقهاء المذاهب الأربعة جميعاً لم ينتبهوا لما انتبهت إليه.
فقال أحدنا:
العِبرة بقول الرسول ، لا بقول غيره.
فقال الشيخ:
بل بما فَهِمه الأئمة الفقهاء من قوله .
....
صحيح أنّ المسألة لم أُعِرها اهتماما في ذلك الوقت، ولكن بعد مرور الأيام، والشهور... بدأت أفكر كثيراً في هذه المسألة.
وأَصبحَت نفسي كثيراً ما تطرح عَلَيَّ أسئلةً لا أجد لها جواباً.
فأسمع حديث النبي يقول كذا، ثمّ أسمع أنّ قول الإمام فلان، والإمام فلان خلاف ذلك الحديث، فأستغرب!!!.
ثم أطرح سؤالاً:
لماذا يترك الإمام فلان – وهو الناصح بإتّباع السنن- العمل بالحديث الصحيح.
فأجد دائما إجابة سهلةً تقابلني:
لعلّ الحديث لم يَصِله !!!.
ثمّ بمرور الزمن...
كَثُرت المسائل التّي أسمع فيها بقول الإمام يخُالِف فيه الحديث، فأصبحت لا أقتنع بتلك الإجابة السهلة...
وأذكر أنيِّ كنت أطرح هذا السؤال على كلّ من أرجو أنّي سأجد عنده إجابة، وكان أن هداني الله يوماً إلى شيخٍ من شيوخنا في الجامعة، فاستطاع والحمد لله أن يَضع أُصبُعه على الجُرح الذّي أَرَّقني، فوصف لي دواءاً، وأعطاني مِفتاحاً انطلقت من خلاله حتىّ وصلت إلى النتيجة التّي أنوي أن أطرحها في مشاركتي هذه، ألا وهي:
ليس كلّ حديثٍ صَحَّ للنبي يُعمَل به.
وليس كلّ ما رُوِي عنه يصلح أن يُتَعبد به.
قال ابن أبي ليلى:
"لا يتفقه الرجل في الحديث حتىّ يأخذ منه ويدع منه".
وهذا المنهج في التعامل مع حديث رسول الله من قِبل أكثر الفقهاء، مخالف لمِاَ هو معهود عند المحدثين، فهم يعتبرون أنّ:
كلَّ قول، أو فعل، أو تقرير، أو سنة خِلقِية، أو خُلقِية، أو سيرة، قبل البعثة وبعدها هو تشريع.
ولا شك أنّ هذا الاختلاف في التعامل مع حديث النبي له أثره الكبير في الحكم على المسائل الفقهية.
ومنهج الفقهاء في هذه المسألة يَرتكِز على قاعدة كبرى، وهي:
"فهم معاني ودِلاَلات النص".
والتّي سمّاها الشيخ الطاهر بن عاشور -رحمه الله- بـ:
"حافات السِيَاق".
والسِيَاق هو:
الموضوع الذِّي سِيقَ الكلام لأجله، ودار البحث فيه.
ويجب أن يُراعَى فيه:
السِباق (ما يَسبِق الجملة المراد فهمها)، واللِحاق (ما يؤول إليه السِياق).
فنظرة الفقهاء للحديث نظرة أوسع، تتعدّى حرفية النص إلى ما يسمى بِأبعاد النص. فَتأمَّل...
وفهم أقوال النبي وتصرفاته وأخذ الأحكام منها يَستَلِزم فهم السياق الذّي تكلّم به .
فصحيح أنّ النبي يتصرف بصفته مُبلِّغَ وَحيٍ وتشريع.
إلاّ أنّه قد يتصرف بتصرفات نظرا للمكانة التيّ يحتلها، كأن يكون إماماً، أو قاضياً، أو مفتياً.
وهذا التمييز في غاية الأهمية لأنّ الاستدلال بنصوص السنة يُوجِب استيعاباً تاماً للمقام الذّي ورد فيه النص.
1. ففي قوله :
"من أحيا أرضاً ميتة فهي له".
قال أبو حنيفة رحمه الله:
هذا منه عليه السلام تَصرُّف بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضاً إلاّ بإذن الإمام لأنّ فيه تمليكاً فأشبه الإقطاعات، والإقطاع يتوقف على إذن الإمام.
2. وفي قوله لهند ررر:
لما أتته تشكو إليه أبا سفيان، وأنّه رجل شِحِّيح لا يعطيها وولدها ما يكفيها:
"خُذِي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف".
قال بعض أهل العلم، هذا تَصرُّف من النبي قضاءً، فقد أتته تشكي، فحكم لها، فلا يجري هذا الحكم على كلّ من ظَفِر بشيء من حقه لدى غيره ممن له حق عليه.
3. وتأمل أيضاً في قوله في الحرب:
"من قتل قتيلاً فله سلبه".
فقال مالك رحمه الله:
هذا تصرف منه بالإمامة، فقد كان قائد جيش، فلا يجوز لأحد أن يختص بِسلبٍ إلاّ بإذن الإمام.
4. وانظر أيضا لقوله ، للذي واقع زوجته نهار رمضان:
"هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟، قال: لا، قال: اجلس، فجلس فأتي النبي بِعرق فيه تمر، والعرق المكتل الضخم، قال: تصدّق به، فقال: ما بين لابتيها أحد أفقر منا، قال: فضحك النبي حتىّ بَدَت أنيابه، قال: فخذه فأطعمه أهلك".
فتدبر أخي:
إلى تدرج النبي في إعطاء الحكم، وانظر إلى النتيجة، فقد أسقط الحكم.
ولا يقول عاقل أنّ النبي نسخ كفارة الجماع.
أتعرف لماذا ؟.
لأنّه في هذه الحالة تصرَّف كمفتي.
والإفتاء يتطلب زيادة على الفقه المجرد، فقه بالحال (فقه الواقع).
فنصيحة لي ولإخواني، ممن أراد أن يُصبِح فقيها بالقُوَّة:
أن يُدرِك جيداً السِياق الذّي لأجله قام الكلام، ولا يرضى لنفسه بالإجابات السهلة، أو أن يفعل كما يفعل بعض من يهتّم بتحقيق الكتب:
إذا وجد قولا لم يفهم مَخرَجه، كَتب في الحاشية ينصح المالكية أو الحنفية باتّباع الدليل، ويذكر بعض العبارات التّي -والله- ما فَهِم معناها، كأن يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي!!!،
وكلّ يؤخذ من قوله ويُرَد،
وغيرها من العبارات التّي توضع -غالباً- في غير مكانها.
هذا إخواني، فيما يخص تَصرُّف النبي .
أمّا فيما يخص كلامه وهو مبلّغ للشّرع، ففيه أيضا ما لا يصلح للعمل.
1. فقد لا يعمَل بالحديث لأنّ فيه عموم، مخصوص بدليل آخر.
ومثاله:
ترك الحديث الذّي نهى عن المعازف في حالة الأعراس والأعياد، لأنّ حديثاً آخر خصص ذلك، وهو حديث:
"فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح".
رواه أحمد والترمذي وحسنه.
2. أو قد يُترَك العمل بالحديث لأنّ فيه إطلاقاً قُيِّد بحديث آخر.
ومثاله:
ترك العمل بحديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" في أوقات النهي، لأنّه قُيِّد بنص آخر جاء فيه.
3. أو قد يُترَك العمل بالحديث لورود النسخ.
كترك العمل بالحديث الذّي ورد فيه نهي النِساء عن زيارة القبور، لورود حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها...".
4. أو قد يُترَك العمل بالحديث لقيام معارض أقوى منه.
ومثاله:
ترك الإمام مالك رحمه الله القول بنجاسة الكلب.
لقيام التقابل بينه وبين قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم).
قال مالك: "يُؤكَل صيده فكيف يُكرَه لعابه ؟".
4. أو قد يُترَك العمل بالحديث الذّي فيه نفي، لقيام الإثبات.
كترك العمل بحديث طارق الأشجعي ررر الذّي قال فيه بأن تخصيص القنوت في الفجر محدث وبدعة، لوجود حديث أنس بن مالك ررر الذّي قال فيه:
"أنّ النبي قَنَت شهرا يدعوا عليهم ثمّ ترك، فأمّا في الصبح فلم يزل يقنت حتىّ فارق الدنيا".
فخادم رسول الله الذّي لا يُفارِقه إلا قليلاً يثبت القنوت، والأشجعي ررر ينفي القنوت، والمثبت مقدم على النافي.
5. أو قد يُترَك العمل بالحديث لأنّه ورد على سبب معين.
كوضع الأصبعين في الأذنين أثناء الآذان.
فالغرض منه هو رفع الصوت ليسمع البعيد، فقد قال في الحديث:
"اجعل إصبعيك في أذنيك فإنّه أرفع لصوتك".
واليوم باستخدام الوسائل الحديثة ارتفع السبب الذّي لأجله أمر النبي .
ومثله: الاستدارة في الآذان.
فقد جاء في صحيح ابن خزيمة:
"رأيت بلالاً يؤذن ويدور..".
وجاء في المدونة لابن القاسم: "أنكر مالك الاستدارة للمؤذن إِنكاراً شديداً".
ثم قال ابن القاسم: "وبلغني أنّه قال: إن كان يريد أن يُسمَع فلا بأس به".
فانظر إلى فقهه رحمه الله، كيف فَهِم سبب الاستدارة.
5. أو قد يُترَك العمل بالحديث لقابلته لحديث آخر مُعضَّد.
كالحال في التكبيرات الأربعة في صفة الآذان.
فقد ورد في حديث بن عمر رضي أنّ الآذان بأربع تكبيرات، لكن في المقابل ورد حديث آخر بتكبيرتين فقط.
فحديث التكبيرتين مُقدَّم على غيره، لأنّه وجد ما يُقوِّيه ويعضده، فقد عضده العمل، فهذا مسجد رسول الله في المدينة ضلَّ في القرون الثلاث المفضلة يُدوِّي بتكبيرتين فقط دون إنكار.
هذا وإنّ الحديث قد يسقط الاحتجاج به لأسباب أخرى، علِمها من علمها، وجهلها من جهلها.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ويفقهنا في دينه، ويعلمنا مخارج الأحكام، فنحسن الظن بأئمتنا الأعلام.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.