تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: مرثية الشيخ ابن جبرين رحمه الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي مرثية الشيخ ابن جبرين رحمه الله

    مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله




    هي الهواتفُ تأتيـني فتُبْكيني *** وسابـلُ الدمْع بالأحـزان يُضنيني




    أنَّ الكبيرَ كبيرَ النَّاس ودّعنا ** وغيــَّبَ القبرُ جثمـانَ بن جبرينِ




    لقد بكيتُ وفيضُ الدّمْع يغمرُني **أستذكرُ الشَّيخ ، والأشجانُ تُدميني




    حتى ترجَّع منَّي الصوتُ منتحباً ** والنَّاس تعْجبُ من حزني ، وتسليني




    تالله ما كان إلاَّ بالهُدى علمـاً ** وما الذي عاشَ في عـلمٍ بمدفـونِ




    أما العلومُ فغيْضٌ من فضائلـِـهِ ** كالوردِ مـنْ بينِ أزهارِ البساتينِ




    فتارةً فـي المعانـي ينتقـي دُرراً ** وتارةً في متـونِ الحفـظ للدّينِ




    قد كان بالفضلِ بين الناس مشتهراً ** بما لـه في المعالـي من مياديـنِ




    حتى تبـوَّأ فيهـا رأسَ قمِّتـها ** تبـوَّأَ الـدرِّ تيجـانَ السلاطينِ




    ما كنت أحسبُ أنَّ الموتَ يخطفُهُ ** أستغفرُ الله من ظنـِّي وتخْميـني




    وقد وجـدتُ بأنَّ الظنَّ منشؤُه ** من آيةٍ هديُها في النفسِ تهَديني




    اللهُ خلَّدَ بالإخــلاصِ صفـوتَه **ومَـنْ يخـُصُّ مـنِ الغرِّ الميامينِ



    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    سيرة حياة الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن ابن جبرين رحمه الله



    رحم الله العلامة الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن ابن جبرين











    الأسم والنسب


    هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين من آل رشيد وهم فخذ من عطية بن زيد وبنو زيد قبيلة مشهورة بنجد كان أصل وطنهم مدينة شقراء ثم نزح بعضهم إلى بلدة القويعية في قلب نجد وتملكوا هناك.








    أسرته


    هذه الأسرة منهم من له ذكر وأخبار على الألسن لكنها لم تدون في كتب التأريخ لقلة العناية بتلك الأخبار في زمنهم وقد اشتهر جده الرابع وهو حمد بن جبرين وكان في أواسط القرن الثالث عشر حيث آل إليه أمر القضاء والولاية والإمارة في مدينة القويعية وكان ذا منزلة ومكانة في قومه فهو خطيبهم وأميرهم وقاضيهم مع ما رزقه الله من السعة في العلم والمال وتملك الآبار وإحياء الموات كما تدل على ذلك وثائق الملكية التي تحمل اسمه وأسماء بنيه من بعده.
    وقد أورث علما جما حيث كان له كتاب وعمال ينسخون الكتب الجديدة بالأجرة ولا يزال الكثير منها موجودا موقوفا عند بعض أحفاده ثم اشتهر بعده ابن ابنه إبراهيم بن فهد فتعلم العلم وأدرك الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ حمد بن معمر وقرأ ونسخ وحفظ علما جما وأورث بعده مخطوطات تحمل اسمه منها ما نسخه بيده ومنها ما تملكه وقد تولى الإمامة والخطابة والإفتاء والتدريس وتعليم القرآن والحديث وتوفى في آخر القرن الثالث عشر وقام بعده ابنه عبد الله الذي حفظ القرآن وقرأ على أبيه وبعض علماء بلده وغيرهم وتولى الإمامة والخطابة والتعليم في قرية مزعل التابعة للقويعية .
    وقد نسخ كتبا بيده أوقفها بعده ومات سنة 1344هـ وتولى الإمامة والخطابة بعده ابنه محمد بن عبد الله وكان قد قرأ على أبيه ورحل في طلب العلم وحفظ الكثير من المتون ونسخ بيده كتبا ومات سنة 1355هـ وأما والد المترجم له فهو أحد طلبة العلم وحفظة القرآن ولد سنة 1321هـ وتولى الإمامة بعد أخيه ثم انتقل إلى بلدة الرين لطلب العلم على قاضيها عبد العزيز الشثري المكنى بأبي حبيب وأقام هناك حتى ارتحل بعد وفاة الشيخ أبي حبيب إلى الرياض ومات سنة 1397هـ.






    نشأته


    ولد الشيخ عبد الله بن جبرين سنة 1352هـ في إحدى قرى القويعية ونشأ في بلدة الرين وابتدأ بالتعلم في عام 1359هـ وحيث لم يكن هناك مدارس مستمرة تأخر في إكمال الدراسة ولكنه أتقن القرآن وسنه اثنا عشر عاما وتعلم الكتابة وقواعد الإملاء البدائية ثم ابتدأ في الحفظ وأكمله في عام 1367هـ وكان قد قرأ قبل ذلك في مبادئ العلوم ففي النحو على أبيه قرأ أول الآجرومية وكذا متن الرحبية في الفرائض وفي الحديث الأربعين النووية حفظا وعمدة الأحكام بحفظ بعضها .
    وبعد أن أكمل حفظ القرآن ابتدأ في القراءة على شيخه الثاني بعد أبيه وهو الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري المعروف بأبي حبيب وكان جل القراءة عليه في كتب الحديث ابتداء بصحيح مسلم ثم بصحيح البخاري ثم مختصر سنن أبى داود وبعض سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي .
    وقرأ سبل السلام شرح بلوغ المرام كله وقرأ شرح ابن رجب على الأربعين المسمى جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم وقرأ بعض نيل الأوطار على منتقى الأخبار وقرأ تفسير ابن جرير وهو مليء بالأحاديث المسندة والآثار الموصولة وكذا تفسير ابن كثير وقرأ كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وأتقن حفظ أحاديثه وآثاره وأدلته وقرأ بعض شروحه وقرأ في الفقه الحنبلي متن الزاد حفظا وقرا معظم شرحه .



    وكذا قرأ في كتب أخرى في الأدب والتأريخ والتراجم واستمر إلى أول عام أربع وسبعين حيث انتقل مع شيخه أبي حبيب إلى الرياض وانتظم طالبا في معهد إمام الدعوة العلمي فدرس فيه القسم الثانوي في أربع سنوات وحصل على الشهادة الثانوية عام 1377هـ وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أربعة عشر طالبا ثم انتظم في القسم العالي في المعهد المذكور ومدته أربع سنوات ومنح الشهادة الجامعية عام 1381هـ وكان ترتيبه الأول بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أحد عشر طالبا وعدلت هذه الشهادة بكلية الشريعة .
    وفي عام 1388هـ انتظم في معهد القضاء العالي ودرس فيه ثلاث سنوات ومنح شهادة الماجستير عام 1390هـ بتقدير جيد جدا وبعد عشر سنين سجل في كلية الشريعة بالرياض للدكتوراه وحصل على الشهادة في عام 1407هـ بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وأثناء هذه المدة وقبلها كان يقرأ على أكابر العلماء ويحضر حلقاتهم ويناقشهم ويسأل ويستفيد من زملائه ومن مشائخهم في المذاكرة والمجالس العادية والبحوث العلمية والرحلات والاجتماعات المعتادة التي لا تخلو من فائدة أو بحث في دليل وتصحيح قول ونحوه






    الحالة الإجتماعية


    تزوج بابنة عمه الشقيق رحمها الله وذلك في آخر عام 1370هـ ومع قرابتها كانت ذات دين وصلاح ونصح وإخلاص بذلت جهدها في الخدمة والقيام بحقوق ربها وبعلها وتوفيت عام 1414هـ .
    وقد رزق منها اثني عشر مولودا من الذكور والإناث مات بعضهم في الصغر والموجود ثلاثة ذكور وست إناث وقد تزوج جميعهم وولد لأغلبهم أولاد من البنات والبنين ولا يزالون يغشون أباهم ويخدمونه ويقومون بالحقوق الشرعية والآداب الدينية، أما الوضع المنزلي فقد كان في أول الأمر تحت ولاية والده فكان يخدمه ويقوم بما قدر عليه من بره وأداء حقه في نفسه وماله ولا يستبد بكسب ولا يختص بمال.
    ولما انتقل إلى الرياض وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وكان يدفع له مكافأة شهرية فكان يدفع ما فضل عن حاجته لوالده الذي ينفق على ولده وولد ولده وبعد ثلاث سنين اضطر إلى إحضار زوجته وأولاده واستئجار منزل صغير وتأثيثه والنفقة عليهم فكانت المكافأة تكفي لذلك رغم قلتها لكن مع الاقتصار على الحاجات الضرورية وبقي يستأجر منزلا بعد منزل لمدة ثماني سنين فبعدها أعانه الله على شراء بيت من الطين والخشب القوي فهناك استقر به النوى حيث قام فيه سبعة عشر عاما يعيش في وسط من الحال لا إسراف فيه ولا تقتير ولم يتوسع في الكماليات والمرفهات لقلة ذات اليد ثم في عام 1402هـ انتقل إلى منزله الحالي الذي أقامه بمساعدة بنك التنمية العقارية وعاش فيه كما يعيش أمثاله في هذه الأزمنة.






    عقيدته


    أما العقيدة والمذهب فقد نشأ على معتقد سليم تلقاه عن الآباء والأجداد والمشايخ العلماء المخلصين فتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فقرأ وحفظ ما تيسر من كتب العقائد كالواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتلقى شرحها من مشائخه الذين تعلم منهم العلوم الشرعية فكانوا يفسرون غريبها ويوضحون المعاني ويبينون الدلالات من النصوص.
    وقد نهج والحمد لله منهج مشايخنا في تدريس كتب العقيدة السلفية فقرأ عليه التلاميذ الكثير من كتب العقائد المختصرة والمبسوطة كشروح الواسطية للهراس ولابن سلمان ولابن رشيد وشرح الطحاوية ولمعة الاعتقاد وشروح كتاب التوحيد وكذا الكتب المبسوطة لشيخ الإسلام وابن القيم وحافظ الحكمي وغيرهم ممن كتب في العقيدة وناقش الأدلة وتوسع في سردها



    وكان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة يدرس كتب العقيدة ويشرف على البحوث والرسائل التي تقدم للجامعة في هذا القسم ويشترك في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه ويرشد الطلاب إلى المراجع المفيدة في الموضوع ولا زال إلى الآن يشرف على كثير من الرسائل وعلى اتصال بالجامعة زيادة على الطلاب الراغبين في هذه الدراسة .
    أما المذهب في الفروع فإن مشايخه الذين درس عليهم الفقه كانوا متخصصين في مذهب أحمد بن حنبل، لا يخرجون عنه غالبا وقد اقتصر عليه وأكثر من قراءة كتب الحنابلة والتعليق عليها ومعلوم أن مذهب أحمد هو أوسع المذاهب لكثرة الروايات فيه التي توافق المذاهب الأخرى غالبا فمن قرأ هذا المذهب وتوغل فيه أحاط بأكثر المذاهب ما عدى الافتراضات ونوادر المسائل التي يفترض الفقهاء وجودها فلا أهمية لدراستها فمتى وقعت أمكن معرفة حكمها بإلحاقها بأقرب ما يشابهها.



    شيوخه




    أما الشيوخ والعلماء الذين تتلمذ عليهم فأولهم والده رحمه الله تعالى فقد بدأ بتعليمه القراءة والكتابة في عام 59 هـ وكان رحمه الله من طلبة العلم وأهل النصح والإخلاص والمحبة وقد أفاد كثيرا بحسن تربيته وتلقينه وحرصه على التلاميذ ليجمعوا بين العلم والعمل.

    وقد توفي سنة 1397هـ ومن أكبر المشايخ الذين تأثر بهم شيخه الكبير عبد العزيز بن محمد أبو حبيب الشثري الذي قرأ عليه أكثر الأمهات في الحديث وفي التفسير والتوحيد والعقيدة والفقه والأدب والنحو والفرائض وحفظ عليه الكثير من المتون وتلقى عنه شرحها والتعليق على الشروح.



    وكان بدء الدراسة عليه عام 1367هـ حتى توفي عام 1397هـ بالرياض رحمه الله تعالى ولكن قلت القراءة عليه بعد التخرج للانشغال والتدريس ونحوه.
    ومن العلماء الذين قرأ عليهم واستفاد من مجالستهم فضيلة الشيخ صالح بن مطلق الذي كان إماما وخطيبا في إحدى القرى بالرين ثم قاضيا في حفر الباطن ثم تقاعد وسكن الرياض ومات سنة 1381هـ وكان ضرير البصر ولكن وهبه الله الحفظ والفهم القوي فقل أن يجالسه كبير أو صغير إلا استفاد منه وقد قرأ عليه بعض الكتب في العقيدة والحديث وحضر مجالسه التي يتعدى فيها الأكابر والعلماء ويأتي بالعجائب والغرائب.
    وبالجملة فهو أعجوبة زمانه رحمه الله وأكرم مثواه، ومن أشهر المشايخ الذين قرأ عليهم وتابع دروسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو غني عن التعريف به وقد تلقى عليه مع التلاميذ دروسا نظامية عندما افتتح معهد إمام الدعوة في شهر صفر عام 1374هـ وتولى تدريس القسم الذي كان المترجم معهم في أغلب المواد الشرعية كالتوحيد والفقه والحديث والعقيدة فدرس في الحديث بلوغ المرام مرتين في القسم الثانوي والقسم العالي وفي الفقه متن زاد المستقنع وشرحه الروض المربع مرتين أيضا بتوسع غالبا في شرح كل جملة وهم يتابعون ويكتبون الفوائد المهمة.



    وفي التوحيد والعقيدة قرأ كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ومتن العقيدة الحموية والعقيدة الواسطية له أيضا وشرح الطحاوية لابن أبي العز وغيرها وقد استمر سماحته في التدريس لهم حتى أنهوا القسم العالي في آخر سنة 1381هـ حيث توقف عن التدريس الرسمي وانشغل بالإفتاء ورئاسة القضاء حتى توفي عام 1389هـ في رمضان رحمة الله تعالى عليه.
    وقرأ في الدراسة النظامية على جملة من العلماء كالشيخ إسماعيل الأنصاري في التفسير والحديث والنحو والصرف وأصول الفقه وذلك من عام 1375هـ حتى التخرج والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في الفرائض لمدة ثلاث سنوات ودرس عليه أيضا في مرحلة الماجستير مادة الفقه عام 1388هـ وكان رحمه الله من فقهاء البلد وله مؤلفات مشهورة منها عدة الباحث بأحكام التوارث ومنها التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية وهو أول الشروح الوافية لهذه العقيدة.



    وقرأ أيضا على الشيخ حماد بن محمد الأنصاري والشيخ محمد البيحاني والشيخ عبد الحميد عمار الجزائري في علوم وفنون متعددة وفي مرحلة الماجستير قرأ على الكثير من كبار العلماء كسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد المتوفى سنة 1402هـ في الفقه طرق القضاء وحضر مجالسه منذ أن قدم الرياض واستفاد منه كثيرا في الأحكام والقصص والعبر والتأريخ والنصائح كما هو مشهور بذلك وقرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وهو مشهور ومن كبار العلماء .
    وقد تتلمذ عليه واستفاد منه جمع غفير في هذه البلاد من القضاة والمدرسين والدعاة وغيرهم وهو ممن فتح الله عليه وألهمه من العلوم ما فاق به الكثير من علماء هذا الزمان وقد توغل في التفسير والاستنباط من الآيات وكذا في الحديث ومعرفة الغريب منه وكذا في العلوم الجديدة وأهلها.



    وكذا الشيخ مناع خليل القطان - رحمه الله - الذي درسهم في تلك المرحلة في مادة التفسير بتوسع وإيضاح وقد استفادوا كثيرا من مجالسته ومحاضراته حيث يأتي بفوائد كثيرة مستنبطة من الآيات أو الأدلة وله مؤلفات عديدة في فنون متنوعة وكذا الشيخ عمر بن مترك رحمه الله تعالى وكان من أوائل حملة الدكتوراه من السعوديين وقد قرأ عليه في مادة الفقه والحديث والتفسير .
    وكان شديد العناية بالأدلة والتعليلات وله معرفة تامة بالمعاملات المتجددة ويتوسع في الكلام حولها وقد استفاد منه كثيرا، ومنهم الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري - رحمه الله - مصري الجنسية تولى التدريس في الحديث وكان يتوسع في الشرح وذكر المسائل الخلافية ويحرص على الجمع والترجيح فأفاده في كثير من المواضع المهمة ومنهم محمد الجندي - رحمه الله - مصري أيضا ولم يقم إلا بعض سنة حتى مرض فرجع إلى مصر وتوفي هناك رحمه الله ومنهم محمد حجازي - رحمه الله - صاحب التفسير الواضح ومنهم طه الدسوقي العربي - رحمه الله - مصري أيضا وكان ذا معرفة واسعة واطلاع وحفظ مع فصاحة وبيان وآخرون سواهم.



    وقد استفاد أيضا من مشايخ آخرين دراسة غير نظامية وأشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- الذي لازمه في أغلب الحلقات التي يقيمها في الجامع الكبير بالرياض بعد العصر وبعد الفجر والمغرب بحيث يحضره العدد الكثير ويدرس في فنون منوعة من المتون والشروح المؤلفات ويعلق على الجمل ويوضح المسائل وينبه على الأخطاء ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم المهيزع - رحمه الله - وهو من المدرسين والقضاة وكان يقيم دروسا في مسجده وفي منزله ويستفيد منه الكثير ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن هويمل أحد قضاة الرياض قرأ عليه في المسجد وغيره وإن كان قليل التعليق لكنه يفيد على الأخطاء ويوضح بعض المسائل الخفية وفي آخر حياته ثقل سمعه واشتد مرضه ثم توفي رحمه الله تعالى في عام 1415هـ وقد استفاد أيضا من الزملاء والجلساء الذين سعد بالاقتران بهم وقت الدراسة ووفق بالقراءة معهم والمذاكرة في أغلب الليالي وفي أيام الاختبارات ومنهم الشيخ فهد بن حمين الفهد والشيخ عبد الرحمن محمد المقرن رحمه الله والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان والشيخ محمد بن جابر - رحمه الله - وغيرهم ممن سبقوه بالقراءة على المشايخ وتعلموا كثيرا مما فاته فأدركه بواسطتهم فكان يقرأ عليهم الشرح ويتلقى إصلاح بعض الأخطاء اللغوية والبحث في المسائل الخلافية ومعرفة الكتب المفيدة في الموضوع وكيفية العثور على المسألة في الكتب المتقاربة في الفقه الحنبلي وكذا معرفة طرق الاستفادة من كتب اللغة واختصاص كل كتاب بنوع من المواضيع ونحو ذلك مما يفوت من يقرأ بمفرده فلذلك ينصح المبتدئ أن يقترن في المذاكرة والاستفادة بمن هم أقدم منه في الطلب ليضم ما عندهم إلى ما عنده.



    وقد ذكرنا أن أقدم هؤلاء المشايخ هو الشيخ عبد العزيز الشثري رحمه الله وقد بالغ في الثناء عليه ولما انتقل إلى الرياض عام 1374هـ استصحبه معه وذكر لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى بعض ما قرأ عليه وما وصل إليه مما جعل الشيخ يجعله مع أعلى التلاميذ عند تقسيمهم إلى سنوات في معهد إمام الدعوة العلمي وكان من آثار إعجابه أن طلبه ذلك العام لتولي القضاء ولكنه اعتذر بالدراسة والشوق إليها فعذره.



    الأعمال التي تقلدها


    أولها أن بعث مع هيئة الدعاة إلى الحدود الشمالية في أول عام 1380هـ بأمر الملك سعود وإشارة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ورئاسة الشيخ عبد العزيز الشثري رحمهم الله تعالى مع بعض المشائخ ولمدة أربعة أشهر ابتداء من حدود الكويت على امتداد حدود العراق وحدود الأردن وحدود المملكة شمالا وغربا وكثير من مناطق المملكة وقاموا بالدعوة والتعليم وتوزيع النسخ المفيدة في العقيدة وأركان الإسلام حيث إن أغلب السكان من البوادي عاشوا في جهل عميق فهم لا يعرفون إلا اسم الإسلام والصلاة والصيام ونحو ذلك ويجهلون الواجبات وما تصح به الصلاة ويقعون في الكثير من وسائل الشرك وأنواعه وقد بذلت الهيئة جهدا في تعليمهم ونفع الله الكثير ممن أراد به خيرا .


    ثم تعين مدرسا في معهد إمام الدعوة في شعبان عام 1381هـ إلى عام 1395هـ قام فيه بتدريس الكثير من المواد كالحديث والفقه والتوحيد والتفسير والمصطلح والنحو والتأريخ وكتب مذكرات على أحاديث عمدة الأحكام بذكر الموضوع والمعنى الإجمالي وشرح الغريب وذكر الفوائد وكذا مذكرات على مواد الفقه والتوحيد والمصطلح لا يزال الكثير منها محفوظا عند الطلاب أو في المعاهد العلمية ثم في عام 1395هـ انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وتولى تدريس التوحيد للسنة الأولى وهو متن التدمرية وكتب عليه تعليقات كفهرس للمواضيع وعنوان للبحوث وكذا درس أول شرح الطحاوية.
    ثم في عام 1402هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد باسم عضو إفتاء وتولى الفتاوى الشفهية والهاتفية والكتابة على بعض الفتاوى السريعة وقسمة المسائل الفرضية وبحث فتاوى اللجنة الدائمة التي يناسب نشرها وقراءة البحوث المقدمة للمجلة فيما يصلح للنشر وما لا يصلح ومازال هكذا حتى الآن وقد انتهت مدة خدمته في دار الإفتاء.
    أما الأعمال الأخرى فقد تعين إماما في مسجد آل حماد بالرياض في شهر شوال عام 1389هـ حتى هدم المسجد وهدم الحي كله في عام 1397هـ وبعد عامين عين خطيبا احتياطيا يتولى الخطبة عند الحاجة ومازال كذلك إلى الآن حيث يقوم بخطبة الجمعة وصلاتها في الكثير من الجوامع عند تخلف الخطيب أو قبل تعيينه وقد يستمر في أحد الجوامع أشهرا أو سنوات ويتولى صلاة العيد في بعض المناسبات.
    ويقوم أيضا متبرعا بالتدريس في المساجد ابتداء بدرس الفرائض في عام 1387هـ لعدد قليل ثم بتدريس التوحيد والأصول الثلاثة وكشف الشبهات والعقيدة الواسطية ونحوها لعدد كثير في مسجد آل حماد في آخر عام 1389هـ.



    وقد حصل إقبال شديد على تلك الحلقات وكان أغلب الطلاب من مدرسة تحفيظ القرآن الذين توافدوا من جنوب المملكة ومن اليمانيين الوافدين لأجل التعلم وقد أقام تلك الدروس بعد الفجر أكثر من ساعة أو ساعتين وبعد الظهر كذلك وبعد العصر غالبا وبعد المغرب إلى العشاء واستمر ذلك حتى هدم المسجد المذكور حيث نقلت الدروس إلى مسجد الحمادي حيث توافد إليه الطلاب كثرة في أغلب الأوقات للدراسة في العلوم الشرعية كالحديث والتوحيد والفقه وأصوله والمصطلح وغيرها.
    ثم في عام 1398هـ رغب إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يقوم في غيبته بالصلاة في الجامع الكبير كإمام للصلوات الخمس فقام بذلك وكان يتولى الصلاة بهم إماما كل وقت ماعدا خطبة الجمعة وصلاتها ومن ثم نقلت الدروس إلى مسجد الجامع الكبير والذي عرف بعد ذلك بجامع الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله وفي حالة حضور سماحة الشيخ يقوم بصلاة العشائين هناك وإلقاء الدروس بينهما وبقية الأوقات ويلقي الدروس في مسجد الحمادي بعد العصر والمغرب وبعد الفجر غالبا .
    ثم في عام 1398هـ رغب إليه بعض الشباب في درس بعد العشاء في المنزل يتعلق بالعقيدة فلبى طلبهم وابتدأ بالعقيدة التي كتبها الشيخ ابن سعدي وطبعت في مقدمة كتابه القول السديد وقد كثر عدد الطلاب وتوافدوا من بعيد ولم يزالوا إلى الآن.



    وقد انتقل عام 1402هـ إلى منزله الحالي في السويدي فنقل الدرس هناك في ليلتين من كل أسبوع وقد قرأوا في هذه المدة نظم سلم الوصول وشرحه معارج القبول في مجلدين ورسالة الشفاعة للوادعي وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرح ثلاثة الأصول له كما قرأوا في الفقه نظم الرحبية في المواريث ومنار السبيل شرح الدليل لابن ضويان حتى كمل والحمد لله.
    ولما ضاق المنزل نقلوا الدرس إلى المسجد المجاوره ويعرف بمسجد البرغش كما نقل فيه الدروس الأسبوعية بعد الفجر وبعد المغرب أي بعد هدم المسجد الكبير عام 1408هـ وقد قرأوا في هذه الأوقات كثيرا من الأمهات كالصحيحين وشرح الطحاوية وشرح الواسطية لابن سلمان ولابن رشيد وبعض زاد المعاد وجميع بلوغ المرام وزاد المستقنع وبعض سنن أبي داود والترمذي وموطأ مالك ورياض الصالحين وبعض نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وبعض سنن الدارمي وترتيب مسند الطيالسي وشرح كامل منتقى الأخبار لأبي البركات وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان وفي المصطلح متن نخبة الفكر ومتن البيقونية وفي النحو متن الآجرومية وبعض ألفية ابن مالك وفي أصول الفقه متن الورقات لإمام الحرمين وغير ذلك من المتون والشروح الكثيرة.
    وفي عام 1382هـ أسس بعض المحسنين مدرسة خيرية أسموها (دار العلم) فأقبل إليها العدد الكثير من الطلاب صغارا وكبارا وتولى المترجم له فيها التدريس في المواد الدينية كالحديث والتوحيد والفقه حسب مدارك الطلاب وأقام الشباب فيها ناديا أسبوعيا يستمر بعد العشاء ليلة كل جمعة لمدة ساعتين يحضره غالبا ويلقى فيه بعض الكلمات ويجيب على الأسئلة الدينية والاجتماعية.
    وفي عام 1398هـ قام فيها بدرس أسبوعي يحضره العدد الكثير واستمر حتى هذا العام حيث نقل إلى أقرب مسجد هناك حولها ولا يزال وقد أكملوا فيه قراءة الصحيحين وابتدأوا في سنن الترمذي وتولى القراءة عليه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن غيث وشاركه في أول الأمر الشيخ الدكتور محمد بن ناصر السحيباني حتى انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة.
    ثم خلفه الشيخ الدكتور فهد السلمة حتى انشغل بالتدريس في كلية الملك فهد الأمنية والطريقة أن يقرأ الباب ثم يشرحه بإيضاح مقصد المؤلف وبيان ما تدل عليه الأحاديث وفي حدود عام 1403هـ رغب إليه بعض الشباب من سكان حي العليا أن يلقى عندهم درسا أسبوعيا في العقيدة ودرسا في الحديث فابتدأ الدرس في مسجد متوسط في الحي أشهرا ثم انتقلوا إلى مسجد الملوحي مدة طويلة ثم إلى مسجد السالم حيث استمر الدرس فيه سنوات ثم انتقل بهم إلى مسجد الملك عبد العزيز ثم إلى جامع الملك خالد وقد أكملوا في هذه المدة متن لمعة الاعتقاد والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد ومتن التدمرية وبعض بلوغ المرام وشرح عمدة الفقه قسم العبادات وبعض الروض المربع قراءة وشرحا .




    وفي عام 1409هـ رغب إليه بعض الأخوان أن يقرر درسا أسبوعيا في مسجد سليمان الراجحي بحي الربوة قراءة وشرحا وذلك أن المسجد مشهور ويحيط به أحياء واسعة مكتظة بالسكان المحبين للعلم فلبى طلبهم وابتدأ في شرح الطحاوية فأكمله وفي عمدة الأحكام في الحديث فأكملها وفي كتاب السنة للخلال ثم كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ولا يزال يقرأ فيه ويتولى القراءة غالبا إمام المسجد صالح بن سليمان الهبدان أو مؤذن المسجد ويختم الدرس قرب الإقامة بالإجابة على أسئلة مقدمة من الحاضرين ويتكاثر العدد في هذا الدرس فربما زادوا على الخمسمائة ولا يتوقف إلا في أيام الاختبارات ثم يستأنف بعدها .
    وفي عام 1409هـ رغب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- أن يلقي درسا في مسجد سوق الخضار بعتيقة لكثرة من يصلي فيه فلبى رغبته وأقام فيه درسا أسبوعيا لكن إنما يحضره القليل من الطلاب لانشغال أهل الأسواق بتجارتهم واستمر هذا الدرس في الفقه والتوحيد كما أنه في هذه السنين يقوم غالب الأسابيع بإلقاء محاضرات في مساجد الرياض النائية التي يكثر فيهاالمصلون ولا يلقى فيها دروس فيتواجد العدد الكثير غالبا في المحاضرة التي تتعلق بالعبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس ويشترك أيضا في الندوات التي تقام أسبوعيا في المسجد الجامع الكبير المعروف بجامع الإمام تركي والتي ابتدأت من أكثر من عشرين عاما ويعلق عليها غالبا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والآن يعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله.
    ولما أقيم مسجد عبد الله الراجحي في شبرا بالسويدي ناسب أن تجمع فيه الدروس التي كانت متفرقة في المساجد بعد الفجر وبعد المغرب وبعد العشاء أغلب الأيام وأقيم حوله سكن للطلاب المتغربين.
    وهناك أعمال أخرى قام بها منها التدريس في المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك في عام 1408هـ حيث أسند إليه درس الفقه للسنة الأولى ويسمى السياسة الشرعية وهو ما يتعلق بالمعاملات وأحكام التبادل بمعدل درسين في الأسبوع وفي نهاية العام وضع أسئلة الاختبار وصحح الأجوبة كالمعتاد .
    ثم في العام بعده قام بهذا الدرس ومعه درس آخر للسنة الثانية ويعرف بالأحوال الشخصية وله ثلاث حصص كل أسبوع وطريقة الإلقاء اختيار جمل من الكتاب المقرر وذكر ما فيها من الخلاف وسرد أدلة الأقوال مع الجمع والترجيح ووجه الاختيار .




    وفي السنة بعدها اقتصر على الدرس الأول وهو السياسة الشرعية ثم توقف بعدها عن هذا التدريس (ومنها) الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه التابعة للجامعة المذكورة وذلك طوال هذه السنين أي بعد الانتقال من الجامعة إلى رئاسة البحوث العلمية كما سبق لم يتخل عن أعمال الجامعة وذلك في كل عام يلتزم بالإشراف على ثلاث رسائل أو أربع يقوم بتوجيه الطالب وإرشاده إلى مراجع البحث في الأمهات حسب علمه ويقرأ ما يقدمه كل شهر من بحثه ويبين ما فيه من خطأ ونقص ويجتمع به غالبا كل أسبوع أو نحوه ويرفع عنه للجامعة تقريرا عن سيره وما يعوقه وفي النهاية يكتب عن رسالته ومدى صلاحيتها للتقديم ويحضر عند المناقشة وتقويم الرسالة .


    كما يقوم أيضا بمناقشة بعض الرسائل المقدمة للجامعة كعضو فيها ويبدى ما لديه من الملاحظات ويحضر تقويم الرسالة كالمعتاد (ومنها) القيام بالدعوة داخل المملكة بإلقاء محاضرات أو خطب أو إجابة على الأسئلة وذلك كل شهر أو شهرين حيث يزور البلاد القريبة من الرياض فيلقي محاضرة في معهد أو مركز صيفي وفي مسجد جامع ويجتمع بالأهالي ويبحث معهم في مشاكل البلاد وعلاجها وقد تستمر الرحلة أسبوعا أو أكثر للتجول في البلاد النائية وزيارة بعض الدوائر الحكومية للمناصحة والإرشاد فيلقى تقبلا وتشجيعا وترغيبا في الاستمرار وقد تكون الزيارة رسمية وتحدد المدة من مركز الدعوة أو إدارة الدعوة في الداخل (ومنها) الاشتراك في التوعية في الحج وذلك زمن أن كان تبع الجامعة حتى عام 1403 هـ وذكر منافع الحج والعمرة وإيضاح الأهداف من هذه الأعمال وتفقد آثارها بعد انقضائها والإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالمقام وذلك لمدة شهر كامل.
    وقد تعذر عليه الاشتراك في هذا بعد الالتحاق بالرئاسة بسبب الإقامة في المكتب للحاجة الماسة إليه هناك وقام في السنوات الأخيرة بالحج مع بعض الحملات الداخلية التي تجمع حجاجا من الرياض وكان يتولى معهم الإجابة على الأسئلة وإلقاء كلمات توجيهية كل يوم مرة أو مرتين ويقوم بزيارة بعض الحملات الأخرى في الموسم فيفرحون بذلك العمل.




    مؤلفاته


    أولها البحث المقدم لنيل درجة الماجستير في عام 1390هـ (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) وقد حصل على درجة الامتياز رغم إنه كتبه في مدة قصيرة ولم تتوفر لديه المراجع المطلوبة وقد طبع عام 1408هـ في مطابع دار طيبة ثم أعيد طبعه مرة أخرى وهو موجود مشهور ولم يتيسر له التوسع فيه قبل طبعه لاحتياجه إلى مراجعة وتكملة





    وقد حمله على الكتابة فيه محبة الحديث وفضله وما رآه في كتب المتكلمين والأصوليين من عدم الثقة بخبر الواحد سيما إذا كان متعلقا بعلم العقيدة وقد رجح قبوله في الأصول كالفروع.
    وفي عام 1398هـ كلف بكتابة تتعلق بالمسكرات والمخدرات لتقديمها للمؤتمر الذي عقدته الجامعة الإسلامية في ذلك العام فكتب بحثا بعنوان (التدخين مادته وحكمه في الإسلام) وهو بحث متوسط وفيه فوائد وأحكام زائدة على ما كتبه الآخرون وقد أعجب به المشايخ المشاركون في موضوع الدخان وقد طبعته مطابع دار طيبة عدة طبعات وهو مشهور متداول وإن كان مختصرا لكن حصل به فائدة لمن أراد الله به خيرا .
    وفي عام 1402هـ رفع إليه كلام لبعض علماء مصر ينكر فيه إثبات الصفات ويرد الأدلة ويتوهم إنها توقع في التشبيه وكذا يميل إلى الشرك بالقبور ويمدح الصوفية وقد لخص كلامه بعض الأخوان في أربع صفحات وأرسلها لمناقشتها فكتب عليه جوابا واضحا وتتبع شبهاته وبين ما وقع فيه من الأخطاء بعبارة واضحة ومناقشة هادئة وطبع ذلك البحث في مجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع ثم أفرده بعض الشباب بالطبع في رسالة مستقلة بعنوان (الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق) وهو موجود متداول طبعته مؤسسة آسام للنشر وكتب أيضا مقالا يتعلق بمعنى الشهادتين وما تستلزمه كل منهما وطبع في مجلة البحوث العدد السابع عشر ثم أفرده بعض التلاميذ بالطبع بعنوان (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) وطبع في عام 1410هـ في مطابع دار طيبة في 90صفحة من القطع الصغير وقد التزم فيه وفي غيره العناية بالأحاديث للاستدلال بها وتخريجها مع ذكر درجتها باختصار



    .
    وفي عام 1391هـ قام بتدريس متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة لطلاب معهد إمام الدعوة العلمي وكتب عليها أسئلة وأجوبة مختصرة تتلاءم مع مقدرة أولئك الطلاب في المرحلة المتوسطة ومع ذلك فإنها مفيدة لذلك رغب بعض الشباب القيام بطبعها فطبعت بعنوان (التعليقات على متن اللمعة) عام 1412هـ في مطبعة سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وقد وقع فيها أخطاء تبع فيها ظاهر المتن والأدلة وقد أعيد طبعها مع إصلاح بعض الأخطاء



    وقد قام فيها بتخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن قدامة تخريجا متوسطا حسب مدارك التلاميذ وفي عام 1399هـ سجل في كلية الشريعة لدرجة الدكتوراه واختار (تحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرقي) وهو أشهر شروحه التي تبلغ الثلاثمائة بعد المغني لابن قدامة واقتصر في الرسالة على أول الشرح إلى النكاح دراسة وتحقيقا ونوقشت الرسالة كما تقدم ثم كمل تحقيق الكتاب وطبع في مطابع شركة العبيكان للنشر والتوزيع في سبعة مجلدات كبار وتم توزيعه وبيعه في أغلب المكتبات الداخلية وهو موجود متداول والحمد لله.
    وقد اعتنى في هذا الشرح بتخريج الأحاديث والآثار الكثيرة التي يوردها الشارح وقام بترقيمها فبلغ عددها كما في آخر المجلد السابع 3936 وإن كان فيه بعض التكرار القليل وقد بذل جهدا في هذا التخريج بمراجعة الأمهات وكتب الأسانيد التي تيسرت له للرجوع إليها وهي أغلب المطبوعات وذكر رقم الحديث إن كان الكتاب مرقما أو الجزء والصفحة وذكر اختلاف لفظ الحديث إن كان مغايرا لما ذكر الشارح وذكر من صحح الحديث من المتقدمين أو ضعفه كالترمذي والحاكم والذهبي وابن حجر والهيثمي وإن كان في أحد الصحيحين لم يذكر ما قيل فيه للثقة بهما



    .
    وحيث إنه بدأ دراسته في الصغر بكتب الحديث كما تقدم فقد أورث ذلك له شوقا إلى كتابة الحديث فحرص على اقتناء الكتب القديمة التي يهتم مؤلفوها بالأحاديث النبوية ويوردونها بأسانيدها المتصلة كما أحب كل ما يتعلق بالحديث من كتب المصطلح وعلل الحديث وكتب الجرح والتعديل ونحوها وذلك أن هذا النوع هو الدليل الثاني للشريعة أي بعد كتاب الله تعالى ولأن علماء الأمة أولوه عناية تامة حتى قال بعضهم إن علم الحديث من العلوم التي طبخت حتى نضجت ولأن هناك من أدخل فيه ما ليس منه برواية أحاديث لا أصل لها من الصحة فقد قيض الله لها نقادها من العلماء الذين وهبهم الله من المعرفة بالصحيح والضعيف ما تميزوا به على غيرهم وقد عرفنا بذلك جهدهم وجلدهم وصبرهم على المشقة والسفر الطويل والتعب والنفقات الكثيرة مما حملهم عليه الحرص على حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقيتها مما ليس منها.
    وقد يسر الله في زماننا هذا طبع هذه الكتب وفهرستها وتقريبها بحيث تخف المؤنة ويسهل تناول الكتاب ومعرفة مواضع البحوث بدون تكلفة والحمد لله، هذا وقد كان ألقى عدة محاضرات في مواضيع متعددة وتم تسجيلها في أشرطة ثم إن بعض التلاميذ اهتم بنسخها وإعدادها للطبع وقد تم طبع رسالتين الأولى بعنوان (الإسلام بين الإفراط والتفريط) في 59 صفحة والثانية بعنوان (طلب العلم وفضل العلماء) في 51 صفحة وكلاهما طبع عام 1313هـ في مطبعة سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وأما التسجيل فإن التلاميذ قد أولوه عناية شديدة وذلك بتتبع الدروس والمحاضرات وتسجيلها في أشرطة ثم الاحتفاظ بها ومن ثم نسخ ما تيسر منها للتداول وللطبع وقد سجل شرح زاد المستقنع وشرح بلوغ المرام وشرح الورقات في الأصول وشرح البيقونية في المصطلح وشرح منار السبيل في الفقه وشرح الترمذي وثلاثة الأصول ومتن التدمرية وغيرها كثير، ويباع كثير من الأشرطة في التسجيلات الإسلامية في الرياض وغيرها. وقد فرغ كثير منها وطبع بعناوين متعددة تتعلق بالصيام والحج والصلاة والزكاة وغيرها



    .
    أما الكتابات السريعة فكثيرة فإن هناك العديد من الطلاب يحرصون على تحصيل جواب مسألة أو فتوى في مشكلة ويرفعونها إليه وبعد كتابة الجواب وتوقيعه ينشرونه في المساجد والمكاتب والمدارس فيتداول ويحصل له تقبل وفائدة محسوسة لثقتهم بالكاتب كما أن الكثيرين من الشباب الذين أعطوا موهبة في العلم إذا كتب أحدهم رسالة أو كتيبا رغب إليه أن يكتب له مقدمة أو تقريظا فيصرح باسمه في عنوان الرسالة ويكون ذلك أدعى لروجانه والإقبال عليه والاستفادة وهناك من العلماء من يساهم في بث تلك النشرات التي لها مسيس ببعض الأوقات كالمخالفات في الصلاة وأحوال الاقتداء بالإمام والمخالفات في الصيام وفي الحج وأعمال عشر ذي الحجة والمقال في التيمم ومتى يرخص فيه ونحوها فتطبع في مواسمها ويوزع منها ألوف كثيرة رجاء الانتفاع بها



    .
    وهناك من العلماء من أخذ تلك النشرات وأودعها بعض مؤلفاته كالشيخ عبد الله بن جار الله -رحمه الله- وغيره ممن كتبوا في تلك المواضيع وضمنوها بعض ما كتبه المترجم له للاستفادة، وأما العلماء الأكابر فإن المناقشين لرسالة أخبار الآحاد بعد إقرارها كتبوا عنها تقريرا مفيدا يمكن الحصول عليه من المعهد المذكور حيث كتبوه عام 1390هـ وهكذا الذين ناقشوا كتاب شرح الزركشي وهم الشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مع المشرف الدكتور عبد الله بن علي الركبان فقد قرروا الكتاب الذي ناقشوه من أول الشرح إلى النكاح وكتبوا عنه صلاحيته للنشر وحرص الأكثر على الحصول عليه قبل طبعه وتقبله أكابر العلماء وأقروا العمل الذي قام به تجاهه ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسائر هيئة كبار العلماء ويمكن مراجعتهم لتقييمها وما لوحظ عليها وما تميزت به ولم يعرف أحد أبدى انتقادا لما نهجه في هذه الكتب المتعلقة بالحديث والمصطلح



    .
    أما المنهج فقد سلك في تحقيق الزركشي الخطة التي رسمت في المخطط والموجود في المقدمة وقد حرص على البحث عن الأحاديث وأنها التي يستدل بها وقابلها على أصولها كما حرص على التعليق على ما يحتاج إلى تعليق من نقل أو مخالفة أو خلاف في مسألة وأما الشروح الأخرى كشرح اللمعة القديم والبيقونية والورقات والتوحيد والبلوغ والمنتقى...إلخ فإنه يرتجلها ارتجالا ويوضح العبارة التي في المتن بالأمثلة ويذكر الخلاف المشهور ويبين المختار عنده حتى لا يقع الطالب في حيرة ويتوسع أحيانا في الشرح بذكر ماله صلة بذلك الحديث أو تلك المسألة.
    وقد تميزت هذه الكتب والشروح بوضوح العبارة وبذكر الأدلة ومناقشتها وبالتعليل إن وجد والحكمة من شرعية هذا الحكم والتوسع في ذكر الأمثلة فلا جرم صار عليها إقبال شديد حيث نسخ كثير من الطلاب بعض تلك الأشرطة بشرح منار السبيل وقد بلغ ما نسخوه عدة مجلدات وحرص الكثير على تصويره واقتنائه حيث وجدوا فيه مسائل واقعية ومعالجة لبعض المشاكل المتمكنة في المجتمع وتحذير من بعض الحيل والمكائد التي يستغلها بعض الناس ونحو ذلك من المميزات الكثيرة



    .
    أما استقصاء المعلومات عند الكتابة فهذا يكون في الشرح الارتجالي كشرح أحاديث مسلم والترمذي ومنتقى الأخبار وأما الكتابة فالغالب الاقتصار على القدر المطلوب في السؤال دون استقصاء وتوسع في الجواب وكذا الإملاء إذا كان الجواب ارتجاليا كما وقع في الأسئلة التي طبعت بعنوان (حوار رمضاني) الذي طبعته مؤسسة آسام للنشر عام 1312هـ في 28 صفحة بقطع صغير وكذا في أسئلة متعلقة برمضان وقيامه والقراءة في القيام ودعاء الختم ونحوه حيث ألقى بعض الشباب 36 سؤالا وقد كتب عليها جوابا متوسطا ثم قام السائل وهو سعد بن عبد الله السعدان بتحقيقها وتخريج أحاديثها وطبعت بعنوان (الإجابات البهية في المسائل الرمضانية) نشر دار العاصمة مطابع الجمعة الإلكترونية عام 1413هـ 103 صفحة .
    وبكل حال فإنها تختلف الدوافع إلى الكتابة وحال المستفيد فأما الصعوبات فإن الرسالة الأولى وهي (أخبار الآحاد) كتبها في زمن قصير وكانت المراجع قليلة أو مفقودة عنده فلا جرم لقي مشقة في البحث عن مواضع المسائل واضطر إلى الاختصار رغم سؤال المشرف وغيره فأما شرح الزركشي فقد لقي أيضا فيه صعوبة لسعة الكتاب وكثرة نقوله وندرة الكتب التي نقل عنها وعدم بعض المراجع للأحاديث التي يستشهد بها معتمدا على كتب الفقهاء التي لا تعزو الأحاديث إلى مخرجها فيحتاج إلى صعوبة في البحث في كتب الفهارس والتخريج التي تذكر المشاهير من الأدلة دون النادر منها ولكن الله أعان على الكثير وحصل التوقف في البعض الذي لم يعثر على أصوله كأول سنن سعيد بن منصور وكسنن الأثرم ومسند إسحاق ونحو ذلك ولو وجد من ينقلها لكن مع قصور واختصار وأما علم المصطلح فإن مراجعه كثيرة وكتبه متوفرة والغالب إنها متوافقة فيه وإن وجد في بعضها زيادة خاصة فلذلك يمكن الاختصار فيها ويمكن التوسع بذكر الأمثلة ولم يكتب فيها سوى شرح البيقونية وهو الآن يحقق ويعد للطبع وهو مجرد إيضاح للتعاريف المذكورة في النظم وقد تم طبعه ونشره



    .
    وأما المشكلات التي تواجه من كتب في علم المصطلح فهي كثرة الكتب في الموضوع التي يلزم منها كثرة التعريف ووجود الفرق بينها حتى يحتار الكاتب في اختيار ما يناسب المقام ولكن الأجلاء من المحدثين قد ناقشوا التعريفات الاصطلاحية وذكروا ما يرد عليها والجواب عنه لكن قراءة ذلك كله تستدعي وقتا طويلا فالطالب إذا اقتصر على المختصرات التي كتبها أئمة هذا الفن كالنخبة والبيقونية وألفية العراقي والسيوطي رأى في ذلك كفاية ومقنعا



    .
    وحيث إن هذا النص قد أكثر فيه العلماء من الكتب فإن أشهر كتبه التي تحتوي على ما يوضحه ويجلى معانيه هي الكتب الواسعة مثل تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي ومثل توجيه النظر لبعض علماء الجزائر ومثل توضيح الأفكار للأمير الصنعاني وإن كان بعضها ينقل من بعض ومن المعاصرين الشيخ صبحي الصالح فقد كتب مؤلفا في علوم الحديث ومصطلحه وذكر أشياء زائدة على ما كتبه الأولون لوجود كثير من المراجع التي توفرت له والأدلة التي أمكنه أن يستدل بها وبكل حال فالباحث في الموضوع يحسن أن يلم بكتب المتقدمين الذين وضعوا هذا الاصطلاح ثم من بعدهم.






    انتقل إلى رحمة الله تعالى، فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عضو الإفتاء بالمملكة العربية السعودية سابقًا، وأحد أبرز كبار العلماء في العالم الإسلامي.







    بعد صراع مع المرض .. يوم الاثنين 20 رجب 1430 الموافق 13 يوليو 2009

    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    المشاركات
    106

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    رحم الله الشيخ ابن جبرين

    جزاكم الله خير
    موقع الشيخ الدكتور / عبدالكريم الخضير

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    صدحه بالحق ولايبالي (1)رحمة الله عليه

    فضل الصحابة وذم من عاداهم


    سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين



    بسم الله الرحمن الرحيم

    إلى من يهمه الأمر

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد فقد كنت ألقيت محاضرة في أحد المساجد بالرياض في فضائل الصحابة إجمالًا وذم مَن عاداهم، ثم إن بعض الإخوان سجلها ثم أفرغها وعرضها علي للتصحيح، ثم حققها واستأذن في طبعها، وحيث إن الدكتور طارق بن محمد بن عبد الله الخويطر هو المشرف على نسخها وتصحيحها، فقد أذنت له في تصحيحها وطلب الإذن في نسخها، والإشراف على الطبع حتى تخرج، وذلك لما لمست فيه من الأهلية والأمانة، ورجاء أن ينفع الله تعالى بها من قصد الحق والاستفادة، وتقوم الحجة على المخالف ولله الحجة البالغة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، ومن يهدي الله فما له من مضل ومن يضلل فما له من هاد، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    قاله وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
    عضو الإفتاء المتقاعد




    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
    فقد اتفق أهل السنة والجماعة على فضل الصحابة - وما خصهم الله -تعالى- به وما ميزهم به من الفضائل التي مدحهم بها وأثنى عليهم، وما تميزوا به من السبق إلى الإسلام وإلى الأعمال الصالحة، وما تميزوا به من الفضل، وأنهم أفضل قرون هذه الأمة، وهذه الأمة أفضل الأمم، والأسباب التي تميزوا بها، ومع ذلك انتصب لهم أعداء الله، ونصبوا لهم العداوة، وألصقوا بهم التهم وألصقوهم بالتهم، وحملوا عليهم كل الجرائم، ورموهم بالقذائف ورموهم بالكفر، ووسموهم بالنفاق كذبًا وبهتانًا، وبالغوا في ذلك أشد


    [ 8 ]



    المبالغة، ولا شك أن هذا الفعل من هؤلاء الكفرة من زيغ القلوب، ومن الانتكاس والعياذ بالله إلى الحضيض، وقد رفض أعداء الله الاعتراف بفضل الصحابة، فباءوا بالخسران المبين.

    وأصل الرفض: الترك، ومنه قولهم: رفضت هذا القول، أي: تركته. هؤلاء أعداء الله خرج مقدمهم وأولهم في عهد علي رضى الله عنه في حياته، وكان سبب ذلك أن يهوديًّا دخل في الإسلام نفاقا يقال له: عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السوداء، أظهر الإسلام ولكن باطنه الكفر، وأراد بذلك أن يشكك في الإسلام، وأن يدعو إلى أسباب الانحلال، فهو من الذين دعوا الثوار إلى قتل عثمان جَمعَ الجموعَ، وحشد الحشود، وأثار من أثار حتى اجتمعت عصابات خرجوا من مصر والعراق وغيرها، وحاصروا عثمان -رضي الله عنه-



    [ 9 ]



    وانتهى الأمر أن قتل شهيدًا -رضى الله عنه- وكان من أسباب ذلك هذا المنافق.
    ولما قتل وتمت البيعة لعلي ورأى أنه محبوب عند أهل العراق حيث استقر عندهم، أراد أيضًا أن يبطل إسلامهم وأن يوقعهم في الكفر، فدعاهم إلى أن يغلوا في علي وبدل ما هو خليفة وإمام يجعلونه ربًّا وإلهًا، فزيّن لهم وقال لهم: علي هو الرب، علي هو الإله، وانخدع به خلق كثير، واعتقدوا هذا الاعتقاد الفاسد، فقال: ابدءوا بعبادته، فخرج علي مرة وهم صفوف أعدادٌ هائلة، فلما خرج خرّوا له سُجَّدًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: أنت إلهنا، فتعجب لذلك ودعا أكابرهم ليتوبوا، ولكن أصروا و لم يتوبوا، ثم اشتهر أنه أحرقهم، خدّ لهم أخاديد وأضرم فيها النيران، ودعا أحدهم وقال له: تُب، فإن لم يتب ألقي في النار في تلك الأخاديد وهو يُنشد قوله:




    [ 10 ]






    لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا
    أجَّجْتُ ناري ودعوت قُنبرا



    وقُنبر هو غلامه.
    وما زادهم هذا الإحراق إلا تمسكًا بما هم عليه، وقالوا: الآن عرفنا أنك الرب؛ لأنك الذي تحرق بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، فتمسكوا بما هم عليه، وقتل من قتل منهم بالإحراق، وقد أنكر عليه ابن عباس -رضى الله عنه- الإحراق وقال: إن النار لا يعذب بها إلا الله.
    وقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه (1) وأما بقية الأمة فإنهم متفقون على أنهم يقتلون وأنهم كفار.




    [ 11 ]




    هؤلاء الغلاة الذين جعلوا عليًّا إلهًا هم أتباع ابن سبأ ولا يزال كثير منهم على هذه العقيدة، ويُحفظ من نشيدهم قولهم:


    أشـــهد أن لا إلـــه إلا
    حـيدرةُ الأنـزعُ البطيـن

    ولا حجـــابٌ عليــه إلا
    محمد الصــادق الأميـن

    ولا طــــريق إليـــه إلا
    سلمان ذي القوة المتين (2)



    لما كان سلمان من الفرس جعلوه هو الحاجب على الله، وجعلوا عليًّا هو الله؟ وحيدرة اسم علي في قوله لما كان يقاتل في خيبر:


    أنا الذي سمَّتني أُمِّي حَيْدَرهْ (3)
    كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ

    أُوَفِّيهمُ بالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ (4) (5)
    ..........................




    [ 12 ]




    فصار هذا الاسم عَلمًا عليه، فهم يقولون: لا إله إلا علي لا إله إلا حيدرة، وهذا الاعتقاد مشهور فيهم، هؤلاء هم بقية ورثة ابن سبأ "السبئيون" ويقال لهم: "الغلاة".
    ولما قُتل علي -رضي الله عنه- اعتقدوا أنه لم يُقتل، بل قالوا: إنه رفع في السحاب، واعتقدوا أنه سوف يرجع، فلذلك يقال لأحدهم: فلان يؤمن بالرجعة، ولا يزال كثيرٌ منهم يؤمنون بالرجعة إلى اليوم.
    في بعض الكتب الجديدة يذكر بعضهم أنه جاءه



    [ 13 ]



    أحد علمائهم وقال: إني ألفت كتابًا، قال: في أي شيء؟ قال: في الرجعة، فقال: كيف تكون الرجعة، وقد قُتل علي رضى الله عنه؟ وكيف يرجع وقد قال الله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا .
    فقال: قد آمن بها أسلافنا ومشايخنا وقد كتبوا فيها. فقال: كل ذلك خطأ، أتقلد في الخطأ؟ فقال: بل أنت المخطئ، فلما رأى أنه مشدد في الإنكار ذهب ذلك المؤلف وهو يقول: واإسلاماه! واإسلاماه!! بمعنى أنه لم يجد من يؤيده، أو لم يؤيده هذا الشيخ على الإيمان بالرجعة.
    إذن فهي عقيدة لا تزال موجودة يعتنقها كثير في العراق وفي كثير من البلاد التي يكثر فيها التشيُّع.
    هذه عقيدتهم، وهناك طائفة منهم غلوا أيضًا في



    [ 14 ]



    علي ولكن جعلوه مرسلًا من الله، ادّعوا أن الرسالة له، وأن جبريل أخطأ، كان مأمورًا بأن ينزل على علي ولكنه خان ونزل على محمد فعلي أحق بالرسالة من محمد ولذلك يقول قائلهم:
    خان الأمين وصدها عن حيدرة.
    الأمين هو جبريل وخان، أي: خان الرسالة.
    الله تعالى سماه الأمين: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وهم جعلوه خائنًا، هؤلاء المخونة موجودون أيضًا، ويعتقد هذه العقيدة كثير من الكفرة، ذكر لنا بعض الذين نقلوا عنهم وشاهدوهم أنهم قبل أن يسلموا من الصلاة يضربون بأيديهم على ركبهم ويكررون: خان الأمين خان الأمين، ثم يسلم أحدهم،



    [ 15 ]



    هذه طائفة منهم، وهم من الغلاة.
    وأما أكثريتهم فيقال لهم الإمامية، يسمون أنفسهم الإمامية وهم في الحقيقة رفضوا اتباع الحق، وعقيدتهم أن عليًّا هو الإمام، وأن الأئمة قبله مغتصبون، فأبو بكر مغتصب للخلافة، وكذا عمر وعثمان وكذا من تولى الخلافة غير علي وذريته، يعتقدون أنهم مغتصبون ما ليس لهم به حق.
    وهؤلاء أصل تكاثرهم في العراق، ثم انتشروا في غيره؛ وسببه -والله أعلم- ما حدث من بعض ولاة بني أمية في وسط القرن الأول لما تولى ابن زياد على العراق، وسبب قتل الحسين واستمر فيها إلى أن مات يزيد بن معاوية ثم قتل بعده ابن زياد ثم تولى العراق بعد ولاية ابن الزبير الحَجاج بن يوسف الثقفي ففي ولاية زياد وفي ولاية أبيه، وفي ولاية الحجاج كان



    [ 16 ]



    هؤلاء الثلاثة يميلون إلى بني أمية، وفي أنفسهم حقد على علي يزين لهم أنه ممن داهن في قتل عثمان ويقولون: إنه قادر على نصر عثمان فلماذا لم ينصره؟ فكانوا يسبونه في الخطب على المنابر في العراق وكذا في الشام



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) رواه البخاري برقم 6922 وقصة الغلاة وإحراقهم في الفتح12-270، ومجموع الفتاوى 4- 519، ومنهاج السنة النبوية 5- 12.
    (2) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 28- 554، وفي منهاج السنة النبوية 2- 512.
    (3) اسم للأسد، وكان علي رضي الله عنه قد سمي أسدًا في أول ولادته باسم جده لأمه أسد بن هشام بن عبد مناف وكان أبو طالب غائبًا فلما قدم سماه عليًّا. شرح النووي على مسلم 12- 185 .
    (4) أي: أقتل الأعداء قتلًا واسعًا ذريعًا، والسندرة مكيال واسع وقيل هي العجلة أي أقتلهم عاجلا، وقيل مأخوذ من السندرة وهي شجرة الصنوبر يعمل منها النبل والقسي. شرح النووي على مسلم 12- 186.
    (5) الأبيات في قصة فتح خيبر. صحيح مسلم (1807).




    في العراق كثير من المحبين لعلي



    ولا شك أن في العراق كثير من المحبين لعلي الذين ألفوه في حياته وأحبوه محبة صادقة، هؤلاء إما أن يكونوا معتدلين في حبه، وإما أن يكونوا من أتباع الغلاة، ولا شك أنهم إذا سمعوا هؤلاء الخطباء يلعنونه على المنبر في العراق وفي الشام يسوءهم ذلك، ويحبون أن يكون لهم أتباع، وأن يكون لهم على ما هم عليه من يشجعهم، فإذا سمعوا ذلك أخذوا في مجالسهم يذكرون فضائل علي ثم دخل بينهم الغلاة، فصار أولئك الغلاة في مجالسهم الخاصة التي هي من مجالس أتباع علي أو المحبين لعلي يكذبون ويغلون بالكذب


    [ 17 ]



    ويولدون، فبدل أن يذكروا فضائله الصحيحة ومزاياه ومدائحه التي مدحه بها النبي صلى الله عليه وسلم، صاروا يضيفون إلى ذلك أكاذيب ليست بحقيقة.
    ولعلي رضي الله عنه فضائل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: أنت مني بمنزلة من (1) ولكن هؤلاء لم يقنعوا بذلك، بل صاروا يزيدون، فصارت مجتمعاتهم التي يجتمعون فيها لا يذكرون فيها إلا فضائل على، فلا يرون من يقتنعون بقولهم، فيكذبون أكاذيب.
    فمثلا حديث غدير خم (2) الذي يجعلونه ديدنهم



    [ 18 ]



    يزيدون فيه، فحديث غدير خم فيه أنه صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (3) (4) هذا هو الثابت، ولكن لم يقتصروا عند هذا، بل صاروا يضيفون إليه زيادات مكذوبة حتى ألفوا كتبًا في هذا الحديث، وجعلوه بألفاظ عديدة، فقالوا: إنه قال: مَن



    [ 19 ]



    كنت مولاه مولاه، اللهم وال مَن والاه، وعاد من عاداه (5) .
    وذكروا في أكاذيبهم أن عليًّا مكتوب اسمه على قائمة العرش، وأنه ممن خلقه الله وقرنه باسم محمد أو فضله على خلقه، وأنه وزوجته مكتوبان في غرف الجنة كلها، وأنه، وأنه..، أكاذيب يلفقونها، وهذه الأكاذيب التي يكذبونها ويروجونها إذا سمعها تلامذتهم وأنصارهم أخذوا يروونها، وإذا سمعها الآخرون فماذا يقولون؟ لا شك أنهم يقولون: كيف تكون هذه مزاياه وهذه فضائله ويتقدم عليه غيره؟ ويكون غيره أفضل منه؟ كيف قدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان ؟ لا بد أن يكون هو الأفضل، وهو الإمام.




    [ 20 ]




    ولما سمعوا تلامذتهم ومن كان حولهم يتكلمون بهذا أرادوا أن يسكتوهم، فقالوا: هلموا فلنكذب أكاذيب نسكت بها تلامذتنا حتى لا ينكروا علينا ما نحن فيه، فكذبوا أكاذيب لفقوها رموا بها أبا بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة، وادعوا أنهم مغتصبون،وادعوا أنهم خونة، وادعوا أنهم ظلمة، فامتلأت كتبهم بالسب والحمل على هؤلاء الصحابة، وهى أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، سببها ومبدأ أمرها التسكيت لأتباعهم حتى لا ينكروا عليهم.
    ولما اشتهرت هذه الأكاذيب فيما بينهم اعتقد تلامذتهم كفر أئمة الصحابة، واعتقدوا أن الصحابة ليسوا على هدى حيث إنهم بايعوا غير الإمام الحق،وخلعوا الإمام الحق - وهو علي - من إمامته، وبايعوا أبا بكر وهو مغتصب ظالم، وبايعوا أيضًا عمر وهو ظالم



    [ 21 ]



    ليس له حق، فجعلوهم بذلك مرتدين، وأبطلوا بذلك فضائلهم التي رُويت في كتب الصحابة، ورواها أئمة الصحابة، وخُرّجت في الصحيحين وغيرهما، وقالوا: إن فضائلهم التي وردت في القرآن بطلت بمجرد ردتهم، بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم، وردتهم أنهم منعوا عليًّا من حقه، منعوا عليًّا من أن يكون هو الإمام، وبايعوا مغتصبًا ظالمًا هو أبو بكر
    هكذا كانت أقوالهم، وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفوسهم، وتوارثوها وأخذوا ينقلونها في آخر القرن الأول وفي أول القرن الثاني، يتناقلون هذه الأكاذيب ثم ينقلون فضائل علي ويبالغون فيها، وفضائل الحسن وفضائل الحسين وفضائل ابن الحنفية وفضائل زين العابدين وأولادهم، وأحفادهم وأولاد أولادهم، ويكذبون في فضائلهم أكاذيب لا تليق بعاقل ولا



    [ 22 ]



    يصدقها ذو عقل سليم، ولو قرأتم في كتبهم التي يروونها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب، كيف تروج عليهم؟ ولكن سلبت عقولهم، فلأجل ذلك يقول بعض العلماء: إنهم لا خلاق لهم، ويذكرون أنهم ليس لهم عقول، فلا يصدق تلك الأكاذيب إلا من طمست بصيرته.
    كل ذلك مذكور في الردود التي ردت عليهم، ولو قرأتموها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب، ولا يزالون على هذا المعتقد إلى هذا اليوم وللأسف، مع تفتح الناس وتبصرهم لا يزالون يروون ويتداولون في كتبهم تلك الأكاذيب، حملوا عليها أو أولوا عليها الآيات القرآنية التي وردت في القرآن، فمثلا: ذكر بعض الإخوان أنه اطلع على تفسير كبير موجود عندهم لأحد أئمتهم قرأ قول الله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ



    [ 23 ]



    فسّر (البحرين) بأنهما عليٌّ وفاطمة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ علي وفاطمة التقيا، أي: بالنكاح. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ اللؤلؤ والمرجان هما: الحسن والحسين اللذان خرجا من علي وفاطمة هكذا راجت هذه الأكاذيب بالنسبة إلى مديحهم.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) متفق عليه، البخاري (3706) ومسلم (2404)، وانظر كلام شيخ الإسلام في رد استدلالهم بهذا الحديث في مجموع الفتاوى (4- 416).
    (2) غدير خم: موضع بين مكة والمدينة تصب فيه عين هناك، وبينهما مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم. النهاية 2-81، وشرح النووي على مسلم 16- 176 ومعجم البلدان 2- 445.
    (3) صحيح مسلم (2408).
    (4) قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 4- 418): وأما قوله يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي " فليس من الخصائص، بل هو مساو لجميع أهل البيت. وهؤلاء هم أبعد الناس عن هذه الوصية؛ لأنهم يعادون العباس وذريته، بل يعادون جمهور أهل البيت، ويعينون عليهم الكفار.
    (5) انظر كلام العلماء في بطلان هذه الزيادات في مجموع الفتاوى 4- 417.




    أعاجيب وأكاذيب على الصحابة



    أما بالنسبة إلى ذمهم فمثلا فسروا قول الله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقولون: (الجبت): أبو بكر و (الطاغوت): عمر قاتلهم الله أنى يؤفكون، هكذا أكاذيبهم.
    يقولون كذلك تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ يَدَا أَبِي لَهَبٍ يقولون: هما أبو بكر وعمر قوله تعالى:


    [ 24 ]



    إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يقولون: عائشة بنت أبي بكر هي البقرة التي أمروا أن يذبحوها، أعاجيب وأكاذيب، لكن كيف راجت عليهم؟ لأنهم سلبوا المعرفة وما زالوا على هذه العقيدة، وما زالوا مصرين عليها، يعني غلاتهم.
    في آخر ولاية بني أمية، خرج رجل من ذرية علي وهو أخو زين العابدين اسمه زيد بن الحسين ولما خرج دعا الناس إلى بيعته، فجاءه بعض الذين في العراق، فقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من أبي بكر وعمر وذلك لأنهم قد ارتسم في أذهانهم أنهما أكفر من أبي جهل وفرعون فلا بد أن يتبرأ منهما، ولكنه رضي الله عنه امتنع من ذلك وقال: هما صاحبا جدي فلا أتبرأ منهما، قالوا: إذن نرفضك، فرفضوه، فمن ثم عرفوا



    [ 25 ]



    بهذا الاسم، هذا هو اسمهم الذي ينطبق عليهم في ذلك الوقت، هم الآن لا يعترفون به، بل يشنعون على من سماهم بهذا الاسم مع أنهم هم الذين سموا أنفسهم وسماهم زيد أخو أحد أئمتهم، الذي هو زين العابدين أحد الأئمة الاثني عشر، ثم إن الذين بايعوه سموا بالزيدية، فالزيدية هم الذين يوالون أبا بكر وعمر وأكثر الصحابة، ولكنهم يتبرءون من بني أمية، أما الذين خالفوه فهم معروفون بالرافضة.
    أما تسميتهم بالشيعة فهم يتمدحون بذلك، ويقولون: نحن من شيعة علي من شيعته يعني: أنصاره، الشيعة في الأصل هم: الأنصار والأعوان، كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ وكقوله تعالى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ يعني: أتباعه،



    [ 26 ]



    لكنهم في الأصل نسميهم نحن شيعا، والشيع هم الفرق الضالة الذين ذمهم الله بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ .
    الأصل: أنهم فِرَق كثيرة متشعبة، منهم الباطنية، الذين خرجوا في أواخر القرن الثالث وصار لهم قوة ونفوذ، وهم الذين في سنة 317 هـ قتلوا الحُجَّاج في الحرم وهم يطوفون بالبيت، دخلوا مع كبيرهم وقائدهم على أنهم حُجاج، ولما توسطوا في المسجد الحرام سلوا سيوفهم وأخذوا يقتلون الحُجاج في الحرم نفسه، فصار الحُجاج يلوذون بالكعبة ويتعلقون بأستارها، ولكن كبيرهم جعل يقتلهم وهم كذلك ويقول:


    أنـا باللـه وبالله أنا
    يخلق الخلق وأفنيهم أنا



    وأخذ كسوة الكعبة وشققها بين أصحابه، وقلع



    [ 27 ]



    الحجر الأسود وذهب به معه إلى بلاده، وبقى معهم إلى سنة 332 هـ حيث ضعفت دولتهم وقويت دولة الإسلام وهددوا بأن يردوه وإلا غزاهم المسلمون وقتلوهم، فردوه وهم كارهون (1) والحمد لله وأعيد إلى مكانه.
    هذه الطائفة من أكفر الطوائف ومن أخبثها، وذلك أن بعض العلماء يقول: إنهم يظهرون الرفض، ولكنهم كذبة، فظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، ولا شك أن ورثتهم اليوم الذين يظهرون أنهم مع المسلمين، وأنهم بين المسلمين، ويظهرون أنهم إخواننا كما يقولون، ويدعون إلى التقارب، ويدعون أنهم على الحق، وأن مذهبهم الذي يذهبون إليه كسائر المذاهب الفرعية كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد



    [ 28 ]



    وكذبوا؛ لأنهم مخالفون للمسلمين في العقيدة التي هي الأصل والأساس، فكيف يجتمعون مع المسلمين وكيف يأمنهم المسلمون؟ ولا شك أنهم يضمرون للمسلمين العداوة والبغضاء، ولعلكم تحفظون من الحكايات عنهم أكثر مما أحفظ، ولقد بلغكم أو بلغ أفرادكم أكثر مما بلغني، إذن فهم أعداء لله وأعداء للإسلام والمسلمين، فلا يغتر بدعوتهم إلى ما يسمونه: التقريب، ولا شك أن هذا الاعتقاد كفر وضلال، وعلى المسلم أن يعرف أعداء الله، وأن لا ينخدع بدعاياتهم وبأقوالهم وبما هم عليه، بل نأخذ حذرنا منهم.
    نقول: إذا عرفنا سبب نشأتهم، فما موقف الأولين منهم؟ العلماء الأولون كانوا منتبهين لهم في القرن الأول، إنهم كانوا يتسترون في القرن الأول وفي القرن الثاني والثالث ولا يظهرون أمرهم، ولكن مع الأسف،



    [ 29 ]



    تولوا ولايات ووثق بهم أكثر العامة، وصاروا يروون عنهم تلك الأخبار، وصار منهم إخباريون وإن لم يكونوا من غُلاتهم، ولذلك دخل الكذب في كتب التاريخ بسبب الرواية عنهم، أو عن كثير منهم، فتجدون مثلا في كتب التاريخ حتى ما يكتبه أهل السنة، الكتب التاريخية مملوءة بما يدل على أنه من وضع أعداء الصحابة.
    فمثلا من المشهورين بالأخبار شيعي من الغلاة ولكن يقولون: إنه يروي الأخبار ويحفظها يقال له: لوط بن يحيى ويشتهر بأبي مخنف يروون عنه في كتب التاريخ، فيقول ابن جرير قال أبو مخنف وذكر عن أبي مخنف هذا الراوي يظهر أنه من أهل السنة، ولكنه يميل إلى من يعادون الصحابة، دليل ذلك أنه يتتبع أخبار أهل البيت ويبالغ في نقلها ويطيل فيها، ويتابعها



    [ 30 ]



    المتابعة الزائدة، ويستقصي أخبارها، فمثلا في تاريخ ابن جرير مقتل الحسين واقعة واحدة قتل فيها الحسين ومعه من أهل البيت نحو الأربعين، ففي العادة أن مثل هذه الواقعة يكفيها ثلاث صفحات أو أربع صفحات، ولكن استغرقت نصف مجلد، أي أكثر من 250صفحة من تاريخ ابن جرير والذي اعتماده على هؤلاء الإخباريين، فابن جرير -رحمه الله- من أهل السنة، ولكن بلاده طبرستان في إيران كانت مليئة في زمانه بهؤلاء الذين يبغضون الصحابة فكانوا يدخلون عليه شيئًا من أخبارهم وإن كان محدثًا ومفسرًا وإمامًا إلا أنه انخدع بهم، ألّف كتابًا في مجلدين في خبر غدير خم يقول ابن كثير ذكر فيه ما لم يصلح أن يذكر، حشد فيه الطيب والخبيث، والغث والسمين، والصحيح والسقيم، واستوفى فيه -كعادة المؤلفين في ذلك الوقت- ما بلغه



    [ 31 ]



    من حق وباطل، وذلك دليل على أنه قد كثرت عنده تلك الأخبار، وهو دليل كذلك على أن أخبار أعداء الدين في ذلك الزمان قد اشتهرت.
    وفي القرن الرابع استولى على العراق - بل وعلى مصر وعلى إيران ونحوها- دولةٌ يقال لها: بنو بُويه وهذه الدولة ممن يعادون الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن الخلافة لبني العباس، ولكن هؤلاء من جملة السلاطين الذين يديرون الخلافة وهم شيعة أعلنوا مذهب الرفض وزادوا فيه وتوغلوا فيه، ونشروه النشر الزائد، وانتشر في زمانهم وتمكن في العراق لأنها وطنهم، وتمكن في إيران وما حولها، وصاروا يدعون إليه بالقول وبالفعل، ويشجعون كل من يعتنقه ويولونه الولايات، ولا شك أن هذه من الدعايات التي ساهمت في تمكين هذا المذهب، وإلا فهو مذهب باطل خبيث.




    [ 32 ]




    ولما تمكن وكثر معتنقوه صار لهؤلاء مراجع ولهم مؤلفات، وصاروا يحشدون في الكتب التي يؤلفون في مذهبهم وفي تقرير معتقدهم ما لا يصدقه العقل، ثم انتشر هذا المذهب وانتشرت كتبهم، وعندهم الآن من الكتب ما لا يحصيه العدد وكله يؤيد هذا المذهب.
    ولما انتشرت تلك المؤلفات فيما بينهم وكثر المؤلفون تمكن وظهر وقوي، وانخدع به من انخدع، ولا يزالون يخدعون الناس إلى هذا اليوم، لا يزالون يزينون للناس اعتقاد هذا المذهب الباطل واعتناقه، وينخدع كثير من الناس بحسن معاملتهم، وبملاطفتهم ولين الكلام منهم ومدحهم في أنفسهم ويقولون: إن معهم شيئًا من الأخلاق ومن الأدب ومن الصدق ومن الوفاء بالوعد ومن كذا وكذا، يجتذبون الناس بمثل هذه المعاملة اللينة، وإلا فالأصل أنهم كفرة وعقائدهم سيئة،



    [ 33 ]



    نقول هذا بموجب ما يحكى لنا عنهم، ولا أتجرأ أن أذكر تلك الحكايات التي يذكرها لنا بعض الإخوان الذين اشتغلوا معهم من احتيالهم على أهل الخير والصلاح ومقتهم وبغضهم لهم وحقدهم عليهم، ولكن ينخدع الكثير بإعلاناتهم وبدعاياتهم أنهم مسلمون، وأنهم على مذهب متبع ومعترف به.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) البداية والنهاية 11- 171.




    اهتمام العلماء بذكر فضائل السلف والصحابة



    ويذكر لنا بعض المشايخ الذين عملوا في مناطقهم أنهم وجدوا أهل السنة هناك يعتقدون أنهم مسلمون، وليس بينهم من الفَرق إلا كما بين من يقول: إني شافعي وإني مالكي، ولم يدروا أنهم على باطل حتى ظهر لهم الحق، لا شك أن هذا هو المعتقد السيئ عندهم.
    نقول: لما كان الأمر كذلك اهتم العلماء -رحمهم الله- بذكر فضائل السلف وفضائل الصحابة رضي الله


    [ 34 ]



    عنهم، وذكروا ذلك في عقائدهم كما ذكر ذلك الإمام الطحاوي (1) رحمه الله تعالى، وكما ذكر ذلك أصحاب العقائد نظمًا ونثرًا، يقول أبو الخطاب الكلوذانى في عقيدته . مبينًا فضل الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم:


    قــالوا: فمـن بعـد النبـي خليفــة؟
    قلــت: الموحــد قبــل كــل موحــد

    حاميـه فـي يـوم العـريش ومـن لـه
    فـــي الغـار مسـعد يالــه مـن مسـعد

    خــير الصحابــة والقرابــة كــلهم
    ذاك المؤيـــد قبـــل كـــل مؤيـــد

    قــالوا: فمـن صـديق أحمد ؟ قلت: من
    تصديقــه بيــن الــورى لــم يجحــد

    قــالوا: فمن تـالي أبـي بكـر الرضا؟
    قلـت: الإمـارة فـــي الإمــام الأزهـدي

    فـاروق أحـــمد والمهــذب بعــده
    نصــر الشـــريعة باللســان وبـاليـد

    قــالوا: فثـالثهم؟ فقلــت: مسـارعًا
    مـــن بــايع المختـــار عنـه بـاليـد

    صهـر النبي علـى ابنتيـه ومـن حوى
    فضليـــن فضــــل تلاوة وتهجــــد

    أعنـي ابـن عفــان الشهيد ومن دعي
    فـي النـاس ذا النـورين صهــر محمــد

    قــالوا: فـرابعـهم؟ فقلـت: مبــادرًا
    مـــن حــاز دونهــم أخــوة أحــمد

    زوج البتول وخـير من وطـئ الحـصى
    بعــد الثلاثـــة والكــريـم المحــتـد

    أعنـــي أبا الحسـن الإمام ومــن له
    بيــن الأنــام فضــائل لــم تجحـد (2)







    [ 35 ]





    [ 36 ]



    وعلى هذا فقد اهتم السلف بذكر فضائل الصحابة في العقيدة؛ لأنا لو نزلنا على عقيدتهم لرددنا الكتاب والسنة، فمن أين جاءنا الكتاب إلا بواسطتهم، ومن أين جاءتنا الأحاديث النبوية إلا عن نقلهم، فإذا كانوا كفارًا -كما يقول هؤلاء- فإن أخبارهم لا تقبل.
    أما شبههم التي يرمون بها أهل السنة، فمنها الآيات التي ذكرت في المنافقين، فإنهم يحملونها على الصحابة رضي الله عنهم، فمثلا قول الله تعالى في قصة بدر: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ قالوا: هؤلاء جادلوا الرسول كأنما



    [ 37 ]



    يساقون إلى الموت، فقد كفروا بذلك لما جادلوا الرسول، فكفروهم بذلك والله تعالى ما كفرهم،وسماهم مؤمنين وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ كيف تكفرونهم مع أن الله تعالى سماهم بالمؤمنين؟ نعم كرهوا مقابلة الكفار مخافة أن يقضى عليهم وهم عدة الإسلام والمسلمين، ومعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعهم خيار الصحابة، ولكن الله تعالى نصرهم وأيدهم، وسبب هذه الكراهية، وهذه المجادلة أنهم يقولون: إنما ذهبنا إلى العير، فيقال: هل يخرجهم من الإيمان؟ الجواب أنه ما أخرجهم، ولكن هؤلاء السفهاء جعلوه كالدليل على أنهم كفارٌ، فلأجل ذلك كفروهم بمثل ذلك.
    وذكروا آية ثانية وهي الآية التي في آخر سورة الجمعة، وهي قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قالوا: هؤلاء الذين انفضوا عن



    [ 38 ]



    الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب وتركوه قائمًا ارتدوا بذلك، هكذا قالوا، مع أن الله تعالى لم يكفرهم بذلك بل أقرهم على هذا وعفا عنهم.
    ثم نقول: من هم الذين بقوا ومن الذين نفروا، ومعلوم أنهم خرجوا ينظرون إلى هذه الإبل، ثم رجعوا وأتموا صلاتهم ولا يليق بهم أن يتركوا الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قد يكون معهم بعض أهل البيت، قد يكون معهم سلمان -رضي الله عنه- وقد يكون معهم بعض الذين يمدحونهم كعمار وصهيب رضي الله عنهما وغيرهم.
    وما دام كذلك فلا حجة لهم في مثل هذه الآيات التي يستدلون بها، ثم لو قدر أنهم صادقون وأن تلك الأشياء وقعت منهم حقيقة، فهل يليق أن نكفرهم بها؟ لا يليق بنا ذلك فلهم من السوابق ما يكفر به عنهم إذا صدر منهم أي ذنب من الذنوب، فنقول: لعلهم قد تابوا منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو محيت عنهم



    [ 39 ]



    بسوابقهم وحسناتهم التي عملوها، وسوابقهم وأعمالهم مضاعفة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه (3) فالحسنات يُذهبن السيئات، فكيف ننسى حسناتهم ونتذكر أشياء طفيفة وسيئات خفيفة، على حد قول بعضهم:


    ينسى من المعروف طَوْدًا شامخًا
    وليس ينســـى ذرة ممـــن أســـا



    ينقبون الذرات والأشياء الصغيرة عليهم وينسون فضائلهم وجهادهم، ولكنهم قوم لا يفقهون.
    إذن فعلى المسلم أن تكون عقيدته نحو الصحابة محبتهم، والترضي عنهم، والثناء عليهم، والاعتراف بما لهم من المزية وبما لهم من السبق، ومعرفة أنهم خير



    [ 40 ]



    قرون هذه الأمة، لم يكن ولا يكون مثلهم، وأن فضائلهم لا يدركها غيرهم، فإذا اعترفنا بذلك عرفنا بذلك كُفر مَن كفّرهم وضلال من ضلّلهم، وبعد الذين عادوهم ونصبوا لهم العداوة، بل نصب العداوة لكل من والاهم من أهل السنة والجماعة، وما علينا إلا أن نشهر ونعلن فضائل الصحابة كما أعلنها وكما أشهرها الأئمة قبلنا، وقد ذكرنا أن العلماء أظهروا فضائلهم؛ فالبخاري في الصحيح جعل كتابًا في صحيحه لفضائل الصحابة بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، وهكذا فعل مسلم في كتابه كتاب فضائل الصحابة، وهكذا فعل الترمذي وهكذا ألف الإمام أحمد كتابه: فضائل الصحابة المشهور، وهكذا الكتب المؤلفة في ذلك.
    كل ذلك في الثناء على الصحابة وعلى أتباعهم، فإذا قرأ المسلم تلك الأخبار وعرف صحتها،



    [ 41 ]



    عرف بذلك أن من عاداهم فهو ضال مضل، خارج عن الإسلام، طاعن في عقيدة الإسلام، بل في أصل الإسلام الذي هو الكتاب والسنة.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) شرح العقيدة الطحاوية 2- 689.
    (2) مقدمة التمهيد في أصول الفقه 1- 57، ومقدمة الانتصار في المسائل الكبار 1-27، والمنهج الأحمد للعليمي 2-199، ومجموعة الرسائل الكمالية، قسم التوحيد 3- 130.
    (3) متفق عليه، البخاري (3673) ومسلم (2541).




    الذين يبغضون الصحابة هم في ضلال



    أما ما يتعلق بأحوال هؤلاء الذين يبغضون الصحابة وأعمالهم، فهم وأعمالهم والعياذ بالله في ضلال نبرأ إلى الله منهم ومن عقائدهم ومن أعمالهم السيئة، ونتمسك بما نحن عليه، ونسأل الله أن يحيينا على محبة الخير وأهله، وأن يميتنا وإخواننا المسلمين على الإسلام والتمسك بالسنة.
    وبعد ذلك نقول إن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين اجتمعوا به بعد إسلامهم، وأدركوا حياته، ورأوه وهم مؤمنون مصدقون به، وقد اشتهر أنهم جاهدوا معه، وأنفقوا أموالهم في سبيل الله، ونصرة لرسوله، وقد مدحهم الله تعالى في القرآن الكريم، كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا


    [ 42 ]



    وهذا الوصف يعم جميع المهاجرين الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فإنهم تركوا بلادهم وعشائرهم وأموالهم، حبا لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتصديقًا بالرسالة، مع ما لقوه قبل الهجرة من الأذى والعذاب في الله تعالى.
    ثم تكبدوا الصعوبات في سفر الهجرة، وركبوا الأخطار، ثم إن العرب جميعًا رمتهم بقوس العداوة، وقاطعتهم، فتعرضوا لحرب جميع البشر من العرب



    [ 43 ]



    وغيرهم، ولا شك أن الحامل لهم قوة الإيمان، والجزم بصحة ما هم عليه، والثقة بنصر الله تعالى الذي ذكره في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا وقد أخبرهم قبل ذلك بأنهم سوف يبتلون ويختبرون، فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ولهذا لما تسلط عليهم الأحزاب، وضيقوا عليهم، ثبتوا وقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .




    [ 44 ]




    وقد أخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنهم كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ومن رضي الله عنه فقد غفر له ورضي عمله فلا يسخط بعد ذلك عليهم، بل يوفقهم ويحميهم، ويتوفاهم على الإسلام.
    ولقد ورد في السنة ما يدل على فضلهم على من بعدهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (1) الحديث، ويريد بالقرن: أهله، ففضل أصحابه على من بعدهم، وكذا نهي عن سبهم بقوله: لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه وروى مسلم (2) في حديث أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم



    [ 45 ]



    قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال فجلسنا. فخرج علينا. فقال (مازلتم ههنا؟)، قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: (أحسنتم أو أصبتم)، قال فرفع رأسه إلى السماء. وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء.فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون أي: من الفتن والخلاف وكثرة البدع.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) متفق عليه، البخاري (2652)، ومسلم (2533).
    (2) برقم (2531).




    شهادة النبي لبعض الصحابة بالجنة



    وقد شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- للعشرة بالجنة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد (1) كما ثبتت الشهادة لجماعة آخرين بالجنة،


    [ 46 ]



    كثابت بن قيس (2) وبلال (3) وعمار (4) وسلمان (5) وقال -صلى الله عليه وسلم- لا يدخل النار إن شاء الله أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها (6) وقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم (7) وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وأهل البيعة ألف وأربعمائة وزيادة.
    ثم اتفق السلف على أن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعًا، وجمهور أهل السنة على أن



    [ 47 ]



    ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فقد اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على تقديم أبي بكر -رضي الله عنه- ومبايعته خليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما عرفوا من سابقته وصحبته وأعماله، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمه ليصلي بالناس في أيام مرضه، فصلى بهم تلك الأيام (8) فبايعوه وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، فهو ليس أكثرهم مالا، ولا أقواهم بأسًا، ولا أعزهم عشيرة، فلم يبايعوه خوفًا من سطوته وقهره وسلطته، وإنما عرفوا فضله وسابقته، وما تميز به، وتذكروا الإشارات الدالة على أنه أولى بالخلافة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- اقتدوا باللذين من بعدي (9) وقوله -صلى الله عليه وسلم- فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها



    [ 48 ]



    بالنواجذ (10) وثبت في الصحيحين عن أبي سعيد أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب في آخر حياته وقال: إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب (11) .
    وفضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة كثيرة مشهورة، فمن أراد الاطلاع فليراجع كتاب الفضائل من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وجامع الأصول، ومجمع الزوائد، ومستدرك الحاكم، وترتيب صحيح ابن حبان وكتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد وفي الفتح الرباني وغيرها، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) أبو داود (4649) والترمذي (3748) وقال هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (120)، وأحمد في المسند كما في الفتح الرباني (22- 189).
    (2) البخاري (4846)، ومسلم (119).
    (3) البخاري (1149)، ومسلم (2458).
    (4) المستدرك 3- 388.
    (5) ورد فيه وفي علي وعمار أجمعين حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان " الترمذي مع عارضة الأحوذي 13-206.
    (6) مسلم (2496).
    (7) متفق عليه، البخاري (3983)، ومسلم (2494).
    (8) البخاري (664).
    (9) الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وأحمد 5- 382، والحاكم 3- 75.
    (10) أبو داود (4607)، والترمذي (2678)، وأحمد 4- 126، 127، وابن ماجه (42)، والدارمي 1- 44).
    (11) متفق عليه، البخاري (466)، ومسلم (2382).

    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    صدحه بالحق ولايبالي (2)رحمة الله عليه

    السؤال
    ما حكم دفع زكاة أموال أهل السنة لفقراء الرافضة (الشيعة) وهل تبرأ ذمة المسلم الموكل بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي الفقير أم لا؟

    أجاب الشيخ رحمه الله
    بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنها لا تدفع لكافر، ولا لمبتدع،

    فالرافضة بلا شك كفار لأربعة أدلة

    الأول: طعنهم في القرآن، وادعاؤهم أنه قد حذف منه أكثر من ثلثيه، كما في كتابهم الذي ألفه النوري وسماه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وكما في كتاب الكافي، وغيره من كتبهم، ومن طعن في القرآن فهو، كافر مكذب لقوله تعالى (وإنا له لحافظون)( الحجر:9 ).ـ

    -=-

    الثاني: طعنهم في السنة وأحاديث الصحيحين، فلا يعملون بها، لأنها من رواية الصحابة الذين هم كفار في اعتقادهم، حيث يعتقدون أن الصحابة كفروا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي وذريته، وسلمان وعمار، ونفر قليل، أما الخلفاء الثلاثة، وجماهير الصحابة الذين بايعوهم فقد ارتدوا، فهم كفار، فلا يقبلون أحاديثهم، كما في كتاب الكافي وغيره من كتبهم
    -=-

    والثالث: تكفيرهم لأهل السنة، فهم لا يصلون معكم، ومن صلى خلف السنى أعاد صلاته، بل يعتقدون نجاسة الواحد منا، فمتى صافحناهم غسلوا أيديهم بعدنا، ومن كفّر المسلمين فهو أولى بالكفر، فنحن نكفرهم كما كفرونا وأولى

    -=-

    الرابع: شركهم الصريح بالغلو في علي وذريته، ودعاؤهم مع الله، وذلك صريح في كتبهم، وهكذا غلوهم ووصفهم له بصفات لا تليق إلا برب العالمين، وقد سمعنا ذلك في أشرطتهم. ثم إنهم لا يشتركون في جمعيات أهل السنة، ولا يتصدقون على فقراء أهل السنة، ولو فعلوا فمع البغض الدفين، يفعلون ذلك من باب التقية، فعلى هذا من دفع إليهم الزكاة فليخرج بدلها، حيث أعطاها من يستعين بها على الكفر، وحرب السنة، ومن وكل في تفريق الزكاة حرم عليه أن يعطى منها رافضيا، فإن فعل لم تبرأ ذمته، وعليه أن يغرم بدلها، حيث لم يؤد الأمانة إلى أهلها، ومن شك في ذلك فليقرأ كتب الرد عليهم، ككتاب القفاري في تفنيد مذهبهم، وكتاب الخطوط العريضة للخطيب وكتب إحسان إلاهي ظهير وغيرها، والله الموفق.ـ
    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  6. افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    لاحرمتم الأجر على تلك الكتابه لشيخ الجليل ابن جبرين
    بوركتــم
    ]قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"

    قلبي مملكه وربي يملكه>>سابقا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    حوار مجلة البيان
    مع فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
    مجلة البيان العدد 132 شعبان 1419هـ


    الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عـالـم جـلـيـل أفنى ما مضى من حياته في العلم والتعليم والإفتاء...، اشتهر بتواضعه، وسعة صدره، وصبـره، كـمــا عُرف باجتهاده وعلو همته، حتى صار له في الأسبوع: اثنا عشر درساً ـ منها ما يمتد لثلاث ساعات ـ، ويجلس لبذل العلم كل يوم بين العصر والمغرب، هذا بالإضافة إلى عمله (عـضــــــو الإفتاء) في دار الإفتاء بالرياض، وذلك إلى قبل أشهر يسيرة؛ حيث أحيل للتقاعد ـ حـفـظـه الله، ومتعه بالصحة والعمل الصالح الذي يرضي الله ـ.
    وقد كان لنا معه هذا اللقاء المبارك؛ حيث اقتطعنا جزءاً من وقته الثمين، فتفضّل بالإجابة عـلـى أسئلة (البيان) وإنا لنرجو أن يجزيه الله عن الجميع خير الجزاء، وأن يوفقه لأداء رسالـتــه في العلم والتعليم والتوجيه، وأن يختم له بصالح الأعمال. وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ ـ حفظه الله ـ.

    1- هل لفـضـيلـتـكـم أن تحدثنا ـ باختصار ـ عن طلبكم للعلم.. كيف كان؟ وعلى يد مَنْ مِنَ العلماء تلقيتم العلم؟
    جـواب:
    الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه.
    وبعد: فإن الله ـ سـبـحــانه ـ له الحمد والفضل والمن والثناء الحسن، فهو الذي يوفق من يشاء ويهدي من يشاء فضلاً منه وكرماً، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، ولا يظلم ربك أحداً.
    أقول: إنني معترف بالنقص والقصور، وقلة التحصيل، وضعف المعلومات، وكثرة النسيان، وضياع الكثير من العمر في غير فائدة؛ فعندما أقرأ في تراجم بعض العلماء كالشافعي وأحمد وابـن راهـويــه، والبخاري، وابن معين ونحوهم، أعرف الفرق الكبير، والنقص الجلي في نفسي، وأن لا نـسـبـة إلى أحدهم ولو من بعيد، وكذا عندما أقرأ في مؤلفات بعض العلماء الربانيين، كابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهم ممن فتح الله عليهم، وألهمهم العلم والفهم، والإدراك والــذكاء والفطنة، أرى ما منحهم الله ووفقهم له مما لا أصِلُ إلى عُشر معشاره، ولا أحلم بإدراك معـلــوماتهم، ولو بعد التأمل والتفكر، وهكذا عندما نسمع سيرة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عـبــــد الوهاب وبنيه وتلامذته، ومن تبعهم، ونقرأ في رسائلهم ومسائلهم، نرى ما وهبهم الله ـ تـعـالـى ـ، ومـا منحهم من العلم النافع، والفهم الثاقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
    نشأة الشيخ:
    ثم أقول إنني نشأت في قرية (الرين) التابعة للقويعية، وفـي كل صيف غالباً أكون في قرية (محيرقة) من قرى (القويعية) فابتدأت بتعلم القرآن والهجاء من والدي ـ رحمه الله ـ، ومن إمام جامع محيرقة العم سعد بن عبد الله بن جبرين ـ رحـمـــه الله ـ، وذلك في سنة تسع وخمسين من القرن الرابع عشر الهجري، وفتر العزم عن الحـفـظ؛ حيث لم يكن من يتابع معي، فلم أكمل حفظ القرآن إلا في سنة ثمان وستين، وقد قرأت قـبـل ذلك على والدي ـ رحمه الله ـ في النحو والفرائض والحديث، وبعض الكتب المطولة، فبعد إكمال حفظ القرآن ابتدأت في القراءة على فضيلة قاضي الرين، الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، وشهرته (أبو حبيب)، وواصلت القراءة عليه في المتون والشروح في التوحيد والعـقـيـــدة والحديث والفقه والتفسير، وحصل بذلك خير كثير، ثم في عام أربع وسبعين انتقلنا إلى الــريــاض؛ حيث فتح معهد إمام الدعوة العلمي، وانتظمت فيه، وكانت قراءتنا في الـصــبــاح عـلـى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ، وفي أثناء النهار على غيره مــــــن المشايخ كإسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز بن رشيد، ومحمد المهيزع وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى ـ، ونقرأ في المساء على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد العـصــر وبعد المغرب، وأنهيت الدراسة النظامية في عام 1382هـ، ومنحت الشهادة العالية من الـمـعـهـد، وتعادل الجامعة، وفي عام 1388هـ انتظمت في المعهد العالي للقضاء حتى عام 1390هـ، حيث منحت شهادة الماجستير، بعد أن قدمت رسالة في أخبار الآحاد وهي مطبوعة، وفي عــــام 1407هـ حصـلـــت على الدكتوراه؛ حيث قمت بتحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرقي الذي طبع بـعـــد ذلك بتحقيقنا في سبعة مجلدات. والله الموفق.

    2- لو أردنا المقارنة بين ذلك الوقت، وبين اليوم؛ من حيث إقبال الشباب على العلم، فهل نجد فوارق بارزة بين المرحلتين، وهل كانت تتوسطهما مرحلة أخرى تتميز عنهما؟
    جـواب:لا شك أن هناك فوارق كبيرة لها تأثيرها في كل من المرحلتين، ولكل منهما ميزة ظاهرة، فقبل خمسين عاماً كان في هذه المملكة قلة في العلماء الربانيين البارزين، سيما في القرى والبلاد النائية؛ وذلك لأن طلاب العلم أفراد وأعداد قليلون وتغلب العامية على الأكثر؛ وذلك لأنهم عاشوا في فقر وفاقة، وشظف عيش، وقلة في الإمكانيات؛ فالمواطنون يهمهم الحصول على لقمة العيش، فالبوادي الرحل يتبعون مواضع القطر لمواشيهم التي بها معاشهم ومعاش عوائلهم، فهم أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وأكثرهم جهلاء، قد لا يحسنون قراءة الفاتحة، ولا صفة الطهارة والصلاة، إلا ما شاء الله، وأهل القرى منشغلون بتحصيل الرزق والقوت، إما في حرث وغرس فيعملون طوال الوقت في السقي والحرث، والأبر والغرس والإصلاح، وإنما يتفرغون لأداء الفرائض جماعة، وسماع ما يقرأ في الصلاة، ولا يجدون غالباً من يلقنهم تعاليم الدين، وآخرون أهل صناعة من الصناعات اليدوية، كحدادة ونجارة، وخرازة ودباغة، وحياكة ونحوها مما يتحصلون منه على القوت الضروري، كغذاء أو كسوة وسكن يكنهم عن الحر والقر، وآخرون منشغلون في التجارة التي تتوقف على الرحلات، والأسفار الطويلة، حيث تستغرق الأشهر، يقطعون فيها المفازات والصحاري، مما لا يتفرغون معه لتعلم أو تفقه في الدين، وإنما يتلقون من آبائهم العلوم الضرورية في العبادات قولاً أو فعلاً، ومع هذه الأحوال فإن هناك من اهتموا بالطلب والتعلم، فتجشموا الصعاب، وقطعوا المراحل البعيدة، وتغربوا عن الأوطان؛ ولازموا العلماء في المدن أو في بعض القرى، على ملء بطونهم، وكسوة ظهورهم، وأكبوا على التلقي، واهتموا بالحفظ والفهم، واستهموا على الوقت، وأقبلوا بكلياتهم على التعلم، فوفقهم الله وسدد خطاهم، وأعطاهم ما تمنوا رغم قلة الإمكانيات، وبُعد المسافات، وكثرة المعوّقات، ولكنهم صبروا على المشقة، وركبوا الصعوبات، حتى مكنهم الله وأعطاهم ما تمنوا، ولكنهم قلة قليلة يتواجدون في المدن، وحول حملة العلم، وأكابر العلماء الذين أنزل الله في علمهم البركة، واهتموا بتعليم العقائد والعبادات والأحكام، وبارك الله في سعيهم، وذلك لحسن النيات والمقاصد؛ حيث لا يريدون عَرَضَ الدنيا، وإنما قصدوا الاستفادة وحمل العلم، والتفقه في الدين، ولا شك أن هذا الجهد الذي يبذلونه، وهذه المشقة التي يتجشمونها، قليلة بالنسبة إلى ما نسمع ونقرأ عن جهود سلفنا الصالح، وعلماء صدر هذه الأمة، في القرون المفضلة، ومن سار على نهجهم، الذين يتغربون عن أهليهم عدة سنوات، للتعلم والاستفادة، ويسافر أحدهم للتحمل والأخذ عن المشايخ الأكابر الشهر والأشهر، ويسهرون الليالي في طلب المعاني، مما كان سبباً في بقاء علومهم، والانتفاع بآثارهم، والبركة في مؤلفاتهم، وبقاء لسان صدق لهم فيمن بعدهم، فرحمهم الله وأكرم مثواهم.

    3- تتباين وجهات النظر في الأسلوب الأمثل والطريقة الأكمل لطلب العلم؛ من الاكتفاء بمجالسة العلماء، أو إدامة القراءة، أو حفظ المتون، أو الدراسات المنهجية في الجامعات.. نود تجلية الأمر للإخوة القراء من خلال خبرتكم الطويلة في التعليم.
    جـواب:لا شك في اختلاف الرغبات، والتباين الكبير في طرق التحصيل عند طلاب العلم، والذي أراه أن لكل طالب التمشي على ما يميل إليه ويتأثر به، ويرى فيه الفائدة وإدراك المعلومات، ومع ذلك فإن مجالس العلماء، وحضور الحلقات، وإدامة الملازمة للدروس اليومية أو الأسبوعية التي تقام في المساجد ونحوها، مفيدة ونافعة، ولها تأثير كبير في تحمل العلم، وتجديد المعلومات، وما ذاك إلا أن الدافع إليها غالباً هو الاستفادة؛ حيث يتوافد الطلاب إلى تلك الحلقات، ويأتون من أماكن بعيدة أو قريبة، وتراهم خاشعين منصتين، وكل منهم غالباً يحمل معه كتاباً يتابع فيه المدرس، أو دفتراً لتعليق الفوائد، وكتابة المعلومات؛ بحيث يرجع الطالب بحصيلة علمية نافعة، تبقى معه طوال حياته، ومع ذلك فإن المطالعة وإدامة قراءة الكتب العلمية مفيدة جداً، لكن لا بد قبل ذلك من معرفة المقدمات، والأساليب والاصطلاحات للمؤلفين، ولا بد من معرفة اللغة الفصحى، وما يتصل بها من النحو والصرف والبيان، حتى تتم الاستفادة منها؛ حيث إن الكثير من الطلاب يصدهم عن القراءة في الكتب جهلهم بالمصطلحات، وقصورهم في المعلومات اللغوية، حتى فضّل الكثير ما كتبه المتأخرون، وأكبوا على القراءة للمعاصرين، وإن لم نعرف الصوارف عن مؤلفات الأقدمين. ثم نقول: إن حفظ المتون والمختصرات، واستظهار الأحاديث، والقواعد، والأركان والواجبات، له الأثر الكبير في بقاء المعلومات، فلقد كان مشايخنا الأكابر يذكرون عن نشاطهم وتسابقهم إلى الحفظ، ويحثون تلامذتهم على ذلك، حتى رأينا منهم العجب في استحضار النصوص والأدلة عند الحاجة إليها، وكانوا يلزمون من أراد الالتحاق بالتعلم أولاً: بحفظ القرآن الكريم، وثانياً: أثناء الاستعداد بحفظ المختصرات في النحو والفرائض، والأحاديث في الأحكام، والتوحيد والعقائد والفقه، والتفسير، أما في هذه الأزمنة فقد لاحظنا فتوراً ظاهراً في الحفظ والاهتمام بالمتون، وإنما يكتفون بالفهم وإدراك المعاني من المتون، أو من الشروح، أو من التقارير والتعليقات، وذلك قد يكفي لمن حصل له الفهم التام، ورزق حفظاً دائماً. فأما الدراسات المنهجية فقد أصبحت من الضروريات؛ بحيث لا يخل بها إلا القليل، بل يلتزم الأكثرون بها، رجالاً ونساءً، انتظاماً وانتساباً، والغالب أن القصد منها هو الحصول على المؤهل الذي يمنح لهم بعد الانتهاء من كل مرحلة، ولا شك أن الالتزام بذلك مع المواصلة إلى نهاية المرحلة الجامعية مما يفيد كثيراً؛ حيث إن الطفل يبدأ من مبادئ العلوم، ثم يترقى إلى ما بعد ذلك سنة بعد سنة، ومرحلة بعد مرحلة، فمتى كان قصده الاستفادة، وتحصيل المعلومات النافعة، فإنه سيحصل من ذلك على قسط كبير، يبقى معه أثر طوال حياته، ولكن لا بد مع ذلك وبعده من مواصلة التعلم، وبذل الجهد في التحصيل، فإن العلم كثير، وطالب العلم لا يكتفي بما حصل عليه، كما في الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا). وكان العلماء يوصون تلاميذهم بالاستمرار في الطلب، ويقول أحدهم: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد)، ويقولون: (مع المحبرة إلى المقبرة) فعلى المسلم الجد في الطلب بما يقدر عليه، وما يراه نافعاً في حقه. والله أعلم.

    4-لا يخفاكم واقع مناهج التعليم في جل بلاد العالم الإسلامي.. مما جعل بعضهم يرغب عن التعليم النظامي جملة: ما الموقف الصحيح تجـاه هذا المنهـج: ألا ترى ـ فضيلتكم ـ أن لذلك سلبيات لا سيما مع قلة العلماء العدول فضلاً عن حاجة الأمة لتعليم ناشئتها مختلف العلوم والفنون؟
    جـواب:لا شك في صلاح النية، وحسن الأهداف عند تقرير المناهج التعليمية، في أغلب البلاد الإسلامية، ثم مع مرور الزمان، نشأ من يريد في الظاهر قصداً حسناً، والله أعلم بما يضمره، فاقترح تغيير المناهج القديمة، أو الاقتضاب من بعضها، وإضافة علوم أو مواد ثانوية، وفرض دراستها، مع قلة الحاجة إليها، أو عدم أهميتها، أو اختصاصها ببعض الأفراد، فكان ذلك سبباً في عزوف كثير عن التعليم النظامي، إما لصعوبته، أو لنفرة بعض النفوس عنه، أو لقة الفائدة التي تعود إلى ذلك الطالب، وميل نفسه إلى علوم وأعمال أخرى، وكان الأوْلى أن يجعل لهؤلاء مدارس خصوصية، يقرر فيها دراسة العلوم الدنيوية الضرورية، مع المواد الشرعية، ويعفى من ينتظم فيها عن علم الجبر والهندسة، واللغات، والفيزياء وشبهها، ثم إن هذه العلوم لا شك في أهميتها، ومسيس الحاجة إليها، ولكن ذلك في حق من يرغبها، ويجد من نفسه ميلاً إلى التعلم والعمل بها، ثم إن طالب العلم في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها، يجب عليه حسن النية في دراسته لتلك المواد، فيقصد أولاً: حمل العلم النافع، ليفوق الجاهل به، فقد قال ـ تعالى ـ: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الزمر: 9]، أي لا سواء بين العالم بالفن والجاهل به، ويقصد ثانياً: نفع نفسه ونفع الأمة، سواء في أمر الدين أو أمر الدنيا؛ حيث تمس الحاجة إلى تعلم هذه الفنون، ويستفيد حاملها، ويعلّم غيره، ويغني نفسه، ويكتفي بصناعته أو حرفته، ويقصد ثالثاً: فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فضل حاملها، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ويقصد رابعاً: العمل على بصيرة؛ فإن من شرط قبول العمل موافقته لما ورد به الشرع، فمن عمل على جهل فعمله مردود، وخصوصاً إذا تمكن من التعلم فأعرض عنه، ولا شك في خطأ الذين عزفوا عن التعليم النظامي، لأي سبب عرض لهم، ولذلك نراهم أصبحوا عالة على أهليهم، قد عطلوا أنفسهم، وصاروا كلاً وثقلاً على أولياء أمورهم، وقد روي عن بعض السلف ـ رحمهم الله ـ أنه قال: الناس ثلاثة أقسام: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وسائر الناس همج رعاع لا خير فيهم، يغلون الأسعار، ويضيقون الديار، ثم إنهم بعد أن أفاقوا من سكرتهم، وانتبهوا من رقدتهم، أسفوا أشد الأسف على ما ضاع من أوقاتهم، ولكن ذلك بعد أن تفارط الأمر، وفات الأوان. والله المستعان.
    5- يشكو كثير من طلاب العلم المواظبين على حِلَقِ العلم من طول مدة إنهاء كتاب من الكتب، التي قد تمتد لسنوات.. فما تعليقكم؟
    جـواب:هذا مشاهد ملحوظ، ولكنه ليس مطرداً في جميع طلبة العلم الذين يرغبون في المواصلة والاستمرار في الطلب، ولا تكل جهودهم، ولا تضعف هممهم، فنوصي طالب العلم، أن تكون همته عالية، وأن لا يعتريه سآمة ولا ملل، وأن يتذكر أحوال السلف وعلماء صدر هذه الأمة، وما بذلوه من الجهد، والتعب والنصب في طلب العلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه ـ رحمه الله ـ أنه قال: (أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ولما زاد على ألف فرسخ تركت الحساب. وذكر أنه سار ماشياً من الكوفة إلى بغداد مرات عديدة، ومن مكة إلى المدينة مراراً، ومن البحر من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثم من طرسوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، وقبل ذلك من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً في سفره الأول، وسنه عشرون عاماً، وقد نقل عن غيره أكثر من ذلك. وبالجملة نوصي طالب العلم بالمواصلة، ولو طالت المدة، سواء في الدراسة النظامية، أو في الحلقات العلمية، ونوصي المشايخ أن يتنزلوا على رغبات جمهور الطلبة، في تعليمهم ما يساعدهم على حمل العلم، من المختصرات المفيدة، حتى لا يملوا، فمن رغب في المطولات، واستمر على المواصلة فهو أوْلى، حتى يتزود من المعلومات المفيدة. والله أعلم.

    6- ما يزال الشباب يتوافدون ـ بحمد الله ـ على دروس العلم، لكن الملاحظ سرعة تبدل بعض الطلبة بحيث لا يستمر بعضهم إلا أشهراً، وقد يكون ممن ابتدأ قراءة كتاب على بعض أهل العلم... ويخشى بعض المحبين من خطورة الأمر.. فما رأي فضيلتكم في العلاج الأمثل لحث الطلبة على مواصلة العلم وتلقيه عن العلماء المشهود لهم؟
    جـواب:
    نوصي طالب العلم أن لا يعتريه ملل، ولا يثنيه كسل؛ فإن العلم كثير، والعمر قصير، وذلك أن الطالب للعلم همته رفيعة، فهو لا يشبع من التعلم، ولا ينثني عن المواصلة، ولقد كان الكثير من العلماء الأكابر يقرؤون ويستفيدون، حتى من تلامذتهم، ولا يحتقر أحدهم من دونه أن يتلقى منه فائدة، وكان التلاميذ يلازمون مشايخهم، ويتكرر أحدهم على مجالس العلم، إما للتذكر أو للتزود، حتى ولو كان عالماً بما يقول شيخه، وذكروا أن من آداب التلاميذ أن يظهروا لمشايخهم الشكر، والدعاء لهم، حتى لو كانت المسألة معلومة عندهم، فإذا سمع الفائدة أظهر لشيخه أنها جديدة، وأعلن بشكره عليها، ولو كانت معلومة له من قبل، واستشهد بعض المشايخ بقول الشاعر:
    إذا أفــادك إنـســــان بـفــائـــــدة من العلوم فلازمْ شكـره أبــدا
    وقل: فلان جـزاه اللـه صالحـة أفادنيهـا، وألقِ الكِبْـَر والحسـدا
    وعلى المدرس أن يحث الطلبة على المواصلة والاجتهاد، والحرص على إكمال الدراسة، سواء كانت نظامية أو علمية، وأن يتصور فائدة المواصلة والمتابعة، وما يترتب على الانقطاع من ضياع المعلومات، وذهاب ما بذله من الجهد، وليعلم أن العلم لا يحصل لمتكبر، أو متوان، أو مستحْيٍ، وأن العلم بالتعلم، وبالحفظ والإتقان والفهم والإدراك.

    7-لعل من أسباب ضعف الاستمرار: سوء اختيار الطالب للدرس الذي يحضره، أو الكتاب الذي يدرسه؛ لكونه لا يناسب مستواه العلمي، ألا ترون أن هناك حاجة إلى جعل الطلبة على مستويات ـ اثنين أو ثلاثة مثلاً ـ ينظر في إلزام الطالب الراغب في الالتحاق بما يناسب مستواه؟
    جـواب:قد عرف أن طلبة العلم يتفاوتون في المستويات، وهكذا في الرغبات، ولذلك يكثر تواجدهم في بعض الفنون دون بعض، وعند بعض المشايخ دون البعض، وقد يكون السبب قلة الرغبة من بعضهم في إحدى المواد؛ حيث إن منهم من لا يرى الاشتغال بالفقه الذي يغلب عليه أنه اجتهاد من الفقهاء، والكثير منه لا دليل عليه، وبعكس هؤلاء آخرون رأوا أهميته؛ لأنه يتعلق بواقع الحياة، ويحتاج إليه الفرد والمجتمع، ولا بد من الفتوى به عند وقوع حادثة، فهو من العلوم الضرورية في كل زمان ومكان، ولهذا كثرت فيه المؤلفات من العلماء الذين رزقهم الله العلم والفهم بالوقائع، وتطبيق النصوص على الحوادث، ثم إن من الطلاب من يفضل نوعاً من العلوم الفقهية، كقسم العبادات، ويحب تكرارها في عدة كتب، ولا يرغب في قسم المعاملات وما بعده، وبعكسه آخرون يفضلون الاجتهاد في فهم المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، فعلى هذا لا مانع أن يقسم المدرس الوقت بين الطلاب؛ فمن رغب في النحو واللغة والصرف والبلاغة والبيان جعل لهم وقتاً، واختار مادة أو مختصراً يناسبهم جميعاً، ومن رغب في الحديث حدد لهم درساً في يوم أو أيام، ومن رغب البدء من أول العلوم ابتدأ بالتوحيد والعقيدة التي تناسب المبتدئين، ومن رغب في الفقه من أوله أو من وسطه أعطاهم رغبتهم، ولعله بذلك يفيد المستفيدين، ويحصل كل منهم على ما تميل إليه نفسه. والله الموفق.
    8- تلقى فتاواكم ـ بحمد الله ـ ارتياحاً عاماً، يعزى فيما نحسب ـ بعد توفيق الله تعالى ـ لحسن فهمكم روح الشريعة ومراعاة مقاصدها، واعتبار المصالح والمفاسد.. هل من توجيه لطلبة العلم في هذا الصدد؟
    جـواب:أعترف على نفسي بالقصور والنقص، وكثرة الخطأ، وأسأل الله العفو والغفران، وستر العيوب والنقائص؛ حيث إني أكتب أجوبة الأسئلة التي ترفع إليّ بدون مراجعة، أو بحث في أقوال العلماء غالباً، نظراً إلى كثرة الأعمال، وعجلة السائل، والارتباط بالمواعيد والدروس، وأعتمد فيما أكتب على معلومات قديمة علقت بالذهن وقت الطلب والتلقي عن المشايخ، أو تجددت وقت التدريس الرسمي الذي كنت أستعد له وأراجع وأحضّر قبل الإلقاء، أو حصلت من الممارسة وتكرر المرور، ومن المطالعات والدروس الجديدة التي أقوم بإلقائها في المساجد. فأما القابلية لها عند العامة أو التلاميذ فلعل ذلك لحسن الظن، ولما يتلقونه من الدروس التي يتقبلونها، واثقين بصحتها ومع ذلك فإني أقول: ما كان فيها من صواب فمن الله ـ تعالى ـ وهو الذي وفّق له وهدى، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله مما وقع مني. وأقول: على طلاب العلم أن لا يعتمدوا على فتوى تخالف الدليل أو الحق والصواب، فإن على الحق نوراً، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، فلا بد من مراجعة الكتب والمؤلفات، وتطبيق الفتاوى الاجتهادية لي ولغيري على كلام العلماء، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، والله أعلم.

    9-(لحوم العلماء مسمومة)؛ فما واجب أهل العلم وطلبته في حماية أعراضهم؟
    جـواب:اشتهرت هذه العبارة بين الأمة، وهي تفيد معرفتهم بفضل العلماء، ومكانتهم في المجتمعات، ومنزلتهم بين الأمة، ولعل من أسباب تكرار هذه الكلمة ما وقع فيه البعض من الطلبة أو العامة، أو المنتسبين إلى العلم، من كثرة القدح والعيب والتنقص والاغتياب لبعض علماء الأمة، وأكابر الدعاة والمعلمين، وقد يكون الحامل لهؤلاء الحسد الذي يكثر بين حملة العلم، وقد ذكر ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ في (جامع بيان العلم وفضله) باباً كبيراً في طعن العلماء بعضهم في بعض، قال: والصحيح أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته، ... والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماماً في الدين، قول أحد من الطاعنين، أن السلف ـ رضوان الله عليهم ـ قد سبق من بعضهم كلام كثير في حالة الغضب، ومنه ما حمل على الحسد، كما قال ابن عباس: (استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِها). وفي قول له: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة). ثم نُقِل عن أبي حازم عن أبيه أنه قال في أهل زمانه: فصار الرجل يعيب مَنْ فوقَه ابتغاء أن ينقطع عنه، حتى يرى الناس أنه ليس بحاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس...إلخ. وقد ذكر أمثلة من طعن بعض العلماء في بعض نظماً ونثراً، وقد اشتهر طعن الإمام مالك وهشام بن عروة في محمد بن إسحاق، وبالعكس، ولم يكن ذلك موجباً لرد روايتهم، وهكذا طعن ابن حجر في العيني، والعيني في ابن حجر، وكذا ما حصل بين السيوطي والسخاوي؛ وذلك لأن الحامل على ذلك المنافسة والحسد، وحب الظهور، وإذا كان ذلك ليس من أخلاق العلماء المتواضعين، فعلى هذا لا يجوز سماع الطعن في العلماء المشهورين، ولا يلتفت إلى من أخذ ينقّب عن مثالبهم، ويتتبع أخطاءهم، فيجعل من الحبة قبة، ويتغافل عن فضائلهم وآثارهم، وعلومهم الجمة التي نفع الله بها، والله عند لسان كل قائل وقلبه.
    10- ما أهم ما يميز العالم من الخُلق، مما يمنحه قبول الناس له؟ وما جوابكم على من يخلط بين الهيبة والتعالي؟
    جـواب:لقد كتب العلماء في أخلاق العالم وأكثروا، سيما إذا تولى عملاً ذا أهمية كالقضاء والتعليم ونحو ذلك، ونحيل القـارئ على كتاب: (تذكـرة السامـع والمتكلـم، في آداب العالـم والمتعلـم)، لابن جماعـة ـ رحمه الله ـ ولا شك أن العالم له مكانته بين الناس، وأن عليه أن يتواضع لمن سأل، ويصغي لمن يستفيد منه، ويلين جانبه، ويظهر للطلاب الفرح والاستبشار، ويلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط، ويفرح بتوافدهم وكثرتهم عنده، ويسره أن يستفاد منه، وعليه أن يبدأ بطلب القراءة عليه، ويعرض على التلاميذ أن يجلس لهم في مادة كذا وكذا، أو يسألهم عن رغبتهم، ويجيب مطلبهم، وأن يلتمس ما يميلون إليه من البسط أو الاختصار، ومع ذلك فلا يضع نفسه موضع الذل والاستضعاف والهوان، بل يترفع عن مجالس السفه واللهو واللعب، وإضاعة الوقت، مما يسقط مكانته، ويضع قدره عند تلاميذه، وأن لا يشمخ بأنفه، ويتكبر على بني جنسه، مما يعيبه به العلماء والتلاميذ، ولكن بين ذلك، فيكون ليناً بلا ضعف، قوياً من غير عنف، حليماً ذا أناة، كما ذكروا ذلك في القاضي.

    11-من المشتغلين بالعلم من يـرى ضرورة احتجابه عن مخالطة العامة؛ لأجـل توفيـر الجهد والوقت؛ فما مدى توافق ذلك مع الهدي النبوي؟ وهل القاعدة في هذا الأمر مطّردة، أم يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة؟ وما ضوابط المخالطة المناسبة لأهل العلم وطلابه؟
    جـواب:قد علم أن لحامل العلم مكانته ومنزلته التي فضله الله بها على غيره، ومتى خالط السفهاء وعوام الناس، واندمج معهم، لقي إهانة وذلاً واحتقاراً، وسمع من سخيف القول، ومستهجن الكلام، ما يترفع عنه حملة العلم الذين قال الله عنهم: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة: 11] ولقد صور ذلك الشيخ أبو الحسن الجرجاني ـ رحمه الله ـ بقوله:
    يقولــون لـي فـيك انقـبـاض وإنمـا رأوا رجـلاً عن موقف الذل أحجما
    ولم أتبذل في خدمـة العلم مهجـتي لأخـدم من لاقيـت لـكـــن لأخدمـا
    أأشقى به غرســــاً وأجنـيـــه ذلـة إذاً فاتباع الجهل قد كـــان أحزمـا
    ولو أن أهل العلـم صانوه صــانـهـم ولو عظموه في النفوس لـعـظّـمـــــــ ا
    ولـكـــن أهـانــــوه فهانـوا ودنسـوا محـيـــاه بــالأطمـاع حتى تجهـمـا
    وأقول أيضاً: إن الاحـتـجـاب العام عن الجميع غير لائق؛ فإن الناس بحاجة إلى مجالسة أهل العلم، والتلقي عنهم، والـبـحـــث مـعهم عن المعضلات وما يشكل عليهم، فلهذا متى ابتعد العالم عن العامة حتى عن الطلاب عـيـب عـلـيه هذا الابتعاد، ومتى اختلط بالعامة وغوغاء الناس ومن لا يعرف مكانته عيب ذلك عـلـيــه، فلا بـد أن يحفـظ نـفـســـه ووقته للاســـتفـادة والـقـــراءة والمذاكرة، ولا بد أن يتبسط ويفتح صدراً رحباً لمن زاره أو استزاره لتحصل الاستفادة مـــن معلوماته، ويتجدد ما في ذاكرته من معلومات ومفاهيم، وينفق مما أعطاه الله، ولا شك أن الـنـاس يختلفون، وبينهم تباين كبير في الآراء والأعمال؛ فمن كان ميله إلى المذاكرة والكتابة والـتــألـيــف آثر ذلك على التعليم والتدريس، وساغ له أن يتفرغ للقراءة والبحث والكتابة ونحو ذلـك، ولـكــن لا ينبغي له أن يحتجب دائماً، بل عليه أن يفسح المجال لبعض الزوار والمستفيدين. وأمــا مــن آثــر التعـلـيم والإفتاء والتدريس، فإنه يحب الانبساط والاختلاط، ويرغب الاندماج مع الناس، ولكن عـلـيـــه أن يرفع نفسه عن مواقف الذل والهوان.

    13- حين يُمكّن الله لرجل في العلم فإن الناس يرون فيه الخطيب والواعظ والمدرس، وعلى هذا الأساس قد يعاملون الخطيب أو الواعظ على أنه العالم المفتي... وليس ذلـك بـغـريـب منهم بقدر غرابته حين يصدر من بعض المتعلمين. فهل لفضيلتكم من توجيه؟
    جـواب:
    لا شـك فـي كـثــرة الفنون، وتنوع المعلومات، وأن الهمم تختلف، ولذلك نشاهد الجامعات ممتلئة؛ فهؤلاء يمـيـلــون إلـى الأحكـام وعلم الحلال والحرام، وهؤلاء يفضلون التخصص في علم العقائد والفرق والمذاهب المعاصرة، وآخرون ميلهم إلى علوم اللغة والتراجم والتاريخ والأدب، وآخرون ميلهم إلى العلوم الآلـيـة والـرياضيات ونحوها. ثم إن العامة إذا لقوا من جاوز المراحل الدراسية، وحصل على درجة عـالـيـة، اعتقدوا فيه الأهلية لكل ما يـتـجــدد من الوقائع، ورجعوا إليه في حل المشاكل، فرضوا بحـكـمـه فـي الـفـصـل بـيـن المتخاصـمـيــن، ورجـعـوا إلـى قوله في الأحوال الشخصية، وطلبوا منه الجواب فيما يدور حولهم من الوقائع العلمية، سـواء كـانـت تتعلق بالعبادات، أو بالمعاملات، أو بالأنفس أو بالأموال، ثم تراه يتجاوب معهم، ويُنَصّب نـفـسـه للإفـتـاء والتعليم، ويجيب على كل ما يوجه إليه من أسئلة تتعلق بالتوحيد، أو بالأدب أو بالسّنـّـة، أو بالتفسير، أو بالأحكام، رغم قلة معلوماته في أكثرها، ويحمله على ذلك الخجل مــن رد الجواب، أو التوقف على الفتيا، مخافة الوصمة بالنقص، أو الرمي بالجهل؛ حيث إنـه فـي مكانة مرموقة، ومنزلة مـن العـلــم رفـيـعـة عند العامة، فهو يفتي بغير علم، ويتصدر للجواب، وهـو بـعـيـد عـن الصواب. ولا شك أن هذا عين الخطأ، وأن الواجب عليه أن يحيل هذه المسائل إلى أهلها، ويعطي القوس باريـهـا؛ فإن العلم أن يقول: الله أعلم. وقد قال بعـض العلمـاء: (من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله)؛ وقد قال بعض الشعراء في الحث على العلم وآداب التّعلّم:
    وقـل إذا أعـيــــــاك ذاك الأمــــر مــا لــي بـمــا تسـأل عنـه خبـر
    فـــذاك شطـر الـعـلـــــــم فاعلَمَنْـهُ واحذر هُديـــــت أن تـزيــغَ عنـه
    فربمـــا أعيـا ذوي الفـــضـائـــــ ـل جـــواب مــا يـلـــقـى من المسائـل
    فيـمـســــكوا بالصمـــت عن جوابه عند اعتراض الشــــك في صوابـه
    ولو يكـــــون الـقـــــول في القيـاس من فضـة بيضاءَ عنــــــد النـاس
    إذاً لكان الــصمـت من عين الذهب فافهم هداك اللـه آداب الطـلــب
    وقد ذكر بعض العلماء أن تدخل الإنسان في ما لا يعنيه من القول على الله بلا علم،وجعلوه أعظم إثماً من الشرك، لقول الله ـ تعالى ـ: ((قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33]. وهذه المحرمات مرتبة على الترقي من الأخف إلى الأشد، فدل على أن القول على الله بلا علم أعظم إثماً من الشرك.
    ولقد كان العلماء الأجلاء يتوقفون عند الكبير من المسائل، كما ذُكر ذلك في الشعر المذكور، وقد نقلوا عن مالك إمام دار الهجرة ـ رحمه الله تعالى ـ أنه سُئِلَ عن أربعين مسألة فأجاب عـــــن أربع منها وتوقف عن الباقي، وقال للسائلين: اذهبوا فقولوا: إن مالكاً يقول: لا أدري. وكان الإمام أحمد كثيراً ما يتوقف عن الأجوبة التي تعرض له، ويستدل بقول الله ـ تعالـى ـ: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَــــذِبَ إنَّ الَذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [النحل: 116]. ثم نقول: على الجمهور أن يرجعوا في مسائلهم ومشكلاتهم إلى أهل العلم الصحيح، وأن يمتثلوا قول الله ـ تعالـى ـ: ((فَاسْأََلُوا أََهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل: 43] فأهل الذكر هم حملة علم الشريعة الذين توغلوا في علم الأحكام، وبحثوا في مسائل الحلال والحرام، وقد يسر الله الاتصال بهم بأسهل الطرق؛ فقد تقاربت البلاد، ويسر الله المواصلات السريعة التي تقطع المسافات البعيدة في زمن قصير، كما يسر الاتصال الهاتفي للقريب والبعيد، وتيسر الرجوع إلى الفتاوى المطبوعة والمسجلة، والرجوع إلى الإذاعة الإسلامية، سيما برنامج (نور على الدرب)، وما أشبهه، فعلى هذا لا يجوز لغير العالم بالأحكام التدخل في جوانبها، ولو كان واعظاً، أو خطيباً أو مدرساً أو داعية، حتى يطّلع على العلوم الشرعية، ويعرف الحق بدليله، ويعرف الراجح من المسائل الخلافية، ويتصور أسباب الخلاف بين المذاهب والعلماء، كما لا يجوز للعالم الرباني أن يكتم العلم، ويتوقـف عـن الجـواب الذي يعرفه؛ فقد ورد الوعيد الشديد عـلـى كـتـمـان الـعـلـم، وأن الـذيـن يكتمونه يلـعـنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ومن سُئل عن علم فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من النار، ولا يجـوز للـعـامــة الـرجـوع إلـى حملة الشهادات التي لا تؤهل للفتيا في المسائل الخلافية، كمسائل الطلاق، والتيمم، ومسح الجوارب، ومفطرات الصائم، وواجبات الحج، ونحوها، بل يوجهون هذه المسائل إلى أهل التخصص والمعرفة بها، ليصدروا عن علم ويعملوا على بصيرة. والله أعلم.

    14-تتزاحم الأولويات في مخاطبـة الناس، فيقع بعـض المصلحين في حيرة أو اضطراب؛ فحبذا لو جلّيتم الخطوط العريضة في هذا المجال؟
    جـواب: لا شك أن الناس يختلفون في المفاهيم، وفي الميول والطباع، وأن المعلم، أو الواعظ قد يتوقف في العلوم والفنون أيّها أوْلى أن يطرقه، ولكن نقول: إن الواجب تحديث الناس بما هو الأهم في حقهم، وقد نُقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟) فمتى كان المخاطَبون من أهل الأديان المخالفة، فالأوْلى خطابـهـم بتـقــرير الـرسالــة، ودلائل النبوة، ومحاسن الدين الإسلامي، أو إزالة شبهاتهم، والإجابة عما لديهم من الشـكـوك والتـوهـمـات. وإن كـان المـخـاطَـبون من أهل الإسلام، إلا أن لديهم بدعاً وعقائد منحرفة؛ فإن خطابهم يكون بتقرير العقيدة السلـيـمـة، وما كـان عـلـيـه الـصـحـابـة والسلف الصالح، والصدر الأول، وهو ما تطرق إليه الأئمة في مؤلفاتهم في السّنّة والتوحيد، والإيمان، وتقرير العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة.
    وإن كان المخاطَب من أهل التفـريـط والانـتـمـاء إلى الدين ظاهراً، دون تطبيق وعمل، أو مع مخالفة وانهماك في كبائر الذنوب أو صغائرها، فإنه يُسلك معه من المناقشة حول حالته ما يمكن اقتناعه به من الوعد والوعيد، وإقامة الحـجـة والـدلـيـل، وإيـضاح الحجة والسبل السوية، التي تقطع الشبهات، وتوصل إلى الحق واليقين.
    أما الخطيب والواعظ الذي يلتقي بعوام الناس الذين لم تتلوث عقائدهـم بأوضار الجاهلين وشكوك المموهين، بل هم على فطرتهم، وعلى يقين من صحة دينهم، إلا أن مـعـهـم مـــن الجهل ما أوقعهم في المحرمات ونقص الطاعات، فإن الخطيب والواعظ يسلك معهم طــرق التعـلـيم، والتنبيه على ما فيه خطر، أو ما هو محرم، ويحرص على علاج ما انتشر وفشا من المعاصي والفواحش، ويتطرق كل حين إلى ما فيه ضرر على الأديان والأبدان، مما هو موجود ومتمكن في المجتمعات، فلا بد أن يكون عالماً بما يحتاج إليه ذلك المجتمع، وما يتساهل فيه الأفراد والجماعات، وما يفعلونه عن جهل، أو عن تهاون، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، فمع كل جنس بما يناسبه، وبذلك ينجح الواعظ، ويقدم ما هو أهم من غيره، ويعطي كل نوع ما يحتاج إليه.

    15- لا شـك فـي ضـرورة تصحـيح عقائد الناس بكل جوانبها. حبذا لو ذكرتم لنا جوانب الاعتقاد مرتبة حسب أهميتها في واقع الناس اليوم.
    جـواب:
    معنى ذلك أن الدعوة إلـى الله ـ تعالى ـ، يُحتاج فيها إلى البدء بتصحيح العقيدة؛ فإن الأعمال الصالحة يتوقف قبولها على صحة المعتقد، ومعلوم أن عامة الناس وأكثريتهم لا يحسن خطابهم بأدلة وجود الله ـ تعالـى ـ، ولا بالـخـوض في إثبات الصفات الذاتية، والصفات الفعلية ونحو ذلك، وإنما يسلك الداعي معهم تصحيح مفهوم العبادة، وإخلاص الدين لله ـ تعالى ـ، وذكر أنواع العبادة، وأدلة التوحيد الـعـمـلـي، كالـدعـاء، والخـوف، والرجاء، والتوكل، ونحو ذلك. وقد كتب في ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمــه الله ـ الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ونحوها مما كتبه في التوحيد، فهو المناسب للعامة الذين يقعون في شرك العبادة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
    والـعـلـمـاء مـنـهــم يناقـشـون فيما لديهم من الشبهات، وما قد يعرض لهم من الاعتقاد في المخلوقات؛ الذي تلقوه عن أسـلافـهـم وعلمائهم الذين انخدعوا بالعامة والخاصة، وأكبوا على الشركيات، وسموا ذلك اسـتـشـفـاعــاً ، وتبركاً، وتوسلاً بالأولياء ونحوهم. وأما علماء الضلال فإن الداعية يناقشهم في البدع التي يـنـتـحـلـونـهـ ا، ويحتـجـون فيها بسنّة الآباء والأجداد، ويقول الله ـ تعالى ـ في حجتهم: ((قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) [الشعراء: 74]، ويدخل في البدع ما يخالف الأدلة اليقينية، من العقائد المتعلقة بالأسماء والصفات، والقضاء والقدر، والأمر والنهي، والإسلام والإيمان، والصحابة، وأهل القبلة، من المعتزلة، والمعطلة، والجهمية، والجبرية، والمرجئة، والقدرية، والخوارج،والروا فض، والمتصوفة، ونحوهم. وقد أكثر العلماء من أهل السّنّة في مناقشة عقائدهم، والرد على شبهاتهم العقلية والنقلية، وبيان الصواب والخطأ في معتقداتهم وأدلتهم. فلذلك على الداعي أن يسلك معهم المجادلة بالتي هي أحسن، ويرجع في ذلك إلى ما كتبه علماء صدر هذه الأمة، مما يتعلق بالسنة، والإيـمـــان، والتوحيد، فقد أكثروا من التأليف فيما يتعلق بالاعتقاد، كالإمـام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبي بكر الخلال، وأبي بكر بن أبي شيبة، والبخاري، وابن خزيمة، وعـثـمـــان الدارمي، والآجري، واللالكائي، وابن بطة، والبيهقي، والطحاوي، وابن أبي عاصم، وغـيـرهــم، وقـــد يسّر الله طبع كتبهم ونشرها، وتوفرت لدى كل طالب علم، وتبين بواسطتها ما كان عليه الـسـلـف والأئمة المقتدى بهم، والله أعلم.

    16-تـتـبـايـن مـنـاهــــج الدعاة في التغيير، فيميل بعضهم ـ اجتهاداً ـ إلى مسلك دخول المجالس النيابية.. تُرى: هل هذا مما يتسع فيه النظر والاجتهاد ـ لأجل تباين الظروف، وتعقّد بعض الأوضاع ـ؟ وإذا كـــان الأمر سائغاً فهل في هذا السبيل غنية عن تربية الناس على دين الله ـ تعالى ـ؟
    جـواب: صحيح أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، والأماكن، والأوضاع، فمتى رأى الـدعــــاة هذا المسلك مفيداً فعلوه؛ حيث إن الداعية متى غَشِيَ الجماهير، واعترفوا بمكانته وفضله، وارتفع منصبه، واشتهر بين العامة بعلمه ورتبته، كان ذلك أدعى لقبول قوله، والتأثر بنصحه، وتلقي مواعظه وإرشاداته، وتقبل فتاواه وأجوبته؛ حيث تعترف به الدولة، وتوليه منصباً مرموقاً، وترجع إليه الاختلاف، ثم يقوم بالخطابة، والدعوة إلى سبيل الله ـ تـعـالى ـ والقضاء بالعدل، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو بما لديه من علم وعمل ومـعـرفــة بالله ـ تعالى ـ وبوعده ووعيده، وأمره ونهيه، يقول الحق ويصدع به، ولا يخاف في الله لومة لائم، فيأمر بردع الظالم، وقمع العاصي والمجرم، وقتل القاتل متى تمت الشروط، ورجــــم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، وهكذا يقضى بأمره على معامل الخمور والمسكرات، وعـلـى مروجـــي المخدرات، وعلى حوانيت الدعارة والبغاء، وأماكن الفساد. ولكن هذا إنما يُتَصوّر عن عالم رباني، مـعـتـــرف بمكـانـتـــه، فهو يتصل بالرؤساء والوزراء، والأمراء والولاة ونوابهم، وتـنـفــــذ أوامره، وتجاب طلباته التي توافق الحق، وتهدف إلى مصلحة العباد والبلاد.
    فأما من كان ضعيف المعلومات، أو قليل المعرفة، أو معه شيء من الانحراف، أو عنده ميل إلـى بـعـــض البدع والمحدثات، أو كان مُزجى البضاعة في العلم، فأرى عدم دخوله تلك المجالس، لـعـدم تمكنه من قول الحق والصدع به، وخوفاً من إقراره المنكرات، أو دعوته إلى شيء من البدع والشركيات، كما حصل ذلك من بعض علماء الضلال الذين خدعوا ولاة الأمر وسوغوا لهــم البناء على القبور، وعمارة المشاهد والمعابد الشركية، وحفلات الموالد، وإقرار البدع الاعـتـقـاديـة والعملية، فاحتج العامة بأقوالهم الخاطئة، وأصبحت فتاواهم ومؤلفاتهم حجة لكل جاهــــــل ومـبـتـدع. وهكذا نقول أيضاً: قد يُفَضّل للعالم والداعية الاعتزال، والبعد عن ولاة السوء، وأئـمــة الضلال، الذين يحتقرون العالم، ويخالفون ما يقوله، ويبقى بينهم ذليلاً مهيناً مع تظاهــرهـم بتحكيم القوانين، وإعلان البدع، وإباحة الخمور، وتعاطي المسكرات، وإعلان تعطيل الحـــــدود، وفتح بيوت الدعارة والفواحش، ورفع أماكن علماء الضلال، وقمع الدعاة إلى الله. فمن السلامة في مثل تلك الدول أن يبتعد الداعية إلى الله عنهم، وأن يعتزل ولاياتهم، وأن يفـضـــل الـعـيـش فـي البادية، والقرى النائية؛ فقد ورد في الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يوشــك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن). ومع ذلك فإن كل مسلم عليه مسؤولية كبرى، بحسب ما عنده من القدرة والعلم، ففي الأثر: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَله). فعلى هذا يقـــــول بما في إمكانه من الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، وتربية الناس على دين الله ـ تعالى ـ وليس هناك غنية عن هذه التربية بحسب الإمكان. والله أعلم.

    17- من قواعد منهج أهل السّنّة: (رحمة الخلق في دعوتهم إلى الحق). وقد سبب غياب هـــذه القاعدة عن أذهان بعض المصلحين والشباب أن استحالت قضيتهم مع أهل البدعة والضلال إلى معارضات جدلية لا معنى لها؛ مما أضعف استجابة بعض المخالفين. فليتكم تشيرون إلى بعض الأمثلة لتطبيق هذه القاعدة عند سلف الأمة من المتقدمين والمتأخرين.
    جـواب: قال الله ـ تعالى ـ: ((ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل: 125]. وقال الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت: 46] وقد امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر، فرفق بالناس عند الدعوة إلى الإسلام، وأحسن معهم المقال، فكان بمكة يتتبع الوفود والحجاج، ويعرض عليهم دعوته، وما جاء به، ويبين لهم حقيقة التوحيد، دون أن يضللهم، أو يُسفّه أحلامهم، أو يتنقص عقولهم، حتى قال الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام: 108] مع أن آلهتهم أموات غير أحياء، لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئاً، ولكن في سبها قدح في عقولهم وأعمالهم، وقد حكى الله ـ تعالى ـ حالته معهم بقوله: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران: 159]، وهكذا كان يوصي أصحابه عند دعوة الناس إلى الإسلام، فقد قال لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله). وقال لعلي ـ رضي الله عنه ـ: (ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله ـ تعالى ـ فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وفي حديث (بريدة) في الوصية لأمير الجيش، أمره أن يبدأ بالدعوة إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، وهو دليل على ما جبل الله ـ تعالى ـ نبيه عليه من الرحمة بالخلق، وحبه لدخولهم في الإسلام بالطرق السلمية؛ حيث لم يكره أحداً على الدخول في الدين، وإنما دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا فعل أصحابه والمؤمنون من أمته، قديماً وحديثاً، فقد ظهر حسن معاملتهم مع المعاهدين والذميين، مما حمل الكثير على اعتناق الإسلام، فكانوا يوفون بالعهود، ويؤمّنون المستأمن حتى يسمع كلام الله، وقد ذكر العلماء في أحكام أهل الذمة تحريم الظلم والعدوان، والإضرار بالذميين، ووجوب الرفق بهم في الدعوة إلى الله، وحسن معاملتهم التي تجلب لهم الدخول في الإسلام. وضرب المسلمون أروع الأمثال قديماً وحديثاً في الرحمة بالخلق، ولين الجانب، واللطف في القول، واجتناب الإغلاظ والفظاظة؛ والقصص عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب التأريخ والتراجم، فمن طلبها وجدها.

    18-تعيش قاعدة: (هجر المبتدع) بين نظرين: نظرٍ يجنح إلى تطبيقها دون مراعاة قاعدة: (المصالح والمفاسد)، وآخر يترك تطبيقها بالكليّة فما ضوابط تطبيق هذه القاعدة؟
    جـواب: أرى أن الأمر وسط بين هذين النظرين، فإن الهجر يجوز للمصلحة؛ وذلك أن العاصي والمبتدع إما أن يكون معانداً مصرّاً على الذنب والبدعة، لا يتأثر بالوعظ، ولا يقبل النصح، بل يرى صحة ما هو عليه، ويعتقد خطأ من نصحه عن ذنبه، سواء كان الذنب مكفراً أو مفسقاً، فمثل هذا أرى هجره والابتعاد عن مجالسته وموالاته؛ لعموم الأدلة في تحريم موالاة الكفار، كقوله ـ تعالى ـ: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادلة: 22] الآية، والمودة هي المحبة والكرم، وقوله ـ تعالى ـ: ((تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا)) [المائدة: 80] إلى قوله: ((وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ)) [المائدة: 81]، وقوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ)) [التوبة: 23] فالنهي عن التولي أمر بالهجر والإبعاد، والمقاطعة للأقارب، فضلاً عن الأباعد، وذلك أن إكرامهم وتقريبهم، ومجالستهم، مع إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان، يعتبر إقراراً لأفعالهم، وفيه دعوة لغيرهم إلى تقليدهم واتباعهم؛ حيث لم يلقوا من المؤمنين إلا المودة والتقريب، والله قد نهى عن مودتهم، وجعل من والاهم مثلهم، بقوله: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائدة: 51] أما إن كان العاصي أو المبتدع متأولاً ويعتقد أنه على صواب، فإن الواجب دعوته، وبيان الحق له، وتأليف قلبه وتقريبه، وكثرة نصحه، وتخويفه وتحذيره، من غير مبادرة إلى الهجر الذي يكون مُنفّراً له عن الخير، ومبعداً له عن مجالس الذكر والعلم، سيما إذا كان هجره وإبعاده يسبب اختلاطه بالأشرار، وامتزاجه بهم، ورسوخ المعاصي في قلبه وابتعاده عن أهل الذكر والخير والعلم النافع؛ مما يسبب قسوة قلبه، وانصرافه عن أهل الفضل والعلم، واعتقاده فيهم التنفير والغلظة والشدة، فمثل هذا متى هجر واستعملت معه القسوة لأول مرة نتج عن ذلك بغضه للصالحين، ونفرته من مجالستهم، واعتياضه عنهم بالأشرار، وإحسانه الظن بهم، لما يجد منهم من التقبل والترحيب والتشجيع؛ وهكذا إذا كان العاصي معترفاً بذنبه، مقراً بسوء فعله، قد غلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، وكذا من يجالسه ويعمل معه من السفهاء؛ فإن ذلك يحدث كثيراً من بعض الجهلة، فأرى أن هجرهم مبدئياً مما ينفرهم، ويسبب منهم التمادي في الغي والضلال، فمن المصلحة تقريبهم وتكرار نصحهم، وتخويفهم، وترغيبهم في التوبة والإقلاع عن الذنوب، سيما إذا وجدت منهم الرقة والتقبل، والوعد الحسن. وقد يجوز الهجر للعاصي إذا عُلم أن الهجر يؤثر فيه، ويسبب إقلاعه عن المعاصي حيث إن هناك الكثير من العصاة يقع منه الذنب الصغير أو الكبير، بلا حاجة ولا دافع نفسي، كحلق اللحية والإسبال، والتكاسل عن الصلاة، وسماع الأغاني، وتعاطي الدخان أو الخمر، وهو مع ذلك متأول، أو متساهل، فمتى هجره أبواه وإخوته وأقاربه، ومقتوه، وطردوه، تأثر لذلك، وعرف خطأه، وكذا إن كان الهاجر له يعز عليه، كأصدقائه وأحبابه، فكثيراً ما يحدث أن يتوب بعد الهجر، ويقلع عن العادات السيئة، فإن كان الهجر لا يزيده إلا تمادياً في السوء، وعملاً للمعاصي، فالمصلحة تقتضي تقريبه، فذلك أخف للشر، وأقل للعصيان، والله المستعان.
    19- كثرة الواجبات أشغلت بعض الدعاة عن بيته، لا سيما إذا كان مشغولاً بما هو فرض كفاية مما يرى أنه متعين في حقه: فهل له في هذا عذر ـ مع اعتبار المصالح والمفاسد في كلتا الجهتين ـ؟
    جـواب: لا يجوز للإنسان أن يتقبل من الواجبات والأعمال ما هو فوق طاقته، بحيث يشغله عن الحقوق المتحتمة عليه لله أو لعباده، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص: (فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزَوْرك عليك حقاً)(1) والحق الذي لزوجه، هو الأنس والمجالسـة الكافيـة، والعشـرة الطيبـة، وقضـاء الوطـر، والمبيت المعتـاد، ولا شك أن ذلك لا يستغرق جميع وقته، ففي إمكانه أن يقوم بواجبه الوظيفي، ومنه الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، وزيارة الإخوان، وأداء الواجبات الدينية، ومنه الإتيان بما يقدم عليه في نهاره أو ليله من فروض الكفاية، سيما إذا رأى غيره لم يقم بها، وأصبحت متعينة في حقه، ولو كانت تحتاج إلى سفر بعيد أو قريب، كالمحاضرات، والندوات، والنصائح، وتغيير المنكرات، والأمر بالمعروف، وإبداء الآراء والاقتراحات عند من يقبلها؛ وذلك لما فيها من المصالح العامة للمسلمين، وما فيها من نصرة الدين، وقمع العصاة والمنافقين، ومع ذلك كله فلا يهمل أهله وذريته، فقد ورد في الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يمون) وفي لفظ: (أن يحبس عمن يمون قوته)، وعليه أن يقنع أهله وزوجاته بما يحصل لهم من نفقة، أو إقامة، إذا تحتم عليه السفر أو الانشغال، والله أعلم.

    20- ما الشروط المعتبرة للشهادة بعدالة الرجل؟ وهل يمكن الاكتفاء فيه بقول معدل واحد؟
    جـواب:
    تكلم العلماء في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الحديث، وأطالوا في شروط العدالة في كتب المصطلح، وكتب الرجال، وذكروا أنه لا يقبل قول كل جارح أو معدل؛ حيث إن هناك من يتكلم في الرجال بغير علم، فيجرح أو يعدل بمجرد الظن والتخمين، وكذا من يتكلم لمجرد الهوى، فيجرح من يبغضهم أو يعاديهم، ويعدل من يواليهم، ويعرف ذلك بمخالفته لغيره، فكثيراً ما ينفرد البعض بتعديل الراوي، بينما بقية الأئمة جرحوه وطعنوا في روايته، ولا شك أن الكلام في الرجال المسلمين، سيما بعد موتهم، له خطره، وخصوصاً من عُرف بالدين والعبادة، والصلاح والاستقامة، وعرفت مكانته عند الأمة، وظهر له ذكر حسن، ولسان صدق، فإن الكلام فيه من غير تثبت ذنب كبير، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري وغيره. وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) رواه أحمد وغيره.
    ومتى كان الكلام في الأموات لمجرد الهوى أو الحسد فإنه يكون طعناً في الجارح نفسه؛ حيث إن المجروح قد اشتهر علمه وفضله، وانتشر بين الناس ذكره الحسن، والثناء عليه.
    أما إن كان المجروح ضعيف الحديث، وقد تصدى للرواية، فدخل في حفظه خطأ، أو خلل، أو نقل ما ليس بصحيح، فإن الكلام فيه متعين على من عَرَف ذلك، مخافة الانخداع برواياته ونقوله، وهي غير صحيحة، ولذلك كان الإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم يتكلمون في المحدثين، ويذكرون ما فيهم من الجرح والطعن، وذلك من باب النصيحة للأمة، لا من باب التنقص لهم، ولا يكون غيبة؛ لأنهم يذبّون عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينقّونها مما دخل فيها؛ فلو سكتوا لاشتبه الصحيح بالضعيف والسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، فهم مأجورون على كلامهم؛ ولأن أولئك تدخلوا في رواية الحديث بغير أهلية، فوجب بيان حالهم بدون تعصبٍ أو هوى، والله أعلم.

    21-ما توجيهكم لطلاب العلم الذين اشتغلوا بالجرح والتعديل في بعضهم وفي بعض العلماء والأشخاص دون أن يأخذوا للأمر عدته ومتطلباته؟
    جـواب: لحوم العلماء مسمومة، أي غيبتهم والقدح فيهم يردي من تسرع وطعن في علماء الأمة، ويتوجه الطعن والعيب عليه حتى يهلكه هلاكاً معنوياً؛ وذلك لأن علماء الأمة الإسلامية قد حَمّلهم الله هذا الدين، واختارهم لحمل كتابه وسُـنّة نبيه، وذلك شرف وفضيلة تميزوا بها عن غيرهم، وقد عرف الناس قدرهم ومكانتهم المرموقة، واعترفت الدول والرؤساء بفضلهم وتقدّمهم، وولّوهم المناصب الهامة، وصدروا عن آرائهم وتقبلوا نصائحهم واقتراحاتهم، فهم يقومون بأمر عظيم، ويتحملون عن الأمة عبئاً كبيراً، ولو قُدّر أن في بعضهم شيئاً من الخلل والخطأ، فإنهم معذورون، فهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، ويقدرون للأمور حسابها، وليس في استطاعتهم ولا غيرهم إصلاح كل فاسد، ولا رد كل شارد، ولكن بعض الشر أهون من بعض، وقد يظن بهم بعض العامة التساهل والتغاضي عن الشرور الظاهرة، والمنكرات الموجودة، ويعتقد أنهم سكتوا عنها وأقروها، والواقع أنهم قد قاموا بما في الإمكان، ودافعوا عن الأمة والدين الإسلامي، ودفع الله بهم الكثير مـن كيد الأعداء الحاسدين، ممن يحاول الطعن في ديننا، وإدخال ما يفسد القلوب، مـــن الشرور والأضرار والفتن، فالعلماء يبذلون الجهد في الدفاع عن الإسلام، والتخفيف من المنكرات، ولكن الشرور تتوافد وتتوارد من كل جهة، فتغلب القوى الفردية، ويعتذر من خفـف من شأنهـا، بصـعـوبــة اجـتـثـاثها، وبما في بعضها من مصلحة أو خلاف ولو ضعيفاً يقتضي التساهل بها، ومع ذلك فالـسعي جاد في تقوية الحق ونصر الدين بقدر الاستطاعة، والله المعين، فعلى هذا من اشتغل بالـطــــعـــن في علماء الأمة الإسلامية أو في بعضهم فقد أساء العمل، وجهل الحال فيقال لهم:
    أقلـوا عـلـيـهـم لا أبا لأبـيــكـــــم من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا
    فعلى طالب العلم أن يشتغل بنفسه، ويتفقد عيوبه، ويسعى في إصلاح نقصه، كما عليه أن ينكر المنكرات بقدر استطاعته، وأن يـنـصـــــح العلماء ويرشدهم إلى ما يراه الأصلح للحال والمستقبل، ويتصل بكل من رآه مخلاً بشرط، أو واقعاً في خلل، ويبدي له اقتراحه، ويقبل عذره، ويعترف بما يراه من الرأي السديد، ويـنـصـح الشباب وطلبة العلم بعدم الخوض في أعراض العلماء، والميل أو التّحيّز إلى جهة أو طائفة لمجـــرد تعـصـــب أو هـوى في نفس، وبذلك تصلح الحال، وتجتمع الكلمة، وتقوى معنويات المسلمين، ويوجهون قـوتـهــــم إلى أعـــــــداء الدين في البعيد والقريب، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

    ----------
    الهوامش :
    (1) أخرجه البخاري في الصوم (1975)، وأخرجه مسلم في الصيام (1159).
    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    519

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشرح الممتع مشاهدة المشاركة
    رحم الله الشيخ ابن جبرين

    جزاكم الله خير
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قلبي مملكه وربي يملكه مشاهدة المشاركة
    لاحرمتم الأجر على تلك الكتابه لشيخ الجليل ابن جبرين
    بوركتــم
    شكرا لمروركم وتعقيبكم وعظم الله أجرنا وأجركم في فقيد امه لاعزاء فيه الا ببركة من بقي من خلفه بيننا بارك الله فيهم وجمعنا وأياه واياهم في مستقر رحمته في جنة الفردوس الأعلى عند مليك مقتدر
    لااله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المشاركات
    2,967

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    رحمه الله واسكنه فسيح جناته
    الليبرالية: هي ان تتخذ من نفسك إلهاً ومن شهوتك معبوداً
    اللهم أنصر عبادك في سوريا وأغفر لنا خذلاننا لهم

  10. #10

    افتراضي رد: مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

    اللهم ارحمه يا رب...كان إماما بحق...

    ولن توف الكلمات حقه..فاستغفروا له يا ربعنا...

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •