قال المصنف رحمه الله: لا يختلف العلماء أن التداوي مباح , وإنما رأى بعضهم أن العزيمة تركه , والمقصود ههنا أنا نقول إذا ثبت أن التداوي مباح بالإجماع مندوب إليه عند بعض العلماء فلا يلتفت إلى قول قوم قد رأوا أن التداوي خارج من التوكل , لأن الإجماع على أنه لا يخرج من التوكل , لقوله تعالى: وننزلُ من القرآن ما هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين
وقال عزوجل في العسل : فيه شفاء للناس
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تداوى وأمر بالتداوي وقال: إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تداووا بحرام .. وقال عليه الصلاة والسلام: عليكم بالشافئين القرآن والعسل .. وقال عليه الصلاة والسلام: الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي..أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وعلى هذا أنّ التداوي لم يخرج الانسان من التوكل اطلاقا, بل من التوكل أن نلجأ الى الاسباب لأنها جزء من التوكل, ومما سبق من دلاائل الكتاب والسنة بالأمر بالتداوي لدليل على فساد ما يقوله ذوو الغباوة من أهل التصوف وغيرهم من أن التوكل لا يصح لأحد عالج علة به في جسده بدواء, إذ ذاك عندهم طلب العافية من غير من بيده العافية والضر والنفع وفي إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم , علاج عينه بالصبر , لدفع المكروه لأدل دليل على أن معنى التوكل غير ما قاله الذين ذكرنا قولهم , وأن ذلك غير مخرج فاعله من الرضا بقضاء الله عزوجل , كما أن من عرض له كلب الجوع لا يخرجه فزعه إلى الغذاء من التوكل والرضا بالقضاء, لأن الله تعالى ما أنزل من داءٍ الا وأنزل له دواء الا الموت, وجعل الله عزوجل برحمته الأدواء أسبابا لدفع الأمراض, تماما كما جعل الأكل سببا لدفع الجوع , وقد كان قادرا أن يُحيي خلقه بغير هذا ولكنه عزت وجلت قدرته خلقهم ذوي حاجة , فلا يندفع عنهم أذى الجوع, إلا بما جعل سببا لدفعه عنهم , فكذا الداء العارض والله الهادي الى سواء السبيل.
قال المصنف رحمه الله: قد لبس على خلق كثير منهم فأوهمهم أن التوكل ترك الزاد , وقد بينا فساد هذا فيما تقدم إلا أنه قد شاع هذا في جهلة القوم , وجاء حمقى القصاص يحكون ذلك عنهم على سبيل المدح لهم به , فيتضمن ذلك تحريض الناس على مثل ذلك , وبأفعال أولئك ومدح هؤلاء فسدت الأحوال وخفيت على العوام طرق الصواب , والأخبارعنهم بذلك كثيرة وأنا أذكر منها نبذة
ثانيا: مدخل إبليس على الصوفية في ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة
قال المصنف: كان خيار السلف يؤثرون الوحدة والعزلة عن الناس اشتغالا بالعلم والتعبد إلا أن عزلة القوم لم تقطعهم عن جمعة ولا جماعة ولا عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا قيام بحق , وإنما هي عزلة عن الشر وأهله مخالطة البطالين , وقد لبس إبليس على جماعة من المتصوفة , فمنهم من اعتزل في جبل كالرهبان يبيت وحده ويصبح وحده, ففاتته الجمعة وصلاة الجماعة , ومخالطة أهل العلم , وعمومهم اعتزل في الأربطة ففاتهم السعي إلى المساجد , وتوطنوا على فراش الراحة وتركوا الكسب.
وقد قال أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء : مقصود الرياضة تفريغ القلب وليس ذلك إلا بخلوه في مكان مظلم , وقال فإن لم يكن مكان مظلم فيلف رأسه في جبته أو يتدثر بكساء أو إزار , ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال حضرة الربوبية.
قال المصنف رحمه الله: قلت انظر إلى هذه الترتيبات والعجب كيف تصدر من فقيه عالم؟ ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق؟ وأن الذي يشاهده جلال الربوبية؟ وما يؤمنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة وهذا الظاهر ممن يستعمل التقلل في المطعم فإنه يغلب عليه الماليخوليا.
هذا عدا عن أنّ الكتاب والسنة ينهيان عن مفارقة الجماعة , فعن أبي امامة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه, فمرّ رجلٌ بغارٍ فيه شيءٌ من ماء فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه, وفيه شيءٌ من ماء, ويصيب ما حوله من البقل, ويتخلى عن الدنيا, ثم قال الرجل: لو أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرت له ذلك, فانْ اذن لي فعلت, والا لم أفعل, فاتاه فقال: يا نبي الله! اني مررت بغارٍ فيه ما يقوتني من الماء والبقل, فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا.. فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: اني لم أُبعثَ باليهودية ولا بالنصرانية, ولكني بعثت بالحنفيّة السمحة, والذي نفس محمد بيده, لغدوة أو روْحة في سبيل الله, خير من الدنيا وما فيها, ولمقام أحدكم في الصفّ خيرٌ من صلاته ستين سنة.
ثالثا: مدخل ابليس على الصوفية في التخشع وطأطأة الرأس
قال المصنف رحمه الله: إذا سكن الخوف القلب , أوجب خشوع الظاهر , ولا يملك صاحبه دفعه , فتراه مطرقا متأدبا متذللا , وقد كانوا يجتهدون في ستر ما يظهر منهم من ذلك , وكان محمد بن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل , ولسنا نأمر العالم بالانبساط بين العوام , فإن ذلك يؤذيهم , فقد روي عن علي رضي الله عنه: إذا ذكرتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك فتمجه القلوب , ومثل هذا لا يسمى رياء لأن قلوب العوام تضيق عن التأويل للعالم إذا تفسح في المباح , فينبغي أن يتلقاهم بالصمت والأدب وإنما المذموم تكلف التخشع والتباكي ومطأطأة الرأس, ليرى الإنسان بعين الزهد , والتهيؤ للمصافحة وتقبيل اليد , وربما قيل له ادع لنا , فيتهيأ للدعاء كأنه يستنزل الإجابة, وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي أنه قيل له ادع لنا فكره ذلك واشتد عليه.
وقد كان في الخائفين من جمله الخوف على شدة الذل والحياء فلم يرفع رأسه إلى السماء وليس هذا بفضيلة لأنه لا خشوع فوق خشوع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء , وهذا دليل على استحباب النظر إلى السماء لأجل الاعتبار بآياتها وقد قال الله تعالى: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ... وقال عزوجل: قل انظروا ماذا في السموات والأرض , وفي هذا رد على المتصوفين فإن أحدهم يبقى سنين لا ينظر إلى السماء , وقد ضم هؤلاء إلى ابتداعهم الرمز إلى التشبيه , ولو علموا أن إطراقهم كرفعهم في باب الحياء من الله تعالى , لم يفعلوا ذلك , غير أن ما شغل إبليس إلا التلاعب بالجهلة , فأما العلماء فهو بعيد عنهم , شديد الخوف منهم , لأنهم يعرفون جميع أمره ويحترزون من فنون مكره.
وعن محمد بن عبد الله القرشي عن أبيه قال: نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق
وقالت الشفا بنت عبد الله وقد رأت فتيانا يقصرون في المشي ويتكلمون رويدا فقالت: ما هذا؟ قالوا نساك.. قالت: كان والله عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع , وإذا مشي أسرع , وإذا ضرب أوجع , وهو الناسك حقا.
قال المصنف رحمه الله: قلت وقد كان السلف يسترون أحوالهم ويتصنعون بترك التصنع , وكان سفيان الثوري يقول لصاحب له ورآه يصلي: ما أجرأك تصلي والناس يرونك , ومر أبو أمامة رضي الله عنه برجل ساجد فقال: يا لها من سجدة لو كانت في بيتك , ورحم الله الامام الشافعي حيث قال: ودع الذين إذا أتوك تنسكوا *** وإذا خلوا فهم ذئاب خفاف.
رابعا: مدخل إبليس على الصوفية في ترك النكاح
وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح , فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد , ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله تعالى , وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أو بهم نوع تشوق إليه , فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم , وإن لم يكن بهم حاجة إليه فأتتهم الفضيلة.
قال المصنف: النكاح مع خوف العنت واجب , ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء, وعند مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل هو أفضل من جميع النوافل لأنه سبب في وجود الولد , قال صلى الله عليه وسلم : تناكحوا تناسلوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني , وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه, قال: لقد رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له في ذلك لاختصينا.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر, فأخبروهم , فقال بعضهم: لا آكل اللحم , وقال بعضهم: لا أتزوج النساء , وقال بعضهم: لا أنام الليل على فراش , وقال بعضهم أصوم ولا أفطر , فحمد الله النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه, ثم قال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن خير هذه الأمة كان أكثرها نساء , و قال شداد بن أوس رضي الله عنه: زوجوني فإن رسول الل صلى الله عليه وسلم أوصاني إن لا ألقى الله عزبا
و عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: دخل على رسول الله رجل يقال له عكاف بن بشر التميمي الهلالي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا عكاف ! هل لك من زوجة؟ قال: لا , قال: ولا جارية؟ قال: لا , قال: وأنت موسر بخير؟ قال: وأنا موسر , قال: أنت إذا من إخوان الشياطين لو كنت من النصارى لكنت من رهبانهم , إن سنتنا النكاح , شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم فما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من ترك النساء.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمرتجلات من النساء المتشبهات بالرجال والمتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج , والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن ذلك
خامسا: مدخل إبليس على الصوفية في الأسفار والسياحة
وقد لبس إبليس على خلق كثير منهم فأخرجهم إلى السياحة , لا إلى مكان معروف , ولا إلى طلب علم , وأكثرهم يخرج على الوحدة ولا يستصحب زادا, ويدعي بذلك الفعل التوكل , فكم تفوته من فضيلة وفريضة , وهو يرى أنه في ذلك على طاعة , وأنه يقرب بذلك من الولاية وهو من العصاة المخالفين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما السياحة والخروج الى مكان مقصود في غير حاجة, فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه, لقوله صلى الله عليه وسلم: لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام
قال المصنف رحمه الله: وقد ذكرنا فيما تقدم من حديث ابن مظعون رضي الله عنه إنه قال: يا رسول الله: إن نفسي تحدثني بأن أسيح في الأرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عثمان , فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة
وأما الخروج على الوحدة فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده , فقال عليه الصلاة والسلام: الراكب شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله راكب الفلاة وحده.
قال المصنف رحمه الله: وقد لبس على خلق كثير منهم فأوهمهم أن التوكل ترك الزاد , وقد بينا فساد هذا فيما تقدم إلا أنه قد شاع هذا في جهلة القوم , وجاء حمقى القصاص يحكون ذلك عنهم على سبيل المدح لهم به , فيتضمن ذلك تحريض الناس على مثل ذلك , وبأفعال أولئك ومدح هؤلاء فسدت الأحوال وخفيت على العوام طرق الصواب , وقد سبق الكلام
في مثل هذا , وإن هؤلاء القوم ظنوا أن التوكل ترك الأسباب , ولو كان هذا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزود لما خرج إلى الغار قد خرج من التوكل , وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب الخضر تزود حوتا , وأهل الكهف حين خرجوا فاستصحبوا دراهم واستخفوا ما معهم , وإنما خفي على هؤلاء معنى التوكل لجهلهم وقد اعتذر لهم أبو حامد الغزالي فقال: لا يجوز دخول المفازة بغير زاد إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون الإنسان قد راض نفسه حيث يمكنه الصبر على الطعام أسبوعا ونحوه , والثاني: أن يمكنه التقوت بالحشيش ولا تخلو البادية من أن يلقاه آدمي بعد أسبوع أو ينتهي إلى حلة أو حشيش يرجى به وقته.
قال المصنف رحمه الله: قلت أقبح ما في هذا القول أنه صدر من فقيه فإنه قد لا يلقى أحدا وقد يضل وقد يمرض فلا يصلح له الحشيش , وقد يلقى من لا يطعمه ويتعرض بمن لا يضيفه وتفوته الجماعة قطعا , وقد يموت ولا يلبه أحد.
ألا ترى أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام لما سألوا الله عزوجل من بقلها وقثائها وفولها وعدسها وبصلها أوحى الله اليه: أن اهبطوا مصرا (بلدا) , لماذا؟ لأنّ الذي طلبوه موجود في الأمصار(البلدان) , فهؤلاء القوم على غاية الخطأ في مخالفة الشرع والعقل والعمل بموافقات النفس.
و عن ابن عباس رضي الله عنهما , قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيحجون فيأتون إلى مكة فيسألون الناس فأنزل الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
عن محمد بن موسى الجرجاني قال: سألت محمد بن كثير الصنعاني عن الزهاد الذين لا يتزودون ولا ينتعلون ولا يلبسون الخفاف فقال: سألتني عن أولاد الشياطين ولم تسألني عن الزهاد , فقلت له: فأي شيء الزهد؟ قال: التمسك بالسنة والتشبيه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أحمد بن علي الوجدي يقول: حج الدينوري اثنتي عشرة حجة حافيا مكشوف الرأس وكان إذا دخل في رجله شوك يمسح رجله في الأرض ويمشي ولا يطأطئ إلى الأرض من صحة توكله.
قال المصنف رحمه الله: قلت انظروا إلى ما يصنع الجهل بأهله , وليس من طاعة الله تعالى بشيء أن يقطع الإنسان تلك البادية حافيا ولا مكشوف الرأس , وأي قربة تحصل بهذا؟ ولولا وجوب كشف الرأس في مدة الإحرام لم يكن لكشفه أي معنى , فمن ذا الذي أمره ألا يُخرج الشوك من رجله؟ وأي طاعة تقع بهذا العمل؟ ولو أن رجله انتفخت بما يبقى فيها من الشوك وهلك , كان قد أعان على نفسه , وهل دلك رجله بالأرض إلا دفع بعض شر الشوك؟ وأين التوكل في مثل أفعال مخالفة للعقل والشرع كهذه؟
عن أبو بكر الدقاق قال: خرجت في وسط السنة إلى مكة وأنا حدث السن وفي وسطي نصف جل , وعلى كتفي نصف جل, فرمدت عيني في الطريق , وكنت أمسح دموعي بالجل , فأقرح الجل الموضع الذي مسحته , فكان يخرج الدم مع الدموع, فمن شدة الإرادة وقوة سروري بحالي , لم أفرق بين الدموع والدم , وذهبت عيني في تلك الحجة , وكانت الشمس إذا أثرت في بدني قبّلت يدي ووضعتها على عيني سرورا مني بالبلاء.
وعن أبا بكر الرازي يقول قلت لأبي بكر الدقاق وكان بفرد عين: ما سبب ذهاب عينك؟ قال: كنت أدخل البادية على التوكل فتحاملت على نفسي حتى لا أسأل الناس شيئا و تورعا , فسالت إحدى عيني على خدي من الجوع.
قال المصنف رحمه الله: إذا سمع مبتدئ حالة هذا الرجل ظن أن هذه مجاهدات , لأنّ سفرة هذا الرجل التي يفتخر بها قد جمعت من المعاصي والمخالفات الشرعية فنونا , منها خروجه في تنصيف السنة على الوحدة , ومشيه بلا زاد وبلا راحلة, ولباسه الجل ومسح عينيه به , وظنه أن ذلك يقربه إلى الله تعالى , وإنما يتقرب إلى الله تعالى بما أمر به وشرعه لا بما نهى وكف عنه , فلو أن إنسانا كسر رجل نفسه ثم فرح بهذه المصيبة كان في غاية الحماقة , ثم تركه لسؤال الناس وقت الاضطرار , ووتحامله على النفس بالجوع حتى سالت عينه , ثم يأتي ليسمي هذا تورعا , فهذا ليس تورعا وانماحماقات زهاد , أكبرها الجهل والبعد عن العلم, يقول سفيان الثوري رحمه الله: من جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار.
قال المصنف رحمه الله: فانظر إلى كلام الفقهاء ما أحسنه ووجهه أن الله تعالى قد جعل للجائع مكنة التسبب فإذا عدم الأسباب الظاهرة فله قدرة السؤال التي هي كسب مثله في تلك الحال فإذا تركه فقد فرط في حق نفسه التي هي وديعة عنده فاستحق العقاب.
و يُحكي عن أبي بكر الدقاق أنه قال: استضفت حيا من العرب , فرأيت جارية حسناء فنظرت إليها فقلعت عيني التي نظرت بها إليها قلت مثلك من نظر لله
قال المصنف رحمه الله: قلت فانظروا إلى جهل هذا المسكين بالشريعة والبعد عنها , لأنه إن كان نظر إليها عن غير تعمد فلا إثم عليه , وإن تعمد فقد أتى صغيرة , قد كان يكفيه منها الندم , فضم إليها كبيرة وهي قلع عينه دون أن يتب عنها , وقاده جهله الى اعتقاده بقلع عينه قربة الى الله عزوجل, ومن اعتقد المحظور قربة فقد انتهى خطؤه إلى الغاية, ولعله سمع تلك الحكاية عن بعض بني إسرائيل أنه نظر إلى امرأة فقلع عينه , وقد حرمت شريعتنا أمرا كهذا, وكأن هؤلاء القوم ابتكروا شريعة سموها بالتصوف وتركوا شريعة نبيهم صلى الله عليه وسلم, نعوذ بالله من تلبيس إبليس وقد روي عن بعض عابدات الصوفية مثل هذا.
ويحكى عن امرأة صالحة تدعى شعوانة , فخرجت ذات يوم إلى السوق , فرآها بعض الناس فافتتن بها وتبعها إلى باب دارها , فلما رأته قالت له: أي شيء تريد مني؟ قال: فتنت بك , فقالت: ما الذي استحسنت مني؟ قال : عيناك , فدخلت إلى دارها فقلعت عينيها وخرجت إلى خلف الباب ورمت بهما إليه وقالت له : خذهما فلا بارك الله فيك.
قال المصنف رحمه الله: فانظروا إخواني كيف يتلاعب إبليس بالجهلة, فإن ذلك الرجل أتى صغيرة بالنظر الى امرأة لا تحل له, وأتت المرأة بكبيرة ظنا منها أنها فعلت طاعة لله تعالى, وكان الأولى بها والأجدر ألا تكلم رجلا أجنبيا.
فانظروا إلى حال هذه المسكينة ماذا فعلت بنفسها وهي تعتقد أن في هذا قربة لله تعالى, نسأل الله لعباده العافية.
ويحكى أنّ أبا سعيد الخراز قال: دخلت البادية مرة بغير زاد , فأصابتني فاقة , فرأيت المرحلة من بعد , فسررت بوصولي ثم فكرت في نفسي أني شكيت , وأني توكلت على غيره , فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا إن حملت إليها , فحفرت لنفسي في الرمل حفرة وواريت جسدي فيها إلى صدري , فسمعت صوتا في نصف الليل عاليا: يا أهل المرحلة ! إن لله وليا حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه , فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى المرحلة.
قال المصنف رحمه الله: قلت لقد تنطع هذا الرجل على طبعه فأراد منه ما لم يوضع عليه, لأن طبع ابن آدم أن يهش إلى ما يحب ولا لوم على العطشان إذا هش إلى الماء, ولا لوم على الجائع إذا هش إلى الطعام , فكذلك كل من هش إلى محبوب له وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر , فلاحت له المدينة أسرع السير حبا للوطن , ولما خرج من مكة تلفت إليها صلى الله عليه وسلم شوقا , وكان بلال رضي الله عنه يقول: لعن الله عتبة وشيبة إذا أخرجونا من مكة.
فنعوذ بالله من الإقبال على العمل بغير مقتضى العلم والعقل , ثم حبس نفسه عن صلاة الجماعة منكر , وأي شيء في هذا الذي فعله هذا الرجل من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى؟ فانظروا رحمكم الله كيف الجهل صنع
بهذا الرجل وقد كان من أهل الخير؟ ولو كان عنده علم لعلم أن ما فعله حرام عليه, وليس لإبليس عون على العباد والزهاد أكثر من الجهل.
ومن مذهب بعض الصوفية أنه اذا قدم أحدهم من سفر ودخل على جماعة لا يسلم عليهم حتى يذهب فيتوضأ ويصلي ركعتين, وهذا ابتداع في الدين ومخالف للشرع, لأنّ السلام على الناس لا يحتاج الى طهارة أو وضوء, الا اذا أخذوا دينهم عن مذهب الاطفال, فالطفل اذا قيل له لم لا تسلم علينا أجابهم: لأني لم أغسل وجهي بعد.
سادسا: مدخل ابليس على الصوفية اذا مات لهم ميّت
وانّ من حهل بعض الصوفية وقلة علمهم يقيمون عند الميت عرسا, يغنون له ويرقصون, ويلعبون ويقولون: نفرح للميت اذا وصل الى ربه, وهذا يعني أنهم يضمنون للميت خاتمة حسنة, وهذا أمر لا يعلمه أحد من البشر, وما يؤكد ذلك ما رواه خارجة بن زيد الانصاري عن أم العلاء رضي الله عنهما قالت: لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه, دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب, فشهادتي عليك لقد أكرمك الله
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يُدريك أنّ الله أكرمه.
وهنا نتوقف قليلا أما تساؤل النبي صلى الله عليه وسلم لنؤكد للجميع أنّ المرء مهما كانت اعماله صالحة, فانه بعد موته يصير أمره الى الله عزوجل, ولا أحد يعلم مالله عزوجل صانع به, ان شاء عذبه, وان شاء عفا عنه, وفي هذا يستوي الصالحون وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وكل فرد من أمته الى يوم القيامة, فلا يدري أحدنا على أي شيء قبضت روح هذا المسلم.
وكثيرا ما نسمع من الجهلة عن أحد مات أبداً انه مات شهيدا, أو أنه في روضات الجنة يمرح, وما حكموا حكمهم ذاك الا من خلال رؤيتهم له أنه كان صالحا في حياته, فمن أين عرفوا أنه من أهل الجنة؟ هل كشف عنهم الحجاب فعلموا؟ ومن أين لنا أن نعرف عن أعمالنا ان كانت مرفوعة أم مقبولة؟
سابعا: مدخل إبليس على الصوفية في ترك التشاغل بالعلم
قال المصنف رحمه الله: اعلم أن أول مدخل لإبليس على الناس من خلال صدهم عن العلم , لأن العلم نور , فإذا أطفأ ابليس مصابيحهم , جعلهم يتخبطون في الظلم كيف شاء , وقد دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب عديدة:
أحدها : أنه منع جمهورهم من العلم أصلا , وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكلف, فحسّن عندهم الراحة , فلبسوا المراقع وجلسوا على بساط البطالة.
وقال الامام الشافعي رحمه الله: أُسِّسَ التصوف على الكسل.
أي حبهم للولايات واستجلاب الدنيا بالعلوم, وكلاهما يُتعب البدن , والصوفية قد تعجلوا الولايات , فباتوا يرون بعين الزهد واستجلاب الدنيا , فأتت إليهم سريعة.
وقال حفص بن شاهين: ومن الصوفية من ذم العلماء ورأى أن الاشتغال بالعلم بطالة , وقالوا إن علومنا بلا واسطة , وإنما رأوا بعد الطريق في طلب العلم , فقصروا الثياب ورقعوا الجباب , وحملوا الركاء وأظهروا الزهد.
والثاني: أنه جعلهم يأخذون بأطراف الأحاديث , وأوهمهم أنّ علو الإسناد والجلوس للحديث كله رياسة ودنيا , وأن للنفس في ذلك لذة, وكما قال يزيد بن هارون: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله.
والثالث: أنه أوهم قوما منهم أن المقصود العمل وما فهموا أن التشاغل بالعلم من أوفى الأعمال ثم إن العالم وإن قصر سير عمله فإنه على الجادة, والعابد بغير علم على غي الطريق.
والرابع: أنه أرى خلقا كثيرا منهم أن العالم ما اكتسب من البواطن حتى أن أحدهم يتحايل له وسوسة , فيقول حدثني قلبي عن ربي.
وقد سموا علم الشريعة علم الظاهر , وسموا هواجس النفوس العلم الباطن, واحتجوا له بحديثٍ لا أصل له , وادعوا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: علم الباطن سر من سر الله تعالى , وحكم من أحكام الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من أولياءه.
قال المصنف رحمه الله: هذا حديث لا أصل له عن النبي وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون.
وقد فرق كثير من الصوفية بين الشريعة والحقيقة وهذا جهل , لأن الشريعة كلها حقائق , فإن كانوا يريدون بذلك الرخصة والعزيمة , فكلاهما شريعة , وقد أنكر عليهم جماعة من قدمائهم في إعراضهم عن ظواهر الشرع وترك العلم ومن هؤلاء:
فعن أبي الحسن غلام شعوانة بالبصرة يقول: سمعت أبا الحسن بن سالم يقول: جاء رجل إلى سهل بن عبد الله وبيده محبرة وكتاب فقال لسهل: جئت أن أكتب شيئا ينفعني الله له فقال: اكتب إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة والكتاب , فافعل.
قال: يا أبا محمد ! أفدني فائدة , فقال: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علما , والعلم كله حجة إلا ما كان عملا , والعمل كله موقوف إلا ما كان منه على الكتاب والسنة , ولا تقوم السنة الا على التقوى.
وعن سهل بن عبد الله أنه قال: احفظوا السواد على البياض فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق وقال: ما من طريق إلى الله تعالى أفضل من العلم , فإن عدلت عن طريق العلم خطوة , تهت في الظلام أربعين صباحا .
وعن أبي بكر الدقاق قال: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل
وقال: كنت مارا في تيه بني إسرائيل , فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة , فهتف بي هاتف من تحت شجرة : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
قال المصنف رحمه الله: وقد نبه الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء فقال: من قال إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.
وقال ابن عقيل رحمه الله: جعلت الصوفية الشريعة اسما , وقالوا المراد منها الحقيقة, قال: وهذا قبيح , لأن الشريعة وضعها الحق تبارك وتعالى لمصالح الخلق وتعبداتهم , فما الحقيقة بعد هذا سوى شيء واقع في النفس من إلقاء الشياطين , وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرورٌ مخدوع.
ثامنا: مدخل إبليس على جماعة من القوم في دفنهم كتب العلم وإلقائها في الماء
قال المصنف رحمه الله: قد كان جماعة منهم تشاغلوا بكتابة العلم ثم لبس عليهم إبليس وقال: ما المقصود إلا العمل ودفنوا كتبهم
فقد روي أن أحمد بن أبي الحواري رمى كتبه في البحر وقال: نعْمَ الدليل كنت , والاشتغال بالدليل بعد الوصول مُحال , ولقد طلب أحمد بن أبي الحواري الحديث ثلاثين سنة فلما بلغ منه الغاية , حمل كتبه إلى البحر فأغرقها , وقال: يا علم لم أفعل بك هذا تهاونا ولا استخفافا بحقك , ولكني كنت أطلبك لأهتدي بك إلى ربي , فلما اهتديت بك استغنيت عنك.
عن زاهر بن طاهر نا أحمد بن الحسين البيهقي قال: سمعت أبا عمرو بن أبي جعفر يقول سمعت أبا طاهر الجنايدي يقول: لقد كان موسى بن هرون يقرأ علينا فإذا فرغ من الجزء رمى بأصله في دجلة , ويقول لقد أديته
وعن محمد بن ناصر مرفوعا الى أبا نصر الطوسي يقول: سمعت جماعة من مشايخ الري يقولون: ورث أبو عبد الله المقري عن أبيه خمسين ألف دينار سوى الضياع والعقار , فخرج عن جميع ذلك وأنفقها على الفقراء قال: فسألت أبا عبد الله عن ذلك فقال: أحرمت وأنا غلام حدث وخرجت إلى مكة على الوحدة حين لم يبق لي شيء أرجع إليه وكان اجتهادي أن أزهد في الكتب وما جمعت من العلم والحديث أشد علي من الخروج إلى مكة والتقطع في الأسفار والخروج عن ملكي.
وعن أبو منصور القزاز مرفوعا الى أبا العباس بن الحسين البغدادي يقول: سمعت الشبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه وغرق في هذه الدجلة سبعين قمطرا مكتوبا بخطه وحفظ قرأ بكذا وكذا رواية يعني بذلك نفسه
قال المصنف رحمه الله: قد سبق القول بأن العلم نور وأن تلبيس يحسن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة, ولا ظلمة كظلمة الجهل , ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب فربما استدلوا بذلك على مكايدة حسّنَ لهم دفن الكتب وإتلافها , وهذا فعل قبيح محظور , وجهل بالمقصود بالكتب , وبيان هذا: أن أصل العلوم القرآن والسنة, فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب , أمر بكتابة المصحف وكتابة الحديث , فأما القرآن فإن رسول الله صلى الله عيه وسلم كان إذا نزلت عليه آية دعى بالكاتب فأثبتها , وكانوا يكتبونها في العسب والحجارة وعظام الكتف , ثم جمع القرآن بعده صلى الله عليه وسلم في المصحف أبو بكر الصديق رضي الله عنه صوتا عليه , ثم نسخ من ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وبقية الصحابة رضوان الله تعالى عنهم أجمعين, وما فعلوا كل ذلك الا لحفظ القرآن الكريم, لئلا يشذ أو يضيع أو يُنسى منه شيء , وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الناس في بداية الإسلام على كتابة القرآن , وقال: لا تكتبوا عني سوى القرآن , فلما كثرت الأحاديث , رأى قلة ضبطهم وحفظهم لها , فأذن لهم في الكتابة , فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه شكى إلى رسول الله قلة الحفظ فقال: [ ابسط رداءك , فبسط رداءه وحدثه النبي صلى الله عليه وسلم , وقال ضمه إليك , فقال أبو هريرة رضي الله عنه : فلم أنس بعد ذلك شيئا بما حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: استعن على حفظك بيمينك , يعني بالكتابة.
وروى عنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: قيدوا العلم , فقلت: يا رسول الله وما تقييده؟ قال عليه الصلاة والسلام: الكتابة.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا رافع بن خديج رضي الله عنه فقال: قلنا يا رسول الله ! إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج .
قال المصنف رحمه الله: واعلم أن الصحابة ضبطت ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحركاته وأفعاله واجتمعت الشريعة من رواية هذا برواية هذا بالتواتر, الى أن وصل الينا.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني , وقال عليه الصلاة والسلام: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها .
وتأدية الحديث كما يُسمع , لا يكاد يحصل إلا من الكتابة , لأن الحفظ خوان , وقد كان الامام أحمد بن حنبل رحمه الله يحدث بالحديث , فيقال له: امله علينا , فيقول: لا بل من الكتاب.
وقد قال علي بن المديني رحمه الله: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من الكتاب فإذا كانت الصحابة قد روت السنة وتلقتها التابعون وسافر المحدثون وقطعوا شرق الأرض وغربها لتحصيل كلمة ههنا وكلمة من هنا وصححوا ما صح وزيفوا ما لم يصح وجرحوا الرواة وعدلوا وهذبوا السنن وصنفوا ثم من يغسل ذلك فيضيع التعب ولا يعرف حكم الله في حادثة فما عوندت الشريعة بمثل هذا.
فهل لشريعة من الشرائع قبلنا إسناد إلى نبيهم وإنما هذه خصيصة لهذه الأمة, وقد روينا عن الإمام أحمد بن حنبل مع كونه طاف الشرق والغرب في طلب الحديث أنه قال لابنه: ما كتبت عن فلان؟ فذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يخرج يوم العيد من طريق ويرجع من أخرى , فقال الإمام أحمد بن حنبل: إنا لله سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبلغني.
وهذا قوله رحمه الله مع إكثاره للحديث وجمعه له. فكيف بمن لم يكتب ؟
وإذا غسلت الكتب ودفنت على ما يعتمد في الفتاوى والحوادث على فلان الزاهد أو فلان الصوفي أو على الخواطر فيما يقع لها نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
ولا تخلو هذه الكتب التي دفنوها أن يكون فيها حق أو باطل, أو قد اختلط الحق بالباطل , فإن كان فيها باطل فلا لوم على من دفنها , وإن كان قد اختلط الحق بالباطل ولم يمكن تمييزه كان عذرا في إتلافها , فإن أقواما كتبوا عن ثقات وعن كذابين , واختلط الأمر عليهم فدفنوا كتبهم.
وعلى هذا يحمل ما يروى عن دفن الكتب عن سفيان الثوري , وإن كان فيها الحق والشرع فلا يحل إتلافها بوجه , لكونها ضابطة العلم وأموالا , وليسأل من يقصد إتلافها عن مقصوده, فإن قال تشغلني عن العبادة قيل جوابك من ثلاثة أوجه:
أحدها : أنك لو فهمت لعلمت أن التشاغل بالعلم أو في العبادات.
والثاني: أن اليقظة التي وقعت لك لا تدوم فكأني بك وقد ندمت على ما فعلت بعد الفوات, واعلم أن القلوب لا تبقى على صفائها , بل تصدأ فتحتاج إلى جلاء , وجلاؤها النظر في كتب العلم, وقد كان يوسف بن أسباط دفن كتبه ثم لم يصبر على التحديث , فحدث من حفظه فخلط.
والثالث: أننا نقدر تمام يقظتك ودوامها والغنى عن هذه الكتب , فهلا وهبتها لمبتدئ من الطلاب ممن لم يصل إلى مقامك , أو وقفتها على المنتفعين بها , أو بعتها وتصدقت بثمنها, أما إتلافها فلا يحل بحال.
وقد روى المروزي عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه سئل عن رجل أوصى أن تدفن كتبه فقال: ما يعجبني أن يدفن العلم, ولا أعرف لدفن الكتب معنىً.
تاسعا: مدخل إبليس على الصوفية في إنكارهم من تشاغل بالعلم
قال المصنف رحمه الله: لما انقسم هؤلاء بين متكاسل عن طلب العلم , وبين ظانٍّ أنّ العلم هو ما يقع في النفوس من ثمرات التعبد , وسموا ذلك العلم: العلم الباطن, نُهوا عن التشاغل بالعلم الظاهر.
وعن عبد الرحمن بن محمد القزاز مرفوعا الى جعفر الخلدي يقول: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا , لقد مضيت إلى عباس الدوري وأنا أحدث , فكتبت عنه مجلسا واحدا, وخرجت من عنده , فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية , فقال: إيش هذا معك؟ فأريته إياه فقال: ويحك تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق؟ ثم خرق الأوراق فدخل كلامه في قلبي فلم أعد إلى عباس.
قال المصنف رحمه الله: وبلغني عن أبو سعيد الكندي قال: كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية بحيث لا يعلمون , فسقطت الدواة يوما من كمي , فقال لي بعض الصوفية: استر عورتك.
وعن محمد بن ناصر مرفوعا الى الحسين بن أحمد الصفار قال: كان بيدي محبرة فقال لي الشبلي: غيب سوادك عني يطفيني سواد قلبي.
وعن أبو بكر بن حبيب مرفوعا الى علي بن مهدي يقول: وقفت ببغداد على حلقة الشبلي فنظر إلي ومعي محبرة فأنشأ يقول:
تسربلت للحرب ثوب الغرق *** وجبت البلاد لوجد القلق
ففيك هتكت قناع الغوى *** وعنك نطقت لدى من نطق
إذا خاطبوني بعلم الورق *** برزت عليهم بعلم الخرق
قال المصنف رحمه الله: قلت من أكبر المعاندة لله تعالى الصد عن سبيل الله , وأوضح سبيل الله عزوجل : العلم , لأنه دليل على الله تبارك وتعالى وفيه بيان لأحكام الله عزوجل وشرعه ومنهاجه, وإيضاح لما يحبه ويكرهه, فالمنع منه معاداة لله عزوجل ولشرعه ومنهاجه, ولكن الناهين عن ذلك ما تفطنوا لما فعلوا.
وقال عبد الله بن خفيف رحمه الله: اشتغلوا بتعلم العلم ولا يغرنكم كلام الصوفية , فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعتي , والكاغد في حزة سراويلي , وكنت أذهب خفية إلى أهل العلم , فإذا علموا بي خاصموني وقالوا: لا تفلح , ثم احتاجوا إليّ بعد ذلك.
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يرى المحابر بأيدي طلبة العلم , فيقول: هذه سرج الإسلام و, كان هو يحمل المحبرة على كبر سنه فقال له رجل: إلى متى يا أبا عبد الله؟ فقال: المحبرة إلى المقبرة, وقال في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة , فقال أحمد رحمه الله: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم, ثم قال: ان لم يكن أصحاب الحديث الأبدال فمن يكون؟ وقيل له: إن رجلا قال في أصحاب الحديث أنهم كانوا قوم سوء فقال رحمه الله: هو زنديق. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: بطلبة الحديث يدفع الله البلاء عن أهل الأرض.
وعن أبو منصور القزاز مرفوعا الى أحمد بن محمد بن مسروق قال: رأيت كأن القيامة قد قامت والخلق مجتمعون إذ نادى مناد: الصلاة جامعة , فاصطف الناس صفوفا , فأتاني ملك فتأملته , فإذا بين عينيه مكتوب جبريل أمين الله , فقلت أين النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال مشغول بنصب الموائد لأخوانه الصوفية , فقلت وأنا من الصوفية؟ فقيل: نعم , ولكن شغلك كثرة الحديث.
قال المصنف رحمه الله: هذا افتراء , ومعاذ الله أن يُنكر جبريل عليه السلام التشاغل بالعلم.
عاشرا: مدخل إبليس على الصوفية في كلامهم في العلم
قال المصنف رحمه الله: اعلم أن هؤلاء القوم لما تركوا العلم وانفردوا بالرياضيات على مقتضى آرائهم لم يصبروا عن الكلام في العلوم , فتكلموا بواقعاتهم , فوقعت الأغاليظ القبيحة منهم , فتارة يتكلمون في تفسير القرآن , وتارة في الحديث , وتارة في الفقه وغير ذلك , ويسوقون العلوم إلى مقتضى علمهم الذي انفردوا به , والله سبحانه وتعالى لا يخلي الزمان من أقوامٍ قوامون, بشرعه يردُّون على المُتخرصين ويُبيّنون غلط الغالطين.