http://www.alukah.net/articles/1/6769.aspx
ليس من اللازم أن تكون كوفيًّا عندما تدافع عن الإمام الكسائي، كما أنه ليس من اللازم أن تكون حنفيًّا عندما تدافع عن الإمام أبي حنيفة؛ لأن الدفاعَ عن الأئمة الأعلام واجبٌ علمي وأدبي لا يرتبط بمذهب ولا يتعلق بنحلة.
ومن الملاحظات العجيبة أن معظم الناس يتميزون بالأحادية في التفكير، فلا يوجد لديهم وسط - مع أن الوسط هو الصواب في معظم الأحيان - فإن لم تكن معي فأنت ضدي، وإن لم تكن عالمًا فأنت جاهل، وإذا لم تكن عبقريًّا فأنت غبي، وهكذا!
وينسحب هذا على القواعد العلمية أيضًا، فالأمر إذا كان للوجوب فهو كذلك دائمًا وأبدًا، والراوي إذا كذب أو أخطأ فهو كذلك دائمًا وأبدًا، والصواب إذا كان مع البصريين فهو كذلك دائمًا وأبدًا!
وبناءً على ما سبق، وتماشيًا مع طريقة التفكير العجيبة السابقة، فإننا إذا وجدنا خطأً للكسائي أو غيره، فلا بد أن يكون هذا الخطأ مبنيًّا على أن الكسائي جاهل أو أحمق، فإن لم يكن كذلك فهو لا شك كاذبٌ أفّاك، فإن لم يكن كذلك فهو محتال نصاب!
المسألة الزنبورية من المسائل التي نالت شهرةً كبيرة في التاريخ النحوي، مع أن أحداثها وتفاصيلها غير معلومة على وجه اليقين، إلا أن الإنسانَ يعجب أشد العجب من تعليقات بعض المعاصرين وآرائهم تجاه هذه القصة.
فبعضُ الناس لهم نزعة بصرية متعصبة، وبناء عليه فالصوابُ -ولا شك- مع سيبويه، وإلى هنا يمكننا أن نتوقف دون إشكال، ولكن يأبى التعصبُ والجهل إلا الاستمرار بهم في المسير قدمًا نحو الاستنباط العجيب والاستنتاج الغريب!
فما دام الصوابُ مع سيبويه، فلا بد إذن أن يكون الكسائي قد احتال ورشا الأعراب حتى يشهدوا له ويصدقوا قوله في مجلس الإمارة!
ولا بد أيضًا أن يكون الكسائي كذابًا محتالا، اضطُر إلى هذا المضيق لأنه لن يستطيع أن يأتي بمسألة شذت عن علم سيبويه المحيط!
ولا بد كذلك أن يكون الكسائي ذا تخليط وضعف بسبب أخذه عن أعراب الحطمية المنعوتين بعدم الفصاحة!
وبعد أن يتملكك التعجب تسأل نفسك:
لماذا كل هذا؟
أمن أجل مسألة فرعية كعشرات المسائل التي قد نختلف فيها ولا يفسد الاختلاف للود قضية؟!
مسألة لا تكاد تقدم ولا تؤخر، ولا تستعمل في الكلام إلا قليلا جدًّا.
ولا يعي أصحابُ هذه الأقوال أنهم بذلك يُسقطون الكسائي تمامًا من الميزان العلمي، ولا شك أن هذا يقتضي أن نسقط عنه أيضًا الإمامة في القراءة، ويقتضي أيضًا أن نخرجه من القراء السبعة ليصير القراءُ ستًّة!
لأنه لا يصلح مطلقًا أن يكون أحدُ أئمة القراء كاذبًا أو محتالا!
وكذلك يقتضي هذا المنهج أن نخرج الكسائي أيضًا من كل كتب اللغة ومعجماتها؛ لأننا لا يمكننا الوثوق برواية مثل هذا الكذاب المنافق! أو المخلط الجاهل!
إن طالب العلم ينبغي أن يعلم الضوابط التي تضبط تفكيرَه وترجيحَه، وبعد ذلك لا عليه أن يرجح ما يشاء؛ لأن إهمال الضوابط قد يؤدي بكبار العلماء -فضلا عن أمثالنا من صغار طلبة العلم- إلى نتائج شنيعة.
فنحن لا نشك أن الكسائي روى عن العرب الرفع والنصب، هذا مما لا يجادل فيه أحد، ولكن النقاش لا يخرج عن أمرين:
الأول: أن الكسائي كذب في هذه الرواية وافترى على العرب واستأجر الأعراب ليكذبوا له.
الثاني: أن الكسائي لم يكذب ولكنه تلقى هذه اللغة من أعراب مخلطين لا عبرة بهم في كلام العرب.
فأما الأمر الأول - وهو أن الكسائي كذب واستأجر الأعراب ليكذبوا -:
فهذا مما لا ينبغي القولُ به مطلقًا، وإن تورط فيه كثيرٌ من المعاصرين وبعضُ المتقدمين أيضًا، ولكن عند التأمل ينبغي إسقاط هذا القول من أصله؛ لأنه يؤدي إلى نتائج فاحشة؛ لأن الذي يكذب على العرب لا يمكن أن يوثق به، والذي يستأجر الأعراب ليكذبوا له لا يمكن أن يكون إمامًا في القرآن وصاحب قراءة من السبع، كما أن هذا يوجب إسقاطَ جميع ما حكاه عن العرب لأن خبر الكاذب غير مقبول بالاتفاق.
هذا فضلا عن أن الكسائي إمام ثقة ثبت أثنى عليه جمهرة من العلماء، كيونس والشافعي وابن معين وأبي منصور الأزهري، فضلا عن أئمة الكوفيين كالفراء وابن الأنباري.
وأما الأمر الثاني فهو بعيد أيضًا لأمور كثيرة:
- منها أن هؤلاء الأعراب كانوا على باب الأمير، ومن المحال أن يكون لمثل هؤلاء مكان في هذا الموضع الشريف وهم على هذه الحالة المزرية من التخليط .
-
ومنها أن هؤلاء الأعراب غير مجهولين، بل قد ذكرت أسماؤهم في بعض روايات القصة، ومن الممكن تتبع أحوالهم وأخبارهم لمعرفة فصاحتهم .
-
ومنها أن الكسائي عرض على سيبويه الاحتكام إلى هؤلاء الأعراب فوافق على ذلك، ولو كانوا مخلطين لما قبل.
-
ومنها أن سيبويه لم يعترض على الكسائي بعد سماع شهادة الأعراب.
-
ومنها أن ذلك أيضًا لو سلمناه يوجب إسقاط جميع مرويات الكسائي.
إلخ إلخ.
وبعد هذا التفصيل لا أظن منصفًا يأبى قبولَ ذلك روايةً عن العرب، ويبقى النظرُ بعد ذلك في القياس عليه أو عدم القياس؛ لأنه ليس كل ما رُوي عن العرب يقاس عليه بالاتفاق.
فإذا نظرنا إلى ذلك وجدنا البصريين يوافقون الكوفيين في قولهم (خرجتُ فإذا عبد الله قائمًا) و(خرجتُ فإذا عبد الله قائمٌ)، ولكنهم يردون المسألة الأخرى (فإذا هو إياها) بناء على أن (قائمًا) في المثال الأول يمكن الاستغناء عنها، أما (إياها) فلا يمكن الاستغناء عنها، وهذا التفريق تفريق صحيح، ولكن ما المانع أن يكون بعضُ العرب قد تكلم بالمثال الثاني إجراءً للباب مُجرى واحدًا، أو توهمًا للتشابه بين البابين، أو بتقدير محذوف، أو غير ذلك من الوجوه التي يمكن استنباطها؟
ولمثل هذه الأوجه المذكورة صار بعضُ المتأخرين إلى تصويب الوجهين وتوجيه النصب؛ فذهب ابن الحاجب مثلا إلى جعلها حالا لمحذوف تقديره (موجود).
وأيًّا ما كان الأمر، فإننا إن وافقنا البصريين في هذه المسألة، فلا ينبغي التشنيع فيها على المخالف؛ لأن لها وجهًا من النظر لا يمكن إنكاره، وإنما العالم من يعرف متى يسوغ الخلاف ومتى لا يسوغ.
ومن لطيف ما يروى عن صدق الكسائي وورعه، ما ذكره الفراءُ قال: لقيتُ الكسائي يومًا فرأيته كالباكي، فقلت له ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك يحيى بن خالد يوجه إليّ فيحضرني، فيسألني عن الشيء؛ فإن أبطأتُ في الجواب لحقني منه عيبٌ، وإن بادرتُ لم آمن الزلل، فقلت له ممتحنًا: يا أبا الحسن! من يعترض عليك؟ قل ما شئتَ فأنت الكسائي!، فأخذ لسانه بيده وقال: قطعَه اللهُ إذًا إن قلتُ ما لا أعلم.
فليتق الله أقوامٌ يتكلمون بغير علم؛ يفسدون ويظنون أنهم مصلحون، يزعمون أنهم يحملون هم الأمة، والأمة من جهتهم في هم عظيم!
http://www.alukah.net/articles/1/6769.aspx