قد لا يُستغرب أن يكون التصوف مورداً لغناء المجون والفجور؛ إذ قد شهد بذلك من عاينَ مجالس الصوفية، وتحلَّى بطرقها، كما اعترف زكي مبارك قائلاً:
«قد لاحظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحياناً إلى مجالس فنية، فهي مجالس تُعقد ظاهراً لذكر الله، والغرض منها الغناء..
وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين.. فالصوفية تفرَّدوا بين رجال الدين بالتشيُّع للموسيقا والغناء، فأقبلوا على الغناء، وتفرَّدت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجالس الذكر»[1].
ولا عجب أن الروافض يعوِّلون على تأجيج العواطف الرعناء وتحريك مشاعر البكاء والعويل؛ فدين القوم أكاذيب في المنقول، وحماقات في المعقول؛ فلا يمكن أن يروج الكذب والشطح إلا بامتطاء هذه العاطفة الهوجاء، والمشاعر العــــوجاء، والعـــارية من الدليل والبرهان.. وهذا ما أوصى به خامنئي شيعته - بمناسبة عاشوراء عام 1426هـ - قائلاً: «إن مجالس العزاء[2] مستمرة إلى يومنا هذا، ولا بد من أن تستمر إلى الأبد؛ لأجل استقطاب العواطف؛ فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق»[3]!
لكن العجب أن يضاهي أولئك ويسلك سبيلهم طوائف من متسننة هذا العصر؛ فما كان يُسمَّى إنشاداً - في الماضي القريب - قد أضحى غناءً ومجوناً.. فالترخُّص الـمُفْرِط في النشيد أفضى إلى الافتتان بالمؤثرات الصوتية، والولع بمعالجة الأصوات وَفْق تقنيات الحاسوب، والهيام بالآهات والترنُّمات..!
فهذا الركام المتتابع من الانفلات أوقع ولوغاً في غناء الفجور، وسماع المعازف، فانحدر بعض المنشدين إلى خمر النفوس ورقية الزنى والمجاهرة باستعمال ألحان وموسيقى المجون.. بل تفوَّه أحد المنحدرين بأن إظهار الموسيقى هو مقتضى الصراحة!
وهكذا البدع والانحرافات تبدأ شبراً، ثم تكون ذراعاً، ثم تصير باعاً، فأميالاً وفراسخ.. وكما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل»[4].
ومن المعلوم أن البقل ينبــت في الأرض شيــئاً فشيـئاً لا يحسّ الناس بنباته[5].
وهذه الأناشيد الموسيقية تحرِّك الشهوات الكامنة في النفس، وتثيرها تلك الأصوات والمعازف «فالنغمات المرتبة على النسب التلحينية هو المؤثر في الطباع فيهيجـها إلى ما يناسبها، وهي الحركات على اختلافها»[6].
فالأصوات الملحّنة تهيِّج وتحرِّك من كل قلب ما فيه من محبة مطلقة لا تختص بأهل الإيمان، «وكل إناء بالذي فيه ينضح»، فقد تحرِّك محبة الله تعالى، أو محبة الأوثان، والصلبان، والأوطان، والنسوان..[7].
كما أن هذه الأصوات المطربة يزداد أثرها وتعظم حركتها عند النسوان والصبيان والحيوان؛ لأنه ثوران الطباع، فيشترك فيه الإنسان والحيوان، وكلما ضعف العقل قويت حركة النفوس وتواجدها فرحاً أو حزناً.. لكنها حركة ووجد بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير[8].
قال ابن تيمية: «وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه، ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك، بل يعدُّون ذلك من قلة العقل، وضعف الرأي، كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة»[9].
وتحاكي الأناشيدُ الحاضرة الغناء المعهود، بل تماثله مماثلة القُذَّة للقُذَّة، بحيث يتعذر على أرباب الإنشاد والمونتاج التفريق بينهما فضلاً عن غيرهم!
فهذا النشيد الموسيقي والغناء:
ومع هذه المماثلة الظاهرة إلا أن بعضهم يصرُّ على تفريق موهوم بين إنشاده وغناء المجون، فليحذر من هذا التحايل البغيض والذي اتسع خرقه، وتتابع نقضه، فتلبَّس أصحابه بسماع الغناء الحرام مع المخادعة والاحتيال.رضيعا لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوْضَ لا نتفرقُ
قال أيوب السختياني: يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان. ولو أتى الأمر على وجهه لكان أهون عليّ[10].
وها هو ابن القيم يحذِّر من التوثُّب على محارم الله - تعالى - باسم الحيل، فيقول: «فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تُبلى فيه السرائر، ويحصّل ما في الصدور.. هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهـــم كانــوا يلعبــون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون»[11].
ويتعلَّل بعض المولعين بالنشيد المتهتك بأن أصل النشيد مباح، فهي أصوات بشر وشجر ونحوهما، وتم تركيبها ومعالجتها حسب تقنيات الحاسوب.. وهذا تعليل عليل؛ إذ العبرة بالحقائق، ومآلات الأمور، فقد استحال هذا النشيد إلى غناء ومعازف، كما لو استحال العنب إلى خمر، وهذه المعالجة الحاسوبية أوقعت في تلاعب بالأصوات وتغييرها من صوت بشر وشجر وماء.. إلى صوت معازف وموسيقى..
فهذا الغناء الحاضر مركب من تلك الأصوات بعد تعديلها ومعالجتها.. فالعبرة بالنتائج وعواقب الأشياء، كما قال ابن الجوزي: «ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود نظر إلى المعنى الحاصل بالعود فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسَّنه لهم، وإنما مراده التدرج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمَّل المقاصد»[COLOR=window****][12][/COLOR].
وكما يُحكى عن إياس بن معاوية (ت 122هـ) أن رجلاً قال له: ما تقول في الماء؟ قال حلال. قال: والتمر؟ قال: حلال. قال: فالنبيذ تمر وماء! فقــال له إيــاس: أرأيــت لو ضربتُكَ بكفٍّ من تراب أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بكفٍّ من تبن أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُكَ بماء أكنتُ أقتلكَ؟ قال: لا. قال: فإن أخذتُ الماء والتبن والتراب فجعلتها طيناً، وتركته حتى جفَّ، وضربتُكَ به أقتلك؟ قال: نعم! فقال: كذلك النبيذ.
ومقصوده أن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب، والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب[13]. فكذا النشيد الحاضر بعد التركيب؛ فقد تغيَّرت صفاته السابقة، وانمحت آثاره السالفة.
وأخيراً: فإن فتنة الأصوات والصور المحرمة قد وَلِعَ بها كثير من أرباب التعبُّد المحدث، وإن كانت فتنة الصور أشد فتكاً، ولئن سلم فئام من المتديِّنة من شراك الصور الفاتنة، لكن أسرتهم الأصوات الملحنة؛ فإن غناء المجون وفتنة الأصوات سبيل الولوج في فتنة الصور، فالغناء رقية الزنى..
قال ابن القيم: «أهل الأصوات طرقوا لأهل الصور الطريق، ونهجوا لهم السبيل، وطيَّبوا لهم السير، فساروا وجدّوا بهم إلى مطارح الجمال، فطاب لهم اللعب، ووصفوا لهم سمر القدود وورود الخدود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادوا (حيَّ على الوصال)، فأجاب القوم منادي الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسهم بالغبن، وبذلوها في مرضاة الصور الجميلة»[14].
والمقصود أن هذا النشيد «المستنسخ» من الغناء حافل بمفاسد ظاهرة؛ كالصدِّ عن سماع القرآن، والإعراض عن التفقه في دين الله تعالى، واستثارة العواطف الرعناء، وتحريك الشهوات من مكانها، والتحايل على المحرمات، ومشابهة لحون أهل الفسق والفجور.. فهل من توبة نصوح عن ذاك الغناء؟!
ولقد أحسن القائل:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغناوكم قلتُ يا قوم أنتم على شفا جُرُف ما به من بِنَافلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في بِنَافعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تِنْتِنا تِنْتِنا[15].
[2] يعني: حماقات أتباعه من النحيب وضرب الصدور وإسالة الدماء..