المختصر / تقتضي "العصمة" ألا يقع المرء في الكذب واقتراف الآثام، ولا يعمد إلى الغش والتدليس والخديعة سعياً وراء تحقيق أهدافه حتى لو كانت "مشروعة".
والذين استمعوا إلى خطاب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية عن الانتخابات الرئاسية الإيرانية لاشك قد لاحظوا إصراره على مخاصمته لما يدعو إليه من احترام خيار شعبه (الذي يراه بالمناسبة هو الأمة) وتقليله الواضح من الرفض الشعبي الظاهر لتلميذه الثوري محمود أحمدي نجاد الذي تمكن المرشد من فرضه على الإيرانيين مرتين في عمليتي انتخاب اتسمتا بالتزوير الواضح الذي لم يعد سراً الآن أنهما قد حيكتا من أجل إيصال نجاد إلى السلطة أولاً، ثم إبقائه في الرئاسة تالياً.
"النائب عن الإمام المعصوم" وفقاً للعقيدة الإمامية يكذب، ويدلس على الشعب الإيراني، وهو هذه المرة لا يفعل ذلك مع "غرباء" يحل له ـ وفقاً لأفكاره ـ ممارسة التقية والكذب معهم اتقاء المخاطر أو باعتبارهم على غير دينه، وإنما يكذب على أبناء مذهبه، لا بل على أخص هؤلاء، وهم الملالي ورجال ثورته، وفيهم الموسوي وخاتمي وكروبي، يقول "نائب الإمام المعصوم": "آليات النظام في بلدنا لا تسمح بحصول غش بفارق 11 مليون صوت"؛ فيرد موسوي في اليوم التالي: "إن كان هذا الحجم الهائل من التزوير والتلاعب بالأصوات .. الذي أساء إلى ثقة الناس، يستخدم باعتباره الدليل الجلي على عدم حصول تزوير، فان هذا يطعن في الطابع الجمهوري للنظام نفسه ويثبت عمليا أن الإسلام لا ينسجم مع نظام جمهورية" ـ بحسب تقرير أوردته الوكالة الفرنسية ـ..الرجل اعتبر ما حدث من مصادرة لإرادة الشعب الإيراني "عيداً حقيقياً"؛ فهل لا يدري شيئاً عما تقوم به وزارة الداخلية الإيرانية إلى هذا الحد الذي اضطر مئات الآلاف إلى الخروج إلى الشوارع في مظاهرات اعتبرها المرشد "بدعة غير شرعية"، وقطعاً فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار مثلما يريد "نائب الإمام المعصوم" أن يستلب شعبه حقه الذي منح له ليمارس شكلاً انتقائياً ووهمياً من الحرية، ومع هذا ضن بها الرجل عليهم ودعاهم إلى "الصبر والاحتمال"!!
أو أنه يدري بهذا الذي يحدث في امبراطوريته ويلتزم التجاهل والكذب حتى تهدأ ثورة الجماهير.
إن مرشد الثورة الإيرانية قد انكشف الآن، ليس أمامنا نحن، فأمره بين منذ زمن، لكن هناك بين أتباعه الذين ابتاعوا منه ومن سلفه الوهم وحصدوا الأكاذيب، وهاهو يتناقض في خطابه ويضطرب؛ فيقول الشيء وضده في الخطاب، ويظهر تدليساً واضحاً لم يكن ينبغي لشخص في مثل مركزه الذي يتطلب ـ طبقاً للنظام الدستوري الإيراني ـ أن يكون "أتقى وأروع المسلمين"، حيث قال: "آراءالرئيس أقرب إلي آرائي" (من آراء منافسيه) ثم قال: "أري بعض الرجال أكثر كفاءة من غيرهم لخدمة البلد.ولكن الشعب قال كلمته"، "ما كنت أريده لم يقله الشعب."!!
"التقي الورع" يطلب من "الأمة" الإيرانية "الهدوء"، ويحمل "المظلومين والمضطهدين" ـ وفقاً لأفكاره هو وشيعته ـ الدم الذي يراق منهم؛ فـ"لو وقعت أي إراقة للدم فسيتحمل قادة المظاهرات المسؤولية المباشرة."؛ فلا كربلاء إذن ولا بكاء وإنما على الجميع "الاعتدال" و"الصبر" و"الهدوء" لأن "مظلوميتهم" إنما جاءت اليوم من "الولي الفقيه"؛ فإذا ظلم "المعصوم" فمن يعدل إذن في الناس من البشر!!
يقول المرشد: "دبلوماسيو العديد من الدول الغربية الذين كانوا يتحدثون معنا حتى اليوم بلهجة دبلوماسية كشفوا عن وجههم الحقيقي، وفي مقدمهم الحكومة البريطانية"، ويوجه انتقادات إلى "قادة الاستكبار في العالم"، لاسيما الحكومة البريطانيةالتي وصفها بأنها "أخبث الأعداء".. هل خدع فيهم خامنئي حيث صاروا اليوم أعداء تتقدمهم بريطانيا ـ لا الشيطان الأكبر/أمريكا ـ بينما كان حديثهم "حتى اليوم" بلهجة دبلوماسية.. آلآن أيها المرشد انكشف لك وجههم الحقيقي؟!!
"المرشحون كلهم يثقون في القيادة الإسلامية للبلاد" و"الاختلاف بينهم هو اختلاف في وجهة النظر فقط"، قال الولي الفقيه، لكن ما لم يقله أن موسوي يخونه شخصياً دون أن يسمه ويعتبره تهديداً للنظام الجمهوري الإسلامي في البلاد (إن صحت التسمية)، واختلاف وجهات النظر هو اتهامات بالسرقة واستغلال النفوذ والتربح من المنصب تطال أكبر أركان النظام الإيراني وتراشقات عنيفة بين رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، وأسرته من جهة، والرئيس الإيراني نجاد من جهة أخرى.
تشكيك في فريق نجاد واتهامات عريضة بالتزوير حتى في أهلية هذا الفريق لمناصبهم، وبنود مالية مفقودة من الميزانية العامة للدولة، واتهامات أكاديمية تطال زوجة موسوي، وكل هذا "اختلاف وجهات نظر" في عرف المرشد!!
إن الذين اختارهم المرشد نفسه ليكون من بينهم رئيس الجمهورية الذي لا يملك من الصلاحيات شيئاً يذكر هم أنفسهم من رفضوا وصايته باستثناء "خادم الشعب" الذي شكر خامنئي على ثقته كـ"طفل صغير"، أحمدي نجاد، كما وصف نفسه، وهم الذين أوعزوا إلى أنصارهم بتحدي الولي الفقيه والنزول إلى الشوارع بعدما صارت المظاهرات ضد خامنئي بدعة غير شرعية بعدما كانت قبل ثلاثين عاماً جهاداً مقدساً ضد الظلم، وفي ذلك أكبر سقطات المرشد؛ حيث لم ينتبه ـ وهو المعصوم عند قومه ـ إلى هؤلاء الذين اختارهم بنفسه ليجري بينهم التنافس حتى وقفوا ضده معلنين بأن رفض ثيوقراطية الحكم الإيراني ليست حكراً على الشرفاء وحدهم بل حتى على المنتفعين والأزلام الذين ضاقوا به ذرعاً.
لقد قضى خامنئي أن يكون الرئيس القادم هو نجاد ليستكمل حلقة القنبلة النووية التي بدأها المرشد وأعوانه ويريد للإعلان عنها رئيساً ثورياً أمام الخارج، وطفلاً صغيراً، خادماً مطيعاً أمامه هو، وقد وقع اختياره على نجاد، وكان أمر التزوير معداً سلفاً، والأداة هي الحرس الثوري ووزارة الداخلية الإيرانية، لكن المسألة لم تمر هينة هذه المرة، بخلاف العديد من حوادث التزوير السابقة والتي قفزت أحدها بخامنئي نفسه في الرئاسة في العام 1981 عندما حصل على 95% من مجموع أصوات المنتخبين، تنفيذاً لرغبة مرشد الثورة الأول خميني (16 مليوناً من 17 أدلوا بأصواتهم)!!
ليست جديدة إذن مسألة التزوير في الانتخابات الإيرانية المختلفة، لكن الغريب هذه المرة هو هذا الحنق الذي يبدو مجاوزاً حدود رغبات الخاسرين في الانتخابات أنفسهم، إذ إن هتافات "الموت للديكتاتور" التي يرددها الشباب الآن قد لا تكون تعني الرئيس نجاد وحده، بل هذا الواقف إلى جواره مسانداً بكل قوته وصلاحياته وأدواته، وهو أمر جديد على الشارع الإيراني، يدل على أن ولاية الفقيه في إيران قد بدأت تنخدش لأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية، وأن الكثيرين لم تعد تنطلي عليهم أوهام الثورة و"الشيطان الأكبر" و"قوى الاستكبار" و"الولي الفقيه" لإضفاء شرعية، بل تقديس على غير المقدس وغير الشرعي في إيران.
باسم الثورة تقمع اليوم الثورة، وباسم الدين يتم التزوير، وباسم الهدوء والصبر والاعتدال تمرر الجريمة بحق من صدقوا أن ثمة ما يمكن أن يحدث في حدود الجمهورية يخالف جمود المرشد وسطوته، وفي هذا أول مؤشرات الاضطراب والتراجع في المشروع الإيراني الأيديولوجي، وما بات الناس اليوم يدركونه أن خامنئي ما بعد الانتخابات لن يكون هو خامنئي وما يمثله من أفكار ورؤى سياسيةما قبل الانتخابات، وأن إيران أضحت على مفترق طرق، وقد مضت نحو التحول وإن استغرق ذلك بعض الوقت.
لقد كانوا يقولون للشاه عليك أن ترضخ للشارع، والآن يرتدون ثوبه الطاووسي الامبراطوري ذاته ويقولون بكل جرأة "لن نرضخ للشارع"..
المصدر: موقع المسلم