من يجمع لنا مذاهب العلماء في التوفيق بين قاعدة اليقين لا يزول بالشك و الوضوء أو غسل اليدين بعد القيام من النوم و نظرة المالكية لهذه القاعدة.
أقدم لكم نص القرافي في القاعدة من كتابه الفروق:
( الفرق السابع والتسعون بين قاعدة الشك في طريان الإحداث بعد الطهارة يعتبر عند مالك رحمه الله تعالى وبين قاعدة الشك في طريان غيره من الأسباب والروافع للأسباب لا تعتبر )
اعلم أنه قد وقع في مذهب مالك رحمه الله فتاوى ظاهرها التناقض وفي التحقيق لا تناقض بينها ؛ لأن مالكا قال إذا شك في الحدث بعد الطهارة يجب الوضوء فاعتبر الشك ، وإن شك في الطهارة بعد الحدث فلا عبرة بالطهارة فألغي الشك ، وإن شك هل طلق ثلاثا أو واحدة لزمه الثلاث فاعتبر الشك ، وإن شك هل طلق أم لا لا شيء عليه فألغي الشك ، وإن حلف يمينا وشك في عينها هل هي طلاق أو عتاق أو غيرهما لزمه جميع ما شك فيه فاعتبر الشك ، وإن شك هل سها أم لا لا شيء عليه فألغي الشك ، وإن شك هل صلى ثلاثا أم أربعا جعلها ثلاثا وصلى وسجد بعد السلام [ ص: 164 ] لأجل الشك فاعتبر الشك ، فوقعت هذه الفروع متناقضة كما ترى في الظاهر ، وإذا حققت على القواعد لا يكون بينها تناقض بل القاعدة أن كل مشكوك فيه ملغى فكل سبب شككنا في طريانه لم نرتب عليه مسببه ، وجعلنا ذلك السبب كالعدم المجزوم بعدمه فلا نرتب الحكم ، وكل شرط شككنا في وجوده جعلناه كالمجزوم بعدمه فلا نرتب الحكم ، وكل مانع شككنا في وجوده جعلناه ملغى كالمجزوم بعدمه فيترتب الحكم إن وجد سببه فهذه القاعدة مجمع عليها من حيث الجملة غير أنه قد تعذر الوفاء بها في الطهارات ، وتعين إلغاؤها من وجه واختلفت العلماء رحمهم الله بأي وجه تلغى وإلا فهم مجمعون على اعتبارها فقال الشافعي رضي الله عنه إذا شك في طريان الحدث جعلته كالمجزوم بعدمه .
والمجزوم بعدمه لا يجب معه الوضوء فلا يجب على هذا الشاك الوضوء ، وقال مالك رحمه الله براءة الذمة تفتقر إلى سبب مبرئ معلوم الوجود أو مظنون الوجود ، والشك في طريان الحدث يوجب الشك في بقاء الطهارة ، والشك في بقاء الطهارة يوجب الشك في الصلاة الواقعة هل هي سبب مبرئ أم لا فوجب أن تكون هذه الصلاة كالمجزوم بعدمها ، والمجزوم بعدم الصلاة في حقه يجب عليه أن يصلي فيجب على هذا الشاك أن يصلي بطهارة مظنونة كما قال الشافعي رضي الله عنه حرفا بحرف ، وكلاهما يقول المشكوك فيه ملغى لكن ألغاه مالك في السبب المبرئ وإلغاء الشافعي في الحدث ومذهب مالك أرجح من جهة أن الصلاة مقصد والطهارات وسائل ، وطرح الشك تحقيقا للمقصد أولى من طرحه لتحقيق الوسائل فهذا هو الفرق بين الطهارات يشك فيها وبين غيرها إذا شك فيه ، وأما إذا شك في الطهارة بعد الحدث فالمشكوك فيه ملغى على القاعدة فتجب عليه الطهارة ، وإن شك هل طلق ثلاثا أو واحدة يلزمه الثلاث ؛ لأن الرجعة شرطها العصمة ، ونحن نشك في بقائها فيكون هذا الشرط ملغى على هذه [ ص: 165 ] القاعدة .
وإن شك هل طلق أم لا لا شيء عليه ؛ لأن المشكوك فيه ملغى على القاعدة وإذا شك في عين اليمين لزمه الجميع لأنا نشك إذا اقتصر على بعضها في السبب المبرئ فلعله غير ما وقع فوجب استيعابها حتى يعلم السبب المبرئ كما قلنا في الصلاة إذا شك في طريان الحدث على طهارتها ، وإن شك هل سها أم لا فلا شيء عليه ؛ لأن المشكوك فيه ملغى على القاعدة ، وإن شك هل صلى ثلاثا أم أربعا سجد ؛ لأن الشك نصبه صاحب الشرع سببا للسجود لا للزيادة ، وقد تقدم بسط هذه المباحث في الفرق الرابع والأربعين بين الشك في السبب وبين السبب في الشك فليطالع من هناك ، وإنما المقصود هاهنا الفرق بين الشك في الطهارات وبين الشك في غيرها ، وقد أشرت إليه هاهنا وتكميله هناك .