تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 5 الأولىالأولى 12345
النتائج 81 إلى 89 من 89

الموضوع: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

  1. #81

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    المسألة الثالثة :


    هل رواية " باليًا أثوابي " خطأ ؟


    قال السيد صقر ( 1 / 10 ) :
    ( وقال الآخر :
    أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أثوابي
    ...
    وهو خطأ ، والصواب :
    ... *** وخرجت منها عاريًا أثوابي
    ... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب ؛ بل يخرج منها عاريًا ) ا . هـ .


    فقلت في أصل الموضوع :
    ( هذا ليس خطأ كما ذكرَ ؛ فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي ( ت 356 هـ ) في « أماليه 2 / 279 » . ويمكنُ أن يُّخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ ( ت 487 هـ ) في « اللآلي 2 / 922 » :
    أحدُهما : أن الأكفانَ لا تكون إلا مما بلِيَ عادةً .
    الآخر : أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ ؛ أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى ، كما قالَ تعالى : إني أراني أعصر خمرًا ، وكما يقال : قتلتُ القتيلَ . و يشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي :
    أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أوصالي
    وهو شاهدٌ للسماعِ ، لأنه اهتدمَ هذا البيتَ ؛ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة ، وشاهدٌ للقياسِ ، لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا ؛ وإنما تبلَى بعد ذلك ) ا . هـ .

    ولمزيد من البيان أقول :
    السيد صقر كما يرَى القارئ لم يرجِّح رواية على رواية ، ولم يقل : إن هذه أصحّ من تلك . ولو فعل ذلك ، لكانَ محتمَلاً مقبولاً ؛ ولكنَّه تجاوزَ ذلك ؛ فحكمَ على رِواية رَواها بعضُ العلماء المتقدِّمين بالتخطئة . وهذا ممَّا لا ينبغي لهُ ، ولا لغيرِه ؛ وإنما يحِقُّ للمحقِّق أن يُعمِل مرجِّحاتِ الحُكْمِ بالتحريف إذا امتنعَ قَبولُها من جهةِ الرِّواية ، أوِ القياسِ امتناعًا .
    وكونُ الرِّواية تحتاج إلى شيء من التأويل ، أو فيها قدرٌ من الغموض لا يقضي بتخطئتها . ولو فعلنا ذلك ، لكان لنا أن نبطلَ كثيرًا من رواياتِ الشعرِ . ولو جازَ هذا ، وأشباهُه [ وتأمَّل كلمة " لو " ] ، لكانَ لي أن أقول :
    إن الصوابَ : « باليًا أثوابي » . وأما « عاريًا أثوابي » ، فمغيَّرة منها . ودليل ذلك أربعة أمور :
    الأول : أنَّها روايةُ أبي عليّ القالي خاتمةِ الحفَّاظ ؛ بل روايةُ شيخِه أبي بكرٍ الأنباريِّ الحافظِ الكبير في « الزاهر 1 / 461 » . ولعلَّه تلقَّاها عنه شِفاهًا . هذا غيرُ ورودِها في « الشعر والشعراء » .
    الثاني : أنَّ الرِّوايةَ الأخرَى رِوايةَ ( عاريًا أثوابي ) أولُ مَن رواها – في ما أعلمُ – أبو تمَّام في « الوحشيات 256 » ، ومعلومٌ عن أبي تمامٍ تغييرُه للرِّواية .
    الثالث : أنَّ الأصلَ في الرِّواية ، وفي كثير من الأشياء أن يُحمَل الغريب منها على المعروف ، والمغمور على المشهور ، والخفيُّ على الواضح . و ( باليًا أثوابي ) أدنَى أن تكونَ هي الأصلَ لخروجِها عن الظاهر ، ثمَّ غُيِّرت إلى ( عاريًا أثوابي ) ، وليس العكس .
    الرابع : أنَّ هذا البيتَ إنما هو اهتِدامٌ لبيت النابغة الجعديِّ :
    أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أوصالي
    حيث نسخَه ، ولم يغيِّر فيه إلا الكلمةَ الأخيرةَ . وليس لبيت النابغة إلا هذه الرّوايةُ . وهبْنا غيَّرنا ( باليًا أثوابي ) ، فماذا نصنع بهذا البيت ؟ أوليست أوصالُ المرء لا تبلَى إلا بعد مدَّة من دفنِه ؟
    فهل نبطلُه ، ونخرجه من عِداد الشِّعر ؟

    وبعدُ ،
    فهذا كلامٌ أردتّ أن أبيِّن به أنا لو أسلمنا تراثَنا إلى أذواق المحقِّقين ، واستحساناتِهم ، لوجدنا من يخطِّئ ما صحَّحَه السيد صقرٌ ، ويصحِّح ما خطَّأه . وهكذا يصبحُ التراثُ ألعوبةً تتعاورُها الأيدي ، لأنَّ العقولَ تختلِفُ ، والأذواقَ تتبايَنُ ، وكل إنسان بعقلِه واثقٌ ، وبذوقِه راضٍ ، معجَبٌ .

    تنبيه :
    خطَّأ السيِّد صقر بعد هذا رِوايةَ ( وقدَّمت الأديمَ ) . وهذا بالغ العجبِ . وقد بيَّنت ورودَها – غيرَ مستوعبٍ – في أكثرَ من عشرةِ مراجعَ ، وبيَّنتُ أيضًا أنها إلا تكن أبلغَ من الأولَى ، فهي مثلُها . وانظر ما ذكرَه الأستاذ محمود شاكر في حاشية « طبقات فحول الشعراء 1 / 76 » .

  2. #82

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    المسألة الرابعة :
    تحقيق مادة " الضرح "


    ذهب ابن فارس إلى أن هذه المادة أصلان . ولعلَّ الصواب أنها ثلاثة أصولٍ ، هذا بيانُها :
    الأصل الأول :
    إبعاد الأشياء الصغيرة الجِرم بعُنف ( أي : بشيء من الجهد ) . وإن شئتَ تعريفَها بمرادفها ، قلتَ : ( هي بمعنى : الرمي ، أو الطرح ) .

    = ومن صور استعمالها حقيقةً :
    1- ضرْحُ الحصَى ، كما قالَ الشاعر :
    فلما أن أتين على أُضاخٍ *** ضَرَحْنَ حصاه أشتاتًا عِزِينا
    2- ضرْحُ السَّهم ، كما قالوا : ( قوسٌ ضَروح ) : إذا كانت شديدةَ الرمي للسهم .
    3-ضرْحُ القذَى ، كما قال أبو تمام :
    شوقٌ ضرحتُ قذاتَه عن مشربي *** وهوًى أطرتُ لِحاءَه عن عُودي

    = ومن صور استعمالها مجازًا :
    1- ضرْحُ الرجُلِ ، كما قالوا : ( اضطرحوا فلانًا ) : إذا رمَوه في ناحية ، وتكون كأنك شبهتَه بالأشياء التي ترمَى ، كالحصَى ، ونحوها . وهذه استعارة مكنيَّة . وفيها من البلاغة ، وحسن التصوير ما لا يخفَى . وفي « اللسان » ط بولاق ، وصادر ، في هذا الموضع تصحيفٌ ؛ قال : ( وجائز أن يكون اطَّرحوه افتعالاً من الطرح ) ، والصواب ( الضرح ) ، كما في « التهذيب » ، وكما يدل عليه تمامُ الكلام .
    ومنه ضرحُ النيَّة لصاحبِها ، كما قالوا : ( نيَّة ضرَح ) .
    2- ضرْحُ الشَّهادة ، كما قالوا : ( ضرحت شهادة فلان ) : إذا رميتَها ، ولم تعتدَّ بها . وهي استعارةٌ مكنيَّة أيضًا .
    3-ضرْحُ العارِ ، ونحوِه من المعاني غيرِ الحسيَّة ، كما قال ابن الرومي :
    سلاحي لِسانٌ لا يُفَلّ ، وجُنَّتي *** أديمٌ صحيحٌ يضرَح العارَ أملسُ
    وهي استعارة مكنيَّة أيضًا .
    4- ضَرْحُ الكَلام ؛ فقد قالوا : ضارحَه ، بمعنى سابَّه ، وشاتمَه ، على جهة الاستعارة التصريحية التبعية ؛ كأنَّه راماه بالحجارة .
    5- الرَّمحُ بالرِّجْل ، كما قالوا : ( فرس ضروحٌ ) . وذلك أنَّ من لوازمه غالبًا الضرحَ . ومنه قول الأفوه الأوديِّ :
    والخيرُ لا يأتي ابتغاءٌ به *** والشَرُّ لا يُفنيه ضَرْحُ الشّموسْ
    وهو مجاز مرسَلٌ، عَلاقته اللازميَّة .

    + تصاريفُه ( المسموعُ منها ممَّا لا يوجِبه القياس إيجابًا ) :
    يقال : ضرَحه يضرَحه ، من باب ( فتح ) ، ضَرْحًا ( وهو مصدرٌ قياسيّ ) ، وضِراحًا ( وهو خاصٌّ بالرَّمح بالرجلِ . وهو قياسيّ في ذلك لدَِلالته على الامتناع ، كالإِباء ، والنِّفار ، والفِرار ، والشِّماس . ذكرَه سيبويه ) .
    فانضرحَ ( وذلكَ في المعاني المجازيَّة خاصَّةً ) .
    واضطَرحه ( ويكثر استعمالُه في رمي الرجُلِ ، لثِقَلِه ؛ فزادوا في المبنَى لزيادة المعنَى ) .
    وضارحَه مضارحة ( وهو مصدر قياسي ) ، وضِراحًا ( والأصح أنه سَماعيّ ) .
    وفي « اللسان » ط صادر ، تصحيفٌ أدَّى إلى زيادة تعدية هذا الفعل بالهمزة ؛ وذلك قوله : ( وأضرحه عنك ، أي : أبعده ) ، والصواب - نصًّا لا تفسيرًا - : ( واضرحْه عنك ، أي : أبعِدْه ) كما في « الصحاح » ، وكما يَدلّ عليه سائرُ المادَّة .
    وصيغة المبالغة من ( ضرَحَ ) : ضَروحٌ ( وهي قياسية )
    و : ضرَحٌ ( وهي على غير قياس متلئبّ ، ولا تدخل التاء على مؤنثها )
    وقالوا : ( رجلٌ ضَريحٌ ) . وهو فعيلٌ بمعنى مفعول ، كما قالوا : جريح ، بمعنى مجروح ، وقتيل ، بمعنى مقتول . والمراد أنَّه كالمرميِّ بعيدًا .
    وقالوا : ( رجلٌ ضَرَح ) بمعنى ( فاسد ) . و ( ضرَح ) هنا نائبٌ هنا عنِ المفعول ، كـ ( حسَب ) ، و ( عدَد ) ، و ( قنَص ) ، و ( ووَلَد ) ، إلا أنَّه لا يَزال باقيًا على وصفيَّته . وتأويلُه : ( المرميّ لفساده ) .

    = التفريعات الاشتقاقية على الأصل الأول :
    خصَّصتِ العربُ سببًا من أسبابِ ( الضَّرْح ) بمعنى ( الرَّمي ) من طريق ( التغيير بالزيادة ) ؛ فقالوا : ( أضرحَه ) بمعنى ( أفسدَه ) . وذلك أنَّ ( الفسادَ ) سببٌ من أسباب الرَّميِ ؛ إذْ كان معنًى من المعاني اللازمة التي لا تُجاوِز صاحبَها . فلمَّا بقِيَ على أصلِه ثلاثيًّا مجرَّدًا ، احتاجوا إلى بناء آخرَ يدلُّون به على إيقاعِ الفسادِ ؛ فأخذوا بالقياسِ الغالبِ ؛ وهو التعديةُ بالهمزةِ ؛ فزادوا ( أفعلَ ) لهذا الغرضِ .
    على أنَّ في ثبوت هذا المعنَى نظرًا ، لأنَّ مرجعه إلى المؤرِّج السَّدوسيِّ ، وقد قال الأزهريّ في « التهذيب » : ( وكلّ ما جاء عن المؤرّج فهو ممَّا لا يعرَّج عليه إلاّ أن تصحّ الرواية عنه ) . ولا ندري مَن رَوى هذا عنه .

    + تصاريفُه :
    يقال : أضرحتُ فلانًا ، والسوقَ ، ونحوَها فضرحَ يضرَح ( من باب فتح ) ضُروحًا ( وهو مصدر قياسي ) ، وضَرْحًا ( وهو سَماعي عند أكثرهم في اللازم ) .

    الأصل الثاني :
    الشَقُّ . وغلَبَ على شَقِّ القبر .

    + تصاريفُه :
    يقال : ضرحَه يضرَحه ( من باب فتح ) ضَرْحًا ؛ فانضرحَ .
    وقولهم : ( ضريح ) للقبرِ فعيلٌ بمعنَى مفعول . وهو اسمٌ غيرُ وصفٍ . وقد زادوا التاء في آخِره توكيدًا للنَّقلِ ؛ فقالوا : ( ضريحة ) ، كما قالوا : ( طبيعة ) ، و ( خليقة ) .

    الأصل الثالث :
    اللونُ الأبيضُ ؛ يقال : نسرٌ مَضْرحيٌّ ، وصقرٌ مَضْرحيٌّ ، كما قال طرفة :
    كأنَّ جناحَي مَضرحيٍّ تكنَّفا *** حِفافَيه شُكّا في العسيبِ بمِسردِ
    فحذفَ الموصوفَ لدلالة الكلام عليه .
    ورجلٌ مضرحيٌّ ، كما قال جرير :
    بأبيضَ من أميةَ ، مَضْرَحيٍّ *** كأنّ جبينَه سيفٌ صَنيعُ
    فأتَى بـ ( مَضْرحي ) بعد ( أبيضَ ) توكيدًا ، كما تقول : ( أبيض يقََق ) . والبياضُ مما تمتدح به العربُ ، كما قال زهيرٌ :
    أغرّ ، أبيضُ ، فيَّاضٌ ، يفكِّك عن *** أيدي العناةِ ، وعن أعناقِها الرِّبَقا
    وكما قال أبو طالب :
    وأبيض ، يُستسقَى الغَمامُ بوجهِه *** ثِمال اليتامى ، عصمة للأراملِ
    إذْ كان رمز الصفاء ، والنقاء . وهم لا يريدونَ بهذا وصفَه بالبياضِ حقيقةً ؛ وإنما يريدونَ أنه طاهرٌ ، لم يخالطه دنَسٌ ، كالشيء الأبيضِ ؛ فهو استعارة تصريحية تبعية . ومتى وافقَ هذا بياضًا في الممدوح ؛ كانَ أبلغَ ، وأوفقَ .

    + تصاريفه :
    لم يجئ منه إلا ( مَضْرَح ) ، و ( مَضْرَحِيّ ) . والياء في آخرِه ليست ياء النسب ؛ وإن كانت على صورتِها ؛ فهي كـ ( كرسيّ ) ، و ( بُخْتي ) ؛ إلا أنه مشتقٌّ ، غيرُ جامد .

    = الأعلام :
    ذكروا من الأعلام ( الضُّراح ) – وهو بيت في السماء - ، وقيل : ( الضريح ) ، و من أسماء الرجال ( ضَراح ) ، و ( مضرِّح ) ، و ( ضارح ) ، و ( ضُريح ) ، و ( مَضْرحي ) .


    - وللحديثِ حواشٍ ، نوردُها - إن شاء الله - .

  3. #83

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    حواشٍ على ما تقدَّم :
    1- تعريف ( الضَّرْح ) بـ ( الدفع ) غير صالحٍ ؛ إذ هو من تعريف الشيء بالمبايِن له ؛ ذلك أنَّ طريقةَ ( الدفع ) غيرُ طريقة ( الضَّرْح ) ؛ فالدفعُ – في حقيقته - إزجاء الشيء من غير قبضٍ له ، و ( الضَّرْح ) – والرميُ مثلُه – غالبًا ما يكون عن قبضٍ . وأما قوله تعالى : (( فادفعوا إليهم أموالهم )) ؛ فمضمَّن معنَى ( أوصلَ ) . وللتضمين حدٌّ لا أعرف أحدًا تقدَّمني إليه ، ذكرتُه في كتاب لي سيصدر إن شاء الله تعالى .
    والمفعول في ( الدفع ) قد يكون صغيرًا ، كما تقول : دفعتُ الكأسَ ، وقد يكون كبيرًا ، كما قال الحماسيّ :
    دفعناكم بالكَفِّ حتى بطِرتمُ *** وبالرَّاحِ ، حتى كان دفعُ الأصابعِ
    و ( الضَّرْح ) كما سلفَ لا يكون مفعولُه – في الحقيقة – إلا صغيرًا .
    2- تعريف ( الضَّرْح ) بـ ( التنحية ) غيرُ صالحٍ أيضًا . وقد تقدَّم في أصل الحديث بيان ذلك .
    3- فسَّر بعضُ اللُّغويِّين ( الانضراح ) ، و ( الضَّرْح ) بـ ( التباعد ) ، و ( الاتِّساع ) . وهذا تفسيرٌ غيرُ دقيق ؛ إذ هو تفسير باللازمِ ؛ وهو أخصُّ من المعرَّف . ذلك أنَّ ( الانضراح ) ، و ( الضَّرْح ) في أحد معنييه هو الانشقاق – كما بينتُ - ؛ والشيء إذا انشقَّ ، تباعدَ طرفاه ، واتَّسَع وسَطُه ؛ ولكنَّه ليس ( تباعدًا ) مطلَقًا ، كما أنك لا تقول : ( انشقَّ الشيء ) ، ولا ( شققتُه ) تريد ( بعُد ) ، و ( أبعدتُّه ) . وهذا التفسيرُ غيرُ الدقيقِ أوقعَ المتعقِّبَ في سوء فهم ؛ فظنَّ ( الانضراح ) بمعنَى ( التباعد ) مطلَقًا ؛ وإذا كان كذلك ، فـ ( ضرحَه ) بمعنى ( أبعدَه ) ، ثم ( الضرح ) كلُّه بأصوله بمعنى ( البعد ) ، إلى آخر هذا التخليط العجيب .
    4- ( المضارحة ) التي زادَها بعضهم ، وذكرَ أنها بمعنَى ( المقابلة ) لا أعلمُ لها دليلاً من السَّماع ؛ وإنما ( المضارحة ) المراماة ، حقيقةً ، أو مجازًا ؛ فلا يصِحّ أن تفسَّر حين إذٍ بـ ( المقابلة ) بإطلاق ؛ فلو قيلَ : ( المقابلة بالرمي ، أو السبّ ، ونحوه ) ، لكانَ مقارِبًا .
    5- لا يَدلُّ ( الضَّرْح ) بمعناه المجازيِّ على ( الإبعاد ) ؛ وإنما معناه ( الرَّمي ) ؛ ولذلك لا يكون مفعولُه إلا مكروهًا ، منبوذًا ، كالعار ، والشرِّ ، والخلقِ السيئ ، أو ما يَجري مَجراه ، ولا يقال : ضرحَ الإنسانُ نفسَه .
    6- قلتُ عن الجوهريِّ : ( ولم يحسن الجوهريُّ الإبانة عن المعنى كما تستعمله العرب ) ، ولم أقل : ( إنه لم يَفهم المعنى ) ؛ فقد يكون فهِمه ، ونقلَه من طريقٍ أخرَى ؛ ولكنَّه لم يستحضِر الفرقَ بينهما ، أو لم يسعفه البيان ، أو تجوَّزَ في كلامه .
    7- قول بعضهم : ( قبل أن ننضرح ) لا معنى له هنا ؛ إذ الانضراح هو الانشقاق ، أو قبول الشيء المكروه ، كالقذى ، والعار ، للضَّرْح . وقوله : ( أضرحنا الله ) لا معنَى إلا ( أفسدنا ) ، وقوله : ( ولعلَّ هذا هو الذي دفع بالسيِّد إلى اختيار " يُضْرِح " بدلاً عنها ) كذبٌ على السيِّد ، وجهلٌ بأن ( ضرَحَ ) بالمعنى الذي أرادَ يتعدَّى بنفسه .
    8- ذكر من حاولَ التعقُّب أني وقعت في تدليس خفي مشين حين ضبطت ( يُضرِع ) هكذا وَفقًا لمتن الكتاب ، مع أنها مضبوطة في المقدِّمة ( يَضرَع ) ، ثم أعملَ سوءََ الظنّ ، والتجنيَ ، وعدمَ الإنصاف ؛ فزعمَ أني ما فعلت ذلكَ إلا ليستقيمَ لي توهيم السيِّد كلَّ الاستقامة . وأنا لا أبالي بمثل هذا ؛ فالرمي بالتدليس ، والكذب ، والسرقة .... إلخ من لوازم الردود عند بعضهم ، وقد اعتدتُّها ؛ ولكنِّي عجِبت حقيقةً من قطعِه بأني ما فعلت ذلك إلا ليستقيمَ لي توهيمُ السيِّد صقر كلَّ الاستقامة . ووالله لقد ما كان هذا لي غرضًا ، ولا أنا ممَّن يفعل ذلك . وحقيقة الأمر أني وجدتُّ ( يضرع ) هذه متعديةً إلى ( نفسَه ) ، و ( يَضْرَع ) إنما يتعدَّى بالهمزةِ قولاً واحدًا ؛ فيقال حين إذٍ : ( يُضرِع ) ، ولا يَجوز ( يَضْرَع ) ، ثم وجدتُّها في المتن مصحَّحة إلى ( يُضرِع ) ؛ فقلتُ : إما أن يكون هذا خطأ طباعيًّا ، وخاصةً أني وجدتّ أشياء في المقدِّمة على غير الصواب ، كقوله : ( وآب ذو المحضر البادي إبابته ) . والصواب ( وأبَّ ) ، وهو كذا في المتن .
    وإما أن يكونَ شيئًا رجعَ الشيخ عنه ؛ فلِمَ أبقِي عليه وقد رجع عنه ، معَ ما في هذا من شَغل لذهن القارئ ؟
    ولا أدري كيفَ يستقيمُ لي بهذا توهيم السيِّد كلَّ الاستقامة ؛ لأن هذا الضبط إن لم يكن خطأ طباعيًّا كما أرجِّح ، فهو من تصرُّف الشيخ شاكر ، وليس اعتمادًا منه على طبعة ( ليدن ) ، لأنها في طبعة ( ليدن ) – وقد رجعت إليها – مضبوطة هكذا ( يُضرِع ) .
    ولا أدري كيفَ يستقيمُ لي بهذا توهيم السيِّد كلَّ الاستقامة ، ولو كان فيها دليل على صِحَّة ( يَضرَح ) ، لاحتجَّ به السيد صقرٌ .
    فقد تبيَّن أنَّ ضبطَ ( يُضرِع ) كما هي في المقدِّمة هكذا ( يَضْرَع ) لا يؤيِّد رأيَ صقر ، ولا يدفعُه ؛ بل يسيء إليه ، وإلى الشيخ شاكر رحمهما الله .
    9- احتجَّ من حاول التعقُّبَ بقول الأفوه الأودي :
    والخيرُ لا يأتي ابتغاء به *** والشرُّ لا يُفْنيه ضَرْح الشّموس
    على أن الشَرَّ يُضرَح ؛ وإذا كان يُضرَح ، فكذلك اللؤم ، لأنه قريب منه ! ثم ذكر أنه لو لم يكن في كلام العرب إلا هذا البيت ، لكفى به حجةً قويةً للسيد صقر .
    وقد استعجل هذا المتعقِّب استعجالاً أركسَه في الخطأ ؛ فأينَ وقعَ ( ضَرْح اللؤم ) في قول الشاعر :
    إذا المرءُ لم يَضرَح عن اللؤمِ نفسَه
    إذ المضروح – لو اخترنا هذه الكلمةَ – هو ( النفس ) ، لا ( اللؤم ) . و ( اللؤم ) مضروح عنه ، لا مضروح !
    10- أنكرَ المتعقِّب تفسيري لـ ( يُضرِع عن اللؤم نفسَه ) بأنه ( يُذِلّها مباعدًا لها عن اللؤم ) . وحجته هي أن نسافر عبرَ الزمن ، ونسأل كلّ الأعراب ، هل يقول ذلك منهم أحدٌ ؟
    وهذه حجَّة جيِّدة !

    خلاصة القول :
    بما تقدَّم تفصيلُه يتبيَّن أنَّ ( الضَّرْح ) بجميع أصوله ، وتفريعاته لا يأتي بمعنى ( البُعدِ ) بإطلاقٍ ، لا حقيقةً ، ولا مجازًا . وإذا كان كذلك ، كانَ ما اقترحه السيد صقر غيرَ صوابٍ . وزدْ على امتناعِ معنى ( الضَّرْح ) هنا ما اعتضدتُّ به من ضَعف معنى البيت لو سلَّمنا أن ( يَضْرَح ) بمعنى ( يُبعِد ) ، وما احتججتُ به من ثبوتِ الكلمة في « المجالسة وجواهر العِلْم » : ( يُضرِع ) ، وفي « عيون الأخبار » : ( يَصْرَع ) . ولا مدخلَ لـ ( يَضرَح ) بينها .

    والحمد لله أولاً ، وآخِرًا .

  4. #84

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    تنبيه :
    هناك مسألة أخطأتُ فيها ، أذكرُها إحقاقًا للحقِّ ، وطلبًا للإنصاف ؛ وهي أني قلت : إن السيِّد صقرًا لم يفهم معنى الزيادة عند النحاة ، لكلام قاله . وقد ذكر المتعقب أن بعض العلماء اصطلحوا على تسمية ( ما ) الزائدة غير الكافة ( زائدة ) ، وتسمية الزائدة الكافة ( كافة ) ، ولا يسمونها زائدة طلبًا للإيجاز . وإذا كان ذلك كذلك ، كان إنكار صقر لتسميتها زائدة محتمَلاً أن يكون على هذا الاصطلاح ، ويحُلّ حينَ إذ في منجاة من اللوم . والله يغفر لنا ، وله .

  5. #85

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    استدراك :

    هذا تعقيب يضاف إلى التعقيبات السابقة على نقد السيد صقر .
    7- قال السيِّد صقر ( 1 / 21 ) :
    ( من شعر هشام أخي ذي الرمة :
    حتى إذا أمعروا صفقَي مباءتهم *** وجرَّد الخُطْبُ أثباجَ الجراثيمِ
    ...
    شرحَ الأستاذ [ يعني شاكرًا ] البيت الأول بقوله : ( أمعروا : أكلوا . الصفقتان : الناحيتان . المباءة : منزل القوم حيث يتبوءون . الخُطْب : جمع أخطَب ، وهو الحمار تعلوه خضرة ) . [ قال صقر ] وهو خطأ ، لأن الشاعر لم يرِد بالخُطْب الحميرَ ؛ وإنما أراد النوق التي كانت ترعَى ... ) ا . هـ .

    قلتُ :
    جهَدَ الأستاذان نفسيهما في تفسير ( الخُطْب ) ، والاحتجاج لها ؛ فلم يهتدِيا إلى غايةٍ ، ولا أبانا عن معنًى . ذلكَ أنَّ هذه الكلمة مصحَّفة عن ( الحَطْب ) بالحاء المهملة ، مصدَر ( حطَبَ ) ؛ فصواب البيت :
    *** وجرَّد الحَطْبُ أثباجَ الجراثيم ***
    والأثباج هنا : الأعالي .
    والجراثيم : جمع جرثومة . وهي الترابُ يكون أصلاً للشجرة ، ويكون مرتفعًا عما حولَه .
    يريد : أنهم لما أكلوا ما قِبَلَهم من النبات ، ورعَوا ما حولَهم من المرعَى ، وجرَّد الاحتطابُ أصولَ الشجر من الشجر ، على حينِ إدبار من الربيع ، وإقبال من الصيفِ ، ردُّوا الجمالَ ؛ فانصرفوا إلى أعدادِهم ، ومياههم التي كانوا عليها ، وقد سمِنت جمالُهم ، ونما وبَرُها ، كما قال في بيت بعده :
    عركركٍ ، مهجر الضؤبان ، أوَّمَه *** روضُ القِذاف ربيعًا أيَّ تأويمِ
    و ( أوَّمَه ) : سمَّنه .
    وكما قال الشماخ :
    تربعَ أكنافَ القَنانِ ، فصارةٍ *** فماوانَ ، حتى قاظَ وهو زهومُ
    أي : سمين .
    ويصحِّح بيتَ هشام المتقدِّمَ قولُ ذي الرمَّة أخيه :
    به عرصاتُ الحيِّ قوَّبن متنَه *** وجرَّد أثباجَ الجراثيم حاطبُهْ
    وهو ثابت على الصواب في « العباب » ، و « التكملة » ، و « تاج العروس » . ومعدولٌ عنه في « التهذيب » ، و « اللسان » .
    وفي هذه القصيدة أخطاءٌ كثيرةٌ من التصحيفِ ، والتحريفِ ، ورداءة الشرحِ ، تركتُ التعرُّض لها ، لأنها ليست داخلة في حدِّ ما ذكرنا .

  6. #86

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    خاتمة

    وبعد ،
    فلم يكن حسنًا ، ولا مقبولاً أن يدَّعي مدَّعٍ أني مخْطِئ في (( جميع )) تخطآتي لصقر ، وأنه ما حملني على ذلك إلا كذا ، وكذا من الأغراض السيئة التي لو أقررناها ، لكان يجب أن تنطبِق على كلّ ناقد ، وأولُهم هذا المتعقِّب في نقده لـ ( حلاق ) ، ونقده لكلامي ، وصقر في نقده لتحقيق ( شاكر ) . وأنا لا أدري كيف يسمِّي ( النقد ) ( اصطيادًا للعثرات ) مع أنه أول فاعل له ، على أني لم أخطِّئ صقرًا في شيء من تحقيقاته ؛ وإنما كلُّ الأمر أن صقرًا أنكرَ رواياتٍ صحيحة من كلام العرب ، ولجَّ في نفيها ، فقمت أدافع عنها ، وأثبت صحَّتها .
    وقد تبيَّن في التعقيبات الأخيرة بحمد الله أني لم أظلمه في ما قلتُ ، إلا كلمة تحرجتُ منها ، وبينت الصواب فيها .
    ذلك ، وقد أعرضت عن كثير من اللغو ، والتهريج ، والكلام الذي لا يُشرّف صاحبه ، ولا يليق أن يصدر من طالب عِلْم ، وتركت الجواب عن بعض ما ألفيتُ جوابَه قائمًا فيه .

    والحمد لله ربِّ العالمين .

  7. #87

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو قصي المنصور مشاهدة المشاركة
    خاتمة


    وبعد ،
    فلم يكن حسنًا ، ولا مقبولاً أن يدَّعي مدَّعٍ أني مخْطِئ في (( جميع )) تخطآتي لصقر ، وأنه ما حملني على ذلك إلا كذا ، وكذا من الأغراض السيئة التي لو أقررناها ، لكان يجب أن تنطبِق على كلّ ناقد ، وأولُهم هذا المتعقِّب في نقده لـ ( حلاق ) ، ونقده لكلامي ، وصقر في نقده لتحقيق ( شاكر ) . وأنا لا أدري كيف يسمِّي ( النقد ) ( اصطيادًا للعثرات ) مع أنه أول فاعل له ، على أني لم أخطِّئ صقرًا في شيء من تحقيقاته ؛ وإنما كلُّ الأمر أن صقرًا أنكرَ رواياتٍ صحيحة من كلام العرب ، ولجَّ في نفيها ، فقمت أدافع عنها ، وأثبت صحَّتها .
    وقد تبيَّن في التعقيبات الأخيرة بحمد الله أني لم أظلمه في ما قلتُ ، إلا كلمة تحرجتُ منها ، وبينت الصواب فيها .
    ذلك ، وقد أعرضت عن كثير من اللغو ، والتهريج ، والكلام الذي لا يُشرّف صاحبه ، ولا يليق أن يصدر من طالب عِلْم ، وتركت الجواب عن بعض ما ألفيتُ جوابَه قائمًا فيه .


    والحمد لله ربِّ العالمين .
    لا يزال يراعكم بالحق ممدودا .. وبالتسديد والتوفيق من الله - سبحانه وتعالى - موصولا .. آمين .. .
    وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعُودَ الجِبَالْ
    يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ

  8. #88
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    35

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    بارك الله فيك أخي فيصل، وزادك من واسع فضله علماً وعقلاً

    ولقد أحسنتَ في الإعراض عمّا لا ينفع صاحبه يوم يلقى ربَّه عزّ وجلّ.

    وكمال محاسنك في (أن تعامل مَن سبقك بما تحب أن يعاملَك به من لحقك).

  9. #89
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    106

    افتراضي رد: تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب ( الشعر والشعراء )

    أخي أبا قصي ...
    رفع الله قدرك ، وأبقى ذكرك .
    كلام متين مرصَّع ، جميل منمق ، ينبئ عن علم وفير ، وعقل كبير ...
    لا حرمنا الله منك

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •