المسألة الثالثة :
هل رواية " باليًا أثوابي " خطأ ؟
قال السيد صقر ( 1 / 10 ) :
( وقال الآخر :
أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أثوابي
...
وهو خطأ ، والصواب :
... *** وخرجت منها عاريًا أثوابي
... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب ؛ بل يخرج منها عاريًا ) ا . هـ .
فقلت في أصل الموضوع :
( هذا ليس خطأ كما ذكرَ ؛ فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي ( ت 356 هـ ) في « أماليه 2 / 279 » . ويمكنُ أن يُّخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ ( ت 487 هـ ) في « اللآلي 2 / 922 » :
أحدُهما : أن الأكفانَ لا تكون إلا مما بلِيَ عادةً .
الآخر : أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ ؛ أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى ، كما قالَ تعالى : إني أراني أعصر خمرًا ، وكما يقال : قتلتُ القتيلَ . و يشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي :
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أوصالي
وهو شاهدٌ للسماعِ ، لأنه اهتدمَ هذا البيتَ ؛ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة ، وشاهدٌ للقياسِ ، لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا ؛ وإنما تبلَى بعد ذلك ) ا . هـ .
ولمزيد من البيان أقول :
السيد صقر كما يرَى القارئ لم يرجِّح رواية على رواية ، ولم يقل : إن هذه أصحّ من تلك . ولو فعل ذلك ، لكانَ محتمَلاً مقبولاً ؛ ولكنَّه تجاوزَ ذلك ؛ فحكمَ على رِواية رَواها بعضُ العلماء المتقدِّمين بالتخطئة . وهذا ممَّا لا ينبغي لهُ ، ولا لغيرِه ؛ وإنما يحِقُّ للمحقِّق أن يُعمِل مرجِّحاتِ الحُكْمِ بالتحريف إذا امتنعَ قَبولُها من جهةِ الرِّواية ، أوِ القياسِ امتناعًا .
وكونُ الرِّواية تحتاج إلى شيء من التأويل ، أو فيها قدرٌ من الغموض لا يقضي بتخطئتها . ولو فعلنا ذلك ، لكان لنا أن نبطلَ كثيرًا من رواياتِ الشعرِ . ولو جازَ هذا ، وأشباهُه [ وتأمَّل كلمة " لو " ] ، لكانَ لي أن أقول :
إن الصوابَ : « باليًا أثوابي » . وأما « عاريًا أثوابي » ، فمغيَّرة منها . ودليل ذلك أربعة أمور :
الأول : أنَّها روايةُ أبي عليّ القالي خاتمةِ الحفَّاظ ؛ بل روايةُ شيخِه أبي بكرٍ الأنباريِّ الحافظِ الكبير في « الزاهر 1 / 461 » . ولعلَّه تلقَّاها عنه شِفاهًا . هذا غيرُ ورودِها في « الشعر والشعراء » .
الثاني : أنَّ الرِّوايةَ الأخرَى رِوايةَ ( عاريًا أثوابي ) أولُ مَن رواها – في ما أعلمُ – أبو تمَّام في « الوحشيات 256 » ، ومعلومٌ عن أبي تمامٍ تغييرُه للرِّواية .
الثالث : أنَّ الأصلَ في الرِّواية ، وفي كثير من الأشياء أن يُحمَل الغريب منها على المعروف ، والمغمور على المشهور ، والخفيُّ على الواضح . و ( باليًا أثوابي ) أدنَى أن تكونَ هي الأصلَ لخروجِها عن الظاهر ، ثمَّ غُيِّرت إلى ( عاريًا أثوابي ) ، وليس العكس .
الرابع : أنَّ هذا البيتَ إنما هو اهتِدامٌ لبيت النابغة الجعديِّ :
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أوصالي
حيث نسخَه ، ولم يغيِّر فيه إلا الكلمةَ الأخيرةَ . وليس لبيت النابغة إلا هذه الرّوايةُ . وهبْنا غيَّرنا ( باليًا أثوابي ) ، فماذا نصنع بهذا البيت ؟ أوليست أوصالُ المرء لا تبلَى إلا بعد مدَّة من دفنِه ؟
فهل نبطلُه ، ونخرجه من عِداد الشِّعر ؟
وبعدُ ،
فهذا كلامٌ أردتّ أن أبيِّن به أنا لو أسلمنا تراثَنا إلى أذواق المحقِّقين ، واستحساناتِهم ، لوجدنا من يخطِّئ ما صحَّحَه السيد صقرٌ ، ويصحِّح ما خطَّأه . وهكذا يصبحُ التراثُ ألعوبةً تتعاورُها الأيدي ، لأنَّ العقولَ تختلِفُ ، والأذواقَ تتبايَنُ ، وكل إنسان بعقلِه واثقٌ ، وبذوقِه راضٍ ، معجَبٌ .
تنبيه :
خطَّأ السيِّد صقر بعد هذا رِوايةَ ( وقدَّمت الأديمَ ) . وهذا بالغ العجبِ . وقد بيَّنت ورودَها – غيرَ مستوعبٍ – في أكثرَ من عشرةِ مراجعَ ، وبيَّنتُ أيضًا أنها إلا تكن أبلغَ من الأولَى ، فهي مثلُها . وانظر ما ذكرَه الأستاذ محمود شاكر في حاشية « طبقات فحول الشعراء 1 / 76 » .