بارك الله فيكم يا دكتور أيمن. هذا طرح مهم ويحتاج إلى تأمل ودقة في التناول والتحرير.
عبارة "الغاية تبرر الوسيلة" على هذا الإطلاق الذي اشتهرت به تقوم على مبدإ العواقبية الأخلاقية Consequentialism وهو المبدأ القائل بأن الطريق إلى معرفة ما إذا كان العمل صحيحا أم فاسدا إنما هو النظر في عواقبه، بمعنى أن النظر في عواقب الفعل يكفي لتسويغه أيا كان ذلك الفعل، فإن كانت العواقب صالحة، فالوسيلة أيا كانت تسوغ لأجل تلك العواقب أو الغايات. وهذا الإطلاق باطل، وعلة بطلانه في العقل أن المرجعية التي يحكم بها على الغايات ينبغي أن تكون هي ذات المرجعية التي يحكم بها على الوسائل، وإلا اختل ميزان النظر ووقع التناقض. فعندما يقول فلاسفة العواقبية إن الفعل (س) حكمه أنه صالح لأن الغاية المرادة منه (ص ) صالحة، فإنهم مطالبون في ذلك بأن يثبتوا أولا أن (س) مجرد من علة أخلاقية لمعنه في نفسه، وإن وجدت تلك العلة المانعة، فهم مطالبون حينئذ بتقديم البرهان على أنها أدنى في الدرجة والمنزلة من العلة التي عمدوا من أجلها إلى تعطيلها وتجاوزها، وحينئذ فقط يصح لهم أن يقولوا إن الغاية (ص ) قد "بررت" الوسلية (س)!
وهذا الضابط، أعني النظر في علل التشريع (سواء الإباحة أو المنع) مرجعه عندنا في جميع الأحوال إنما هو الشرع المطهر، بخلاف فلاسفة الأخلاق الذين لا يجدون له مرجعا إلا الذوق والرأي المجرد.
ولهذا فعندما يعترض بعض الفقهاء والأصوليين على إطلاق قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) فإن اعتراضهم مبناه اتفاقهم على أن الغاية والوسيلة جميعا إنما يرجع في الحكم عليهما إلى الشرع بنصوصه وقواعده ومقاصده، فسواء الغاية أو الوسيلة، كلاهما خاضع للأحكام الخمسة جميعا. ولذا فمهما كانت الغاية رفيعة ومهما كان المقصد مشروعا فإن من الوسائل التي قد تُطرق إليه ما لا يجيزه النص أو القياس، أو يمنعه النظر في قواعد الفقه الكلية الحاكمة للترجيح بين مفسدتين أو مصلحتين عند امتناع الجمع. فما كان محرما بالنص الصريح فإنه لا مصلحة ولا غاية ولا مقصد يجيزه إلا ما كان من ضرورة تقدر بقدرها. ومع أن اجتناب الضرر "غاية" من حيث اللغة، قد يجوز التوسل إليها بالمحرم والممنوع، إلا ان هناك ضابطا في هذا التجوز تفتقر إليه قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، ألا وهو حقيقة الاضطرار نفسه في الاصطلاح الشرعي، التي هي بمعنى عدم الطرق المشروعة المفضية إلى دفع الضرر. فلو أن آكل الميتة اتقاء الموت جوعا وجد ما يجوز أكله من سواها لم يجز له أكلها، وحينئذ لا توصف حالته في اصطلاح الشرع بأنها ضرورة أصلا! ومعلوم أن المحرم بالنص يدور تحريمه مع علته وجودا وعدما. فإن تقرر الوصف الصحيح للعلة فإن تعطيلها عند الوضع لا يستساغ إلا للضرورة. أما قاعدة العواقبية على المنطوق الذي بين يدينا فلا قيد فيها ولا مرجعية كما تقدم!
والذي يظهر لي أن الأصل الكلي العام الذي يحكم بابنا هذا يتلخص في ترجيح تجاوز علة المنع لعمل ما (سوا كانت العلة منصوصة أو مستنبطة) طلبا لمقصد من ذلك العمل قد ترجح للناظر أن للمنع من تفويته علة أشد، وذلك عند التزاحم. ولعلها صياغة أخرى لقاعدة (تحتمل أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما عند التزاحم). وضابط المفسدة الأشد هو نفسه الذي لأجله تفتح بعض الذرائع، على اعتبار أن تخلف المصلحة الراجحة قد يفضي إلى مفسدة أشد من تلك التي تعلل المانع بكونها ذريعة يجب سدها. وهو مضمون القاعدة: "يباح للمصلحة الراجحة ما يمنع سدا للذريعة". ومثاله إباحة النظر إلى العورة عند التقاضي أو عند التطبب، فإن مفسدة النظر إلى العورة - وهي كونه ذريعة إلى الزنا عند الناظر - أقل ترجحا (أي في احتمالية الوقوع) بكثير من مفسدة فقدان البينة الفاصلة عند التقاضي أو مفسدة بقاء المرض في الموضع المراد كشفه للعلاج. فكان الترجيح في حقيقته بين مفسدتين متزاحمتين، ومرده إلى نفس القاعدة العامة التي تقدم ذكرها، والله أعلم.
وقد يقال إن ضابط المرجعية في الحكم على الأشياء متقرر لدينا بالعهد، ولا نحتاج إلى وضعه في منطوق القاعدة حتى تصح، ومن ثمّ فلا يستقيم رد قولهم (الغاية تبرر الوسيلة) استنادا إلى قولهم إن المقاصد لها نفس أحكام الوسائل (الأحكام الخمسة التكليفية)! ونقول إن هذا يعتبر به في حالة ما إذا كان ذلك القول مبنيا على تلك المرجعية عند من وضعوه، ولكن ليس الأمر كذلك، ومعلوم فساد أصله الفلسفي الذي خرج منه، فلا نجيز استعماله منعا للالتباس ودفعا للاشتباه، حتى وإن كنا نراه يلتقي في بعض أحواله وصور تطبيقه مع جملة من قواعدنا الفقهية المعتبرة.
دع عنك أن المنطوق نفسه لا يستقيم، لكون التبرير المقصود عند أصحاب ذلك القول معناه الحكم بالمشروعية كما تقدم، ولا يصح بحال القول بأن الحكم بالمشروعية على الوسيلة مرهون بمشروعية الغاية المقصودة! وإنما ينظر للحكم على كل منهما في جملة كبيرة من القواعد والنصوص، لا تعبر عنها تلك القاعدة في قليل أو كثير!
فالحاصل أننا لا نقول (الغاية تبرر الوسيلة) ولا نقول (الغاية لا تبرر الوسيلة)، لسببين:
1- للإشكالات المرتبطة بمفهوم (التبرير) ومرجعيته
2 - ولكون نصوصنا وقواعدنا الفقهية المعتبرة تدور بنا على العبارة الأولى أحيانا وعلى الثانية أحيانا، وشريعتنا وسط بين طرفين غاليين.
والله أعلى وأعلم.