يسال سائل ويقول : إنني احمل أنواعا متباينة من المحبة في نفسي، تتعلق بالأطعمة اللذيذة، وبنفسي وزوجتي وبأولادي ووالديّ وبأحبابي وأصدقائي، وبالأنبياء المكرمين والعلماء المتقين والأولياء الصالحين، بل يتعلق حبي بكل ما هو جميل، وبالربيع الزاهي خاصة وبالدنيا عامة.. فلو سارت هذه الأنواع المختلفة من المحبة وفق ما يأمر به القرآن الكريم، فما تكون نتائجها وما فوائدها؟.
الجواب: إن بيان تلك النتائج وتوضيح تلك الفوائد كلها يحتاج إلى تأليف كتاب ضخم في هذا الشأن، لذا سنشير وسنبين اولاً النتائج التي تحصل في الدنيا، ثم بعد ذلك نبين النتائج التي ستظهر في الآخرة.
وقبل أن ابدأ فلا بد أن أشير إلى أن أنواع المحبة التي لدى أرباب الغفلة والدنيا والتي لا تنبعث إلا لإشباع رغبات النفس، لها نتائج أليمة وعواقب وخيمة من بلايا ومشقات، مع ما فيها من نشوة ضئيلة وراحة قليلة.
فمثلاً: الشفقة تصبح بلاءً مؤلماً بسبب العجز، والحب يغدو حُرقة مفجعة بسبب الفراق، واللذة تكون شراباً مسموماً بسبب الزوال.
أما في الآخرة فستبقى دون جدوى ولا نفع، لأنها لم تكن في سبيل الله تعالى، أو تكون عذاباً أليماً إن ساقت إلى الوقوع في الحرام.
ولعل سؤالا يطرح نفسه استدراكا: كيف يظل حب الأنبياء الكرام والأولياء الصالحين دون نفع أو فائدة؟
الجواب: مثلما لا ينتفع النصارى المعتقدون بالتثليث من حبهم لسيدنا عيسى عليه السلام، وكذا الروافض من حبهم لسيدنا علي رضي الله عنه!
أما ما ذكرته من أنواع المحبة فان كانت وفق إرشاد القرآن الكريم وفي سبيل الله سبحانه وتعالى ومحبة الرحمن الرحيم، فان نتائج جميلة تثمر في الدنيا، فضلاً عن نتائجها الطيبة الخالدة في الآخرة.
أمـــا نتـــائجــها في الــــدنيــــا:
فان محبتك للأطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة فهي نعمة إلهية لا يشوبها ألم، ولذة لطيفة في الشكر بعينه.
أما محبتك لنفسك أي إشفاقك عليها، والجهد في تربيتها وتزكيتها، ومنعها عن الأهواء الرذيلة، تجعلها منقادة إليك، فلا تسيرّك ولا تقيدك بأهوائها بل تسوقها أنت إلى حيث الهدى دون الهوى.
أما محبتك لزوجتك وهي رفيقة حياتك، فلأنها قد أسست على حُسن سيرتها وطيب شفقتها، وكونها هبة من الرحمة الإلهية، فستولها حباً خالصاً ورأفة جادة، وهي بدورها تبادلك هذه المحبة مع الاحترام والتوقير، وهذه الحالة تزداد بينكما كلما تقدمتما في العمر، فتقضيان حياة سعيدة هنيئة بإذن الله.. ولكن لو كان ذلك الحب مبنياً على جمال الصورة الذي تهواه النفس، فانه سرعان ما يخبو ويذبل، وتفسد الحياة الزوجية ايضاً.
أما محبتك للوالد والوالدة، فهي عبادة تُثاب عليها ما دامت في سبيل الله، ولا شك انك ستزيد الحب والاحترام لهما عندما يبلغان الكبر، وتكسب لذة روحية خالصة وراحة قلبية تامة لدى القيام بخدمتهما وتقبيل أيديهما وتبجيلهما بإخلاص، فتتوجه إلى المولى القدير، وأنت تشعر هذا الشعور السامي والهمة الجادة، بأن يطيل عمرهما لتحصل على مزيد من الثواب.. ولكن لو كان ذلك الحب والاحترام لأجل كسب حطام الدنيا ونابعاً من هوى النفس، فانه يولد ألماً روحياً قاتماً ينبعث من شعور سافل منحط وإحساس دنئ وضيع هو النفور من هذين الموقرَين اللذين كانا السبب لحياتكَ أنت، واستثقالهما وقد بلغا الكبر وباتا عبئاً عليك، ثم الأدهى من ذلك تمني موتهما وترقّب زوالهما!
أما محبتك لأولادك، أي حبك لمن استودعك الله إياهم أمانةً، لتقوم بتربيتهم ورعايتهم.. فحب أولئك المؤنسين المحبوبين من خلق الله، إنما هو حب مكلل بالسعادة والبهجة، وهو نعمة إلهية في الوقت نفسه، فإذا شعرت بهذا فلا يَنْتَابك الحزن على مصابهم ولا تصرخ متحسراً على وفاتهم. إذ إن خالقهم رحيم بهم حكيم في تدبير أمورهم وعند ذلك تقول إن الموت بحق هؤلاء لهو سعادة لهم. فتنجو بهذا من ألم الفراق وتتفكر أن تستدر رحمته تعالى عليك.
أما محبتك للأصدقاء والأقرباء، فلأنها لوجه الله تعالى، فلا يُحول فراقهم ولا موتهم عن دوام الصحبة معهم، ودوام أخوتكم ومحبتكم ومؤانستكم؛ إذ تدوم تلك الرابطة الروحية والحب المعنوي الخالص، فتـدوم بدورهمـا لـذة اللـقـاء ومتعة الوصال.. ولكن إن لم يكن ذلك الحب لأجله تعالى ولا في سبيله، فان لذة لقاء يوم واحد يورث آلام الفراق لمائة يوم ، بل إن ثانية واحدة من لقاء في سبيل الله تعالى تعدل سنة من العمر، بينما سنة من لقاء لأجل الدنيا الفانية لا تساوي ثانية البتة .
أما محبتك للأنبياء عليهم السلام وللعلماء المتقين والأولياء الصالحين، فان عالم البرزخ الذي هو عالم مظلم موحش في نظر أرباب الضلالة والغفلة تراه منازل من نور تنورت بأولئك المنورين، وعندها لا تستوحش من اللحاق بهم، ولا تجفل من عالم البرزخ، بل تشتاق إليه، وتحن إليه من دون أن يعكر ذلك تمتعك بالحياة الدنيا.. ولكن لو كان حبهم شبيهاً بحب أرباب المدنية لمشاهير الإنسانية، فان مجرد التفكر في فنائهم، وترمم عظامهم في مقبرة الماضي الكبرى، يزيد ألماً على آلام الحياة، ويدفع المرء إلى تصور موته وزواله حيث يقول سأدخل يوماً هذه المقبرة التي ترمم عظام العظماء! يقوله بكل مرارة وحسرة وقلق.. بينما في المنظور الأول يراهم يقيمون براحة وهناء في عالم البرزخ الذي هو قاعة المستقبل ورواقه، بعد أن تركوا ملابسهم الجسدية في الماضي.. فينظر إلى المقبرة نظرة شوق وأنس وعندها سيدرك أن حقيقة الموت حياة ولكن أي حياة هي!.
ثم أن محبتك للأشياء الجميلة والأمور الطيبة، لما كانت محبة في سبيل الله، وفي سبيل معرفة صانعها الجليل بحيث يجعلك تقول: ما أجمل خلقه!. فان هذه المحبة في حد ذاتها تفكر ذو لذة ومتعة، فضلاً عن أنها تفتح السبيل أمام أذواق حب الجمال والشوق إلى الحسن لتتطلع إلى مراتب أذواق أسمى وارفع ، وتريه هناك كنوز تلك الخزائن النفيسة فيتملاها المرء في نشوة سامية عالية؛ ذلك لان هذه المحبة تفتح آفاقاً أمام القلب ليحوّل نظره من آثار الصانع الجليل إلى جمال أفعاله البديعة، ومن جمال الأفعال إلى جمال أسمائه الحسنى، ومن جمال الأسماء الحسنى إلى جمال صفاته الجليلة، ومن جمال الصفات الجليلة إلى جمال ذاته المقدسة.. فهذه المحبة وبهذا السبيل إنما هي عبادة لذيذة وتفكر رفيع ممتع في الوقت نفسه.
أما محبتك للشباب، فلأنك قد أحببت عهد شبابك لكونه نعمة جميلة لله سبحانه، فلا شك انك ستصرفه في عبادته تعالى ولا تقتله غرقاً في السفه وتمادياً في الغي؛ إذ العبادات التي تكسبها في عهد الشباب إنما هي ثمرات يانعة باقية خالدة أثمرها ذلك العهد الفاني، فكلما جاوزت ذلك العـهـد وطـعـنـت في السـن حصلت على مزيد من ثمراته الباقية، ونجوت تدريجياً من آفات النفس الأمارة بالسوء وسيئات طيش الشباب. فترجو من المولى القدير إن يوفقك إلى كسب المزيد من العبادة في الشيخوخة، لتكون أهلاً لرحمته الواسعة. وتربأ بنفسك أن تكون مثل أولئك الغافلين الذين يقضون خمسين سنة من عمر شيخوختهم وشيبهم أسفاً وندماً على ما فقدوه من متاع الشباب في خمس أو عشر سنوات. حتى عبّر أحد الشعراء عن ذلك الندم والأسف بقوله:
ألا لَيتَ الشَبابَ يعودُ يوماً فاُخبره بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ
أما محبتك للمناظر البهيجة ولا سيّما مناظر الربيع، فحيث إنها مشاهدة لبدائع صنع الله واطلاع عليها، فذهاب ذلك الربيع لا يزيل لذة المشاهدة ومتعة التفرج، إذ يترك وراءه معانيه الجميلة، حيث الربيع أشبه ما يكون برسالة ربانية زاهية تفتح للمخلوقات. فخيالك والزمن شبيهان بالشريط السينمائي يديمان لك لذة المشاهدة هذه، ويجددان دوماً تلك المعاني التي تحملها رسالة الربيع. فلا يكون حبك إذن مؤقتاً ولا مغموراً بالأسف والأسى، بل صافياً خالصاً لذيذاً ممتعاً.
أما حبك للدنيا، فلأنه حب لله ولأجله سبحانه، فان موجوداتها المثيرة للرعب والدهشة تصبح لك أصدقاء مؤنسين، ولأنك تتوجه إليها بالحب من حيث كونها مزرعة الآخرة، تستطيع أن تجني من كل شئ فيها ما يمكن أن يكون ثمرة من ثمار الآخرة، أو تغنم منها ما يمكن أن يكون رأس مال للآخرة.
فمصائبها إذن لا تخيفك وزوالها وفناؤها لا يضايقك. وهكذا تقضي مدة أقامتك فيها، وأنت ضيف مكرم.. ولكن لو كان حبك لها كحب أرباب الغفلة، فقد قلنا لك مراراً: ستغرق نفسك وتفنى بحبٍ ساحقٍ، خانق، زائل، لا طائل وراءه ولا نفع!.

وأمـا نتــائجـها في الآخــرة :
فالله سبحانه وتعالى، بإلوهيته الجليلة، ورحمته الجميلة، وربوبيته الكبيرة، ورأفته الكريمة، وقدرته العظيمة، وحكمته اللطيفة، قد زيّن هذا الإنسان الصغير بحواسَ ومشاعر كثيرة جداً، وجمّله بجوارح وأجهزة وأعضاء مختلفة عديدة؛ ليُشعر طبقات رحمته الواسعة ويذيقه أنواع آلائه التي لا تعد، ويعرّفه أقسام إحساناته التي لا تحصى، ويُطلعه عبر تلك الأجهزة والأعضاء الكثيرة على أنواع تجلياته التي لا تُحد لألف اسم واسم من أسمائه الحسنى، ويحببها إليه، ويجعله يحسن تقديرها حق قدرها.
فلكل عضو من تلك الأعضاء الكثيرة ولكل جهاز وآلة منها وظائفها المتنوعة وعباداتها المتباينة كما أن لذائذها مختلفة وآلامها متغايرة وثوابها متميز.
فمثلاً: العين، تشاهد الجمال في الصور، وترى معجزات القدرة الإلهية الجميلة في عالم الشهود، فتؤدي وظيفتها بتقديم الشكر لله من خلال نظرتها ذات العبرة. ولا يخفى على أحد مدى ما فيها من لذةٍ وما يحصل من زوالها من ألم، لذا لا داعي لتعريف لذة الرؤية وألم فقدانها.
والأذن، تشعر بلطائف الرحمة الإلهية السارية في عالم المسموعات، بسماعها أنواع الأصوات ونغماتها اللطيفة المختلفة. فلها عبادة خاصة بها، ولذة تخصها، وثواب يعود إليها.
وكذا حاسة الشم التي تشعر بلطائف الرحمة الإلهية الفواحة من شذى أنواع العطور والروائح، فان لها لذتها الخاصة به ضمن أدائها شكرها الخاص، ولا شك أن لها ثواباً خاصاً بها.
وحاسة الذوق التي في الفم أيضا. فهي تؤدي وظيفتها وتقدم بشكرها المعنوي بأنماط شتى من خلال إدراكها مذاقات أنواع الأطعمة ولذائذها.
وهكذا فلكل جهاز من أجهزة الإنسان ولكل حاسة وجارحة، ولكل لطيفة من لطائفه المهمة - كالقلب والروح والعقل وغيرها - وظائفها المختلفة، لذائذها المتنوعة الخاصة بها، فمما لا ريب فيه أن الخالق الحكيم الذي سخّر هذه الأجهزة لتلك الوظائف سيجزى كلاً منها بما يلائمها ويستحقها من جزاء في الاخرة .
واليك تفصيل نتائج الاخرة بربط ما سبق من نتائج في الدنيا وهي كالأتي :
فالنتيجة الاُخروية للمحبة المشروعة المكللة بالشكر للّه، نحو الأطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة في الدنيا، هي تلك الأطعمة والفواكه الطيبة اللائقة بالجنة الخالدة.. كما ينص عليه القرآن الكريم. هذه المحبة، محبة ذات اشتياق واشتهاء لتلك الجنة وفواكهها. حتى إن الفاكهة التي تأكلها في الدنيا وتذكر عليها " الحمد للّه" تتجسم في الجنة فاكهة خاصة بها وتقدّم إليك طيبة من طيبات الجنة. فأنت تأكل هنا فاكهة، وهناك " الحمد للّه " مجسمة في فاكهة من فواكه الجنة.. وحيث انك تقدم شكراً معنوياً لذيذاً برؤيتك الإنعام الإلهي والالتفات الرباني في الأطعمة والفواكه التي تتناولها هنا، فستسلم إليك هناك في الجنة أطعمة لذيذة وفواكه طيبة، كما هو ثابت في الكتاب والسنة ، وبمقتضى الحكمة الإلهية ورحمتها الواسعة.
وأما نتيجة المحبة المشروعة نحو النفس، أي محبتها المبنية في الدنيا على رؤية نقائصها دون محاسنها، ومحاولة إكمالها، وتزكيتـها ورعايتـها بالشفـقة والرأفة، ودفعها إلى سبيل الخير، هي إعطاء البارئ عز وجلّ محبوبين يليقون بها وبالجنة، فالنفس التي تركت في الـدنيـا هـواهـا وشـهواتها وتركـت رغباتهـا في سبيل الله، وأستعمل ما فيها من أجهزة متنوعة على أفضل وجه وأتمه، سيمنحها البارئ الكريم سـبحانه مكـأفـاة علـى هـذه المحـبـة المشـروعـة المـكـلـلـة بالعبـودية لله بالحور العين المترفلات بسبعين حلة من حلل الجنة المتنوعة بأنواع لطائفها وزينتها، والمتجملات بسبعين نوعاً من أنواع الحسن والجمال حتى كأنهن جنة مجسمة مصغرة تنبض بالروح والحياة، لتقرّ بها عينُ النفس التي أطاعت الله وتهدأ بها المشاعر التي اطمأنت إلى أوامر الله.. فهذه النتيجة لا ريب فيها، إذ الآيات الكريمة تصرح بها يقيناً.
ثم ان نتيجة المحبة المتوجهة نحو الشباب في الدنيا، إي صرف قوة الشباب ونضارته في العبادة والتقوى، هي شباب دائم خالد في دار البقاء والنعيم المقيم.
وأما النتيجة الأخروية لمحبة الزوجة المؤسسة على حُسن سيرتها وجميل خصلتها ولطيف شفقتها، والتي تصونها عن النشوز وتجنبها الخطايا والذنوب، فهي:
جعل تلك الزوجة الصالحة محبوبة ومحبة وصديقة صدوقة وأنيسة مؤنسة، في الجنة، جمالُها أبهى من الحور العين، زينتها أزهى من زينتهن، حسنها يفوق حسنهن.. تتجاذب مع زوجها أطراف الحديث، يستذكران أحداث أيام خلت.. هكذا وعد الرحيم الكريم. فما دام قد وعد فسيفى بوعده حتماً. ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً )) {النساء (122)}.
وأما نتيجة محبة الوالدين والأولاد فهي ان الرحمن الرحيم جل وعلا يُحسن إلى تلك العائلة السعيدة المحظوظة رغم تفاوت مراتبهم في الجنة لقاء بعضهم البعض والمعاشرة والمجالسة والمحادثة فيما بينهم بما يليق بالجنة ودار البقاء، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم. وينعم على أولئك الآباء بملاطفة أولادهم الذين توفوا في دار الدنيا قبل سن البلوغ، ويجعلهم لهم ولداناً مخلّدين، في ألطف وضع وأحبّه إلى نفوسهم، وبهذا تطمئن رغبة مداعبة الأطفال المغروزة في فطرة الإنسان، فيستمتعون بمتعة خالدة وذوق دائم في الجنة، حيث خُلّد لهم أطفالهم الصغار الذين لم يبلغوا سن التكليف ولقد كان يُظن أن ليس في الجنة مداعبة الأطفال، لأنها ليست محلاً للتوالد. ولكن الجنة لأنها تحوى أفضل لذائد الدنيا وأجودها، فملاطفة الأولاد ومداعبة الأطفال لابد أنها موجودة فيها بأفضل صورها وأجمل أشكالها.. فيا بشرى أولئك الآباء الذين فقدوا أطفالهم في دار الدنيا!.
وأما نتيجة محبتك لصالح الأصدقاء والأقرباء التي يتطلبها " الحب في الله " ، إنما هي في جلوسكم على سُرُر متقابلين ومؤانستكم بلطائف الذكريات، ذكريات أيام الدنيا وخواطرها الجميلة، وقضاء وقت ممتع وجميل بهذه المحاورة والمجالسة. كما هو ثابت بنص بقوله تعالى(( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ )) {الحجر 47}
وأما نتيجة محبة الأنبياء عليهم السلام ومن تبعهم من أهل العلم والصلاح حسب ما بينه القرآن الكريم، فهي طاعة لله .
نعم، إن الحديث الشريف ينص على أن " المرء مع من أحب " فالإنسان إذن يستطيع أن يرتفع إلى أعلى مقام وارفعه بما نسج مع صاحبه من أواصر المحبة وبانتمائه إليه وإتباعه له.
وأما محبتك للأشياء الجميلة وللربيع، أي نظرك إليها من زاوية قولك: " ما أجمل خلقه! " وتوجيه محبتك إلى ما وراء ذلك الشئ الجميل من جمال الأفعال وانتظامها، والى ما وراء تلك الأفعال المنسقة من جمال تجليات الأسماء الحسنى، والى ما وراء تلك الأسماء الحسنى من تجليات الصفات الجليلة.. وهكذا..ونتيجتها هي:
مشاهدة جمالٍ أسمى من ذلك الجمال الذي شاهدته في المصنوعات بألوف ألوف المرات. أي مشاهدة تجليات الأسماء الحسنى وجمال الصفات الجليلة بما يليق بالجنة ودار البقاء. حتى قال الإمام الرباني السرهندي رحمه الله تعالى: " إن لطائف الجنة إنما هي تمثلات الأسماء الحسنى " فتأمل!.
وأما محبتك للدنيا محبةً مشروعة، أي محبتك لها مع التأمل والتفكر في وجهيَها الجميلين اللذين هما: مزرعة الآخرة ومرآة التجليات للأسماء الحسنى فان نتيجتها الاُخروية هي أنه:
سيهَب لك جنة تسع الدنيا كلها، ولكنها لا تزول مثلها، بل هي خالدة دائمة. وستُظهر لك في مرايا تلك الجنة تجليات الأسماء الحسنى بأزهى شعشعتها وبهائها، تلك التي رأيت بعض ظلالها الضعيفة في الدنيا.
ثم إن محبة الدنيا في وجهها الذي هو مزرعة للآخرة، أي باعتبار الدنيا مشتلاً صغيراً جداً لاستنبات البذور لتتسنبل في الآخرة وتثمر هناك، فان نتيجتها هي:
أثمار جنة واسعة تسع الدنيا كلها، تنكشف فيها جميع الحواس والمشاعر الإنسانية التي يحملها الإنسان في الدنيا كبُذيرات صغيرة، انكشافاً تاماً ونمواً كاملاً، وتتسنبل فيها بُذيرات الاستعدادات الفطرية حاملة جميع أنواع اللذائذ والكمالات.. هذه النتيجة ثابتة بمقتضى رحمة الله الواسعة وحكمته المطلقة. وهي ثابتة كذلك بنص الحديث الشريف وإشارات القرآن الكريم.
ولما كانت محبتك للدنيا ليست لذلك الوجه المذموم الذي هو رأس كل خطيئة، وإنما هي محبة متوجهة إلى وجهَيها الآخرين اي إلى الأسماء الحسنى والآخرة، وقد عقدت لأجلهما أواصر المحبة معها وعمّرت ذينك الوجهين على نية العبادة، حتى كأنك قمت بالعبادة بدنياك كلها.. فلابد أن الثواب الحاصل من هذه المحبة يكون ثواباً أوسع من الدنيا كلها، وهذا هو مقتضى الرحمة الإلهية وحكمتها.
ثم لان المحبة قد حصلت معها بمحبة الآخرة وكونها مزرعة لها، وبمحبة الله سبحانه، وكونها مرآة لإظهار أسمائه الحسنى.. فلاشك أن تقابل هذه المحبة بمحبوب أوسع من الدنيا كلها، وما هو الاّ الجنة التي عرضها السّموات والأرض، والتي لو كان من الممكن أن تتجول بسرعة الخيال في أقطار الأرض كلها، وتزور اغلب النجوم التي في السماء، لكنت تقول عندئذٍ: ان العالم كله لي. فلا يزاحم حكمك هذا ولا ينافيه وجود الملائكة والناس الآخرين والحيوانات معك في هذا العالم الواسع.
وكذلك يمكنك إن تقول: إن تلك الجنة لي، حتى لو كانت مليئة بالقادمين إليها.
وأما نتيجة الإيمان بالله ومحبته سبحانه هي:
رؤية جمال مقدس وكمال منزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى كما هي ثابتة أيضا من قوله ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )) { القيامة 22ـ23 }هذه الرؤية التي تساوي ساعة منها ألف ألف سنة من نعيم الجنة، ذلك النعيم الذي ساعة منه تفوق ألف ألف سنة من حياة الدنيا الهنيئة، كما هو ثابت لدى أهل العلم بالاتفاق.
ويمكنك قياس مدى الشوق واللهفة التي تنطوي عليهما فطرة الإنسان لرؤية ذلك الجمال المقدس والكمال المنزّه، ومدى ما فيها من رغبة جياشة وتوق شديد وإلتياع لشهودهما، بالمثال الآتي:
كل إنسان يشعر في وجدانه بلهفة شديدة لرؤية سيدنا سليمان عليه السلام الذي أوتي الكمال ويشعر ايضاً بشوقٍ عظيم نحو رؤية سيدنا يوسف عليه السلام الذي اُوتي شطر الجمال. فيا ترى كم يكون مدى الشوق واللهفة لدى الإنسان لرؤية جمال مقدس وكمال منزّه، الذي من تجليات ذلك الجمال والكمال، الجنة الخالدة بجميع محاسنها ونعيمها وكمالاتها التي تفوق بما لا يحد من المرات جميع محاسن الدنيا وكمالاتها..
اللّهم ارزقنا في الدنيا حبَّك وحبَّ ما يقرّبنا إليك، والاستقامة كما امرتَ، وفي الآخرة رحمتَك ورؤيتك.
(سبحانك لا عِلمَ لَنا الاّ ما عَلّمْتَنا إنَكَ أنَت العَليم الحَكيم)
اللّهمَ صلّ وَسَلم على مَن أرسَلته رَحمة للعالمين
وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين