الحمد له، والصلاة والسلام على رسول الله.
يبدو أنّ الأستاذ الفاضل أبا مالك مشغول.. وأسأل الله أن يكون الذي شغله خيرًا. ولأنَّ له عليَّ ديونًا، رأيت أن تكون مبادرتي بالجواب عن استشكال شيخنا ماهر(حفظه الله وجزاه عنّا كل خير) قضاءً لبعضها.
ولفهم المقطوعة المشار إليها من رجز أبي نُخَيْلة، أظنّ أنه من المناسب الالتفاتُ إلى سبب إيراد أحد رواة الحديث لها إلى جانب مقطوعة زهير بن عاصم.
زهير بن عاصم وأبو نخيلة كلاهما مِن بني حِمَّان، قوم حصين بن مُشَمِّت. وزهير لم يُدرك الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، كما رجحّ ذلك ابن حجر في "الإصابة" (باب ذكر من اسمه زهير). أمّا أبو نخيلة فهو من شعراء الدولتين، أدرك أواخر الخلافة الأموية وأوائل العباسية. فشعرهما متأخِّر عن وفادة حصين بن مُشَمِّت على النبيّ، صلَّى الله عليه وسلَّم. وما قاله زهير بن عاصم، قد يكون قاله مفتخرًا، كما أشار إلى ذلك ابن حجر في "الإصابة". وكذا الأمر بالنسبة إلى أبيات أبي نخيلة. لكن يحتمل أيضا أن يكون كلامهما ورد في سياق الشكوى أو الهجاء، بسبب خصومة.
بناءً على ذلك، أعتقد أنَّ أحد رواة الحديث أوْرد مقطوعتَي زهير بن عاصم وأبي النخيلة للتأكيد على أنَّ النبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أقطَعَ بني حِمَّان المياه المشارَ إليها.
يضاف إلى ذلك أنَّ في المقطوعتين كلتيهما إشارة إلى الكتابة.
قال زهير: " بِهنَّ خَطَّ القلمُ الأنْقاسَا/منَ النَّبِيِّ حيث أعطى النَّاسا".
وقال أبو نخيلة: "وبالكتابَيْن عن النَّبِيِّ".
أي أنّ إقطاع المَرُّوتِ، وجُراد، وأُصَيْهِب، والماعِزة، وأهوى، والثِّماد، والسَّدِير تمَّ بعقد مكتوب، حسب الشاعرين.
* الآن، لمحاولة فهم أبيات أبي نخيلة، لا بد من التوقف عند أبيات زهير بن عاصم.
يقول: إنَّ بلادي لم تكن أملاسا --- بِهنَّ خَطّ القلمُ الأنقاسا
من النَّبِيِّ حيث أعطى النَّاسا --- ولم يَدَع لبْسًا ولا الْتِباسَا
_ الأملاس: الأراضي المستوية. والمراد هنا: لم تكن بلادنا مهامه أو أراض مقفرة لا تنبت.
_ والأنقاس: ما يُكتَب به. والمراد هنا: المِداد.
_ والمعنى: إنَّ أراضي قومي لم تكن مَهامِه مُقْفِرة، لا نَبْتَ فيها. فهي تشمل مواضع للمياه قد أقطعنا إياها النَّبِيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، وكتب ذلك؛ فلم يترك أي سبب لِلَّبس أو للالتباس.
وظنِّي أنّ أبيات زهير ابن عاصم وكذا أبيات أبي نخيلة، لم تُقَل افتخارا؛ بل ربما كان سببها خصومة حول الانتفاع ببعض المواطن التابعة لبني حِمَّان.
* أمَّا أبيات أبي نخيلة، وعليها مدار الحديث، فماذا عنها؟
يقول:
أعوذ بالله وبالسَّرِيِّ --- وبالكِتابَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ
مِنْ حادِث حَلَّ على عادِيِّ
_ السَّرِيّ هو: السَّرِيُّ بن عبد الله بن الحارث بن العبَّاس بن عبد المطَّلب. وكان أمير مكة في زمن المنصور العبّاسي. وقرينة كونه هو المراد، لا المعنى اللغوي للكلمة، هذا النص لصاحب "أساس البلاغة"، حيث يقول:
"وألْقى فلانٌ عَطَوِيًّا": إذا سَلَحَ سَلْحاً كثيراً. وأصلُه: أنّ رجلاً مِنبني عطيّة افترى على أبي نخيلة، فرفعه إلى السّريّ بن عبد الله، فجَلَدَه، فسَلح. فقال أبو نخيلة:
لمَّا جَلَدْتَ العَنْبَرِيَّ جَلْدَا --- في الدّار ألْقى عَطَوِيًّانَهْدَا"
_ والكتابان: الظاهر أنه يشير إلى ما أقطعه النَّبِيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، لبني حِمّان، وأنّه فعل ذلك كتابةً. ولو استبعدنا هذا التفسير، لما بقي لإيراد شعر أبي نخيلة بعد الحديث معنى. والإشكال يظل في التثنية. هل المقصود أنَّ الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، كتب لهم كتابَين؟ أم يراد بهما الشرطان؟ فقد جاء في رواية أبي نعيم في "معرفة الصحابة" والطبراني في "الكبير":
"وشرَطَ لِحُصَيْن بن مُشَمِّت فيما قطع له: أنْ لا يُعقَر مَرعاه ولا يُباع ماؤه. وشرَطَ على حُصَيْنٍ بن مُشَمِّت أنْ لا يَبيع ماءه ولا يَمْنَع فَضْلَه".
_ العاديّ: القديم.
والمعنى: ألتجئ إلى الله، وإلى السَّريِّ بن عبد الله، وإلى ما أقطعه الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، كتابةً لبني حِمَّان، أمام كلِّ أمر جديد منكَر طرأ على أمر قديم مستقر. ويحتمل أن يكون معنى قوله "من كل حادث حل على عادِيِّ": مِن كل نائبة حلّت علىمخلوق. من قولهم: "ما أدري أيّ عاد هو" أي: أيُّ خَلْق. إذا اعتبرنا أنَّ "عاد" غير ممنوع من الصرف في هذه الجملة.
ويحتمل أنّ أبا نخيلة قال هذه الأبيات من أرجوزة أطول بسبب خصومة تتعلّق بأرضٍ له، بدليل لجوئه إلى السَّريِّ بن عبد الله والي مكّة في زمنه. ويحتمل أيضًا أنه قالها ضمن أرجوزة طويلة، مدح فيها السَّريَّ وشكا له حاله. والاحتمال الثاني أشبه، إذا ما استأنسنا بمقطوعتين أخريين لأبي نخيلة من نفس البحر ونفس الرويّ. والله أعلم.
إذ لأبي نخيلة مقطوعتان أخريان من نفس البحر ونفس الرَّوِيّ، وهما:
1_ ما زال عودي في ثَرىً ثَرِيِّ --- بَعْدَك مِن ذاك النَّدَى الوَسْمِيِّ
حــتّى إذا مـا هَمَّ بالذُّوِيِّ --- جئتك واحتجتُ إلى الوليِّ
كذا أوردها صاحب "التمثيل والمحاضرة". وفي "لسان العرب"، دون أن ينسبها:
ما زِلْتُ حَوْلاً في ثَرىً ثَرِيِّ --- بَعْدَكَ مِنْ ذَاكَ النَّدَى الوَسْمِيِّ
حَتَّى إذا ما هَمَّ بالذُّوِيِّ --- جِئْتُكَ واحْتَجْتُ إلى الوَلِيِّ
لَيْسَ غَنِيٌّ عَنْكَ بالغَنِيِّ
2_ وهُنَّ بَعْدَ القَرَبِ القَسِيِّ --- مُسْتَرْعِفاتٌ بشَمَرْذَليِّ
ذكره في "اللسان".
فهل هما من نفس الأرجوزة أم لا؟ الله أعلم.
هذا ما تبيَّن لي حول الموضوع. وأرجو ألاَّ أكون تعاطيْتُ ما لا أحسِن، مثلما فعل أبو نخيلة عندما قال: "ولم تَذُقْ مِن البُقول الفُسْتُقَا"...
* ملاحظة: شعر أبي نخيلة جمعه الدكتور عدنان عمر الخطيب. والكتاب بعنوان: شعر أبي نخيلة الحِمَّاني، جمع وتحقيق ودراسة (معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 2001). ولم يتسنّ لي الحصول عليه. فالرجاء ممّن اطَّلع عليه أن يفيدنا بما قاله المحقق في شرح أبيات أبي نخيلة، سواء كانت موافقة أو مخالفة لما ذكرتُه.
* ملاحظة أخرى: جاء في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم، بتحقيق عادل العزازي (دار الوطن)، ص. 844:
"حصين بن مُشمت بن شدّاد بن زُهير بن النَّمِر بن مرة بن جَمَّان بن كعب بن سعد الجماني".
والصواب: "حِمَّان" و"الحِمَّاني".
* ملاحظة أخيرة: في "المحدّث الفاصل" بتحقيق تحقيق محمد عجاج الخطيب(ص. 479): "وبالكتابين عن النبيِّ" بدل " وبالكتابين من النَّبيِّ".
والله أعلم. وهو لِيُّ التوفيق.