44725السنة 133-العدد2009مايو2025 من جمادى الاولى 1430 هـالأربعاءالأهرام المصرية
حين يحكم البشر باسم السماء!
بقلم: نبيــل عـمـــر
بعض الأصدقاء لايكفون عن العتاب كلما كتبت كلاما لا يعجبهم عن الدين والدولة والسياسة ويشتد عتابهم مع عدم قبولي فكرة أن الإسلام دين ودولة, وقد قابلني أحدهم اخيرا غاضبا: يعني نحتجزه في المسجد والشعائر.. هل تنكر شرع الله؟!
فقلت له: لا علي الاطلاق, الإسلام دين ومجتمع ويستحيل احتجازه داخل المسجد, لكن المجتمع غير الدولة ولايمكن ان تكون الدولة شرطا من شروط الإسلام, فإذا لم نؤسس هذه الدولة ينقص ديننا ويختل إيماننا, كيف يمكن أن نجمع كل المسلمين في دولة واحدة فيها الصيني المسلم والياباني المسلم والأمريكي المسلم والتركي المسلم والشيلي المسلم والهندي المسلم والبرازيلي المسلم والمصري المسلم معا في كيان سياسي واحد له حدود وأرض وسلطة, هذا مستحيل, والأصعب أنك تفرض علي المسلمين في أي دولة في العالم ـ كجزء من إيمانهم ـ أن يعملوا سرا أو جهرا علي تأسيس دولة لهم مستقلة عن الدولة الأم وتحرضهم علي ذلك, بينما يمكن ان يشكلوا مجتمعا مسلما في أي دولة من هذه الدول, مجتمعا له عاداته وتقاليده وقيمه وبعض أحكامه الخاصة, وهو مايحدث فعلا في الغرب أو الشرق في الدول التي ليس فيها أغلبية مسلمة.
قال: لكن الإسلام فيه نظرية سياسية ونظرية اقتصادية تصلحان لتأسيس دولة..
قلت: فيه بضعة مباديء عامة لم تصل الي مرتبة النظرية, وهذه حكمة الله سبحانه وتعالي لأن النظريات في العلوم الإنسانية ومنها السياسية والاقتصادية تتغير من زمان إلي زمان ومن مكان الي مكان, وقد يصل هذا التغيير الي النظريات العلمية المادية, ولم تعرف البشرية نظرية ثابتة مستقرة, فنظرية الحكم في القبيلة غير نظرية الحكم في المملكة أو الإمبراطورية كما عرفها العالم القديم, وغير نظرية الحكم في الدولة الحديثة, واقتصاد الرعي غير اقتصاد الزراعة غير اقتصاد المجتمع الصناعي.. لأن عوامل الانتاج وتوزيع الثروة مختلفة الي حد كبير, ولهذا تطورت المجتمعات من حال إلي حال ويستحيل ان توجد نظرية شاملة تصلح لكل عصر وزمان وأدوات إنتاج..
قال: فيه مئات الكتب والدراسات في نظام الحكم والاقتصاد الإسلامي.
قلت: هذا صحيح لكنها تقوم علي النظريات السياسية والاقتصادية في الغرب مع اضافة قواعد أخلاقية إليها وبعض مبادئ المعاملات التي شرعها الله في القرآن.. تم تسميتها إسلامية.
ورويت له حكاية وقعت قبل سنوات طويلة.. حين تعرفت علي أستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالسعودية وسألته: ماذا تدرس؟! فأجاب: إدارة إسلامية, فتعجبت: ماهي الإدارة الإسلامية؟! أعرف أن عمر بن الخطاب أخذ نظام الدواوين من الفرس لأن العرب لم يعرفوا مطلقا أي نظم إدارة في البيداء.. فرد: هذا علم حديث, فطلبت منه نسخة من الكتاب الذي يدرسه لطلابه, فأتاني به وتصفحته فوجدته يماثل كتاب التنظيم والادارة الذي كنت أدرسه في كلية التجارة مع اضافات عن الأخلاق والقيم وحسن معاملة الموظفين للمواطنين والعملاء.. الخ.
فسألني الصديق: وماذا تقصد؟.. وماعلاقة هذا بالسياسة والدولة في الإسلام؟
قلت: نظام الحكم في الدولة الحديثة ليس هو الشوري ولا مجلس الحل والعقد ولا أمير لكل جماعة وإنما هو علاقات شبه متوازنة بين مؤسسات الدولة بعضها ببعض, المواطن فيها هو السيد والحكم, علاقة مجلس الشعب بالسلطة التنفيذية بالقضاء ودور المحكمة الدستورية وهذه علاقات حديثة مع نشوء الدولة القومية في القرن الثامن عشر ومابعدها, ولم تكن موجودة بهذا الشكل في التاريخ القديم لكن كان فيه نظريات في الحكم منذ أفلاطون وجمهوريته.
وطبعا في الدولة الإسلامية لابد أن يكون قضاة المحكمة الدستورية من الشيوخ والدعاة حتي يفصلوا في مدي دستورية القوانين الصادرة من البرلمان ومدي انطباقها مع تفسيراتهم البشرية الاجتهادية للشريعة وهذا خطر فادح علي الدولة المدنية ويحولها في النهاية الي دولة دينية, أي يحكم فيها البشر باسم الله ومن يعارضهم فهو يعارض الله, تخيل مع حكومة مدنية مستبدة لا نستطيع أن نسقطها فمابالك مع حكومة تزعم أنها تحكمنا باسم السماء؟!
عموما يكفينا الدماء التي سالت علي مدي تاريخ المسلمين باسم الإسلام السياسي من زمن الخلفاء الراشدين الي زمن جعفر نميري..
قال ممتعضا: الخلفاء الراشدون.. حرام عليك!
قلت: يارجل العشرة المبشرون بالجنة أغلبهم مات مقتولا بالسيف وكان كل قاتل يرفع كتاب الله.. وفي معركة الجمل.. وقفت السيدة عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام في جانب وحاربت علي بن أبي طالب, وكل جيش رفع المصحف علي أسنة الرماح زاعما أنه ينفذ تعاليم الدين الحنيف ورسالته, باختصار حين تتسلل السياسة في عباءة الدين الي الناس فهي شر مستطير لم يسلم منه أكثر الناس إيمانا وورعا وتقوي.
قال: ومارأيك بعد انهيار الاقتصاد العالمي, ولو كان العالم يأخذ بالاقتصاد الإسلامي ماحدثت هذه الكارثة وهذا يثبت أن الإسلام دين ودولة!
قلت له ضاحكا: ياسيدنا الاقتصاد العالمي لم ينهر, فمازالت ادوات الانتاج الكبير تعمل, الذي انهار هو النظام المالي, الطريقة التي كانوا يتصرفون بها في الأموال وسنداتها وأوراقها, وبالطبع هي مؤثرة علي النمو الاقتصادي بعدما ضعفت أو تآكلت قدرة المستهلكين علي الشراء لكن إمكانات الاقتصاد الغربي هائلة وهي قادرة علي امتصاص هذه الكارثة في سنوات قليلة ليعود الانتاج بقوة كما حدث في الأزمة العالمية في1928 ومابعدها, ثانيا: فليذهب النظام الاقتصادي الحالي الي الجحيم.. وهذا يثبت أنه لا توجد نظرية ثابتة مستقرة الي الأبد ولست معنيا بالدفاع عن نظرية بعينها, فما يصلح هناك قد لا يصلح هنا لو نقلناه نقلا حرفيا ومايصلح عندنا قد لا يصلح عندهم, فالاجتهاد متاح ومفتوح لأنه من صنع البشر لكن في النظريات المنسوبة الي الدين الاجتهاد محدود وقد يغلق بدعوي( من يجرؤ أن يعدل أو يغير في كلام الله), والرسول الكريم حسم المسألة حين قال: أنتم أعلم بشئون دنياكم, أي أن ثمة أمورا كثيرة في الدنيا متروكا تدبيرها للانسان بشرط أن يلتزم بالعدالة والمصلحة العامة في هذا التدبير.