الإنسان .. ذلك الكون الصغير !


العتبي قال : « كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) وقال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من شبه البهائم فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي لها الطعام الطيب عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ، ولغت فيه فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها وإن أخطأ رجل عن نفسه أو حكى خطأ غيره ترواه وحفظه » قال أبو سليمان ما أحسن ما تأول أبو محمد رحمة الله عليه هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعا لظاهره وجب المصير إلى باطنه وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل دابة وطائر وكان ذلك ممتنعا من جهة الخلقة والصورة وعدما من جهة النطق والمعرفة فوجب أن يكون مصروفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق . وإذا كان الأمر كذلك فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر البهائم والسباع فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك ومصداق قول سفيان رحمه الله في كتاب الله سبحانه حين يقول في تمثيل من كذب بآيات الله بالكلب فقال عز وعلا : ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) وقال سبحانه وتعالى ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) وقال عز وجل ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) فجعلهم أسوأ حالا منها وأبعد مذهبا في الضلال حتى قامت عليهم الحجة فلم يذعنوا لها . ولأجل ذلك رأى الحكماء أن السلامة من آفات السباع الضارية أمكن والخلاص منها أسهل من السلامة من شر الناس .



قال ابن القيم في الفوائد : سبحان الله فى النفس كبر ابليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون وبغى قارون وقحة هامان وهوى بلعام وحيل اصحاب السبت وتمرد لوليد وجهل أبي جهل وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب وشره الكلب ورعونة الطاووس ودناءة الجعل وعقوق الضب وحقد الجمل ووثوب الفهد وصولة الاسد وفسق الفأرة وخبث الحية وعبث القرد وجمع النملة ومكر الثعلب وخفة الفراش ونوم الضبع غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند ولا تصلح سلعته لعقد ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم فما اشترى الا سلعة هذبها الايمان فخرجت من طبعها الى بلد سكانه التائبون العابدون .




وقال ابن القيم في الجواب الكافي :
من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم , ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه فيخسف به إلى أسفل سافلين وصاحبه لا يشعر وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل كما أن القلب الذى رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول البر والخير ومعالي الأمور والأعمال والأقوال والأخلاق . قال بعض السلف إن هذه القلوب جوالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش .

ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تمسخ الصورة فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك .

وهذا تأويل سفيان بن عيينة فى قوله تعالى وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم قال منهم من يكون على أخلاق السباع العادية ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير ومنهم من يتطوس في ثيابه لحما بتطوس الطاووس فى ريشه ومنهم من يكون بليد كالحمار ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام ومنهم الحقود كالجمل ومنهم الذى هو خير كله كالغنم ومنهم أشباه الذئاب ومنهم أشباه الثعالب التى يروغ كروغانها .

وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغى بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالانعام تارة وتقوي هذه المشابهة باطنا حتي تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا يراه المتفرسون ويظهر فى الأعمال ظهورا يراه كل أحد ولا يزال يقوي حتي تعلو الصورة فنقلب له الصورة بإذن الله وهو المسخ التام فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان كما فعل باليهود وأشباههم ويفعل بقوم من هذه الأمة ويمسخم قردة وخنازير فسبحان الله كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به وكم من مفتون بثناء الناس عليه ومغرور بستر الله عليه ومستدرج بنعم الله عليه وكل هذه عقوبات وإهانة ويظن الجاهل أنها كرامة .






ويقول الأستاذ سعيد النورسي :

ان اي مخلوق مهما كان صغيراً، انما هو مثال مصغر للكون كله ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير الاّ مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث ان كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقل ابداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير انما هو بحكم عالم مصغّر، وكون صغير فان تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً. اللمعة الثلاثون - ص: 551


كما ان الانسان عالمٌ صغير، كذلك العالم انسانٌ كبير،فهذا الانسان يمثّل خلاصة الانسان الكبير وفهرسه، فالنماذج المصغّرة في الانسان لابد أن أصولها الكبيرة المعظمة موجودةٌ في الانسان الأكبر بالضرورة. اللمعة الثالثة عشرة - ص: 127

اعلم!
ان الانسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غال ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لاحصر لها ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز افكاراً غير محصورة ويتضمن قوى غير محدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم. إشارات الإعجاز - ص: 149

قلت : روى الخرائطي في مكارم الاخلاق / 888 :
قال أبو الحسن المدائني : قال نصر بن سيار : كان عظماء الترك يقولون : « ينبغي للقائد العظيم القيادة أن تكون فيه أخلاق من أخلاق البهائم : سخاء الديك ، وتحنن الدجاجة ، وقلب الأسد ، وحملة الخنزير ، وروغان الثعلب ، وصبر الكلب على الجراح ، وحراسة الكركي ، وحذر الغراب ، وختل الذئب ، وهداية الحمام »




يقول سيدي النورسي :
اعلم! ايها الانسان انك واحد قياسيّ بخمسة وجوه:

اذ أنت فهرستةٌ جامعة لغرائب آثار جلوات الاسماء الحسنى.

ومقياسٌ بجزئيات صفاتك وربوبيتك الموهومة لمعرفة صفاته المحيطة وفهمها بتصور حدود موهومة.

وميزان لدرجات نفي الشِركة في الآفاق، بحيث اذا أذعنتَ بانك كُلّكَ مُلكه آمنتَ بان لا شريك له في العالم واذا أعطيتَ ثلثك له وثلثك للاسباب وثلثك لنفسك حصل هذا التقسم في جميع الكائنات. واذا ملّكتَ أنانيتك درهماَ من مُلكه لزِمك ان تصدّق مالكيةَ كل فردٍ وكل سببٍ لدرهمٍ فتُقسم مالَ الله على ما سواه.

وكذا خريطة للعلوم الكونية والمعارف الآفاقية فاِذا إنفتحتْ أنت (أي انانيتك انت) لك انكشف لك الكون، واذا اُنسيتَ نفسَك انغلق عليك المعارف الآفاقية، وانقلبت الى جهالات مركبات وسفسطيات ما لا يعنيات..

وكذا خزينة مفاتيح لمطلسمات الكنوز المخفية في الأسماء الالهية، فاذا رأيت فيك عجزاً بلا نهاية شَاهدتَ لخالقك قدرةً بلا غاية، واذا شاهدتَ فيك فقراً بلا غاية، رأيت لرازقك غناءً بلا نهاية.. وهكذا كأن جلوات اسمائه حروفٌ نورية مكتوبة في ظلمات حالاتك، فبدرجة ظهور شدة الظلمة تظهر نورانيةُ الكتابة.
فانت في الوجه الأول حاملٌ، وقابلٌ، ومظهرٌ، ليس لك منك شئ، بل انت قصيدةٌ منظومة للسان كن فيكون. المثنوي العربي النوري - ص: 454




اعلم ! ان الانسان ثمرةُ شجرة الخِلقة. والثمرةُ تكون اكمل الاجزاء وأبعدها من الجرثوم، واجمعها لخصائص الكل.. وهي التي من شأنها ان تبقى وتُسْتَبقى.
ومن الانسان مَن هو نواةٌ انبتَ القديرُ جل شأنه منها تلك الشجرة.. ثم صيّر الفاطرُ جل جلالُه ذلك الانسانَ ثمرةَ تلك الشجرة.. ثم جعل الرحمنُ تلك الثمرة النورانية نواةً لشجرة الاسلامية.. وسراجاً لعالمها.. وشمساً لمنظومتها..
وانه لابد في الثمرة من نواةٍ تشتمل بالقوة على لوازمات شجرةٍ هى مثل اصلها. واصغريةُ النواةِ لاتنافي اعظمية الشجرة، كنواة شجرة التينة.. وان في الانسان حبةً، لو كان الانسانُ ثمرةً، لكانت تلك الحبة نواتهُ، ألا وهي القلب..

فقد رأيت فيه بواسطة الاحتياج علاقاتٍ الى انواع العالَم، بل الى اجزائها.. وارتباطاتٍ الى جميع انوار الاسمآء الحسنى باحتياج شديد وفقر عظيم لتجلي فردٍ فردٍ منها.. حتى كأن له حاجات عدَد اجزاء العالَم، وله اعداء ملء الدنيا.. فما يطمئن الا بمَن يقتدر ان يُغنيه عن كل شئ، ويحفظه من كل شئ..
ورأيت فيه ايضاً قابلية تمثل مجموع العالم كالخريطة والفهرستة والانموذج والتمثال.. وان المركز فيه لايقبل الاّ الواحد الأحد.. ولايرضى الاّ بالابد والسرمد.. فهذه النواة وهي حبة القلب - ماؤه الاسلام وضياؤه الايمان - فان اطمأنتْ تحت تراب العبودية والاخلاص، وسُقيت بالاسلام، وانتبهتْ بالايمان، انبتت شجرةً نورانيةً مثاليةً من عالم الامر هي روحٌُ لعالمه الجسماني. وان لم تُسق بقت نواةً يابسةً منكمشة لائقة للاحراق بالنار الى ان تنقلب الى النور.
المثنوي العربي النوري - ص: 220

ان الله سبحانه خلق الانسان وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة 3 لكتاب العالَم المشتمل على ثمانية عشر الف عالَم، وأودع في جوهره انموذجاً من كل عالَم تجلى فيه اسمٌ من اسمائه تعالى. فاذا صرفَ الانسانُ كل مااُنعِمَ عليه الى ماخُلِقَ لأجله ايفاءً للشكر العرفي - الداخل تحت الحمد - وامتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ انموذجٍ مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه. فيكون الانسان بروحه وجسمه خلاصةَ عالمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.
فبالحمد يصير الانسان مظهراً للصفات الكمالية الالهية. يدل على هذا قول محي الدين العربي 4 في بيان حديث (كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلًقْتُ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني) 5 أي : فخلقت الخلق ليكون مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي. إشارات الإعجاز - ص: 27