التنديد بإنكار شمس الدين بروبي لأقسام التوحيد
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده، وبعد.
قال الشيخ شمس الدين بروبي في جريدة العربي العدد 288 من 16 إلــــــى23 أبريل2009 في زاوية مظلمة لإحدى صفحاتها تحت عنوان" :رد خاص عن { العجالة} في تشويه الرسالة..؟" وهو هنا يقصد كتاب الشيخ الفاضل :بن عابدين حنفية:" العجالة في شرح الرسالة" التي شرح فيها رسالة ابن أبي زيد القيرواني المالكي، و بالضبط مقدمته التي تناولت قضايا التوحيد،شرحا رائقا، وافيا بقصد ابن أبي زيد القيرواني، جامعا لشتات المسائل في التوحيد.
ولما كان الشيخ شمس الدين غارقا في علم الكلام البدعي الذي ذمه أئمة الإسلام لم يعجبه أن يقوم شيخ سني بشرح الرسالة، لا، لأن صاحبها كان متكلما، ولكن لأنه كان مالكيا.
وقبل أن ندخل معه في مسألة "أقسام التوحيد" التي ينكرها و يتحدى فيها،لابد أن نبين له باختصار شديد عقيدة ابن أبي زيد القيرواني السنية المناقضة لعقيدة شمس الدين بروبي ،و إن اشتركوا في المذهب الفقهي، ثم نخر على إنكاره أقسام التوحيد عند أهل السنة .
ترجمة ابن أبي زيد القيرواني:
هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي. ويُقال له: مالك الصغير. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب... وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأوّل". توفي سنة 386
انظر: سير أعلام النبلاء {17/10}، و"شذرات الذهب"{ 3/131}
قال الشيخ ابن أبي زيد «وأن الإيمان قولُ باللسان وإخلاص بالقلب وعملٌ بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة» ، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر القرآن والسنة ، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص ."التحرير و التنوير" لابن عاشور{75/6}.
قلت: وفي هذا رد مفحم على الشيخ شمس الدين الذي قال في العربي هذا الأسبوع أن الإيمان هو التصديق فقط، الذي هو مذهب الجهمية، و ليس مذهب أهل السنة و الجماعة، بما فيهم الإمام مالك، فضلا عن النصوص الكثيرة التي سنتحف بها ردنا الخاص بهذه المسألة، إن شاء الله، لنبين من السني ومن المبتدع بالأدلة، لا بالتهويل و التحريف.
وقال الشيخ العلامة المحدث عبد المحسن بن حمد العباد البدر -حفظه الله-في شرحه لمقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني:
"رسالة ابن أبي زيد القيرواني، عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ت: 386هـ، مطبوعة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني، للشيخ صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
جاء في "سير أعلام النبلاء"{252/16}:"قال عبدالله بن الوليد: سمعت أبا محمد بن أبي زيد يسأل ابن سعدي لما جاء من الشرق: أحضرت مجالس الكلام ؟ قال: مرتين ولم أعد،فأول مجلس جمعوا الفرق من السنة والمبتدعة واليهود والنصارى والمجوس والدهرية، ولكل فرق رئيس يتكلم وينصر مذهبه، فإذا جاء رئيس قام الكل له، فيقول واحد: تناظروا ولا يحتج أحد بكتابه، ولا بنبيه، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقر به.
بل هاتوا العقل والقياس، فلما سمعت هذا لم أعد، ثم قيل لي: ها هنا مجلس آخر للكلام، فذهبت فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم سواء، فجعل ابن أبي زيد يتعجب، وقال: ذهبت العلماء،
وذهبت حرمة الدين.
قلت: فنحمد الله على العافية، فلقد جرى على الإسلام في المئة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة.
فالأمر لله تعالى.".
قلت: فهذه هي عقيدة ابن أبي زيد القيرواني في الصفات كالعلو وفي الأسماء و الأحكام، وهذا هو منهجه في ذم علم الكلام ،فأين هو و أين الشيخ شمس الدين؟!!
مسألة أقسام التوحيد:
قال الشيخ شمس الدين :" كنت منذ ثلاث سنوات تحديت الحشوية أن يذكروا لنا آية واحدة قسم الله فيها التوحيد إلى ثلاثة أقسام و تحديتهم أن يذكروا لنا حديثا واحدا قسم فيه النبي صلى الله عليه و سلم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، حديثا واحدا ولو ضعيفا... ولا زال التحدي قائما،ولازلنا ننتظر".
أقول و بالله أستعين:
لقد كثر التفاوض حول مسائل الاعتقاد وتطاحنت الفرق و الجماعات فيما بينها حتى أصاب أمتنا ما أصابها من تشتت جهدها و تلاشي قواها وتفكك عرى الألفة و التضامن في ما بين أبنائها ، حتى إن بعض فضلاء أهل العلم من غير السلفيين ممن لهم مساع كبيرة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين والوقوف في وجوه أعدائهم من المستشرقين والعلمانيين ودعاة الانحلال ،يعيبون أقرب الناس إلى الحق من أهل السنة والحديث، فيطعنون في طريقتهم ومنهجهم ويصفونهم بالجهل والتقليد و الجمود والتحجر على النصوص و حشو القول،مما تلقوه عن المعتزلة في ثلبهم أهل السنة.
وحتى يكون كلامنا بعلم وعدل وإنصاف، لابد من سلوك سبيل الموضوعية مع التجرد من الهوى والتعصب، ومن البغي والعدوان، و إن كانت هذه الدعوى قد يزين بها كل كاتب صحفه و كل متحدث مقاله فإن معرفة سبيل المؤمنين المتبعين لسنة نبيهم صلى الله عليه و سلم و تمييزها عن سبيل المبتدعين في دينهم ما ليس منه هو من يعطي هذه الشعارات تزكيتها.
فمن لم يعرف طريق المنحرفين عن السنة استدلالا و اعتمادا، ولم يعرف خلفية البدع و مصدرها قد يظن في بعض أدلة المبتدعين أنها من سبيل المتبعين.
فمن أهل العلم من عرف السنة و ميز بين ما يوافقها و ما ينافرها على التفصيل علما وعملا.
ومنهم من صرف جهده و طاقته إلى معرفة السنة دون ضدها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين من الصحابة فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل الصحابة و التابعين لهم بإحسان صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، حذر منها، ودفعها عن نفسه،وعن أمته ما وسعه الجهد، ولم يدعها تطعن في إيمانه فتورثه الشبه و تدعه شاكا في دلالات النصوص حائرا في مقارنتها بما يعارضها، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له.
ومنهم من عرف البدع مفصلة، والسنة مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الفرق فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ما جاء به الرسول على التفصيل لأنه لم يعتن به، بل عرفه معرفة مجملة وإن فصّلها في بعض الأشياء.
ومن تأمل كتبهم رأى ذلك واضحا جليا.
ومسألة إنكار أقسام التوحيد أخذها الشيخ شمس الدين عن بعض الشيعة المعتزلة وهو علوي السقاف فهو من كتب فيها،و الاعتماد على السقاف يورث إشكالات عويصة في الفهم، فإن من يلج مسائل الاعتقاد طالبا للحق و الإنصاف غير من يلجها طالبا إبطال قول خصومه بأي سبب ووسيلة، فالأول يعتمد منهجا علميا معياره الصدق و اعتماد الدليل الصحيح الصريح المعتبر مع الأمانة في نقل مقالات الخصوم و استعراض أدلتهم، لا إهمالها كلية أو عرضها بإيجاز مخل، و الاسترواح عند بسط أدلته هو.
فالشيخ شمس الدين باعتماده على السقاف ـ سنترجمه بعد قليل ترجمة علمية ـ كان الأولى به أن يدافع عن الحق لا عن مذهب معين، و أن يبحث عن حجج تؤيد الحق لا لتبطل مذهب خصومه وترد عليه إذ كان يرمي إلى الحياد و المناصفة و العدل ،فإن تلفيق النقول و ترتيب الأدلة يعود لقصد المتكلم، و قد يظهر منه أن سياق كلامه يتمتع بنوع من المنطق، ولكننا نعرف أن الحقيقة اكبر من السياق المنطقي المحدود، فالحقيقة تتوقف أولا على النصوص وما ستنبط منها.
ومتى دخل الرجل مسائل الاعتقاد مشبعا بفكر معين فإنه سيكون حبيس خلفيته الفكرية ولو من غير شعور، و بالتالي تجده حريصا على الإشارة إلى وسائل مغالطة الخصم الذي احكم حجته.
ولو كان الشيخ شمس الدين حريصا على الدفاع عن مذهب ما مع الموضوعية في الطرح، و التأول للأئمة التأويل الحسن، لكان الأجدر به تتبع مغالطات السقاف فإنه أبعد عن الأشاعرة من السلفيين الذين يتعرض لهم الشيخ في مقالاته.
ولابد أن نشير إلى أن المؤمن لا يكون كذابا، فمن ثبت عليه الكذب سقط كلية، فإما هو من العوام ممن لا يأنف من الكذب، ولا يعرف مخاطره على الدين، و يريد أن ينتصر لمذهبه بما وقع تحت يديه ،و إما هو رافضي يتلبس بدعوى السنة ليهدها من الداخل، فالرافضة وحدهم هم من يستحل الكذب على الناس، و يعتبره من وسائل الدعوة و نصرة الحق، كما هو معروف عنهم في تسمية النفاق بالتقية، وكون علوي السقاف يكذب على أهل العلم، وفي الدين ثابت عليه في كتبه.
يبقى على من يحسن الظن به، ممن ينتسب إلى السنة ـ ربما شعورا فقط ـ أن ينظر من أين يأخذ دينه؟ وهل يهمه أمر دينه كما يهمه صيته بين الناس؟ لا أقول أكثر من ذلك، بل نرضى منهم بالمساواة، فإن أمر هؤلاء عجيب، كيف يلعب بعقولهم رجل بلغ به الجهل هذا الحد؟ أبسبب بغضهم و حقدهم على السلفية عموما، و ابن تيمية و الألباني خصوصا؟فلينظروا في أعماق أنفسهم، و ليصدقوا مع الله ثم مع أنفسهم، وليحترموا عقولهم التي سنحيلهم عليها في هذا الرد .
ولا أقول هذا تقليلا من قدرهم، ولكن لا أجد سببا يدفعهم إلى التشبث بالسقاف، وهو ساقط في العلم و التقوى إلى هذا الحد إلا هذا العذر،فلو أن احدهم اكتفى بما قعده في هذا الميدان الجويني أو الرازي لكان أحسن له، فإن الرجل يخربط في العقيدة أيما خربطة، و ظني بهؤلاء أنهم ممن ينتسب للعلم، وله به عناية، فكيف يجمعون في عقولهم بإتباعهم هذا الرجل بين المتناقضات العقلية، و بين الأشعرية و الاعتزال، ونحن نعلم ما بينهما من الفرق، إلا عند من هو معتزلي عقيدة وفكرا و مرجعا، أشعري بالنسبة فقط.
فهذا الرجل ليس له من الصنيع سوى مدح ما يوافقه، وتكلف الأدلة له بصورة مستبشعة، وما لم يوافقه حط عليه،فما وافق هواه في الصحيحين جزم بصحته، وإن لم يدل مفهومه على ما ذهب إليه، وما خالف ضعفه بشتى وسائل الطعن. وكذلك يصنع مع العلماء يمدح هنا و يذم هناك، يرفع من قيمة هذا لأنه خالف ابن تيمية في موضع،و يضع من قيمته هناك لأنه خالف المعتزلة.
المهم لا يمكن وصف حال هذا الرجل، جمع بين دعوى السنة والرفض و الاعتزال،و أحيانا التجهم الصراح ،وخلاصة القول أنه انتهى بمن يحسن الظن به إلى نوع سفسطة في العقليات و قرمطة في السمعيات.
وعليه،فإن الشيخ شمس الدين باعتماده على مثل شبه السقاف يساهم في الجناية على عقيدة أهل السنة و الجماعة أولا، و يخلط بين النسبة إليهم ،وعقائد الفرق المنحرفة: من جهمية، ومعتزلة، و جبرية، و قدرية نفاة.
ـ قاموس السقاف في الطعن في الأشعري:
كما أن السقاف سيء الأدب مع أهل العلم ومع أتباعهم،ومن عجيب وقاحته وسماجة عقله وقوعه في الأشعري،فلقد أغرق شرحه لإبانة الأشعري بسيل من الشتائم تعافها النفوس السوية منها:
ـ إما أن المصنف يعرفه و أخفاه و إما أنه يجهله و أحلاهما مر.
ـ لكن مكايدة المعتزلة و أتباع مدرسة آل البيت ومناحرتهم تجري في دمه و لحمه.
ـ وهذا المصنف كذاب أشر.
ـ وهذا يدل على انه مفلس من أساليب الاحتجاج ويتهم الناس بما هم برءاء منه.
ـ من العجيب الغريب أن جهله مكعب و يصف الناس بالجهل.
ـ ما شاء الله أعجب من هذه التخريفات التي ليس لها خطام ولا زمام، يبني كلامه و عقيدته وحججه على خرافات و يصدقها،لأنها دالة على أن قائلها يصوغ الكلام بلا عقل.
ـ يا ليت المصنف كان يتقي الله و يفهم العربية ولا يغالط.
ـ أيها المصنف المفلس.
ـ وهو لا شيء في اللغة.
ـ إني أتصور أن هذا المصنف لم يكن عقله معه بل كان يحلم فهو يخرط الأقوال خرطا .
ـ مثل هذه العبارات يجب أن تشحن إلى مختبرات خاصة للتحليل... ربما نكتشف أنه أراد أن يثبت القدر بالضغط الاسموزي.
ـ كلام غير مترابط،وهذا مثل قول القائل الدليل على أن صلاة الظهر أربع ركعات قوله تعالى{ لم يلد ولم يولد}.
ـ ذكرني هذا المصنف بأدلة جحا و بالحمقى و المغفلين.
ـ وهذا الإيراد يدل على حمق المصنف.
ـ هناك احتمال ثالث وهو أنه كان غبيا."شرح الإبانة" للسقاف
قلت: هذا هو أدب من ينسب نفسه إلى النسب الشريف و يدعي العلم مع من هو خير منه بآلاف المرات لا يراعي حرمته ولا حرمة أتباعه، فإن الأشعري رحمه الله له أتباع كثر، و إذا قدر أن خالفه أحد في مسألة لا يعني أبدا استحقاقه لكل تلك الشتائم فما بالك و المخطئ هو السقاف أخذ وثنية أرسطو و ابن سينا و أضاف إليها شيئا من حقد الشيعة الرافضة وزعم أن هذا هو دين محمد صلى الله عليه و سلم.
إني أشفق على هؤلاء الذين وقعوا ضحية وفريسة لهذا الرجل، فلعل الله يخرج ما في بطونهم من حسن الظن بالسلف، ومن بركة القرآن و السنة ما يزيل عنهم شبه السقاف و ألاعيبه، ولكن عليهم ترك الغرور بالنفس والأحقاد جانبا فإنها من أعظم ما يصد عن الحق و يزين الباطل،وهي أمور باطنة تتلبس بصور شتى و تدفع الإنسان في اتجاهات وهو لا يدري، كذلك عليهم ملاحظ الفرق بين اعتقاد الرجحان و رجحان الاعتقاد، بين العلم بالعدم وعدم العلم،فإنه ما ضاع أحد بين أهل البدع إلا لتقصيره في السنة اعتقادا و استدلالا، أعانهم الله و هداهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه أنه ولي ذلك و القادر عليه.
ولكن عليهم أولا : أن يعلموا أن كل شيء حتى الشعور و الاعتقاد و الهواجس و الظنون و الخواطر و الوساوس قد خلقها الله، وخلق ما يدفعها و يداويها، لكن بشرط أن يعتقد المرء أن الله عنده الحق و يهدي للحق، و أن يطلب منه أن يهديه للحق.
على كل حال الأمثلة على انحراف السقاف و تعاطيه التحريف و التلبيس و التلفيق في الروايات كثيرة جدا ليس هذا موضع سردها.
منهج الشيخ بلقرد:
وبهذا تعرف أن منهج الشيخ شمس الدين ليس محاولة استخلاص الحقائق العلمية أو البحث عن المشترك بين المسلمين للتنبيه عليه و الإشارة إليه وتركيز الجهود على إبرازه ليكون وسيلة للتقريب بين المسلمين و معالجة الخلاف عن طريق إدارة هذا الخلاف و عدم العمل على تضخيمه بطمس الحقائق العلمية و التاريخية و طلب العذر للأئمة و فهم طبقاتهم في العلم ، بل جهده يصب في إطار محاولة تأصيل الأخطاء سواء العلمية أو السلوكية فمثله و مثل السلفيين الذين يبحث لهم على الهفوات و الأخطاء ولو بالتضخيم مثل ما قال الشاعر
ولو أسقيتهم عسلا مصفى... بماء النيل أو ماء الفرات
لقالــوا أنــه ملــح أجـــاج... أراد بــه لنا إحدى الهنات
فهذا الذي وقع بين الأئمة ما كان ليبلغ هذه الدرجة من العداوة لو التزم الأتباع في ردودهم على الأدلة العلمية وحدها، و لم يزيدوا عليها تلك الأمور الشخصية التي أخرجت ردودهم عن حد الاعتدال و كانت أحرى بأن تعود عليهم بالذم سواء كانوا من هذا الفريق أو من ذاك .
و المسائل التي ينقمها الشيخ شمس الدين على السلفيين كان يمكن أن نعذره عليها بغض النظر عن كونه أصاب أم أخطا لو انه التزم بالموضوعية و الروح العلمية ولم يستعين بمن هب ودب كالسقاف و بعض الرافضة كجعفرالسبحاني ممن يستحل الكذب و التحريف في النقل.
وإن كنا نعلم أن الشبهات قد ترد و تدخل على قوم لهم دين وعندهم إيمان و خير و لكنهم عجزوا عن دفعها فقد يتخذونها دينا و يظنونها تحقيقا لمنهج أهل لسنة و الجماعة، فإن لم يحاربوا عليها و يستحلوا من مخالفهم ما حرمه الله من الطعن و البهتان و القذع كان المرجو أن يتداركهم الله برحمته فيلهمهم الصواب.
أما إن فعلوا غير ذلك فإنهم يصيرون بغاة معتدين و هذا لازم للشيخ شمس الدين فإن ما يعتقد انه هو الحق سنبين في هذه السلسلة بالأدلة الدالة على مدلولاتها أنه باطل لبس بحق و أن أخطأه العلمية كثيرة جدا.
والشيخ شمس الدين يخطئ السلفيين على مسائل هي عين ما قاله أهل السنة، و ما دل عليه الكتاب و السنة.
إن السلفيين إذ يؤكدون على ضرورة تنقية التوحيد من مظاهر الشرك لا ينطلقون من تصور كلامي استوردوه من بنات أفكار الإغريق أو الفرس ولكنهم ينطلقون من كتاب الله ،هذا الكتاب المبارك الذي لم يجدوا فيه أدنى إشارة إلى استحباب الدعاء عند القبور و اعتقاد أن لذلك مزية على ما سواه من بقاع الأرض، كما لم يجدوا فيه تعظيم الموتى و نسبة النفع و الضر إليهم.
كما أن السلفيين ليس من أصولهم العلمية تشريع العبادات بمجرد أن بعض الأئمة أو الفضلاء استحبها أو فعلها،فإنه و إن قدر وجود بعض أهل العلم ممن فعلها فإنه يوجد في من تركها ونهى عنها من هو اجل و أعظم منهم، و العبرة بمن وافق الكتاب و السنة،أما الاستدلال على جوازها أو استحبابها بمجرد فعل بعض الفاضلين لها فليس هذا من أصولهم ولا من أصول الإسلام.
فالسلفيون بما يذيعونه من عقيدة في هذا الباب توحيد الألوهية إنما قصدهم أن يكون الله هو معبودهم وحده، و إياه يعبدون و عليه يتوكلون وله يخشون ويرجون و به يستعينون و يستغيثون وله يدعون و يسألون، فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلا منه و رضوانا، كما قال تعالى في نعت الصحابة:{ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا}"الفتح".
و كذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة لا سيما المسجد الحرام الذي أمروا بالحج إليه، قال تعالى:{ لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام و لا الهدي و لا القلائد، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا}" المائدة"، فهم يؤمون بيته يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا لا يرغبون إلى غيره ولا يرجون سواه ولا يخافون إلا إياه .
وقد علمنا أن الشيء لا يكتسب شرعيته من مجرد كونه مختلفا فيه إذ الناس اختلفوا في كل شيء، و إنما يكون الشيء مشروعا في ديننا إذا كان مما أمر الله به ورسوله.
وعليه، فالمشكل الذي تعاني منه الأمة الإسلامية في هذا العصر ليس هو مشكل تراثها وما يوجد فيه من نعرات و عصبيات و اختلاف في أهم مسائل الدين ولكنه مشكل أهل العلم وكيفية تعاملهم مع هذا الموروث،فإن الواحد منهم إما يدخل هذه المسائل محاولا تحري الحقائق العلمية و تصفية الشرع المنزل من الشرع المبدل مراعيا مشاعر الناس، مجتنبا قدر الإمكان طريقة الاستعراض أي إظهار الخلاف في شكل استعراضي و إبقائه داخل دوائره العلمية.
أما محاولة تبرير الأخطاء السابقة بتكرارها وتكرير الأدلة الواهية فهذا ما يبقي الأمة الإسلامية تتخبط في صراعاتها الداخلية، في حين كان من المفروض أن يمثل الاختلاف العلمي المبني على الأدلة المعتبرة خصوبة الفكر عند المسلمين صار نتيجة سلوكيات خاطئة تتلبس في كثير من الأحيان بالبغي على الآخر يمثل الضعف و الهوان و التخلف.
فإذا كان بعض المنسوبين إلى العلم لا يتركون فرصة تمر إلا وهم يصّفون حسابهم مع من لا يوافقهم في بعض المسائل فهذا دأب ذوي القصور في الفهم ومن حرمهم الله معرفته.
من المعلوم أن أهل السنة لم يكووا متوافقين في كل شيء حتى في العبارات بل المعتبر عندهم الاتفاق في الكليات و إن اختلفوا في جزئيات القضية وعلى هذا عشرات الأمثلة فالناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في أصولها أو في جزئياتها الفرعية و قد يلوح الخلاف إذا كان أحد المتقاولين ناظرا في أصول المسألة والآخر ناظر في جزئياتها و متى كانا متفقين على كلية القضية مختلفي في جزئياتها كان ذلك تعارضا وترجيحا.
فالخلاف إن كان لفظيا لم يكن ذلك منافيا لاتفاقنا من جهة المعنى و إن كان النزاع معنويا فهو أيضا قسمان أحدهما اختلاف تنوع كأن يثبت العالم الفلاني شيئا و ينفي العالم الآخر شيئا آخر، و لكن لعدم الدقة يظن المقتبس عن احدهما أن الثاني ينفي ما أثبته الأول.
والشيخ شمس الدين لم يتصور مسألة تقسيم التوحيد تصورا صحيحا، ولذلك أوقفها على أصلها اللغوي وهذا خطأ جسيم، فإن الأنبياء جاؤوا بمعاني كلية تعم ما تحتها من جزئيات نستخلصها بأنواع من الدلالات ،ومن قال من المسلمين أن الحقائق العلمية متوقفة على ألفاظ الأنبياء و يجب أن تطابقها بالتمام فقد قال ما ليس له به علم.
و الشيخ شمس الدين حاول نقض تقسيم التوحيد بذكر لوازم لم يقصدها السلفيون معتمدا على أدلة جدلية وليست علمية،و قد علمنا أن الحقيقة العلمية لا تتوقف على السياق الجدلي وخلوه من التناقض اللفظي، لأن الدليل لا يكون علميا حتى يكون مستندا على دليل شرعي أما كون المقدمة صحيحة أو فاسدة فهذا من قسم الجدل وليس من قسم العلم يبينه:
أنه إذا منع الشيخ شمس الدين السلفيين الاستدلال على أصل المسألة بأن قال هذا التقسيم لم يرد في شيء من نصوص الكتاب و السنة ولا في كلام السلف فيجب أن يفرق حينئذ بين الاستحداث اللغوي و بين استحداث المعاني،فهل هذا التقسيم مستحدث المعاني أم الألفاظ هي المستحدثة فقط.
فإذا عرفنا بالأدلة الشرعية أن الله عز وجل قد بين في كتابه وجوب إفراده بالعبادة زيادة على أنه الرب الخالق المدبر ووصف نفسه في القرآن بصفات الكمال و تسمى بالأسماء الحسنى و كذلك في سنة النبي صلى الله عليه و سلم ولم نجد من السلف الصالح من الصحابة و التابعين لهم بإحسان ـ يعني من غير مخالفة لهم لان الباء هنا باء التعليل أو المصاحبة ـ من أجاز أن يقصد غير الله بالصلاة و النسك و الدعاء و غيرها من عبادات علمنا حينئذ أن معاني هذا التقسيم ليست مستحدثة و إنما استحدث المصدر الصناعي كما هو الحال في علوم اللغة و الفقه و أصوله و مصطلح الحديث و سائر الفنون .
فنحن نعلم أن العرب لم تكن تستعمل المصادر الصناعية و إنما تجدد المعاني و تطورها و اتساعها ،و ظهور الخلاف هو ما اضطر إلى استحداث المصادر الصناعية بقصد الدقة وترك الإجمال في الكلام هذا الإجمال الذي و إن كان في زمن السلف كافيا لسلامة فطرتهم و بعدهم عن البدع لم يعد يكفي في الأزمنة المتأخرة و قد ظهر من احدث في الدين ما ليس منه و نسبه لله ورسوله.
وعليه ، لم تنقطع أدلة السلفيين لمجرد كون هذا التقسيم مستحدث الألفاظ،فإننا لو سايرنا الشيخ شمس الدين لوجب علينا رفض الصوفية برمتها حتى السنية منها لان لفظ" الصوفية" مصدر صناعي مستحدث، و كذلك "الماهية" و "الهوية" و "الفاعلية" و "المفعولية" و" الحاكمية".
ومعلوم أن تقسيم التوحيد هو من جنس الاستقراء والاستدلال لبيان أنه لا يكفي المسلم أن ينطق بالشهادتين دون فهم لمعناها ومعرفة ما يناقضها فلما كثرت في الأزمان المتأخرة ـ بعد القرون المفضلة ـ البدع والجهل بحقائق الرسالة و آثار النبوة و ضعفت اللغة عند عامة الناس بحيث صاروا يطلقون عبارات لا يعلمون معانيها كما كان يعلمها الصحابة و التابعون لهم بإحسان صار واجبا تعليم الناس معاني التوحيد ونواقضه و أنهم ليكونوا موحدين لا يكفي الإقرار بالله ربا خالقا فقط ثم طلب النصر و الرزق و الشفاء و الولد من بعض المقبورين فإن هذا يناقض الإقرار بالربوبية كما هو واضح .
فالمقصود بهذا التقسيم إشعار التنبيه بالعلة المؤثرة و الملائمة وهي وجوب إفراد الله بالعبودية بجميع أشكالها و أنواعها، فهذا هو حقيقة التوحيد لا الإقرار بالله ربا خالقا ثم التوجه بالعبادة إلى بعض المخلوقين.
فالسلفيون لا يحتاجون إلى الشيخ شمس الدين و السقاف و الرافضة ممن يرى الحج إلى المشاهد بحجة تعظيم أئمة البيت أو الأولياء أو لا يعتبر تحري الدعاء عند القبور و قصدها بالتعظيم و الاستغاثة بالمقبورين و الذبح عند الأضرحة واعتقاد في رجال الغيب و الأبدال يدبرون هذا الكون من الشرك ومن نواقض الإقرار بالربوبية لتقرير هذا التقسيم إذا كانوا ملتزمين بما دل عليه كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم .
فالحقائق لا تتوقف على اعتقاد هؤلاء و لا على اعتقاد السلفيين ولكن على أدلة الكتاب و السنة، و أدلة الكتاب و السنة تقر هذا التقسيم لا تقر مفهوم التوحيد عند المعتزلة و من سلك سبيلهم .
فليس من شرط الاستنباط والاستقراء و استخراج العلة أن تكون مؤثرة بالإجماع بل هذا كلام المعتزلة ، وعلة هذا التقسيم من قسم العلل المسطورة فهي واضحة في القرآن و السنة كما سنبينه بعد قليل.
فالسلفيون عندما اقروا هذا التقسيم وهو من جنس الاستقراء و الاستنباط ونهوا عن القياس بالرأي أرادوا أنه لابد في القياس من أصل يرد الحكم إليه يريدون بذلك مخالفة ما عليه أهل الرأي من الاستحسان وهو وضع المسائل بالرأي و المناسبة المجردة ثم التفريع عليها ولذلك فالقياس عندهم ـ إذا قدرنا أنهم انتهوا إلى هذا التقسيم بنوع قياس و استنباط ـ أن يقيس على أصل، أما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقول قياس فعلى أي شئت قست؟
و تقسيم التوحيد و بيان الفرق بين توحيد الربوبية و توحيد العبودية أصل ثابت في الشريعة وإن زعم الشيخ شمس الدين أنه لا دليل عليه لأن تأثير ذلك الوصف ـ وجوب إفراد الله بالعبودية كلها ـ في الحكم الذي في الأصل بنص الكتاب و السنة.
ومتى علمنا تأثير الوصف في حكم الأصل بالاستنباط وكان الوصف مناسبا فإما أن يعلم تأثيره في غير الأصل بنص أو إجماع أو لا يعلم له تأثير والأول هو المناسب المؤثر الملائم.
وعليه فكلام السلفيين في هذا التقسيم و ضرورته الشرعية و استدلالهم مناسب و مؤثر وملائم.
و إذا قدر أن الشيخ شمس الدين قد أفسد بعض أدلة السلفيين الفرعية فيما يخص إثبات هذا التقسيم من الناحية اللغوية، فهذا لا يعني أن أدلته هو صحيحة، بل قد يكون الحق خارجا عنهما و يكون الصواب إثباته أحيانا ونفيه في أحيا أخرى بحسب الحاجة في الخطاب،فمن فهم التوحيد من القرآن و السنة و عرف وجوب إفراد الله بالعبودية كلها و عرف حقيقة لا إله إلا الله العلمية و العملية لم يحتاج إلى هذا التقسيم كما كان الحال بالنسبة للصحابة و التابعين.
و كما أن الأحكام تكون عامة فالعلل كذلك يعتريها العموم، والسلفيون خصّوا العلل التي احتجوا بها على هذا التقسيم وهي وجود الفرق بين معنى الربوبية ومعنى الإلوهية بعموم الأدلة وخاصتها ، والحكمة أو العلة لها تأثير في الأحكام من جهة التنبيه المعتبر.
و ما يقوم به الشيخ شمس الدين من تفسير لأدلة السلفيين على خلاف ظاهرها لا يقبل منه فإنه بذكر تلك اللوازم التي لم يقصدها السلفيون فقد زاد في عللهم و أسبابهم أوصافا لم تكن فيها و هذا باطل قطعا .
و قد تكون بعض أدلة السلفيين إنما ذكروها لبيان جواز هذا التقسيم عقلا و نقلا ، فلا يمكن أن ينتقض أصل تقسيمهم بنقض هذه الأدلة لان أصل التقسيم يعتمد على أدلة شرعية صحيحة صريحة .
ونحن نعلم أنه لا يجوز لأحد أن يلزم خصمه مالا يقول به أو أن يحتج عليه بأدلة لا يعتقدها هو فيعارضه بما ليس دليلا عنده، و إن كانت معارضة الشيخ شمس الدين لأدلة السلفيين في فرع كمسائل السياسة و الدعوة وهجر المبتدع لهان الأمر فهناك أدلة أخرى أقوى تبين ما أراد السلفيون تبيانه .
أما إن كانت معارضة في الأصل فهي باطلة قطعا إذ قاعدة السقاف أن كل لفظ لم يرد في القران و السنة أو عند الصحابة فمعانيه باطلة قطعا قاعدة سفسطائية القصد منها إبطال الحقائق و إلا فإن جل مصطلحات الشيعة و المعتزلة و المتكلمين لا أصل لها في الكتاب و السنة و عند الصحابة.
نعم رعاية الألفاظ عمل جيد، ولكن رعاية المعاني بسبب تجدد اللغات و تطورها و تجدد الفكر و تطوره و تنوع لغات الناس هي القاعدة الشرعية الثابتة بنص الكتاب و السنة .
ومعلوم أن الاستنباط قياس و استدلال، و الاستدلال يكون بأمارة أو علة ، و يكون بشهادة الأصول، ومعلوم كذلك عند علماء الأصول أن الاستدلال بالعلة أو الأمارة هو المعتبر قال ابن برهان: الحق ما قاله الشافعي قال: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشريعة أو لأصل جزئي جاز لنا بناء الأحكام عليها و إلا فلا"
وعلة التقسيم عند السلفيين دلت عليها أصول الإسلام و الإيمان.
وبعض السلفيين يبنون منهجهم على قول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في رواية الميموني:" إياك أن تتكلم بكلمة واحدة ليس لك فيها إمام"
فهذه الكلمة قد تعلق بها قوم من السلفيين وهم مخطئون إذ يجب بيان الحق و رد الباطل ، و تعلق آخرون بغيرها وقد ذكر كل ذلك ابن حامد في كتابه"تهذيب الأجوبة"ضمن مسألة هل يجوز للمجتهد أن يحكم في الحادثة و إن لم يحكم فيها قبله وهل الأفضل به ذلك أو التوقف إذا وجد غيره؟ و بين أن الحنابلة اختلفوا في ذلك ومنهم من فرق بين الأصول و الفروع ورجح هو أن الأفضل أن يحكم في الجميع مطلقا انظر " المسودة"{ص:45}.
هذا إذا افترضنا أن السلفيين ـ ابن تيمية ـ قد جاءوا بمسألة لم يسبقهم إليها أحد فلا إشكال عليهم، أما إذا عرفنا أنه رحمه الله لم يكن بدعا من العلماء في تقريره هذه القاعدة كما سنبينه، و أن اللوازم الباطلة التي يقيمها الشيخ شمس الدين ومن سبقه في هذا الإنكار على هذا التقسيم ليست لازمة له و لا للسلفيين عموما.
الموضوع:
يجب هنا ملاحظ أصلين معتبرين هما:
1 ـ عدم خوض السلف في بعض المسائل لا يعني أن أتباعهم أحدثوها، فإن عدم قيام المقتضى عند السلف للكلام في هذه المسائل العقدية هو عدم وجود المبتدعين فيها،أما و قد تكلم بعض الناس بالباطل فواجب أتباع السلف الرد عليهم بما يحفظ أصالة النصوص ومنزلتها في التشريع.
فكما كان القرآن و السنة هما مصدر التلقي عند المسلمين حتى احدث المحدثون بدعا تلقوها عن الفلاسفة جعلت كتاب الله و سنة نبيه من الأدلة الظنية التي لا تفيد اليقين وزعموا أن ظاهرهما كفر وجب رد هذا الباطل حتى يبقى الكتاب و السنة هما مصدر التلقي عند المسلمين كافة تماما كما كان الحال عند السلف الصالح.
2 ـ لو ترك أهل السنة الرد على المبطلين لكانوا مقصرين في تبليغ الدين، مقصرين في رد ما يناقضه و يعارضه، فإنه لا يتم بيان مراد الله ومراد رسوله و تبليغه إلا بدرء ما يعارضه من شبهات.
والفرق بين السلفيين و غيرهم أنهم يأخذون الدين على فهم السلف الصالح لا يخالفونهم في شيء مهما لفق لهم خصومهم الشبهات و التهم، بينما غيرهم ينتسب إلى السلف و يأخذ بأقوال اليونان في عقيدته.
دلالة القرآن على هذا التقسيم:
قوله تعالى:{ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}
قلت:مثل هذه الآيات التي يحتج بها السلفيون في هذا الباب مستغنية بنفسها عن الخصوص كما هو واضح من سياقها،وكونها نزلت في حق مشركي العرب فهذا سبب نزولها لا يعني انتفاء هذه المعاني في غيرهم، فمن يزعم أن الله هو خالقه ورازقه ومدبره ومع ذلك يذبح لغير الله و يقسم بغير الله و يستنصر بغير الله و يدعو ويستغيث بغير الله تعمه معاني هذه الآيات شاء المنكرون أم أبوا إذا العبرة بالمعاني و المقاصد و ليس بالألفاظ.
والقرآن نزل ليبقى دالا على الهدى و الحق إلى يوم القيامة لا يهم ذكر الأسماء فيه بل الذي يهم المعاني التي أمر بها و المعاني التي نهى عنها كما ستراه في موضعه.
الآيات التي ورد فيها اسم الجلالة بدل اسمه الرب تدل على وجود الفرق بين الاسمين،فنحن مثلا نقول: رب البيت ونقصد به صاحب البيت،ورب الإبل ونقصد به صاحب الإبل ورب الأمر، ولا نقول: أله البيت و إله الإبل و إله الأمر، لما كان اسم الله هو الجامع للأسماء الحسنى فكلها تضاف إليه فيقال الغفور الرحيم السميع البصير من أسماء الله و لا يقال العكس قال تعالى:{ و لله الأسماء الحسنى}كاسم الله تعالى فإنه دال على صفة الألوهية ولم يجيء قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة،فاسم (الله) متضمّن لصفات الألوهيّة, واسم (الرب) متضمّن لصفات الربوبية, واسم (الرحمن) متضمن لصفات الإحسان والجود والبر، ومعاني أسمائه تدور على هذا كان توحيد الألوهية جامعا لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء و الصفات.
وكما جاء في النص الصحيح الذي رواه البخاري في" صحيحه"{2644}عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه انه قال:" كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير فقال يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله قلت الله ورسوله أعلم قال فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا " أي متى صرف العبد شيئا من عبادته لغير الله كان مشركا بالله ما لا يجوز له، و بالتالي لم يستحق النجاة من عقاب الله كما هو مفهوم الحديث.
توحيد الربوبية كسائر الاعتقادات له طرفان ووسط:
توحيد الربوبية كسائر المعاني و العقائد له طرفان ووسط،قد يتحقق الإنسان بكل معناه و قد يحقق بعضه و يضيع بعضه وقد ينكره كلية كما هو حال الملحدين و الدهرين،و إذا قدر أن بعض المشركين أنكروا بعض لوازمه وملحقاته فهذا لا يعني أنهم ينكرونه كلية.
بيان مشكلة الشيخ شمس الدين مع المصدر الصناعي:
قلت: الشيخ له مشكلة مع المصادر الصناعية ،فالسلف كذلك لم يتكلموا بلفظ: "الصوفية "، و "الجسمية"، و "الماهية" و "الهوية" و "الجهة" و "الحيز" و "الافتقار" و "التركيب" وغيرها من مصطلحات، ولا دل عليها القرآن بخلاف هذا التقسيم الذين دل عليه القرآن في مواضع كثيرة ودلت عليه السنة النبوية و يدل عليه العقل،ودل عليه كلام السلف كما سنوضحه لاحقا.
كما أن هذا التقسيم لا يستدل عليه بعمومات القرآن و السنة ولكن بأدلة خاصة تعينه و تخصه من كل وجه، وما اندرج من العبادات تحت العموم لا يقول به السلفيون ليسا تعطيلا للعموم أو توقفا فيه بحثا عن تخصيصاته إذ عموم الدليل لا يترك إلا في صورة التخصيص و تبقى باقي الصور محفوظة.
أما تقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة فقد دل عليه كلامهم وحالهم، فلم نجد واحدا منهم صرفا شيئا من عبادته لغير الله، فذبح لغيره أو سجد عند قبر أو استغاث بغير الله وهذا هو توحيد العبودية أو توحيد الإلوهية.
بيان خطأ الشيخ شمس الدين و تناقضه في اعتبار الدليل السمعي هنا:
قلت:اشتراط الشيخ شمس الدين آية او حديث ولو ضعيف يذكر هذا التقسيم وهو استدلال بعدم العلم على النفي وعدم الدليل السمعي على التقسيم اللفظي على تنوع معاني التوحيد، مع فرض انه لا يوجد دليل سمعي يدل على هذا التقسيم.
و إذا جئنا إلى باب المعاني و جعلنا المعتبر في صحتها أو فسادها وجود الدليل السمعي كان جل دين الشيخ شمس الدين ساقطا إذ لا يوجد دليل سمعي على جل معتقد المتكلمين و مصطلحهم و ألفاظهم وكذلك مصطلحات الصوفية و غيرها.
لقد جعل الشيخ شمس الدين عدم العلم علما ، وعدم الدليل دليلا، دون تفريق بين المسائل التي يعد عدم الدليل السمعي فيها دليلا على عدمها، و بين المسائل التي عدم الدليل فيها ليس إلا عدم العلم وهو الجهل ، فهذا الخلط تجده في بحوث بعض المعاصرين ينفون بعض الحقائق لعدم علمهم بها، ويعدون عدم علمهم بها علما ودليلا على عدمها، كما هو موضح في ردنا على بعضهم .
الجواب المفصل لبيان ما اغفل الشيخ شمس الدين ذكره:
قلت:
1 ـ الشيخ شمس الدين في نقد غيره لفظي يقف عند الألفاظ ولا يتجاوزها إلى المعاني ،ويفهم من كلامه أنه يمنع تجدد الاصطلاحات، فإذا لم يستعمل السلف الصالح لفظ "الربوبية" و "الألوهية" فهو بدعة و باطل.
وعليه فكل اصطلاح بل واشتقاق لم يجر العهد عليه عند السلف، ولم يكن من عاداتهم في الكلام فهو بدعة و باطل، ومعلوم شناعة هذا الاستلزام.
و الشيخ دخل عليه الخطأ في هذه المسألة المهمة جدا لأن التوحيد أو مفهوم التوحيد الذي يدعو إليه ليس هو التوحيد الذي كان الأنبياء يدعون إليه،بل توحيد عنده عبارة عن خليط من مفاهيم إسلامية و أخرى إغريقية منطقية ليس هو التوحيد القرآني النبوي بحال.
فالشيخ ممن لا يفيد القرآن عندهم العلم، بل جله في مسائل الاعتقاد ظواهر غير مرادة، فهو إما يظهر من نصوصه الكفر و الضلال الذي يجب تأويله أو لا يدل بحال على شيء، كأن نصوصه أعلام لا معاني تحتها حسب ترجحه بين التأويل و التفويض.
وقد دخل عليه الخطأ من جهتين اثنين:
1 ـ من حيث دراسة ألفاظ التقسيم من جهة صحة الاشتقاق اللغوي و استعماله عند كثير من أهل العلم قبل ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لا كما زعم الشيخ شمس الدين.
ومن جهة معاني هذه الألفاظ هل يدل عليها الاستقراء من القرآن و السنة و بالتالي هل هي معان صحيحة؟
وهذا الشق يبين مدى ابتعاد الشيخ عن المنهج العلمي و الموضوعية في المقاربة إذ لازم قوله انه لا يجوز تجدد مصطلحات في الدين الإسلامي تتحملها قواعد اللغة العربية، في حين يجوز أن ندخل مصطلحات يونانية على التوحيد الإسلامي ثم نعرّبها، وهي تحمل معاني مضادة و مناقضة لمعاني القرآن، فهذا جائز!
ثم هو من جهة يقول ببدعية هذا التقسيم، مما يدل على عدم فهمه القرآن، لأنه ليس مصدرا لعلم التوحيد عنده و إن زين مقاله ببعض الآيات وهذا معروف عن الذين ينقل عنهم شبهه و يدافع عن تصورهم لمسائل العقيدة أمثال السقاف.
فعند هؤلاء القرآن ظواهر يجب صرفها إلى معاني مرجوحة موافقة للمنطق الأرسطي اليوناني مثل الجوهر الفرد و تماثل الأجسام وغيرها مما ستراه في موضعه .
فمن جهة يجب تعطيل الدلالة اللفظية للقرآن لصالح الدلالة العقلية خدمة لعلم الكلام المبتدع، ومن جهة لا اعتراف إلا بالدلالة اللفظية أما العقلية الاستقرائية من النصوص كدلالة اللزوم و التضمن ودلالة السياق و قياس الأولى فبدعة ضلالة!
وهذا وجه التناقض في فهم الشيخ شمس الدين يدلك عليه انه زعم في مقاله هذا أن العقائد توقيفية، فلم يفهم معنى توقفية إذ ظن أن مقصودهم بتوقيفية الحرفية اللفظية وليس هذا مقصود أهل العلم،فكل ما دل عليه القرآن و السنة بأحد أنواع الدلالات المعتبرة دخل في معنى التوقيف.
وفي هذا الرد سنثبت له بالقرآن أن قياس الأولى و قاعدة الكمال طرق قرآنية في إثبات العقائد.
أما الشبهة الثانية التي أوجبت له هذا الخطأ وهي شبهة تلقاها عن المعتزلة إذ يخالف بها مكنونات نفسه و فطرته هو ظنه أن معرفة الله نظرية من النظريات خاضعة للتدليل العقلي، فهذا الذي دفعه إلى أن ينكر هذا التقسيم لانه يستلزم كما في عدة آيات قرآنية أن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم ذلك إذ أشركوا في توحيد الألوهية .
ثم هو من جهة أخرى لم يفهم مبدأ التفاضل في هذا التوحيد و أن الإقرار بأصله الذي هو أن الله تعالى هو الخالق المميت المحي الرزاق أي المدبر لا ينفي الشرك فيه ،كما أشار إلى ذلك القرآن،فالآيات التي يحتج بها السلفيون على أن مشركي العرب كان عندهم توحيد الربوبية إنما تفيد وجود أصله عندهم و تلومهم على عدم طرده و العمل بلوازمه من صرف العبادة إلى الله سبحانه و تعالى.
وعليه سنخوض في المسألة كالتالي:
نذكر صحة ألفاظ هذا التقسيم وشرعية معانيه ومن استعمله من العلماء غير ابن تيمية و أنواع التوحيد و الفروق بينها و أوجه تداخلها ثم نختم ببيان مفهوم التوحيد عند المتكلمين ومفهوم التوحيد في القرآن و السنة.
1 ـ مسألة ألفاظ التقسيم وموجبه ومورده:
أول من تنبه إلى هذه المسألة أو اضطر إلى تفصيلها وشرح الشبه التي يمكن أن تورد عليها و ردها بالأدلة و بين أقسام التوحيد و أن العبادة تدخل في توحيد الإلوهية و أنها من خصائصه سواء سميت توحيد العبودية أو توحيد الألوهية هو الإمام أبو جرير الطبري في كتابه" التفسير" ، قال رحمه الله :
بيان أن توحيد الألوهية هو صرف العبادة إلى الله:
قال الطبري في"تفسيره"{123/1}:" وأما تأويل قول الله تعالى ذكره "الله"، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس-: هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في "فعل ويفعل" أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا[1].
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في "فعل ويفعل".
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: "تألَّه فلان" - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للهِ دَرُّ الغانِيات المُدَّهِ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ "التألُّه" ، التفعُّل من: "ألَه يأله"، وأن معنى "أله" - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب "فعل يفعل" يغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ) [سورة الأعراف] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
- حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس:(وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك)، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله "ويذرَكَ وإلاهتك" قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ "أله" عَبد، وأن "الإلاهة" مصدرُه.
وقال الطبري أيضا : أن يقال : الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل "الله" - من كلام العرب أصله "الإله"[2].
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله:(لكِنَّ هُوَ اللهُ رَبِّي) [سورة الكهف] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْف، أَيْ أَنتَ مُذْنبٌ... وتَقْلينَني، لكِنَّ إياكِ لا أَقْلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من "أنا" فالتقت نون "أنا" "ونون "لكنْ" وهي ساكنة، فأدغمت في نون "أنا" فصارتا نونًا مشددة. فكذلك "الله" أصله "الإله"، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله(لكنَّ هوَ الله رَبي)."
وهذا نقل آخر عن الطبري يبين أن معنى الألوهية هو العبودية:
قال{133/1}:"فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو "الله"، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه، لا من جهة التسمِّي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى "الله" تعالى ذكره المعبود ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح.
أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه:(أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [سورة الإسراء]. ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه،وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو "الله".
وأما اسمه الذي هو"الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو "الله"،
[1] ـ لم يرد عند العرب استعماله لأنه لفظ :" الربوبية" و "الألوهية" من المصادر الصناعية التي كلما تجددت الأحداث و الأعراف و الحياة العلمية و الثقافية للعرب اشتقت مصادر صناعية جديدة حسب الحاجة، ومعلوم أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم عهد بهذا التقسيم ولا بألفاظه فلم نجدهم يستعملون هذه الألفاظ لأنها شرعية و ليست عرفية و لذلك قال الطبري أن العرب لم تعهدها ولكن يستدل عليها بالقرآن و السنة، فهي من خصوصيات الدين الإسلامي،فليس لكونها مصدرا صناعيا يعني أنها باطلة.
شرح المصادر الصناعية:
قد ورد عن العرب بضع عشرات من المصادر الصناعية، منها: الجاهلية، الأريحية، الفروسية، العبقرية، العبودية، الألمعية، الألوهية، الربوبية، الوحدانية...
وكثير من المصادر الصناعية قد تحوّلت في الأصل عن أسماء منسوبة أُنزلت منْزلة الصفات المشتقة للدلالة على حال الموصوف وهيئته، واستُعملت كذلك، نحو قولك: (إنسانيّ، حيوانيّ، كَمِّيّ، كيفيّ، جزئيّ، كلّيّ...). فإذا أُريد التعبير بها عن جوهر حال الموصوف ومجرّد حقيقته، أُحيل الوصف إلى (مصدر صناعي) بإلحاق تاء "النقل من الوصفية إلى الاسمية" نحو: الإنسانية، الحيوانية، الكمية، الكيفية، الجزئية، الكُلِّية...
وقد أكثر المولَّدون من هذه المصادر بعد ترجمة العلوم بالعربية، وقرر مجمع اللغة العربية بالقاهرة قياسيّة صوغ هذا المصدر، لِسَدِّ حاجة العلوم والصناعات إلى ألفاظ جديدة تعبِّر عن معانٍ جديدة، وعليه فمعنى الربوبية و الألوهية و العبودية معان صحيحة من جهة لغة العرب و صحيحة من جهة المعاني بحيث تعبر عن النقلة من الوصفية إلى الاسمية بحيث صار لفظ الألوهية تعبيرا عن مجموعة أشياء و أفعال من قام بها فقد تأله الله بمعنى عبده و أحبه.
ولكن متى نصنع مصدراً من المصدر الأصلي؟ أو من اسم المعنى عامةً؟
الجواب: لا معنى لإلحاق الياء والتاء بالمصدر إذا كنت تبغي معنى المصدر، أو الاسم، وحَسْب. فإن اتخاذ (العدلية) بمعنى العدل، و(الخيرية) بمعنى الخير، غير سائغ، واللغة تأباه، والعرب لم تَجْرِ به وإنما قالت: فَعَلَ ذلك على جهة العدل، وعلى جهة الخير... ولم تقل: على العدلية، ولا على الخيرية... لذلك كان الأصل في إلحاق الياء والتاء بالمصدر أو اسم المعنى عامةً، أن تزيد في معناه شيئاً، أو تبتغي خصوصية في دلالته.
· فَ (الإنتاج) مثلاً مصدر. فإذا قلت (الإنتاجية)، فلا بد أنك أردت به شيئاً آخر لا يمكن التعبير عنه بمجرد لفظ (الإنتاج). والإنتاجية في الاقتصاد: العائد من سلعة أو خدمة في مدةٍ مّا، مقدّراً بوحدات عينية أو نقدية، منسوباً إلى نفقة إنتاجه.
و(الاشتراك) مصدر، معناه معروف. أما (الاشتراكية) فتعني المذهب السياسي والاقتصادي القائم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وعدالة التوزيع والتخطيط الشامل...
و(التقدم) مصدر معناه معروف. أما (التقدمية) فتعني المذهب السياسي والاقتصادي الذي يدافع عنه أنصار التطور (التقدميون).
و(الشيوع) مصدر معناه معروف. أما (الشيوعية) فمذهبٌ يقوم على إشاعة الملكية، وأن يعمل الفرد على قدر طاقته، وأن يأخذ على قدر حاجته..
و(الرأسمال) اسم، وهو المال المستثمر في عمل ما. أما (الرأسمالية) فتعني النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة لموارد الثروة.
و(الشخص): كل جسم له ارتفاع وظهور، وغَلَبَ في الإنسان. أما (الشخصية) فهي مجموعة الصفات التي تميز الشخص من غيره. يقال: فلان ذو شخصية قوية.
و(الخاص): خلاف العام. أما (الخاصية) فهي صفة لا تنفك عن الشيء وتُميّزه من غيره.
· و(الإحصاء) مصدر أحصى الشيءَ: عَرَف قَدْره. أما (الإحصائية) فهي إحصاءٌ مبني على منهج علم الإحصاء، لحالةٍ تقع تحت الإحصاء، كإحصائية السكان في بلدٍ ما.
· و(الخصوص) مصدر. ولكن (الخصوصية) تدل على معنى (الخصوص) وزيادة. وقد أشار الأئمة إلى هذا بقولهم: التاء فيه للمبالغة، (المراد: تاء النقل).
ولعل من السائغ أن نكرر قول الأئمة هذا في توجيه بعض المصادر الصناعية التي استُعملت حديثاً، مثل: الاحتفالية والجمالية...
و(المنهج): الخطة المرسومة. أما (المنهجية) فهي نظام طرق البحث.
- ويؤدي المصدر الصناعي أحياناً معنى (القابليّة لِ...) كما في المصطلحات الآتية مثلاً: التطورية (قابلية التطور) ؛ الصيانيّة؛ الأدائية ؛ تَحَمُّليّة الكلفة ، الالتصاقية، النفاذية...
- ويكون أحياناً أخرى مصطلحاً يعبّر عن حالة الشيء واتّصافه بكونه كذا... مثل: مُتاحِيّة الشيء (أي كونه مُتاحاً) ؛ الموثوقية الجاهزية؛ السُّمّيّة؛ الحمضية، القلوية...
- ويستعمل المصدر الصناعي أيضاً للتعبير عن أسماء بعض الفروع أو المقادير المميِّزة العلمية، نحو: المِطيافية ؛ المِجراعية ؛ المِضوائية ؛ المِحْساسية ؛ المعلوماتية ؛ التأثرية؛ الاستقطابية؛ النفوذية؛ التحريضية؛ المقاومّية، الناقلية، الأنتروبية... البرمجية (الحاسوبية).
ومن المصادر الصناعية الشائعة:
الحرية، الوطنية، الأهمية، الهُوِيّة، الأنانية، الغَيْرية، الماهِيّة، الألفية، الأربعينية، الخمسينية، الآلية، الأولية، الآخرية، الأولوية، الأفضلية، الأرجحية، الأكثرية، الأقلية، الجنسية، البشرية، المفوضية، المندوبية... الفردية، الطائفية، القومية، الحزبية، الروحانية، العدوانية، الهمجية، الوحشية... الجسمية، الصوفية، الرومانسية، الواقعية، السريانية، التجديدية، الحتمية...المسؤو ية، المصداقية، المشروعية، المديونية، المعقولية، المفهومية، المشغولية، المحدودية، المجهولية...
ويستعمل النحاة:
المصدرية، الاسمية، العَلَمية، الفاعلية، المفعولية، الحالية، الوصفية، الظرفية، المعِية...
والأصل - كما ذكرت في بداية هذا البحث - أن يستعمل المصدر الصناعي لأداء معنىً لا يؤديه المصدر الأصلي. و إلا كان هذا من الإباحية اللغوية التي تخرب اللغة.
نقلا عن مكي الحسني"إتقان الكتابة باللغة العربية".
[2] ـ قال الصاحب بن عباد في "المحيط في اللغة"{320/1}:"اله التأله التعبد. والآلهة الأصنام التي تعبد. ويقرأ " ويذرك وإلاهتك " يعني عبادتك. والإله - عز وجل - إنما قيل لأن القلوب تأله عند التفكر في عظمته أي تتحير. واسم الله الأعظم الله. والأصل فيه إلاه - على فعال - . ويقولون لله ما فعلت يريدون والله ما فعلت. ويقولون في الاستغاثة يا لله - بالفتح - ما صنع، وفي التعجب يا لله - بكسر اللام - . ولاه أنت. ولاهم اغفر لي بمعنى اللهم. ولاه ابن عمك. واختلفوا في معنى اللهم فقالوا معناه 112أ يا الله أمنا بخير، وقيل يا أللهم. وألهت على فلان اشتد جزعه. والإلاهة عين الشمس، وكذلك الأليهة. والله - منقوص مثل الدم والفم - لغة في المدود."