بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
ففي عصر الفوضى العلمية نبتت نابتة لم تشم رائحة الفقه وادعت لنفسها الاجتهاد فإذا ما ضُيق عليها وبُين لها أن للاجتهاد شروطا وذُكرت لها شروطه قالت بملء فيها :
هذه الشروط لاتوجد عند أبي بكر وعمر وعثمان علي رضي الله عنهم، و ادعت أن كل أحد يمكنه فهم النصوص والاستنباط منها وأننا رجال وهم رجال وأن الرجوع للعلماء وفهمهم ضرب من ضروب اتخاذ الأولياء من دون الله ،وقد قال أحدهم مرة حين دعوته إلى اتباع الأئمة والوقوف عند فهمهم قال:
"اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء"!!!
ولايدري هؤلاء الأغرار أنهم بهذا العبث والهراء يطعنون في الصحابة بعد طعنهم في العلماء والأئمة .
ولاريب أن شبهتهم ساقطة ويكفي في إسقاطها قول الله جل ذكره "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون " ،وقوله "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ".
ومع أن هؤلاء كثيرون الآن ولهم منَظِّرون ودعاة يدعون إلى إفكهم باسم السلفية واتباع السنة وغيرها من الأسماء التي ليس تحتها حقائق عند هؤلاء فليس القصد من هذه المقالة مناقشة هذا الصنف من الناس مع أهمية مناقشتهم، وإنما القصد مناقشة صنف آخر عنده نوع فهم فإذا ما سلم لك أنه غير مجتهد ذهب يستدل على جرأته على الله ورسوله بكلام العلماء في أن الاجتهاد يتجزأ.
ومع أن المسألة خلافية بين أهل الأصول فمن قائل بجوازه ومن قائل بعدم الجواز ومن قائل بتجزؤه في باب لافي مسألة ومن قائل بالتجزؤ في الفرائض لافي غيرها ،إلا أن من قال بالجواز لم يجعل هذا المنصب لكل أحد بل اعتبر شروطه هي هي شروط المجتهد ولذا فقد عللوا الجواز بأنه لايلزم من العلم بجميع المآخذ العلم بجميع الأحكام لأن بعض الأحكام قد يُجهل لتعارض الأدلة أو للعجز عن المبالغة في النظر لمانع ما.
فتأمل_حفظك الله_تعليلهم يتبين لك أن الكلام فيمن يعلم جميع المآخذ وليس فيمن لايحسن قراءة القرآن فضلا عن الاستنباط منه ولايعرف أدلة الفقه فضلا عن أن يستدل بها _وأعني بأدلة الفقه ماهو أعم من الكتاب والسنة_وغاية بعضهم أن يجمع الأقوال من هنا ومن هنا ثم يرجح بينها بطريقة خرقاء ظانا أن ترجيحه رافع للخلاف.
ومما يدل على أن من قال بتجزؤ الاجتهاد أراد مع توفر شروط الاجتهاد ما نقله العلامة الزركشي رحمه الله تعالى في البحر المحيط 6/210 عن أبي المعالي بن الزملكاني رحمه الله تعالى من قوله:
"فما كان من الشروط كليا كقوة الاستنباط ومعرفة مجاري الكلام وما يقبل من الأدلة وما يرد ونحوه فلابد من استجماعه بالنسبة إلى كل دليل ومدلول فلا تتجزأ تلك الأهلية.
وما كان خاصا بمسألة أو مسائل أو باب فإذا استجمعه الإنسان بالنسبة إلى ذلك الباب أو تلك المسألة أو المسائل مع الأهلية كان فرضه في ذلك الجزء الاجتهاد دون التقليد ".
ولأجل ملاحظة توفر شروط الاجتهاد في المجتهد اجتهادا جزئيا قال الشوكاني رحمه الله _وهو ممن يمنع تجزؤ الاجتهاد_ كما في إرشاد الفحول 2/1043 ط :الفضيلة:
"ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها فإن من لايقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لايقتدر عليه في البعض الآخر وأكثرعلوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولاسيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل وإن احتاج بعضها إلى مزيد بحث، وإن نقصت لم يقتدر على ذلك في شئ ولايثق من نفسه لتقصيره ولايثق به الغير لذلك .
فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لايتعقله".
فهل حصلت يا أخي شروط الاجتهاد حتى تتكلم في دين الله وتوقع عن رب العالمين ولو في باب أومسألة؟!!!
وهل أصبح المجتهد هو من يجمع الأقوال بأدلتها من الحاسوب وبرامجه أو حتى من الكتب ثم يرجح قولا على قول؟
يا رجل أرحنا منك ومن شرك وانشغل بما ينفعك في دينك ودنياك ودع العلم لأهله أو اسلك طريقهم إن أردت الفلاح.
قال الحافظ ابن رجب في رسالته الماتعة في الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة:
"فإن ادعى مع ذلك الاجتهاد كان أدهى وأمر وأعظم فسادا وأكثر عنادا فإنه لايسوغ ذلك مطلقا إلا لمن كملت فيه أدوات الاجتهاد من معرفة الكتاب والسنة وفتاوي الصحابة والتابعين ومعرفة الإجماع والخلاف وبقية شرائط الاجتهاد المعروفة وهذا يدعي إطلاعا كثيرا على السنة ومعرفة صحيحها من سقيمها ومعرفة مذاهب الصحابة والتابعين والآثار المنقولة عنهم في ذلك .
ولهذا كان الإمام أحمد يشد أمر الفتيا ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك
(قلت:فماذا عمن يفتي إذا حفظ بلوغ المرام أو المحرر أو حتى المنتقى فضلا عمن دونه ممن لم يحفظ الأربعين النووية ويقولون ماعذرنا إن علمنا الحديث أن نخالفه ؟ !الله المستعان ، وهل أدلة الفقه محصورة في الحديث؟
وهل عرفت صحة الحديث وضعفه باجتهاد أم بتقليد ؟
وهل كل من عرف الحديث وصحته ولو باجتهاد صار أهلا لفهمه و لأن يفتي في دين الله ؟ وهذا إمام العلل علي بن المديني الذي لم يأت بعده مثله وكان البخاري لايحقر نفسه أمام أحد غيره يقول مع سعة علمه واطلاعه وإحاطته بالنصوص: أحمد حجة بيني وبين الله.
قال تعالى" فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لايهدي القوم الظالمين ".
ثم يقول العلامة ابن رجب رحمه الله "وعلامة صحة دعواه أن يستقل بالكلام في المسائل كما استقل غيره من الأئمة ولايكون كلامه مأخوذا من كلام غيره .
فأما من اعتمد على مجرد نقل كلام غيره إما حكما أو حكما ودليلا كان غاية جهده أن يفهمه وربما لم يفهمه جيدا أو حرفه وغيَّره فما أبعد هذا عن درجة الاجتهاد كماقيل :
فدع عنك الكتابة لست منها .....ولو سودت وجهك بالمداد " اهـ كلامه رحمه الله.
إن بعض الجهال يستدلون بنهي الأئمة عن تقليدهم على تسويغ جرأتهم على الدين ولكن هل كان الأئمة يخاطبون هؤلاء الرعاع حين نهوا عن التقليد ؟
أم كان الكلام فيمن بلغ مرتبة الأئمة وصار علمه قريبا منهم وحصل أدوات الاجتهاد وهي معروفة مسطورة في كتب الأصول، فهذا لا حجر عليه أن يجتهد .فمن لم يبلغ هذه الغاية ولاوصل إلى مرتبة الدراية ولا عرف من العلم إلا النزر اليسير ولا اطلع على الإجماع والخلاف والأصول واللغة ثم يدعي أنه وصل إلى درجة الاجتهاد وهو بعد لم يرتق عن درجات العوام ولم يصل والله لدرجة المقلدين الذين ينكر عليهم فهذا أحق بقول ربيعة الرأي "ولبعض من يفتي اليوم أحق بالسجن من السراق".
إن مجرد معرفتك للحديث يا هذا_لو لم تكن مقلدا فيه للمعاصرين كذلك_لا تؤهلك للترجيح والإفتاء حتى تحصل كل شروط الاجتهاد من العلم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وفتاوى الأئمة ومعرفة الأصول واللغة وغير ذلك مما يطول ذكره ، وأما ان تهدم أصول العلماء مستدلا بحديث قد عرَفوه وأنت في عالم الذر ، فهذا عبث وهذر ، وأعجب من ذلك أن يقول الغر :لعل أحمد أو مالكا أو الشافعي لم يطلعوا على هذا الحديث !!!! وربما يكون في مسند أحمد أو موطأ مالك مثلا لكن الأخرق لم يطالعه مرة في عمره .
أما تتقي الله يا من تدعو إلى اتباع السلف وأنت تطعن في أئمة الدين وترميهم بالجهل بالنصوص ، وأي نصوص ؟التي من شهرتها وصلت جاهلا مثلك ؟فلله الأمر من قبل ومن بعد .
وتأمل قول الحافظ ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد بعد أن بين سعة علمه بالنصوص وأقوال الصحابة والتابعين وفتاوى الأئمة في زمانه وقبل زمانه :
" ولانعلم سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحاط بها علما وكان أشد الناس اتباعا للسنة إذا صحت ولم يعارضها معارض قوي "
قلت :انظر_ يا محب_ وتأمل في قوله "ولم يعارضها معارض قوي" ثم قال "وإنما ترك الأخذ بما لم يصح وبما عارضه معارض قوي جدا"
ثم قال رحمه الله ، وتأمل هذا الكلام جيدا _ألهمت رشدك ووقيت شر نفسك_ :
"وكان السلف رضي الله عنهم لقرب عهدهم بزمن النبوة وكثرة ممارستهم كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم يعرفون الأحاديث الشاذة التي لم يُعمل بها ويطرحونها ويكتفون بالعمل بما مضى عليه السلف ويعرفون من ذلك ما لم يعرفه من بعدهم ممن لم تبلغه السنن إلا من كتب الحديث لطول العهد وبعده " الله أكبر، لله در الحافظ ابن رجب رحمه الله وأجزل له الثواب.
فأجل النظر يرحمك الله في هذا الكلام النفيس وعض عليه بالنواجذ وافهم لماذا ترك السلف العمل بما صححه فلان من المعاصرين وتنكبوا عنه مع علمهم بسنده وحاله وعدم خفاء ذلك عليهم ، ولذا ترى الترمذي رحمه الله مما يكثر أن يقول بعد رواية الحديث في جامعه : والعمل على هذا عند أهل العلم ، وربما يذكر الحديث الذي صح سنده ظاهرا ويصرح أنه لم يعمل به أحد من السلف فيأتي الخالف المخالف ويقول : الحديث حجة بنفسه وما حجتي أنا أمام الله إن تركت العمل به بعد أن علمت صحته !!!! ولعله لم يعرف صحته إلا تقليدا وللمعاصرين !!!.
واختم بقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى :
"إذا فهمت هذا وعلمته فهذه نصيحة لك أيها الطالب لمذهب هذا الإمام أؤديها لك خالصة لوجه الله تعالى فإنه لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه:
إياك ثم إياك أن تحدث نفسك أنك قد اطلعت على ما لم يطلع عليه هذا الإمام ووصلت من الفهم إلى مالم يصل إليه هذا الذي ظهر فضل فهمه على من بعده من أولي الأفهام ولتكن همتك كلها مجموعة على فهم ما أشار إليه وتعلم ما أرشد إليه من الكتاب والسنة على الوجه الذي سبق شرحه ".
هذا بعض ما في الصدر كتبته في السطر وهي إشارات عابرة موجهة لأصحاب العقول السادرة لعلها تفتح الباب لمن أراد الولوج من أولي الألباب وتسد الخلل المفضي إلى الزلل والله المسؤول أن يصلح الحال والبال ويحسن العاقبة والمآل إنه سبحانه خير مسؤول وأكرم مأمول .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وأصحابه خير قوم ، والحمد لله الذي لاتأخذه سنة ولانوم.