المناظرات باب جميل من ابواب المدارسة والزام الخصم وافحامه, فلو احد جمعها لكان ذلك عمل عظيم....
السلسلة الصحيحة الكاملة - (1 / 86)
فما أبعد ضلال بعض المقلدة
الذين يذهبون إلى أن الدين محفوظ بالمذاهب الأربعة ، و أنه لا ضير على المسلمين
من ضياع قرآنهم لو فرض وقوع ذلك ! ! هذا ما كان صرح لي به أحد كبار المفتين من
الأعاجم و هو يتكلم العربية الفصحى بطلاقة و ذلك لما جرى الحديث بيني و بينه
حول الاجتهاد و التقليد .
قال - ما يردده كثير من الناس - : إن الاجتهاد أغلق بابه منذ القرن الرابع !
فقلت له : و ماذا نفعل بهذه الحوادث الكثيرة التي تتطلب معرفة حكم الله فيها
اليوم ؟
قال : إن هذه الحوادث مهما كثرت فستجد الجواب عنها في كتب علمائنا إما عن عينها
أو مثلها .
قلت : فقد اعترفت ببقاء باب الاجتهاد مفتوحا و لا بد !
قال : و كيف ذلك ؟
قلت : لأنك اعترفت أن الجواب قد يكون عن مثلها ، لا عن عينها و إذ الأمر كذلك ،
فلابد من النظر في كون الحادثه في هذا العصر ، هي مثل التي أجابوا عنها ، و حين
ذلك فلا مناص من استعمال النظر و القياس و هو الدليل الرابع من أدلة الشرع ،
و هذا معناه الاجتهاد بعينه لمن هو له أهل ! فكيف تقولون بسد بابه ؟ ! و يذكرني
هذا بحديث آخر جرى بيني و بين أحد المفتين شمال سورية ، سألته : هل تصح الصلاة
في الطائرة ؟ قال : نعم . قلت : هل تقول ذلك تقليدا أم اجتهادا ؟ قال : ماذا
تعني ؟ قلت : لا يخفى أن من أصولكم في الإفتاء ، أنه لا يجوز الإفتاء باجتهاد ،
بل اعتمادا على نص من إمام ، فهل هناك نص بصحة الصلاة في الطائرة ؟ قال : لا ،
قلت : فكيف إذن خالفتم أصلكم هذا فأفتيتم دون نص ؟ قال : قياسا .
قلت : ما هو المقيس عليه ؟ قال : الصلاة في السفينة .
قلت : هذا حسن ، و لكنك خالفت بذلك أصلا و فرعا ، أما الأصل فما سبق ذكره ،
و أما الفرع فقد ذكر الرافعي في شرحه أن المصلي لو صلى في أرجوحة غير معلقة
بالسقف و لا مدعمة بالأرض فصلاته باطلة . قال : لا علم لي بهذا .
قلت : فراجع الرافعي إذن لتعلم أن ( فوق كل ذي علم عليم ) ، فلو أنك تعترف أنك
من أهل القياس و الاجتهاد و أنه يجوز لك ذلك و لو في حدود المذهب فقط ، لكانت
النتيجة أن الصلاة في الطائرة باطلة لأنها هي التي يتحقق فيها ما ذكره الرافعي
من الفرضية الخيالية يومئذ . أما نحن فنرى أن الصلاة في الطائرة صحيحة لا شك في
ذلك ، و لئن كان السبب في صحة الصلاة في السفينة أنها مدعمة بالماء بينها و بين
الأرض ، فالطائرة أيضا مدعمة بالهواء بينها و بين الأرض . و هذا هو الذي بدا
لكم في أول الأمر حين بحثتم استقلالا ، و لكنكم لما علمتم بذلك الفرع المذهبي
صدكم عن القول بما أداكم إليه بحثكم ! ؟
أعود إلى إتمام الحديث مع المفتي الأعجمي ، قلت له : و إذا كان الأمر كما
تقولون : إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مجتهدين لأن المفتي يجد الجواب عن عين
المسألة أو مثلها ، فهل يترتب ضرر ما لو فرض ذهاب القرآن ؟ قال : هذا لا يقع ،
قلت : إنما أقول : لو فرض ، قال : لا يترتب أي ضرر لو فرض وقوع ذلك !
قلت : فما قيمة امتنان الله عز و جل إذن على عباده بحفظ القرآن حين قال : ( إنا
نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ) ، إذا كان هذا الحفظ غير ضروري بعد الأئمة
؟ !