الموت الرحيم
لميس صالح الحبشي
مرض والدي بضعف في عضلة القلب، ورغم المتابعة الطبية المستمرة فإن العضلة استمرت في التدني إلى أن وصلت إلى الحد الأدنى الذي يستطيع الإنسان أن يحيا به لدرجة أننا كنا حين نضع جهاز قياس النبض والأكسجين في إصبعه (مقياس التأكسج النبضي) كان الجهاز لا يلقط أي إشارة؛ لضعف النبض بشكل كبير.
أصبح الوالد عاجزًا عن المشي والحركة والبلع أيضًا، ولم يكن أمام الأطباء أي حل سوى إبقائه حيًّا بالمغذيات الوريدية، ثم ساءت أوردته فلم يعد هناك أي وريد قابل لإدخال إبرة فيه، ثم أصبح الوالد شبه فاقد للوعي وعاجزًا حتى عن الكلام أغلب النهار؛ لقلة الغذاء الواصل إليه من جهة، ولضعف القلب من جهة أخرى، فقرر الأطباء أنه لا بد من إدخال أنبوب عبر الأنف إلى المعدة لإدخال الطعام، وهنا انقسم أهل البيت إلى مؤيد ومعارض، رأي مؤيد لإدخال الأنبوب وحجتهم أنه يجب أن نفعل ما بوسعنا لنحافظ على حياته؛ لأن عدم إيصال الغذاء إليه هو نوع من القتل، ورأي آخر يرفض ذلك؛ لأن إدخال الأنبوب هو عملية مؤلمة. ويقترح أن نتركه بدون غذاء لنخفف عنه زمن المعاناة مع الألم والمرض خصوصًا أن الأطباء أقروا بأنه لا يوجد طريقة للشفاء.
توفي والدي بعد ذلك ببضعة أيام رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه مع الصدِّيقين والأخيار.
وكثيرًا ما نسمع عن حالات مشابهة سواء لكبار السن الذين يبلغون شيخوخة متأخرة أو لغيرهم ممن يصاب بمرض عضال؛ كالسرطان في مراحله الأخيرة أو الفشل الكُلوي الذي لا تجدي معه أي علاجات أو مع المعاقين إعاقات جسيمة بالغة أو حتى مع من يصاب بحادث مميت، فحين يقرر الأطباء أنه لا أمل في شفائهم من الناحية الطبية ويبلغون مراحل عميقة من المرض والألم يختلف من حولهم هل يريحون المريض من العذاب ويجعلونه يرقد في سلام بإعطائه حقنة مميتة مثلًا أو بإعطائه حقنة ليس فيها سم إنما فيها فقط جرعة زائدة من مسكن الألم تخفف ألمه لكنها أيضًا تؤدي إلى الموت وتوقف القلب، أو أن يتوقفوا عن إعطائه الدواء أو الغذاء أو أن يفصلوه عن آلة هي سبب في بقائه حيًّا، وهدفهم من ذلك كله أن يرحموا مريضهم من الألم عن طريق قتله فيخلصونه من معاناته، ويسمى هذا الإجراء عالميًّا بالقتل الرحيم، أم هل يواصلون إنقاذ حياة مريضهم بكل الطرق الممكنة ليعيش أيامًا أو أشهرًا أو سنواتٍ -حسب مراد الله- رغم معاناته من الألم والعذاب.
والقتل الرحيم هو أي إجراء يتخذه الطبيب بطلب من المريض أو أقرباء المريض بهدف تعجيل موت المريض الميؤوس من شفائه سواء بإعطائه دواء أو حقنة قاتلة أو بمنع الدواء أو الغذاء أو الأكسجين عنه أو بفصله عن جهاز يجعله قادرًا على الحياة؛ لأنه يقوم بدور بدلًا عن جهاز لا يعمل في جسم المريض كالجهاز التنفسي مثلًا[1]، فالمريض الذي في غيبوبة ولا تعمل رئتاه يحتاج إلى جهاز يساعده على التنفس ويحتاج إلى جهاز يتناول من خلاله الغذاء كالمغذيات الوريدية؛ لأن جهازه الهضمي لا يعمل؛ لأنه في غيبوبة وهكذا.
لكن هناك حالات أخرى لا تعتبر قتلًا رحيمًا، وهي أن يكون المريض في حكم الطب والشرع ميتًا فعليًّا رغم وجود بعض مظاهر الحياة فيه. فهو ميت لأن الدماغ بكامل أجزائه (المخ والمخيخ وجذع الدماغ) كلها توقفت عن العمل بشكل تام ونهائي، ولا يمكن إعادتها إلى الحياة. وتظل مظاهر الحياة موجودة في الإنسان فهو يتنفس وقلبه ينبض لكن ذلك بسبب الأجهزة الموصولة في جسمه مما يعطينا إيحاء كاذبًا بأنه حي لكنه عمليًّا وطبيًّا يعتبر ميتًا، فعند فصل الجهاز عنه سيتوقف النبض والتنفُّس؛ لأن الدماغ قد مات أساسًا، ففي هذه الحالة اتخاذ أي إجراء طبي مما سبق الإشارة إليه لا يعتبر قتلًا رحيمًا؛ لأن المريض طبيًّا يعتبر ميتًا، فرفع أجهزة الإنعاش عنه أو إيقاف الدواء والغذاء عنه لا يعتبر قتلًا رحيمًا[2].
ولقد انقسم العالم إلى مؤيد ومعارض لهذه الفكرة، فهناك دول تقر القتل الرحيم وتسمح به وفقًا للقانون ودول أخرى تجرمه وتحرمه، والسبب في اختلافهم هو أن القانون الذي يبيح أو يحرم هو من صُنْع البشرِ والبشرُ لا يتفقون فيما بينهم، فيرى مؤيدو هذه الفكرة أن القتل الرحيم في مصلحة المريض ليتخلص من آلامه الجسدية والنفسية؛ لأنه من حقه أن يتصرف بجسده ويقرر مصيره وما دامت نهايتنا الموت فمن حقنا أن نختار أن نحيا بصورة كريمة ونموت بصورة كريمة. كما أن التخلص من المرضى الميؤوس من شفائهم يوفر خسائر مادية على أهل المريض وعلى الدولة.
ويرى الفريق المعارض أن القانون هو من صنع البشر ومن ثمَّ فهو قابل للخطأ؛ لأن أفكار الناس قد يكون مصدرها النفس والشيطان، وعلينا أن نشك دومًا في أفكار الإنسان ولا نقبلها إلا بعد أن نعرضها على كلام الخالق، فإن اتفقت مع كلام الخالق فهي خير، وإن لم تتفق فهي شر تحت قناع الخير، ويكفي البشرية معاناة من قوانين شرعنت الشرور؛ كالحق في الزنا والإجهاض، والحق في المثلية والتحوُّل الجنسي، والحق في شرب الخمر وتعاطي الحشيش، والحق في سب الإله والأنبياء والمقدسات، والحق في إبادة أمم بأكملها؛ كوقوف العالم كله ضد فلسطين مع المغتصب المجرم إسرائيل رغم أن كل ذلك هو شرٌّ واضح لكل ذي عقل؛ ومن ثمَّ فالقانون لا ينبغي أن يكون هو الحاكم أو المرجعية في صنع القرار وإنما كلام الخالق فقط؛ لأنه هو العدل التام. والشرائع السماوية الصادرة من الإله المنزَّه عن المصالح جميعها تحرم وتجرم كل فعل ينتقص من كرامة الإنسان وحقوقه؛ ومن ثمَّ تحرم القتل الرحيم بل إنه لا يوجد في الإسلام قتل رحيم وقتل قاسٍ إنما يوجد قتل مشروع؛ وهو أن يقتل المعتدي الذي قام بجريمة يستحق أن يقتل بسببها بأمر من القاضي، أو قتل غير مشروع؛ وهو أن يقتل إنسان بريء لم يرتكب جريمة يستحق عليها القتل، وقتل مريض لمجرد أنه مريض ميؤوس من شفائه هو قتل غير مشروع حتى لو طلب هو بنفسه ذلك.
كما أنه لا تجوز تسمية القتل بالرحيم؛ فالقتل فيه قسوة ووحشية، ولا يمكن أن يتناسب مع الرحمة بأي حال من الأحوال. فكيف نحرم إنسانًا من الحياة برقة وحنان وعطف؟! والقتل ليس أسلوبًا رحيمًا ولا فيه إنقاذ للإنسان من المعاناة؛ بل ربما تكون المعاناة والصبر هي الرحمة بعينها؛ لما فيها من تكفير ذنوب المريض ورفع درجاته.
كما أنه لا يوجد في الإسلام مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة، فإن كانت الغاية نبيلة وهي التخفيف من ألم ومعاناة المريض فإنه يجب أيضًا أن تكون الوسيلة نبيلة بإعطائه الأدوية والدعم النفسي اللازم، أما استخدام وسيلة شريرة؛ وهي القتل لتحقيق غاية نبيلة؛ وهي رحمة المريض من المعاناة، فإن هذا لا يجوز. ومثلها أنه لا يجوز أن تسرق لتنفق ما سرقته في كفالة يتيم. فالسرقة هي وسيلة قذرة، ولا يجوز استخدامها لتحقيق هدف نبيل أبدًا، كما لا يجوز أن تستعمل مال الربا لتعالج مريضًا، فالله طيِّب ولا يقبل إلا طيبًا، ويجب أن تكون الغاية والوسيلة كلتاهما معًا نبيلتين؛ ليقبل الله تعالى العمل. فالإسلام يحرم قتل الرحمة بكل أشكاله سواء كان بطلب المريض أو أقربائه كما لا يجوز قتل أي إنسان؛ لأنه مصدر لنشر العدوى مثلًا، ولا يجوز قتل إنسان؛ لأن علاجه يكلف أموالًا، الحالة الوحيدة التي يجوز فيها قتل إنسان هو أن يقوم بجريمة يستحق عليها عقوبة القتل.
ونعود إلى رأي الشرع في القتل الرحيم ونلخصه في النقاط الآتية:
لا يجوز بأي حال من الأحوال قتل المريض الميؤوس من شفائه أو اتخاذ أي إجراء مباشر متعمد بهدف إنهاء حياته، فهذا القرار لا يجوز أن يتخذه الطبيب ولا أسرة المريض ولا المريض نفسه[3].
يجوز في حال المريض الميؤوس من شفائه -مع قناعة الطبيب بعدم جدوى العلاج- يجوزعدم اتخاذ أي إجراء بل يترك ليأخذ المرض أدواره الطبيعية دون تدخل طبي فمثلًا إن وجد الطبيب مريض سرطان لا يُرجى شفاؤه وهو في مرحلة متأخرة جدًّا وأصيب بفشل كُلوي والطبيب يعلم أن الغسيل الكُلوي لن ينفعه بل سيزيد من آلامه فهنا لا يعمل له غسيل كُلوي -إجراء فعَّال- بشرط أن يؤيد ذلك أطباء متخصصون ثقات. كما يجوز عدم كتابة أي دواء لمريض في مرحلة متأخرة من المرض إن اعتقد الطبيب أن الدواء لن ينفعه.
إذا توفي المريض دماغيًّا (بمعنى أنه ميت ولا يمكن عودته للحياة بإقرار الطبيب الأمين المتخصص) فيجوز أن يقرر الطبيب فصل المريض عن الأجهزة الطبية التي تجعل قلبه يتحرك؛ لأن الأجهزة لا تجعل المريض حيًّا، فهو ميت بشكل واقعي لكن الأجهزة تعطيه مجرد مظاهر للحياة وليست حقيقة الحياة، وهذا الإجراء ليس قتلًا أساسًا[4].
كما أنه وفقًا للشريعة الإسلامية يحق للمريض سواء كان ميؤوسًا من شفائه أو غير ميؤوس من شفائه- التوقف عن استخدام الأدوية إذا اقتنع أنه لن ينتفع، فالتداوي في الإسلام من المباحات يصبح واجبًا إن غلب الظن أن العلاج والدواء ينفع ويفيد، ولا يصبح واجبًا إن اعتقد المريض أو الطبيب أنه لا ينفع[5]. وما دام من حق المريض الامتناع عن تناول الدواء والعلاج، فلماذا أصلًا سيطلب من الطبيب أن يساعده على الموت ولديه خيار بأن يمكث في منزله ولا يتناول الدواء؟
لكن إن كان المريض يبحث عن علاج عند الطبيب فليس من حقه كمريض ولا من حق الطبيب مساعدته على إنهاء حياته.
إن فكرة القتل الرحيم هي فكرة مشوهة ومريضة؛ ولذلك وُجِّهت لها العديد من الانتقادات، ومنها:
1- الحياة مقدسة ولا يجوز المساس بها، ولقد جاءت الشريعة الإسلامية ولها مقاصد أو أهداف كبرى رئيسية خمسة؛ وهي (حفظ النفس والمال والعرض والعقل والدين) فحفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة؛ لأن الروح أو الحياة هي نفحة من الرحمن؛ ولذلك فهي مقدسة؛ لأن منح الله للإنسان هذه الروح هو نوع من التشريف الإلهي.
2- حياة الإنسان ليست ملكه لا يجوز لأي إنسان أن يبيع أو يحرق سيارة جاره؛ لأنها ليست ملكه، وكذلك حياة الإنسان ليست ملكًا له ليقرر الحفاظ عليها أو إنهاءها إلا في حالة الدفاع عن النفس أو الدفاع عن الآخرين فقط. فلقد منحه الله الحياة والروح دون إذنه، فهي ملك لله وحده، وهو وحده يقرر متى إنهاؤها، وما الإنسان إلا مجرد مستخدم لهذه الروح. وأمره الله أن يحافظ عليها ولا يضرها بأي وسيلة، فعن أبي سعيد سعد بن سنان الخُدْري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار))[6]، فالروح أمانة، وستعود إلى خالقها حين يأذن. وليس من حق الإنسان أن يحكم على روحه بالإعدام بسبب الألم أو المرض أو الإعاقة أو أي سبب آخر.
3- ليس من حق الإنسان اختيار متى ينهي اختباره، فنحن في دار اختبار وابتلاء وهي الدنيا، وكل المصائب التي فيها أصابتنا بأمر الله ولم تخطئنا. فالله قرر أن يختبر بعض الناس بالفقر وبعضهم الآخر بالمرض وآخرين بالحروب وغيرهم بالحرمان من نعمة معينة، وهو وحده يقرر مادة الاختبار وكيفيتها ونوعيتها ومدتها لكل إنسان. ولا يحق لنا أن ننهي اختبارنا متى ما شئنا بالتخلُّص من حياتنا وإنما هذا الحق هو فقط لمن أوجد جسدنا وروحنا من العدم ليختبرنا من خلالهما أنصبر أم نكفر؛ وعليه لا يجوز للمريض الميؤوس من شفائه أن ينهي حياته؛ لأنه يعاني من الألم بل عليه أن يصبر ويحتسب الأجر من الخالق، وفي الصحيحين عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحز يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: "بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة"[7]بمعنى أن الرجل المجروح انتحر بقطع وريد في يده فحرم الله عليه الجنة؛ لأنه لم يصبر، بل إن مجرد تمنِّي الموت هو إثم يحاسب عليه الإنسان فكيف بمن يطلبه بمساعدة الآخرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدُكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))[8].
4- الموت ليس حلًّا للتخلص من المعاناة، فمن يعتقد أن الموت هو الحل المناسب لتخليص المريض من معاناته فهو إنسان جاهل لا يعلم أن المعاناة الحقيقية أو النعيم الحقيقي سيبدأ بعد الموت، فمَنْ لقي الله وهو راضٍ عنه فهو منعم بعد الموت وإلى الأبد، ومن لقي ربَّه وهو منتحر طالب للقتل الرحيم فهو في العذاب والألم والمعاناة إلى الأبد، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سُمًّا فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[9].
5- الله أرحم بعباده من جميع المخلوقات؛ لأنه هو خالقهم من العدم، فالمريض لن يرحم نفسه أكثر من الله، وكذلك الطبيب وأقارب المريض لن يرحموه ويحبوه أكثر من الله. فالله أحنُّ علينا من ألف كتف ومن ألف سند، وأحنُّ علينا من آبائنا وأمهاتنا؛ بل إن كل الرحمة التي يتراحم بها الناس في كوكب الأرض بما فيها الرحمة الموجودة في قلوب أنصار الموت الرحيم كلهم هي أقل من 1% من الرحمة الموجودة في الكون. فعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة))[10].
6- فإن سلمنا وآمنا بذلك فلا بد أن تكون معاناة المريض فيها رحمة من الله ولو لم نفهمها وندركها بعقولنا القاصرة. ويكفينا لنفهم مدى رحمة الله ما ترويه لنا قصص السيرة. فبعد غزوة الطائف كانت هناك امرأة فقدت ولدها وكانت تبحث عنه، فلما وجدته فرحت فرحًا شديدًا وأخذته وضمته بقوة ثم أرضعته وكان الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وصحابته ينظرون إلى هذا الموقف فسألهم رسول الله: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟))، فقالوا: لا وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا))[11]، فإن كان الله أرحم بنا من أمهاتنا فعلينا أن نستسلم ونرضى بقضائه ولا نعترض عليه ولا نبحث عن حلول نعتقد أنها رحيمة بنا، وهي حلول تجلب سخط الله وغضبه علينا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].
7- القتل الرحيم يقتل الوازع الأخلاقي في البشرية. فتخيَّل معي أن الروح ستصبح يومًا تقاس بكمية الوقت والمال والجهد المبذول من أجلها. وستصبح هذه الثلاثية المادية أهم من الروح ذاتها. ففكرة القتل الرحيم من ضمن معانيها المبطنة (من الأفضل أن تكون ميتًا إن كنت مريضًا مرضًا لا شفاء منه لكن من الأفضل أن تكون حيًّا إن كنت معافًى)، فمفهوم وقيمة الحياة هنا غير متساوٍ، فهناك أرواح تستحق العيش؛ ولذلك القانون لا يشرع لها أحقية الموت بينما هناك أرواح لا تستحق أو على الأقل استحقاقهم للعيش فيه نظر فقط بسبب مرضهم؛ ولذلك القانون يتيح لهم الحق في الموت. وهذه الفكرة تغرس في نفس المريض الشعور بالألم، فالمجتمع يتيح له حرية الموت وكأنه يقول له: أنت عبء ثقيل علينا ولا نريدك إلا وأنت صحيح البدن متناسيًا الجهد والعطاء والجميل الذي حصل عليه من هذا العضو في أثناء صحته.
وهل من الأخلاق أن نطلب من الناس أن يعيشوا بدون معاناة أو ألم؟! أليس الصمود والتحدي والتجلد والصبر وعدم اليأس أمام المصاعب أليست كل هذه معاني أخلاقية تجعلنا أكثر إيمانًا وقوة، فلماذا نريد سلبها من المريض؟! إن المعاناة جزء أساسي في الحياة بل إن الإنسان يستحيل أن يعيش بدون معاناة؛ لأنه في دار المعاناة والاختبار والابتلاء؛ بل إن شرعنة القتل الرحيم ستولد أجيالًا ضعفاء عاجزين عن الصبر ومستسلمين، ومجتمع بهذه الصفات هو مجتمع سقيم آيل للسقوط.
8- إن تشريع القتل الرحيم يشجع المجتمع على الكسل والإهمال وتراجع خدمات الرعاية الطبية، فهذا التشريع سيجعل الأبحاث العلمية أكثر كسلًا لقلة أو انعدام الدافع للحفاظ على حياة المرضى الميؤوس من شفائهم. فما دام هناك حل مريح ورخيص وهو إعطاء الإنسان الحق في إبرة الموت، فما هو الدافع لاستمرار الأبحاث العلمية لإطالة عمر هؤلاء؟! وما الداعي لبذل جهود الرعاية الصحية في رعاية المحتضرين وتخفيف معاناتهم والبحث عن علاج لحالاتهم؟! وما الداعي لرعاية كبار السن والمجانين ومرضى الزهايمر والسرطان وغيرهم ما دام يوجد حل أسهل؟! وأيضًا هل سيثق المجتمع بالأطباء والمراكز الصحية بعد أن يتحولوا إلى قتلة أم سيفضل الناس إبقاء أحبائهم في البيوت خوفًا من أن يقنعهم الآخرون بالموت؟!
9- القتل الرحيم سيجعل عدد مَن يموت بهذه الطريقة أكبر وأكثر مع مرور الزمن، ومما لا شكَّ فيه أن تشريع القتل الرحيم للمرضى الميؤوس من شفائهم سيشجع شريحة كبيرة في المجتمع على المطالبة بحقهم في الموت ليس فقط المرضى. وسيواجه المجتمع مشكلة في إقناع الضعفاء بأن ما يواجهونه لا يستحق أن ينهوا حياتهم من أجله، فالمراهق الذي يواجه مشكلة عاطفية والطالب الذي رسب في الامتحان والموظف الذي تم طرده من عمله وغيرهم ملايين ذوو مشاكل أسهل أو أكثر تعقيدًا، كلهم سيطالبون بالتخلص من معاناتهم، فالمعاناة لا تنحصر في الألم الجسدي؛ بل إن الألم النفسي أشد وأنكى؛ بل إني لا أستبعد أن يطالب الطفل بإنهاء حياته؛ لأنه خسر في لعبة من ألعاب الفيديو. وهذه الثمار المرة ستحصدها البشرية؛ لأنها نشرت ثقافة أن قيمة الروح والحياة من حق المخلوق، وهل سنحقق الرحمة حين يكون عدد المنتحرين في المجتمع أكثر من عدد المولودين أم أننا سننقرض من كوكب الأرض بسبب أفكارنا الشيطانية التي سمحنا لها بالنمو؟! والغريب في الموضوع أن دعوات القتل الرحيم للإنسان تتزايد مع تزايد دعوات إلغاء عقوبة الإعدام على المجرمين مع أن الأول بريء والثاني مذنب. كما تتزايد دعوات قتل الإنسان برحمة مع تزايد دعوات حماية الحيوانات من الذبح مع أن الأول كائن مفكر قادر على تغيير العالم إلى الأفضل؛ بل وقادر على توفير حياة أفضل للحيوانات في حين أن الثاني كائن لا عقل له، فأيهما أكثر قيمة وأهمية للدفاع عنه؟!
[1] https://n9.cl/tak1k
[2] https://n9.cl/kojg5
[3] https://n9.cl/tak1k
[4] https://n9.cl/kojg5
[5] https://n9.cl/yn6uf
[6] https://n9.cl/civcl
[7] https://n9.cl/6yng1f
[8] https://n9.cl/i9c5p
[9] https://n9.cl/ijlpu
[10] https://n9.cl/mwum6c
[11] https://n9.cl/ivbg0