السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجهاد باب من أبواب الله تعالى
أنَّ قولَه تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوِبهِمْ
دليل على أنَّ شفاءَ الصدورِ من ألم النكثِ والطعنِ، وذهابَ الغيظِ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمْرٌ مقصودٌ للشارعِ مطلوبُ الحصولِ، وأنَّ ذلك يحصلُ إذا جَاهَدُوا كما جاء في الحديث المرفوع: "عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الله يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنِ النُّفُوسِ الهَمَّ وَالغَمَّ" ولا ريب أنَّ من أظهر سَبَّ الرسول وسلم من أهل الذِّمَّةِ وشتمه فإنه يَغِيظُ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفَكَ دماء بعضهم وأخَذَ أموالهم؛ فإنَّ هذا يُثِيرُ الغضبَ لله، والحَمِيَّةَ له ولرسولهِ، وهذا القدر لا يُهَيِّجُ في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، بلِ المؤمن المسدَّدُ لا يغضبُ هذا الغَضَبَ إلا لله، والشارعُ يطلبُ شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظِ*]/ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بِقَتْل السابِّ لأوْجُهٍ:
ذهاب الغيظ يحصل بقتل الساب
أحدها: أن تَعْزِيره وتأديبه يُذْهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحداً من المسلمين أو فعل نحو ذلك، فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شَتْمه مثل غيظهم مِن شَتْم واحدٍ منهم، وهذا باطل.
الثاني: أن شَتْمه أعظمُ عندهم من أن يُؤخذ بعض دمائهم، ثم لو قُتل واحداً منهم لم يَشْفِ صدورهم إلا قتله، فأنْ لا تُشْفَى صُدُورُهُم إلا بقتل السابِّ أولى وأحْرَى.
الثالث: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ قتالهم هو السبب في حصول الشِّفاء، والأصْلُ عدمُ سبب آخر يحصِّله؛ فيجب أن يكون القتلُ والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا.
الرابع: أنَّ النبيَّ وسلم لما فُتحت مكةُ وأراد أن يشفي صدورَ خُزَاعة – وهم القوم المؤمنون – من بني بكرٍ الذين قاتلوهم مَكَّنهم منهم نصفَ النهار أو أكثر مع أمانِهِ لسائرِ الناسِ؛ فلو كان شفاء صدورهم وذهابُ غيظِ قلوبهم يحصلُ بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانِهِ للناسِ.
الدليل الرابع من القرآن أذى النبي محادة لله
الموضع الرابع: قولُه سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِد اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا
ذَلكَ الخِزْيُ العَظِيم فإنه يدلُّ على أنَّ أذى رسول الله صلي الله عليه وسلم مُحَادَّةٌ لله ولرسوله؛ لأنه قال هذهِ الآيةَ
[عَقِبَ] قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌالآية. ثم قال: يَحلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ* أَلمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَه
فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحَادِّين لم يحسن أن يوعَدُوا بأنَّ للمحاد نار جهنَّم؛ لأنه يمكن حينئذٍ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نارَ جهنَّم؛ لكنهم لم يحادّوا، وإنما آذَوْا، فلا يكون في الآية وعيدٌ لهم؛ فعُلِم أنَّ هذا الفعل لابُدَّ أن يندرج في عموم المحادَّة؛ ليكون وعيدُ المحادِّ وعيداً له ويلتئمُ الكلامُ.
ويدلُّ على ذلك أيضاً ما روى الحاكمُ "صحيحه" بإسناد صحيح عن ابن عباس أنَّ رسول اللهِ صلي الله عليه وسلم كانَ في ظِلِّ حُجْرَةٍ من حُجرِهِ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ المسْلِمينَ، فَقَالَ: "إنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسَانٌ يَنْظُر إليكم بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإذَا أَتَاكُمْ فَلا تُكَلِّمُوهُ"،/ فَجَاء رَجُلٌ أزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم ، فَقَالَ: "عَلامَ تَشْتُمُني أنْتَ وَفُلانٌ وَفُلانٌ"، فانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَدَعَاهُمْ فَحَلَفُوا بِاللهِ وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ" فأنزل اللهُ تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ثم قال بعدَ ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فعُلم أنَّ هذا داخلٌ في المحادَّةِ.
وفي روايةٍ أُخْرَى صحيحةٍ أنه نَزل قولُه: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُم وقد قال: يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ثم قالَ عَقِبَه: أَلمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولهُ
فثبت أنَّ هؤلاءِ الشاتمين وإذا كان الأذى مُحَادَّةً للهِ ولرسولِهِ فقد قالَ اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في لأَذَلِّين* كَتبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ
والأذلُّ: أبلغُ مِن الذليلِ، ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله إنْ أظهر المحادَّة؛ لأنه [إنْ] كان دمُه ومالُه معصوماً لا يُسْتَبَاح فليس بأذلَّ، يدلُ عليه قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثُقِفوا فعليهم الذِّلَّةُ إلاَّ مع العهد، فعُلم أنَّ مَن له عهدٌ وحبلٌ لا ذِلَّةَ عليه وإن كانت عليه المسكنةُ فإنَّ المسكنةَ قد تكونُ مع عدم الذلة، وقد جعل المحادِّين في الأَذلِّينَ، فلا يكون لهم عهد، إذ العهدُ ينافي الذِّلَّةَ كما دلَّتْ عليه الآية، وهذا ظاهرٌ، فإنَّ الأذَلَّ هو الذي ليس له قوةٌ يمتنع بها ممن أراده بسوء، فإذا كان له من المسلمين عهدٌ يجب عليهم به نَصْره ومنعه فليس بأَذلَّ، فثبتَ أنَّ المحادَّ للهِ ولرسولهِ لا يكون له عهدٌ يَعْصِمه، والمؤذي للنبيِّ صلي الله عليه وسلم مُحَادٌّ، فالمؤذي للنبي ليس له عهدٌ يَعْصم دَمَه، وهو المقصودُ. وأيضاً، فإنه قد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ والكَبْتُ: الإذلالُ والخِزْيُ والصَّرْعُ، قال الخليل: الكبت هم الصرع على الوَجْهِ. وقال النضر بن شُمَيل وابن/ قتيبة: هو الغيظ والحزن، وهو في الاشتقاق الأكبر من كبده، كأنَّ الغيظَ والحزن أصاب كبده، كما يقال: أحرق الحزنُ والعداوةُ كبدَه، وقال أهل التفسير: كُبِتُوا أُهلكوا وأُخْزُوا وحزِنوا، فثبت أن المحادَّ مكبوتٌ مخزِيٌّ ممتلٍ غيظاً وحزناً هالكٌ، وهذا إنما يتم إذا خافَ إن أظهرَ المحادَّةَ أن يُقتل، وإلا فمَن أمكنه إظهار المحادَّة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت، بل مسرورٌ جَذْلان، ولأنه قال: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالَّذِينَ من قبلهم ممن حادَّ الرسُلَ وحادَّ رسولَ الله إنما كَبَتَه الله بأن أهلكه بعذابٍ من عنده أو بأيدي المؤمنين، والكَبْتُ وإن كان يحصل منه نصيبٌ لكل من لم يَنَلْ
غَرَضَه كما قال سبحانه: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أوْ يكْبِتَهُم لكن قوله تعالى: كَمَا كُبِتَ لَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " يعني محادِّي الرسل دليلٌ على الهلاك أو كَتْم الأذى، يبين ذلك أن المنافقين هم من الحادَّينَ، فهم مَكْبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قُتلوا، فيجب أن يكون كلُّ محادٍّ كذلك.
منقول من كتاب الصارم المسلول في شاتم الرسول ( بن تيمية رحمه
الله )