بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي، المعروف بـ "حكيم الأمة" المتوفى 1362هـ / 1943م

دخولُ الجنّة أمر اختياريّ بمعنى أن أسبابه بمستطاع العبد . إذا درستَ الكتابَ والسنَّةَ علمتَ أن الله دلَّنا على أسباب وتدابير تُجَنِّبنا النارَ وتُدْخِلنا الجنَّةَ، إذا اخترناها جَنَّبَنَا اللهُ النارَ وأَدْخَلَنا الجنَّةَ ؛ فقال :

"وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (آل عمران/131) .

فدّلَّنَا على أن الكفر مُؤَدٍّ إلى النّار .

وقال :

"سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمـٰـواتُ وَالأَرْضُ" (آل عمران/ 133) وأعقبها بقوله : "أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران/131).

فعُلِمَ أنّ التقوى مُؤَدِّيةٌ إلى الجنَّة . ثم إن القرآنَ ذكر تفاصيلَ التقوى في مواضع كثيرة ؛ ففي الآية المذكورة نفسها :

"الَّذِيْنَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران/134) .

وفي موضع آخر:

"لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتـٰـبِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلوٰةَ وَآتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصّـٰـبِرِين فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولـٰـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولـٰـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة/177).

هذه الآية الكريمةُ تتضمّن بيانَ جميع أبواب التقوى مجملاً ، وبدأت بالمنع عن الاكتفاء بالصورة الفارغة من المعنى ؛ حيث قالت : "ليس البِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم الخ" كما أن المنافقين واليهود كانوا قد اتخذوا الحديثَ عن تحويل القبلة شغلَهم الشاغلَ . ثم ذكرتِ الأمرَ بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب السماويَّة والأنبياء. وهذه الأمورُ كلُّها تتعلق بالمعتقدات . ثم ذكرت الأمرَ بإزالة حبّ المال عن طريق إنفاقه. وهذا الأمرُ يتعلق بإصلاح القلب ، وأعقبته بذكر الأمر بإقامة الصلاة . وذلك طاعة بدنيَّة . وتلتْه بذكر الأمر بإيتاء الزكاة . وذلك طاعة ماليَّة . أما الأمرُ بإنفاق المال الذي جاء ذكره فيما أعلاه ، فذلك إنفاقٌ تطوُّعًا ، نصّ عليه الحديث الذي رواه الترمذيّ : إنَّ في المال لحقًّا سوى الزكاة . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضَرَّاءِ الخ"(1) و "عَلَى حُبِّه" قرينة لكونه إنفاقَ التطوّع ؛ لأن الضمير إن كان راجعًا إلى المال ، فإنّ إزالة حبّ المال لاتتحقق بإيتاء الزكاة فقط ، وإنما تتحقق إلى جانب ذلك بالإنفاق الزائد . وإن كان الضمير راجعًا إلى الله تعالى ، فإنّ حبَّه تعالى أيضًا يقتضي أن يُنْفَق المال فوق القدر المفروض بموجب حبّه . ثم ذكرت الآية الأمرَ بالوفاء بالعهد . وذلك يتعلق بالأمور الاجتماعيَّة . ثم ذكرت الأمرَ بالصبر . وذلك يتعلق بإحسان السيرة والسلوك؛ فالآية أجملت ذكرَ أبواب التقوى كلها؛ لذلك انتهت بقوله تعالى: "اُولـٰـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ" .

فقل لى : أفليس الله تعالى دَلَّنا على هذه التدابير لدخول الجنّة ؟ وهذه التدابيرُ أليست اخيتاريَّةً ؛ فدخولُ الجنَّة – يا تُرَىٰ – اختياريًّا كان أم غيرَ اختياريٍّ؟ . أما القول بأنّ التدابيرَ فَصَّلَها لنا اللهُ ؛ ولكن العمل بها والأخذ بها إنما هو مُتَوَقِّفٌ على مشيئته تعالى ، ولا يمكن العمل بها بدون مشيئته عزّ وجلَّ . فلا شكّ أن الإيمان بالمشيئة جزءٌ من عقيدتنا . ولكن هذه المشيئة لاتتعلق فقط بقضية دخول الجنّة أو النار؛ بل إن جميع الأمور في الدنيا متوقفة على مشيئته تعالى ، من القيام بالزراعة ، وممارسة الوظيفة ؛ فلماذا نسعى لهما دون أن نُفَكِّر في قضية المشيئة الإلهيَّة ؟ وكذلك فالموت أيضًا متوقف على مشيئته تعالى ؛ فلماذا نتجنّب الحيَّات والعقارب، ونتخذ لك تدابيرَ الوقاية ؟!.



التوكل وحقيقته

لماذا نستند إلى التوكل فيما يتعلق بالآخرة فقط؟ إذا كنّا نؤمن بالتوكل ، ينبغي أن نُعْمِله فيما يتصل بالأمور الدنيويَّة أيضًا . ألا ! إنّي لا أمنعكم عن التوكل ، وإنما أودّ أن أبدي لكم الخطأَ الذي ترتكبونه : إن التوكّلَ لايعني ترك الأسباب والابتعاد عن اتخاذها ، وإنما الطريق الصحيح في ذلك أن نجمع بين التدبير والتقدير ، أي نتخذ التدابير ونأخذ بالأسباب ثم نتوكّل . وفيما يتعلق بالدنيا أيضًا نُوَجِّه بذلك ونقول : إِزْرَعْ الأرض ثم توكل على الله فيما يتعلق بالثمار والحاصلات ؛ فالزراعةُ ، بشأنها تُتَّخذ الأسبابُ ، والثمارُ والحاصلات ، بشأنها يؤخذ بالتوكّل ؛ فكلُّ إنسان يتخذ هذا الموقفَ وحده في الأمور الدنيويَّة ؛ ولكني لا أدري لماذا يعملون بالتوكّل فقط في الأمور الأخرويَّة فيما يتعلّق بالعمل والثمرة كليهما ، على حين كان ينبغي أن يقفوا ههنا أيضًا الموقفَ الذي يقفونه في الأمور الدنيويَّة . وإذا كان هناك فرق بينهما، ينبغي أن يوضحوه حتى يعلمه الجميعُ . ولو تأمَّلنا وجدنا أن الفرقَ الواضحَ بين الدنيا والآخرة يقتضي أنّ هناك مُبَرِّرًا لترك الأسباب وإهمال التدابير فيما يتعلق بالأغراض الدنيويَّة ، أما الأهداف الأخرويَّة فليس هناك في شأنها مُبَرِّرٌ لإهمال الأسباب ؛ لأنّ التوكّل أي ترك الأسباب إنّما يعني تركَ الأسباب المظنونة غير المأمور بها ، أي الأسباب التي لاتُؤَدِّي عادةً إلى المُسَبَّب بشكل قاطع مُؤَكَّد ، ولا تكون مأمورًا بها شرعًا بشكل واحبٍ ؛ فيجوز تركُها وإهمال اتخاذها . أمّا الأسباب التي تُؤَدِّي عادةً إلى المُسبَّب بشكل مُحَتَّم، فلا يجوز تركها ؛ فلا يُسَمَّى توَكُّلاً أن تقعد مكتوف اليدين وأنت جائع وتقول : إذا أراد الله أن يطعمني، فسيطعمني فورًا ؛ لأنك إذا مُتَّ جوعًا كنت آثمًا تستحق العقاب من الله . ثم إن تركَ الأسباب المظنونة إنما يجوز لمن يكون قويّ الهمّة وكذلك أهله وأولاده يكونون أقوياء العزم أو لايكون لديه عيال ، ولايجوز تركُها لمن يكون ضعيف الهمة وعياله أيضا ضعفاء الهمة . أمّا تركُ الأسباب المأمور بها من قبل الشريعة لايُسَمَّى تَوكُّلاً.



السعي للآخرة

إذا علمتَ حقيقة التوكّل ، فتَأَمَّلْ : هل الأسباب التي هدى إليها الشريعةُ للثمرات الأخرويَّة، كيف هي ؟ هل هي مأمورٌ بها من قبل الشريعة أو ليست كذلك ؟ إنّها مأمور بها في الشريعة بالتأكيد ، ثم إنّ ترتّب المُسبَّب عليها قطعيّ ومُحَتَّم شرعًا ، وليس مظنونًا غير قاطع ، كما يُؤَكِّد ذلك النصوص الشرعيَّة ؛ فيقول تعالى:

"وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّـٰـلِحـٰـتِ مِنْ ذَكر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولـٰـئِكَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" (النساء/124) .

ويقول :

"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّا يَرَه" (الزلزلة / 7-8) .

وهناك نصوص كثيرة تتضمّن وعدًا صريحًا بلزوم ترتّب الجزاء على أعمال الآخرة . أمّا فيما يتعلق بالدنيا فليس هناك وعدٌ ولاصراحة بلزوم ترتّب المُسَبَّب على معظم الأسباب ؛ ففي الحديث الشريف : "ما أنزل اللهُ داءً إلاّ أنزل له شفاءً"(2) ومن ثمّ شُرِعَ اتخاذ التدبير ؛ ولكن الله لم يَعِد بترتّب النتيجـة عليه ؛ ولذلك قد يتخلّف التدبير عن النتيجة ؛ حيث قد نزرع الأرض فلا تُغِلّ ، ونتداوى ولا نُشْفَى. وترتّبُ النتيجة على أمثال هذه التدابير لايلزم عادةً ، وليس بشرط أن لايحصل الشفاءُ بدون الدواء ، ولا أن يحصل الشفاءُ بالضرورة كلّما تُنُووِل الدواءُ ، بالعكس من أعمال الآخرة التي بينها وبين نتائجها علاقة علّة وشرط معًا ، مهما لم تكن هذه العلة والشرط مفهومين عادةً ؛ فجميعُ أعمال الآخرة في لزوم ترتّب النتائج كبعض الأسباب الدنيويَّة التي نتائجها تكون قطعيَّة مُؤَكِّدةً وترتُّبُها عليها يكون لازمًا عادةً ، كحصول الشبع الذي يترتب على الأكل ، وكالريّ الذي يترتّب على الشرب ؛ ولكن الوعدَ الوارد في النصوص الشرعيَّة بتحقق النتائج على الأعمال الأخرويَّة وعدمَ ورود الوعد بذلك في شأن الأعمال الدنيويّة، يجعلان أعمال الآخرة ألصق بنتائجها من أعمال الدنيا؛ فكما أن الأسباب المُؤَكَّدة نتائجها ، لايجوز تركُها ، فكذلك جميعُ أعمال الآخرة لايجوز تركُها؛ لأنّها قطعيّة النتائج ، وقد وَرَدَ بترتبها الوعدُ في النصوص ؛ أ فليس من المدهش أن الأسباب التي لم يرد الوعدُ بترتب النتائج عليها يُهْتَمُّ بأن لايفوت اتخاذ أيّ سبب منها مهما صَغُرَ ؛ ولكنّ الأسباب التي وَرَدَ الوعد بتحقق نتائجها بشكل لايوجد احتمال للتخلّف ، يُؤْخَذ بشأنها بالتوكّل.

على كلّ فلو وُضِعَ في الاعتبار الفرقُ الواضحُ بين الدنيا والآخرة لجاز أن يُعْمَل بالتوكل في شأن بعض أسباب الدنيا ، وما جاز في شأن سبب من أسباب الآخرة . وكان هذا الحديث فيما يتعلق بالأسباب . أمّا المُسَبَّبَاتُ والثمراتُ فالتوكلُ فيها واجبٌ لامحالةَ سواء أكانت تتعلق بالدنيا أو بالآخرة. أي يجب أن لايعتقد أحدٌ أن الثمرات والنتائج ناشئة عن الأسباب ، وإنما يعتقد أنها فضل من الله وحده؛ فتَأَمَّلْ ذلك جيِّدًا .

* * *

* *

*