وحاجة البشرية للدين أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، بل أعظم من الهواء والتنفس؛ لأنهم بفقد الهواء والتنفس يفقدون الحياة الدنيا، وبفقد الدين يخسرون الدنيا والآخرة، وأي خسران فوق هذا؟
(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) [النساء: 119].
فلا بدَّ من الانتشار في الأرض لإبلاغ دين الله، ونشر السنن والأحكام بين الناس، ومقاتلة من يصد عن سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.. كما قال سبحانه: ( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41].
ومن أجل ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في كل مكان، وعرض دعوته وما جاء به من الدين على أهل مكة.. وأهل الموسم.. وأهل الطائف.. وأهل المدينة.. وأنذر الناس كافة.. والعالمين قاطبة. وجاهد بنفسه، وغزا بنفسه، وأرسل البعوث والسرايا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وقمع المعتدين، ودفع عدوان الظالمين. وكذلك فعل الصحابة معه، ومن بعده، فساروا في مشارق الأرض ومغاربها دعاة إلى الله، مبلغين دين الله، معلمين سنن رسول الله، مجاهدين في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم.
ومضوا في هذا السبيل داعين إلى الله، مجاهدين في سبيل الله، في مشارق الأرض ومغاربها، حتى مات أكثرهم في غير مكان مولده، فعلوا ذلك كله امتثالاً لأمر ربهم: ( هَٰذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52].
فعقبة بن نافع مات في الجزائر.. وأبو لبابة في تونس.. وأبو أيوب الأنصاري في أسطنبول.. وأبو طلحة الأنصاري في جزائر الروم.. وقثم بن عباس في سمرقند.. وقتيبة بن مسلم الباهلي في فرغانة.. وعبدالرحمن الغافقي في فرنسا.. والنعمان بن مقرن في نهاوند.. وعلي بن أبي طالب في الكوفة.. والبراء بن مالك في تستر.. والحارث بن هشام في اليرموك.. وأبو عبيدة في الأردن.. وعبدالله بن رواحة في مؤتة.. وخالد بن الوليد في حمص.. وسلمان الفارسي في المدائن.. وبلال في دمشق.. وأنس بن مالك في البصرة.. وجعفر بن أبي طالب في مؤتة.. وعبدالرحمن بن سمرة في خراسان.. وعمرو بن العاص في مصر.. وشرحبيل بن حسنة في الأردن.. وسهيل بن عمرو في الشام، وغير هؤلاء كثير.
والعباس بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم له عشرة أبناء، سبعة منهم قبورهم في بلاد شتى وولادتهم في مكة:
الفضل في الشام.. وعبدالله في الطائف.. وعبيدالله في اليمن.. وقثم في سمرقند.. وعبدالرحمن ومعبد في إفريقيا.
وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أكثر من مائة ألف، فلما قال لهم: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَـهُ مِنْـهُ» متفق عليه( ).
خرجوا بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة الباطل من الأرض، وما دفن منهم في المدينة إلا ما يقارب عشرة آلاف، والباقون ماتوا مجاهدين مسافرين مبلغين لدين الله في أنحاء الأرض، فرضي الله عنهم أجمعين: ( لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
[التوبة: 88، 89].