بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى في التحذير من الغلو في التكفير
سؤال نقدمه لوالدنا الشيخ الفاضل أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني حفظه الله تعالى ورعاه وسدد على طريق الخير خطانا وخطاه:
فضيلة الشيخ ظهر في هذه الأيام لاسيما مع وجود الفوضى في بعض الأماكن من بعض الشباب الذين قد درسوا في بعض مراكز السنة قبل عدّة سنوات بعض الأقوال بتكفير الحاكم والحكومة، ويرون أن المجتمع كافر، وأن من خرج على الحكومة وحاربها فهو مجاهد في سبيل الله، ولا يجوز التحذير منه، بل تجب مناصرته، وأن من حذَّر من هذا الفكر فيكون مواليًا للدولة وحكمه حُكْمُها، وقد سمعنا أنك ناصحت بعض هؤلاء الشباب منذ عدّة أشهر، لكنهم لم ينتفعوا بالنصيحة، فما هو الموقف الصحيح الذي يجب علينا تجاه هؤلاء الشباب؟
سائلين المولى عز وجل أن يبارك فيكم، وأن ينصر بكم الحق.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فلا شك أن طريق الدعوة إلى الله تعالى طريق طويل وشاق، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا] {المزمل:5} ولا يثبت على الحق في هذا الطريق إلا من ثبّته الله تعالى، ورزقه البصيرة والحكمة والفهم الصحيح، وعافاه من الشبهات وأهلها.
ومنذ سلكنا طريق الدعوة إلى الله ونحن نرى أناسًا تتخطفهم الأفكار المنحرفة بين حين وآخر هنا وهناك، والسبب في هذا سوء الفهم، والإعجاب بالرأي، واتهام كبار أهل العلم، وأخْذ نُتف من العلم من هنا وهناك دون دراسة تأصيلية للمسألة قائمة على الاستقراء والتجرد، فيقرأ أحدهم آية أو حديثًا ثم يفهم منهما فهمًا معينًا، ثم يترك دعوته وطريقته التي كان عليها منذ سنوات لشبهة عرضت له، أو أشكال فهمها عليه، ويميل هنا وهناك، ثم يظن أنه قد هُدي إلى صراط مستقيم، والواقع أنه قد انحرف عن سواء السبيل في هذا الباب الخطير، وجَلَب على نفسه ودعوته شرًّا، وصَدَّ من اغْترَّ به عن سواء الصراط، وأدخلهم في نفق مظلم موحش، ويكفيه شؤمًا أنه يحوم أو قد تورّط في أمر التكفير الذي حذّر منه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أيما تحذير، إذا صدر في حق مسلم بعينه دون مراعاة الضوابط الشرعية لذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه" رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وبعض الناس يكون مفتاح خير على بلده، ثم يُحْرم ذلك فيندفع في طريق التكفير بالجملة والأعيان، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا الصنف، فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن مما أتخوَّف عليكم: رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُؤيتْ بَهْجَتُه عليه، وكان رِدْءَ الإسلام؛ اعتراه إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك" قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، أيهما أوْلى بالشرك: المرْمي أم الرامي؟ قال: "بل الرامي" حديث حسن بمجموع طرقه، أخرجه الطحاوي والطبراني.
ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إياكم والغلو في الدين" أخرجه النسائي بسند صحيح، ويقول: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" أخرجه مسلم.
ولا زال علماؤنا السابقون واللاحقون يحذّرون من التهوّر والتشنّج والاندفاع والهرولة في باب تكفير من ينتمي إلى دين الإسلام إلا بأمر لنا فيه من عند الله برهان، مع التفرقة بين الحكم العام وتنزيله على المعين، لأن هذا الحكم العظيم سبب في قطْع أوصال المجتمع، وتفككه وتنازعه، ويؤول إلى أن كل طائفة تُكفّر الأخرى، مرة بلازم قولهم، ومرة بهوى وحمية جاهلية، والله عز وجل يقول: [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46} ، وإذا كان لعْن المؤمن كقتله، فكيف بتكفيره وإخراجه بعينه من ملّة الإسلام، وطرده من دائرة المسلمين، وإلحاقه بدوائر الشرك دون الأخذ بقيود هذا الحكم في تنزيله على آحاد الناس؟
وإذا كان تكفير أصغر مسلم بدون وجه حق من المحرمات الكبرى والجرائم العظمى؛ فكيف بتكفير ولاة الأمر وهم لا زالوا في دائرة الإسلام مع ما صدر منهم من أمور منكرة؟ إن تكفير هذه الطبقة دون الوقوف عند شروط أهل العلم المفصَّلة في ذلك يُدْخِل البلاد والعباد في فتن لا أول لها ولا آخر، ويكون من فتح هذا الباب على الأمة متحمّلاً للدماء والأشلاء والدمار والنيار التي تأكل الأخضر واليابس، فهنيئًا لمن مات وماتت معه ذنوبه، أما من بذر بذور الفتن والدمار في البلاد والعباد؛ فسيجني ذلك في قبره ما بقي أحد قد ضل بسببه وإن طال العهد، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" أخرجه مسلم، حتى وإن سلّمنا ـ على أسوأ تقدير ـ بأن أحد العلماء قد ترجّح عنده أن أحد الحكام قد كفر كُفْرًا أكبر قولاً أو فعلاً أو اعتقادًا؛ فهل من الحكمة أن يُشاع هذا الحكم بين العوام وصغار الطلاب، ومن لا يحسن فهم الأمور؟ إن العلماء لهم نظرة في الدليل الشرعي، وفي المعيّن الذي تنزَّل عليه الأحكام، وفي المصالح والمفاسد المترتبة على إذاعة هذا الأمر أو طيِّه، وهذا ما لا نجده عند كثير من الشباب الذين تحملهم الغيرة على التهور وإصدار الأحكام العظمى التي يهاب الراسخون في العلم من الولوغ فيها!!.
والعجب أن هذا الفكر وهذه الأدلة التي يستدل بها من انحرف من الشباب هذه الأيام ليست بجديدة عليهم،فلربما سمع بعضهم الرد عليها عدّة مرات منذ عدة سنوات، وقد أُشْبِعتْ أكثر هذه المسائل بحثًا ونظرًا واستدلالاً وتفنيدًا وتوضيحًا، لكن الهداية بيد الله.
وإن مما يتخذه بعض هؤلاء الشباب وسيلة لينفِّق باطله: أنهم يقولون: معنا فتاوى من كبار أهل العلم بذلك، وإذا قلت لهم: أنتم لم تقفوا عند فتاوى هؤلاء العلماء، بل أدخلتم عليها تكفير أناس بأعيانهم، ومن كبار العلماء من سُئلوا عن هؤلاء أو عن بعض من هو أسوأ حالاً منهم فحكموا عليهم بأنهم حكام مسلمون، يُسمع لهم ويُطاع في المعروف لا في المعصية، فلماذا تحتجون بكلام العلماء وأنتم تخالفونه في تنزيله على الواقع والأفراد؟ يقولون: نحن لا نقلد العلماء!! وعلى ذلك يجب أن يعلم الناس أن هؤلاء يتبعون آراءهم وأفهامهم وفهم من لبَّس عليهم أمر دينهم فقط لا فهم كبار أهل العلم، والله عز وجل يقول: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ] {النساء:83} فلم يردوا هذا الأمر الخطير الذي ينبني عليه شر مستطير إلى أهل الاستنباط والاجتهاد في المسائل العامة والمصيرية، إنما فرحوا بما عندهم من نتف علمية ملفلفة من هنا وهناك، مع أن بعضهم لو سُئل عن بعض أحكام المسح على الخفين، قال: الله أعلم، نبحث المسألة، أو اسألوا العلماء، أما فتاوى التكفير المفضي إلى القتل وضرب الرقاب فتراهم قد جرّأوا عليها الصغار، والله المستعان!! وإذا ناقشت بعضهم تراه متذبذبًا، يقول قولاً وينقضه في المجلس نفسه، فليس كثير منهم على يقين من هذا الأمر الخطير، فهل من الحفاظ على الديانة وصيانتها مما يخدشها أن يبني المرء هذا الأمر الخطير على مسألة متردد فيها، أو هي موضع نزاع بين أهل العلم، أو محل مزيد بحث بين هؤلاء الشباب أنفسهم؟ أليس الخطأ في العفو خيرًا من الخطأ في العقوبة؟ أليس قد قال بعض العلماء ما خلاصته: إذا كان الأمر يحتمل تكفير المسلم من تسعة وتسعين وجهًا، وهناك وجه واحد يحتمل عدم تكفيره؛ فلا نكفِّره؟ والخطأ في الحكم عليه بالإسلام أهون من الخطأ في الحكم عليه بالكفر، لما هو معروف من الأدلة والسيرة النبوية، أليس قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لا تكفير مع الاحتمال؟! أليس الخائف على نفسه ودينه وحسناته ينأى بنفسه عن الخوض في أمر لم تكتمل فيه أهليته، ولا زال البحث عنده يتطور من طور لآخر، ولا يدري بماذا يُختم له فيه؟ أليس من الحصافة والتزوّد بزاد الآخرة الابتعاد عن مواضع الشبهات والاحتمال، لاسيما وهذا الباب يتعين على كبار العلماء والقضاة لا على صغار طلاب العلم؟!! أليس من الورع في الديانة السكوت عن أمر يترتب عليه فتن الدماء، وقطع السُّبُل وهلاك الحرث والنسل، والاعتبار بحال حُذّاق وعمالقة هذا الباب الذين ذهب علم كثير منهم، وتركوا الساحة لأهل البدع، وهربوا، وطلبوا اللجوء السياسي عند النصارى؟ فإما أن يبقوا في البلاد بالتفجيرات والاغتيالات، وإما الهروب وترك الساحة فارغة لدعاة الأهواء!!
وإذا سألت بعض هؤلاء: هل أنتم مستقلون بفهم الأدلة دون الرجوع للعلماء؟ قالوا: لا، وإذا قلت لهم: من كبار العلماء المشهورين الذي يوافقكم على تكفير مجتمعنا وولاة أمره، وتكفير الجنود وغيرهم، وأنَّ من لم يكفِّرهم فحكمه حكمهم ـ كما ورد في السؤال ـ؟ قالوا: لا نعلم أحدًا، ولا يلزم ذلك!! وبهذا يتضح أنهم متناقضون، وأنهم ليسوا على فهم السلف الصالح وأتباعهم من كبار العلماء في هذا الباب، إنما هم يسيرون على فهمهم أو فهم الذين أفسدوا عليهم أمرهم، ثم ينسبون ذلك لكبار أهل العلم، حتى يقبل طلاب العلم منهم، فإن كثيرًا من صغار الطلاب لا يميزون، ومن لم يكن أمينًا في تربيتهم أو كان متهورًا في أمر له فيه أناة وسعة؛ فهم في ذمته، ومعلوم أن فتوى العالم على العموم لا يلزم منها أنه يفتي بذلك على كل شخص بعينه، وأن هناك فرقًا بين القول ولازمه، والقول وقائله، وهؤلاء وإن تمسحوا بالعلماء الكبار اليوم فما أقرب تنكّرهم لهم إذا أوغلوا في هذا الطريق، كما حدث لمن سبقهم في هذا الباب ـ إلا أن يرحمنا الله وإياهم ـ [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ] {ص:88} .
وأما عن كون دراسة بعض هؤلاء في فترة ما في بعض مراكز السنة في اليمن، فهذا ليس عيبًا في دعوتنا ولا في مراكز السنة التي علمت الناس خيرًا كثيرًا، إنما العيب في انحراف من انحرف عن الدعوة الصحيحة لا فيمن ثبت عليها، واستمر مدافعًا عنها بالحق، ويرد على من خالفها وإن كان من أبنائها، بل هذا مما تمتاز به هذه الدعوة ـ في الجملة ـ وأن الحق أعز علينا من كل عزيز، وأن الدفاع عن الحق أحب إلينا من الدفاع عن صاحب لنا أو صديق أو تلميذ جانَبَ الصواب.
وما من دعوة حق إلا وقد انحرف من أتباعها بعض من لم يُكتب له السداد في أمر ما أو أكثر ـ هذا مع الفارق بين من يمثَّل بهم وبين هؤلاء الشباب، إنما المراد وجه الشبه ـ: فهذا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إمام عظيم المناقب، رفيع الفضائل، وفيه من خصال الخير والرفعة في الدنيا والآخرة ما الله به عليم، ومع ذلك فقد انشق عن دعوته طائفتان: إحداهما: الخوارج، وهم يكفّرون عليًّا وكثيرًا من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والأخرى: وهم غلاة الرافضة، الذين جعلوه إلهًا آخر، فقاتل الطائفة الأولى، وحَرَّق كثيرًا من الطائفة الثانية، فهل يلحق عليًّا أي عيب لانحراف من انحرف من صفّه؟ الجواب: لا؛ لأنه ثابت على الحق، مدافع عنه، واقف في وجه من خالفه وإن كان من صفِّه وجنده.
وهذا الحسن البصري ـ رحمه الله ـ سيد التابعين قد اعتزل مجلسه واصل بن عطاء رأس المعتزلة، وخرج ببدعته وضلالته في الاعتزال، فهل هذا يعني أن الحسن البصري علّمه عقيدة الاعتزال؟!
وكثير من حملة هذه الأفكار الغالية في التكفير ممن درسوا بعض الوقت عند كبار أهل العلم، فهل يلحقهم لوْم بسبب ذلك، مع أن مؤلفاتهم ومجالسهم وفتاواهم تصرخ بالتحذير من هذا الفكر وغيره من الأفكار المنحرفة؟
والزيدية في اليمن قد غلا بعض أبنائها وذهب إلى الرفض والإمامية، فهل نقول: كل مشايخ الزيدية إمامية رافضة، لوجود من غلا من طلابهم؟
وهذه الجامعات والمدارس المنتشرة في طول البلاد وعرضها قد انحرف بعض خريجيها، فهل نقول هذه جامعات ومدارس منحرفة من الأصل لانحراف من انحرف من خريجيها؟ دون النظر في الألوف المؤلفة من الخريجين، وهم رجال صالحون في مجتمعاتهم حسب تخصصاتهم!!
وهكذا بقية المؤسسات الدينية، والجامعات الإسلامية، والمنظمات الدعوية في العالم الإسلامي، وكم من رجل أحسن الظن في رجل آخر، وقد كان مستقيمًا على الجادة سنوات عديدة، ثم ظهر منه خلاف ذلك عندما وردت عليه بعض الشبهات، وكم من رجل وثقت فيه الدولة وعيّنته سفيرًا للبلاد في بعض الدول، ثم اتضحت خيانته، أو مخالفته لما حلف عليه اليمين، ثم طلب اللجوء السياسي هنا أو هناك، وقلَب ظَهْر المجنّ لحكومة بلاده، فهل هذا يعني ان من عيّنه سفيرًا كان موافقًا له على أفكاره الجديدة التي ظهرت مؤخرًا؟
إن انحراف من انحرف من الشباب المنتمي للدعوة ناشئ عن سوء فهمهم لكلام العلماء، وإذا كان القرآن الكريم الذي هو كلام الله عز وجل، وقد نزل بلسان عربي مبين، و[لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] {فصِّلت:42}؛ وهناك من يسيء فهمه، ويتأوله على غير وجهه، فهل يُسْتبعد أن يوجد من يسيء فهم كلام العلماء، وهم غير معصومين؟!
إن الله عز وجل يقول: [أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى(41) ]{النَّجم} ويقول سبحانه: [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] {المدَّثر:38} .
ثم إذا وُجد مثال شاذ بانحراف من انحرف من الشباب؛ فهناك عشرات الألوف من طلاب العلم في جميع المحافظات ضد هذا الفكر الغالي في التكفير، وضد الفكر الذي يؤول بأصحابه إلى الحالة السيئة التي وردت في السؤال، ولهم عقود من الزمان وهم رجال صالحون مصلحون، ويعيشون هموم مجتمعهم ومشاكله وأزماته، ويسعون في علاجها بالحكمة لا بالاحتقانات والفتن، فهل من الإنصاف: أن ننظر إلى مثال شاذ أو عشرة أمثلة أو عشرات ولا نحكم على الدعوة إلا من خلال هذه الأمثلة الشاذة، ونغُض الطرف أو نتعامى أو نتغافل عن عشرات الألوف من الشباب من أهل الاعتدال والوسطية، الذين امتلأت كتبهم ومحاضراتهم ومجالسهم ونصائحهم بالتحذير من أفكار الإفراط والتفريط، أو الغلو والجفاء؟ وهل هذه الألوف الرشيدة إلا ثمرة جهود متواصلة ليلاً ونهارًا في تقرير المنهج المعتدل، وترسيخ دعائمه ودلائله؟!.
نعم، لقد نصحنا بعض هؤلاء الشباب، وأخلصنا لهم في النصح، وحذّرناهم من مغبَّة هذا الفكر الذي أعلن كثير من كبار معتنقيه تراجعهم عنه ورجوعهم إلى ما نصحهم به العلماء قبل ثلاثين عامًا أو دون ذلك بعدما اتضح لهم فساد فهمهم، وزلّة قدمهم، ورغَّبْناهم في لزوم دعوة الاعتدال، وعدم إشغال الشباب بما يفرق صفوفهم، ويُفسد وُدّهم، ويعرقل مسيرتهم العلمية والتربوية، ولكن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، وكنا نحب أن يبقى مجال البحث العلمي مفتوحًا ـ كما هو المتفق عليه بيني وبين من ناصحتهم ـ حتى يتضح الحق لكل ذي عينين، بشرط الكف عن نشر هذا الفكر بين العامة والشباب حتى يأخذ البحث العلمي حقه من الطرفين وإن طالت المدَّة لظروف تنزل بالجميع؛ لكن غليان هذا الفكر في قلوب بعضهم حمله على هذا الاندفاع العشوائي، والتنصُّل من الاتفاق، والمؤمنون على شروطهم، والله المستعان.
وعلى كل حال: فكتبي ومؤلفاتي وفتاواي واضحة وضوح الشمس في التحذير من هذا الفكر ـ ولله الحمد ـ وكذا مواقف غيري من علماء ودعاة السنة في اليمن، ولو سُئل هؤلاء الذين أحدثوا ما أحدثوا عن موقفي وموقف عدد من كبار الدعاة من دعوتهم الجديدة لقالوا جميعًا: إنهم ضد ما ذهبنا إليه، بل ربما قالوا قولاً قبيحًا، وقد اعتدْنا ذلك من كثير ممن أحسن إليهم المحسنون!!
وعلى ذلك فكل من سلك هذا المسلك فإنما يُعبّر عن نفسه لا عن دعوتنا، وإني أعلن مؤكّدًا ما سبق عني وعن غيري من دعاة السنة من براءتنا من فكر الغلو في التكفير، وأعلن مؤكدًا أيضًا تحذيري من هذا الفكر ومن السير فيه، أو الاغترار بحملته ودعاته، أو حضور مجالسهم التي ينشرون فيها هذه الأفكار إلا لمتأهل يستطيع أن يرد الباطل وينصر الحق، وأوصي طلاب العلم بالصبر على جادة الطريق، واتباع طريقة كبار العلماء في العالم الإسلامي سلفًا وخلفًا، وأن لا يكثروا الجدل مع هؤلاء وغيرهم، فمن أكثر الجدل أكثر التنقُّل،وأن لا يكونوا ممن تقلب عليهم الحصاة قطار دعوتهم، فيستبدلوا دعوتهم وأدلتهم وشيوخهم لأدنى شبهة، قد شاع وذاع الرد عليها من قبل، وعليهم الاستمرار في الاشتغال بطلب العلم، وتعليم المسلمين ما يحتاجون إليه من أمور دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وتربيتهم على الإسلام المصفَّى من كل شائبة تُنسب إليه زورًا وبهتانًا، وعدم الاشتغال بمن سلك نفقًا مظلمًا ومصيرًا قاتمًا، وفكرًا متهورًا، وفي الساحة ما يكفينا من أمور تحتاج إلى تقويم وإصلاح، واليمن ليس بحاجة إلى مزيد من الجراحات والفتن، ففيه من أسباب الدمار وتغلغل الأفكار المنحرفة ما لو قُسّم على أهل الأرض لوسعهم، لكن الرجاء في الله أن يلطف به وبأهله وبجميع المسلمين وبلادهم، فمن كان مصلحًا مباركًا معينًا للمصلحين على مواصلة مسيرتهم فحيهلاً به، وإلا فالمفسدون كثر ـ لا كثّرهم الله ـ ولسنا بحاجة إليه، فإما أن يقول خيرًا أو يصمت، فلا يزيد الطين بِلّة، والمريض علة.
وإن كثيرًا من الشباب ينطلق في هذا الطريق الموحش المظلم بزعم إصلاح الفساد، ومحاربة المفسدين!! ونحن نعلن بأعلى صوت أن الفساد والمفسدين ضررهما عظيم، وخطرهما جسيم؛ على البلاد والعباد في الدين والدنيا، إلا أن الطريق للعلاج لا يكون بزيادة الفساد، فهذا عمل العابثين لا المصلحين، وقد أصلحت الدعوة الهادئة خلال عقود من الزمان كثيرًا من الفساد العقدي، والعلمي الثقافي، والأخلاقي والسلوكي في المجتمع، وأخبرونا ماذا صلح في البلاد من وراء التفجيرات والاغتيالات والغلو في التكفير، فإن الناس يُعرفون بآثارهم، والسعيد من وعظ بغيره، ولا يتم العلاج إلا بمواصلة التصحيح القائم على العلم بالحق، والرفق بالخلق، والموازنة بين المصالح والمفاسد العاجلة والآجلة، والاعتبار بحال دول وأفراد لمّا خيّمت فوقهم سحائب الفتن والفوضى ماذا حصل لهم، فكل مصلح غيور يجب أن يحارب الفساد بقدر استطاعته وفي حدود ما يعطِّل الفساد أو يقلله،، ولا يدافع عن الفساد إلا مفسد أو جاهل، لكن ليس علاج العور بالعمى، فنكون كمن أراد أن يعالج زكامًا فأحدث جذامًا، أو أراد أن يبني قصْرًا فهدم مَصْرًا، ولنعتبر بالتاريخ فإن باب الخروج على ولاة الأمر وإن كانوا ظلمة سبب لكل فساد، وقد نقلتُ كلام العلماء وأصول أهل السنة في هذا الباب في كتابي: "فتنة التفجيرات والاغتيالات: الأسباب، والآثار، والعلاج" وقد طُبع عدّة طبعات، ونفع الله به ما شاء من خلقه، وفيه النصوص الصريحة على أن عدم الخروج على الولي الظالم أصل أصيل من أصول أهل السنة، وانعقد الإجماع عليه، وأنه لم يخالفهم بعد إجماعهم على ذلك إلا أهل البدع والأهواء والفساد، وليعتبر هؤلاء الشباب بجماعة التكفير في مصر ومصيرها، وبأصحاب هذا الفكر في بالجزائر وما آل إليه أمرهم من تكفيرهم لبعضهم البعض وقتل بعضهم بعضًا، وليتعظوا بحال كثير من أصحاب هذا الفكر الذين ألجأتهم الظروف والحاجة إلى قبول المساعدات والتعاون مع الرافضة المكفِّرين لجمهور الصحابة، وهذا مصير من فتح على نفسه بابًا قبل أن يتأهل له، فإنه بعد ذلك إذا ضاقت عليه الأمور يرتمي في أحضان من هو أشر وأضر، وبعد أن يثير الفتن والفوضى في بلاد السنة، تأتي الرافضة وتستولي على الجميع ـ لا قدّر الله بسوء على السنة وأهلها وبلادها ـ فلا تدخلوا أنفسكم في دهاليز مظلمة ضيقة، ثم تضطرون إلى الاستنصار بالأضل على الضال، فيكون حالكم كما قيل:
المستجير بعمروٍ عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار
هذا ما لزم بيانه براءة للذمة، وزيادة في النصح، فإن نفع الله بذلك؛ وإلا [فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ] {غافر:44} [إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] {هود:88}
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث بمأرب
1 / ربيع أول / 1430هـ

المرجع:
http://www.sulaymani.net/play.php?catsmktba=1458