تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تدوين السنة النبوية - العلامة محمد إسماعيل المقدم

  1. #1

    Post تدوين السنة النبوية - العلامة محمد إسماعيل المقدم

    http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson...esson_id=26854

    تفريغ المحاضرة بتصرف يسير:
    تدوين السنة النبوية
    الحمد لله و كفى، و سلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده و رسوله المصطفى، و على آله المستكملين الشرفا، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، و أحسن الهدي هدي محمد – صلى الله عليه و سلم –، و شر الأمور محدثاتها، و كل محدثة بدعة، و كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

    فنتوقف اليوم مع قضية علمية؛ من علم الحديث، وهي المتعلقة بتدوين السنة النبوية الشريفة. و مسألة تدوين السنة النبوية أحيانا تكون مجالا للطعن في حجية سنة الرسول – صلى الله عليه و سلم – من قبل المستشرقين و أذنابهم.

    بادئ ذي بدء نبيّن أن الرسول – صلى الله عليه و سلم – قد أذن بكتابة السنة، و ثبت ذلك الإذن عنه – صلى الله عليه و سلم –، إذ أنه أباح الكتابة في أوقات مختلفة، و لمواضيع عدة، و في مناسبات كثيرة خاصة و عامة. من الأحاديث التي تدل على ذلك ما رواه أبو الطفيل، قال سئل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –: "أخصّكم رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بشيء؟"، فقال: "ما خصنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بشيء لم يعمّ به الناس كافّة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا"، فأخرج صحيفة مكتوبا فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله، و لعن الله من سرق منار الأرض، و لعن الله من لعن والده، و لعن الله من آوى محدثا". رواه مسلم. و واضح من هذا الحديث من قول أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه –: "ما خصنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا" فهذا يبطل قول الشيعة – قبحهم الله – الذين يزعمون أن هناك علما اختص به من يزعمونهم الأئمة و أهل البيت، حتى إنهم كانوا يزعمون أن جبريل كان ينزل على فاطمة – رضي الله عنها – بعد وفاة النبي – صلى الله عليه و سلم –... إلى آخر خزعبلاتهم و خرافاتهم.

    وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه لما فتح الله على رسوله – صلى الله عليه و سلم – مكة، قام رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و خطب في الناس، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: "يا رسول الله، اكتبوا لي"، فقال – صلى الله عليه و سلم –: "اكتبوا لأبي شاه". رواه الإمام أحمد و الشيخان. و كان هذا في السنة الثامنة في عام فتح مكة.

    و قال أبو عبد الرحمن – و هو عبد الله بن الإمام أحمد – قال: ليس يروى في كتابة الحديث شيء أصح من هذا الحديث لأن النبي – صلى الله عليه و سلم – أمرهم، قال: "اكتبوا لأبي شاه". و هذا الحديث في بحث تدوين السنة؛ حديث من الأحاديث الأساسية، و هو مشهور بحديث أبي شاه، و فيه أمره المباشر: "اكتبوا لأبي شاه".

    و عن مجاهد و المغيرة بن حكيم، قالا: سمعنا أبا هريرة – رضي الله عنه – يقول: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – فإنه كان يكتب بيده، و يعي بقلبه، و كنت أعي و لا أكتب. استأذن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في الكتابة؛ فأذن له". رواه الإمام أحمد و البيهقي، و حسنه الحافظ ابن حجر – رحمه الله –. و طبعا؛ معلوم أن إسلام أبي هريرة متأخر، و هذا الحديث يدل على أن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – كان يكتب الحديث بعد إسلام أبي هريرة – رضي الله عنه –. سمعنا أبا هريرة – رضي الله عنه – يقول: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – فإنه كان يكتب بيده، و يعي بقلبه" كان يضم إلى الحفظ: التدوين و الكتابة، وهذا محل الشاهد. يقول أبو هريرة: "و كنت أعي و لا أكتب. استأذن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في الكتابة؛ فأذن له".

    وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: "كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أريد حفظه" كل ما كان يريد أن يحفظه كان يقيده و يثبته كتابة، قال: "فنهتني قريش، و قالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بشر يتكلم في الغضب و الرضا. فأمسكت عن الكتابة، و ذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فأومأ بإصبعه إلى فيه، قال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق". "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق". وهذا الحديث رواه أبو داود و الحاكم، و صححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الحاكم: هو أصل في نسخ الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم –. وهذا الحديث عام، لا سبيل إلى تخصيصه، فبهذا الإذن – بل الأمر – النبوي الصريح استأنف عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – كتابته للحديث النبوي، حتى اجتمع له من هذا كتب ثلاثة، وكانت الصحيفة التي معه كانت مشهورة باسم الصحيفة الصادقة التي كان يكتب فيها و هي أشهر هذه الكتب، و الثانية قضاء رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و بعض أحواله، أما الثالثة فمجموعة ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة.

    و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلا من الأنصار شكى إلى النبي – صلى الله عليه و سلم –، فقال: إني أسمع منك الحديث ولا أحفظه. فقال – صلى الله عليه و سلم –: "استعن بيمينك، و أومأ بيده للخط". "استعن بيمينك" يعني اكتب وقيد العلم حتى لا تنساه، "استعن بيمينك، و أومأ بيده للخط". وهذا رواه البيهقي و الترمذي وغيرهما.

    و عن عطاء عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما –، قال: "قلت يا رسول الله، أأقيد العلم؟"، قال: "قيد العلم". قال عطاء: و ما تقييد العلم؟ قال: كتابته. و في رواية، قال: "يا رسول الله، وما تقييده؟" قال: "الكتاب". طبعا الكتاب هنا مصدر، ولذلك سيأتي لفظ آخر في حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعا: "قيدوا العلم بالكتاب"، ولا شك أن الظاهر من السياق هنا: "يا رسول الله، أأقيد العلم؟"، المراد من العلم هنا: خصوص الحديث الشريف، بالذات أحاديث الرسول – صلى الله عليه و سلم –. وعن أنس – رضي الله عنه – مرفوعا: "قيدوا العلم بالكتاب" و صححه الألباني – رحمه الله –.

    وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لما اشتد بالنبي – صلى الله عليه و سلم – وجعه، قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده"، قال عمر: "إن النبي – صلى الله عليه و سلم – غلبه الوجع، و عندنا كتاب الله حسبنا"، فاختلفوا، و كثر اللغط، قال: "قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و الشيخان و غيرهم. و في هذا الحديث أنه – صلى الله عليه و سلم – هم بأن يكتب شيئا غير القرآن، و ما كان سيكتبه لا شك أنه كان سيكون من السنة، و عدم كتابته لمرضه لا ينسخ أنه قد همّ به، و الرسول – صلى الله عليه و سلم – لا يهمّ إلا بما هو مشروع، و كان ذلك قبل وفاته – صلى الله عليه و سلم – بأيام، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أبا هريرة – رضي الله عنه – أسلم سنة سبع من الهجرة، و أن حديث أبي شاه كان في السنة الثامنة قبل الفتح؛ علمنا تأخر الأحاديث المبيحة للكتابة في الزمن، و فيه رد على صاحب المنار، و للأسف الشديد الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – تأثر بصورة أو بأخرى بكلام مدرسة الشيخ محمد عبده في موقفه من السنة، و هو موقف مدخول ليس نقيا، فللأسف الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – تأثر بالشيخ محمد عبده – رحمه الله، و عفا عنه – في بعض مواقفه من السنة، و كان من أشدها تجاسر الشيخ محمد عبده على رد بعض الأحاديث المتواترة، كأحاديث نزول المسيح – عليه السلام – إلى غير ذلك من خصائص المدرسة العقلية المعروفة، فمما ادعاه الشيخ رشيد رضا أن الإذن وقع أولا بالكتابة، ثم نسخ ذلك الإذن بالنهي عن الكتابة، لأن هناك أحاديث متعارضة في هذا الباب.

    لكن هناك من الأدلة ما يدل على ثبوت إذنه بالكتابة في أواخر عمره – صلى الله عليه و سلم –، سواء قبل موته بثلاثة أيام في حديث عمر الآنف الذكر، أو في قصة أبي شاه، أو في حديث أبي هريرة، فدل ذلك على أن الناسخ هو أحاديث الإذن بالكتابة، و أما المنسوخ فهو أحاديث المنع من الكتابة كما سنبينها.

    وكان الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – كما هو معروف عنه أنه كان كلما أمعن في تقدم السن و العمر؛ كان كلما يقترب من السلفية أكثر، واضح؟ و مع ذلك هو له جهود مشكورة في خدمة الكتاب و السنة على فهم السلف، له جهود مشكورة حتى لقب بأبي السلفيين في مصر، لأنه كان له دور تأسيسي في نصرة المذهب السلفي هنا في مصر، فهذا جهد لا يجحد له، و نسأل الله أن يغفر له ما اجتهد فيه فأخطأ من القضايا العلمية.

    ثبت أن النبي – صلى الله عليه و سلم – كتب كتبا كثيرة، في بيان ديات النفس و الأطراف والفرائض و غير ذلك من الأحكام، كما وقع لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، ومعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، و غيرهما – رضي الله عنهما –، كذلك كتب إلى ملوك عصره و أمراء جزيرة العرب كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكان ينفذ مع بعض أمراء سراياه كتبا و يأمرهم ألا يقرؤوها؛ إلا بعد أن يجاوزوا موضعا معينا.

    إذا ما الحكمة في أن هناك أحاديث فيها أمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بكتابة القرآن وحده؟ هناك أحاديث يأمر فيها بكتابة القرآن فقط دون السنة، ما الحكمة في ورود هذا الأمر؟

    لا يختلف اثنان من علماء السنة في أن القرآن الكريم قد لقي من عناية رسول الله – صلى الله عليه و سلم – والصحابة – رضي الله عنهم – ما جعله محفوظا في الصدور و مكتوبا في الرقاع و السعف و الحجارة و غيرها، حتى إذا توفي رسول الله – صلى الله عليه و سلم – كان القرآن محفوظا مرتبا لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد. أما السنة المشرفة؛ فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها أصل هام من أصول الشريعة، و هي تتفق مع القرآن في كونها حجة أيضا شرعية، و لم يختلف أحد في أنها لم تدون تدوينا رسميا كما دون القرآن في عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم –. يعني تدوين السنة في حياة الرسول – صلى الله عليه و سلم – لم يكن مماثلا لتدوين القرآن، القرآن كان فيه اهتمام بالغ بتدوينه و حفظه في الألواح، العظام، الجلد، الرقاع، الجريد و هكذا... فحصل اهتمام شديد و بليغ في تدوين القرآن الكريم، و كان القرآن قد رتب ترتيبا توقيفيا، فلم يتبق سوى أن يجمع القرآن الكريم في مصحف واحد، و قد جاء من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن الرسول – صلى الله عليه و سلم – قال: "لا تكتبوا شيئا عني إلا القرآن، و من كتب عني شيئا فليمحه". واضح؟ و في هذا الحديث: "و حدثوا عني و لا حرج". فهذه كانت مرحلة من المراحل، ليس فقط فيها عدم الإذن بتدوين السنة؛ بل الاقتصار في التدوين على القرآن الكريم، و محو ما كان بخلاف القرآن الكريم. "لا تكتبوا شيئا عني إلا القرآن، و من كتب عني شيئا فليمحه"، و إن كان بعض الأئمة يضعفون هذا الحديث. طبعا القول في نفس هذا الحديث: "و حدثوا عني و لا حرج" يفهم منه الحث على تبليغ السنة، و هناك حديث: "نضر الله امرأ سمع مني حديثا فحفظه، فبلغه كما سمعه"... إلى آخر الحديث.

    و قد نشر الصحابة – رضي الله عنهم – السنة و بذلك بلغتنا، غير أنهم بالصفة الأساسية نشروا السنة و بلغوها عن طريق حفظها في الصدور، ثم نقلها بالتحديث إلى الأجيال التالية، بخلاف القرآن الكريم؛ فإنه حفظ في الصدور و حفظ في السطور، {إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون}، فالقرآن الكريم أولا كان محفوظا في اللوح المحفوظ، و بعد ذلك نزل فحفظ في الصدور.

    فمن ثم أخذ بعض العلماء حجية ما كانت تنتهجه المناهج القديمة – للأسف الشديد التي حرمنا من منهجها الآن – يعني الطالب حينما يتعلم أو الصبي الصغير حينما يتعلم لا يتعلم فقط أن يحفظ؛ بل يحفظ حفظ الصدور و يحفظ حفظ السطور، فكان علم تدوين القرآن و طريقة كتابة القرآن الكريم علما مستقلا، و كان يهتم به اهتماما بليغا، وكانوا في الكتاب لا يحفظ الطالب هكذا كما يحصل الآن، بل يذهب كل طالب و معه اللوح و الطباشير و يكتب عليه حزب يومه و يحفظه و في نفس الوقت يتعلم كيفية كتابة القرآن الكريم، فطبعا هذا من التقصير الموجود الآن، و هو إهمال علم رسم القرآن و كيف تكتب حروفه.
    نعود إلى السؤال: ما الحكمة في أمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بكتابة القرآن الكريم وحده؟ طبعا الحكمة هي بيان ترتيب الآيات ووضع بعضها بجانب بعض، فإنه توقيفي بالاتفاق، فترتيب سور القرآن الكريم من حيث ترتيب السور بالنسبة لبعضها أو ترتيب الآيات بالنسبة للسورة الواحدة فهذا ترتيب توقيفي، و لن تأخذ الصورة الكاملة المطلوبة إلا بالتدوين حتى يحفظ أن السورة الأولى هي الفاتحة، يليها البقرة فآل عمران... إلخ، فإذا الحكمة في أمره بكتابة القرآن؛ هي حتى يبين لهم النبي – صلى الله عليه و سلم – ترتيب الآيات، و وضع بعضها بجانب بعض فإنه توقيفي بالاتفاق، نزل به جبريل – عليه السلام – في آخر زمنه – صلى الله عليه و سلم –. فكانت هناك حاجة إلى هذا، و قد كان القرآن ينزل من قبل حسب الوقائع. و كذا بيان ترتيب السور فإنه توقيفي على الراجح.
    فموضوع الاحترام و الالتزام بترتيب القرآن شيء أساسي جدا لأنه توقيفي، مع أن ترتيب السور بحسب نزولها يختلف عن ترتيب القرآن من حيث وجودها في المصحف الشريف. قال الشيخ محمد بن إسماعيل: و لم يخالف في هذا المنهج في كتب التفسير سوى تفسير لعالم من علماء الشام و اسمه تقريبا: محمد عزت زرودة، وهو الوحيد الذي صنع تفسيرا للقرآن الكريم بترتيب نزول السور، وهذا مخالف لمنهج العلماء كافة في الالتزام بالترتيب التوقيفي لسور القرآن الكريم.
    أيضا، كتابة القرآن كانت لزيادة التأكيد، فإن الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات، و هي و إن كانت أضعف من السماع – يعني الكتابة من حيث القوة و الإثبات أضعف من السماع فضلا عن التواتر اللفظي –، فإنها إذا انضمت إلى ما هو أقوى منها في الإثبات؛ زادته قوة على قوة، يعني الكتابة أضعف من السماع، و السماع أقوى منها، و التواتر اللفظي أقوى و أقوى، لما تنضم لما هو أقوى منها في الإثبات فإنها تزيده قوة على قوة.

    و بالنسبة لموضوع أن الكتابة أضعف من السماع، نرى مظهر ذلك جليا حينما نرى علماء الأصول: إذا تعارض حديث مسموع، و حديث مكتوب، فماذا يرجحون؟ يرجحون الحديث المسموع. و إنما احتيج إلى زيادة التأكيد في القرآن الكريم، لكونه كتاب الله تعالى، و أعظم معجزات رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و لكونه المعجزة الباقية إلى يوم الدين، و لتبقى دليلا ساطعا على نبوته، و برهانا قاطعا على رسالته – صلى الله عليه و سلم –، و لكونه أساس الشريعة الإسلامية، و به ثبتت جميع العقائد الدينية التي لابد منها، و أمهات الأحكام الفرعية، و لكونه قد تعبدنا الله بتلاوة لفظه في الصلاة و غيرها، و لم يجز لنا أن نبدل حرفا منه بحرف آخر، فهذه خصائص القرآن التي تؤكد حتمية الاهتمام بكتابته و تدوينه بخلاف السنة، و لذلك لا يجوز أبدا لإنسان أن يروي القرآن الكريم بالمعنى، السنة فيها خلاف: يجوز أم لا يجوز؛ فمن مانع مطلقا ومن مجيز بشروط، أما القرآن فلا يمكن، يعني لا يجوز أن يقول أحد ما: وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم ما معناه كذا و كذا، أو تذكر الآية و تقول: أو كما قال الله تعالى، و لكن يمكن أن تقال في الحديث احتياطا، لكن في القرآن لا يجوز، إما أن تذكر نص الآية و إما لا تقل شيئا، أما أن تحكي آية بالمعنى فهذا لا يجوز في القرآن الكريم.
    فإذا لكون القرآن الكريم مشتملا على هذه الأمور الجليلة العظيمة الخطر اهتم الشارع بأمره أعظم اهتمام، و أحاطه بعنايته أجل حياطة، فأثبته للناس إلى يوم الدين بكل الطرق الممكنة التي يتأتى بها الإثبات مهما تفاوتت مراتبها في القوة للمحافظة على لفظه و نظمه.

    أما الأحاديث النبوية الشريفة فليست بهذه المثابة، فلا ترتيب بين الأحاديث بعضها مع بعض، بخلاف القرآن فلا بد من مراعاة ترتيب الآيات مع بعضها البعض، أما السنة و الأحاديث فلا ترتيب بين الأحاديث بعضها مع بعض، ثم إن الأحاديث ليست بمعجزة يتحدى بها، و لم يتعبدنا الله بتلاوة لفظها لا في الصلاة و لا خارج الصلاة، فلا ترتل أو تتلى كما يتلى القرآن، و المقصود بالتلاوة هنا التلاوة المعروفة الموعود عليها بالثواب، وليس معنى ذلك أن ختم البخاري أو مسلم مثلا ليس بعبادة! فهذه عبادة من أجل العبادات: قراءة الأحاديث، وجاز لنا روايتها بالمعنى بشروطها لأنه هو المقصود منها، لأن السنة المقصود منها أساسا توصيل المعنى، أما القرآن فالمقصود اللفظ و المعنى معا لأن في هذا إعجازا و في ذاك أيضا إعجاز.

    و قد عاش رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بين أصحابه – رضي الله عنهم – ثلاثا و عشرين سنة، فكان تدوين كلماته و أعماله و معاملاته تدوينا محفوظا في الصحف والرقاع من العسر بمكان لما يحتاج ذلك من تفرغ أناس كثير من الصحابة – رضي الله عنهم – لهذا العمل الشاق، و من المعلوم أن الكاتبين الذين يحسنون الكتابة كانوا قلة نادرة في حياة رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فلذلك كان الأولى أن يتوفر هؤلاء القلة على كتابة القرآن دون السنة، و لأن القرآن كان ينزل شيئا فشيئا، أما السنة بأقسامها فهي لا تكاد تنقطع خلال الثلاث و عشرين سنة كلها تشريع، كلها أفعال للرسول – صلى الله عليه و سلم – و أقوال وتقريرات، كلها تشريع، بجانب أن أدوات الكتابة كانت عزيزة و لا سيما ما يكتب فيه، لم هناك ورق بالصورة الموجودة من بعد، و لكن كان الأمر فيه نوع من الصعوبة، و كان الصحابة – رضي الله عنهم – محتاجين إلى السعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبايع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقا.

    و قد كان العرب أمة أمية، يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه و استظهاره، و هذه من خصائص العرب، من خصائصهم الذاكرة القوية جدا في حفظ الأشعار و هذه الأشياء، فتركيزهم على الحفظ بجانب الملكات الفطرية عندهم كان الحفظ عندهم شيئا مدهشا، الإنسان لما يعتمد على الذاكرة كثيرا، ويشغلها أكثر فإنها تحتد، كلما شغلتها أكثر كلما تقوى أكثر، فهم ما كانوا يعتمدون على الكتابة، لأنه ممكن الإنسان حتى لو أنه يحضر درس علم مثلا و يسجل بالكتابة ربما لم يركز في كلام الشيخ على أمل أنه لما يرجع إلى منزله سيجد الكلام مكتوبا، واضح؟ فربما أدى ذلك إلى نقص في انتباهه، لكن لو تأكد أن هذه هي الفرصة الوحيدة، لوفاته السماع المركز فسيفوته هذا العلم ولن يستطيع تحصيله، فالشاهد أن هذا أدى بهم إلى التركيز. فمثلا بعض الناس ممن يكونون بصيرين بقلوبهم لا بأعينهم نجد عندهم الذاكرة في الغالب تكون قوية جدا لأنه لم يتشتت مع شيء آخر لأن تركيزه هي الوسيلة الوحيدة للتحصيل، لذلك تجد الذاكرة – ما شاء الله – في غاية القوة، ولذلك رأينا علماء كثيرين من فطاحل العلماء ممن هم بصراء بقلوبهم بسبب تعويض الله – سبحانه و تعالى – إياهم في حدة الذاكرة. فالشاهد أن العرب لما كانوا أمة أمية يعتمدون على الذاكرة وحدها فيما يودون حفظه و استظهاره، فإذا التوفر على حفظ القرآن مع نزوله منجما على آيات و سور قصيرة ميسور لهم، وداعية إلى استذكاره في صدورهم، فلو دونت السنة كما دون القرآن و هي واسعة الأرجاء كثيرة النواحي شاملة لأعمال رسول الله – صلى الله عليه و سلم – التشريعية و أقواله منذ بدء الرسالة إلى أن لحق بربه؛ للزم انكبابهم على حفظ السنة مع حفظ القرآن، و فيه من الحرج ما فيه، مع أنه لا يؤمن حينئذ اختلاط بعض الأحاديث بالقرآن سهوا من غير عمد في وقت كانوا حديثي عهد بالقرآن و أسلوبه، فكان لا يؤمن أن يختلط شيء من السنة بشيء من القرآن الكريم لأنه ما كان ترسخ الأسلوب القرآني بالذات في المرحلة الأولى بحيث يحصل التمييز.

    أما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضا، لأن تكفله سبحانه بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه الذي هو السنة {إنا نحن نزلنا الذكر} تشمل القرآن و السنة، لكن هناك أسباب للحفظ تختلف في السنة عن القرآن، فالمقصود هو بقاء الحجة فيها قائمة على الناس، و بقاء الهداية بحيث ينالها كل من يطلبها، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة و التابعين حتى كتبت و دونت، فحفظ الله – سبحانه و تعالى – السنة منقولة شفاها عن طريق الرواية و التحمل في صدور الصحابة ثم في صدور التابعين إلى أن كتبت و دونت فيما بعد.

    يقول بعض العلماء: "المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة و صيانته من التبديل و الخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة وهكذا، سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو بالكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام". يعني ما المقصود أساسا في موضوع المحافظة على السنة؟ هو ألا يحصل فيها تبديل ولا خطأ، و تنقل من جيل إلى جيل عن طريق العدول الثقات، العدل الضابط عن مثله، سواء كان الحفظ عن طريق حفظ اللفظ ثم تأديته، أو عن طريق التدوين و الكتابة، أو عن طريق الفهم الدقيق لمعنى الحديث مع التعبير عنه بمعنى واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة مادامت صفة العدالة متحققة، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة؛ كان ذلك الغاية و النهاية في المحافظة، و إذا اجتمعت و انتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا، ولم يغن فتيلا، ولن نأمن حينئذ من التبديل و العبث بالحجة. و من باب أولى إذا انفردت الكتابة عن الحفظ و الفهم و عدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود و النصارى كانوا يكتبون التوراة و الإنجيل؟ و مع ذلك وقع التبديل و التغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم و لا أن نظن بصحة شيء منهما، بل قد نجزم بمخالفة أصلهما، قال الله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم، و ويل لهم مما يكسبون}.

    بعض الناس يثير شبهة فيقول: كون السنة لم تكتب يدل على أنها ليست بحجة، إذ لو كانت السنة حجة؛ لأمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بكتابتها. فالجواب على هذه الشبهة: هو أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، بمعنى أنه إذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها – وهذا أهم شيء، أن يكون الحامل عدلا ضابطا – على أي وجه كان الحمل، سواء كان يتحمل عن طريق اللفظ الشفاهي، أو تحمل عن طريق الكتابة، أو الفهم. فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها على أي وجه كان حملها؛ تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، و أن صيانة الحجة غير متوقفة عليها، و أنها ليست السبيل الوحيد لذلك، أضف إلى ذلك أن النبي – صلى الله عليه و سلم – كان يرسل سفراءه من الصحابة إلى الآفاق ليدعوا الناس إلى الإسلام، و يعلمونهم أحكامه،و يقيموا بينهم شعائره، ولم يكن يزودهم بمكتوب يقيم الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليه، و ما ذاك إلا لأن النبي – صلى الله عليه و سلم – كان يرى في عدالة السفير و حفظه لما حفظ من القرآن و السنة الذين لم يكتبهما لكن وثق في عدالته وفي حفظه و أنه سينقل القرآن و السنة، فكان يرى في ذلك الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم و إلزامهم اتباعه.

    أيضا، الصلاة و هي الركن الثاني في الإسلام، لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده، بل لا بد من بيان رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، ولم يثبت أنه – صلى الله عليه و سلم – أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بقوله و فعله، فلو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يتركها النبي – صلى الله عليه و سلم – دون أن يأمر بكتابتها التي تقنعهم بالحجية، فدل ذلك على أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، بل هناك وسائل أخرى لنقل العلم و ثبوت الحجة.
    أيضا، ثبتت حجية السنة الشريفة قطعا، و أنها ضرورة دينية، و مع ذلك لم يأمر النبي – صلى الله عليه و سلم – أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه، فلو كانت الحجية متوقفة على الكتابة لما ترك النبي – صلى الله عليه و سلم – الأمر بها و إيجابها على الصحابة – رضي الله عنهم –.

    نتوقف قليلا عند ملكة الحفظ عند العرب، وكيف أن الله – سبحانه و تعالى – اختص العرب بهذه الملكة العجيبة في الحفظ بما لا يعرف في أمة غير العرب، فقد تلقى المسلمون الأوائل دعوة النبي – صلى الله عليه و سلم – كما يتلقى الظمآن الماء الزلال، فما يكاد – صلى الله عليه و سلم – يفعل فعلا، أو يفرغ من قول حتى ينطبع ذلك في نفوسهم، فتعيه ذاكرتهم، و تحفظه أذهانهم. ولا عجب في ذلك فقد كان العرب أمة يضرب بها المثل في الذكاء و صفاء الطبع، و حسبك أن تعلم أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم، فالآن تجد مئات دواوين الشعر في المكتبات، فهل هناك من يحفظها؟ فلو وجد واحدا يحفظ المعلقات السبع فإنه يكون قد جاوز القنطرة! أما هم فكانت دواوين شعرهم في رؤوسهم، و كانت أذهانهم سجل أنسابهم، و صدورهم أوعية تاريخهم و وقائع أيامهم، فلما جاء الإسلام أرهف فيهم هذه القوى، فصقل طباعهم، وطهر قلوبهم، و نور عقولهم، فكانوا على أوفر حظ من صفاء الذهن وقوة الحفظ، لا سيما إذا كان ما يسمعونه هو أفضل الحديث و أحسنه: كتاب الله – عز وجل – و ما يرونه أو يسمعونه هو خير الهدي: هدي محمد – صلى الله عليه و سلم –.

    من أخبار العرب في ذلك أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي أنشد عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قصيدته:
    أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
    ...هذه القصيدة تقرب من سبعين بيتا، وكان نافع بن الأزرق الخارجي يسمع، فلما انتهى عمر بن أبي ربيعة من إنشاد قصيدته قال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أيضرب الناس إليك أكباد الإبل يسئلونك عن الدين، و يأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه؟ قال ابن عباس – رضي الله عنهما –: تالله ما سمعت سفها. قال ابن الأزرق: أما أنشدك:
    رأت رجلا أما إذا الشمس قابلت فيهدى، و أما بالعشي فيخــســـر
    قال ابن عباس: ما هكذا قال! إنما قال:
    رأت رجلا أما إذا الشمس قابلت فيضحى، و أما بالعشي فيخصر
    فقال ابن الأزرق: أوتحفظ الذي قال؟ قال ابن عباس: و الله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال نافع: فارددها. فأنشدهم ابن عباس القصيدة – وهي سبعون بيتا – من ذاكرته سمعها مرة واحدة – رضي الله عنه –.

    فموضوع أن العرب كانوا أمة أمية جعلهم أساسا يعتمدون على الحفظ دون الكتابة، و هذا أدى إلى قوة ملكة الحفظ عندهم بخلاف من يعتمد على الكتابة فإنه تضعف فيه ملكة الحفظ، و يكثر عنده الخطأ والنسيان لما حفظه و هذا مشاهد، فالأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير، لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب، و أنه سينظر فيه عند الحاجة. و كذلك التاجر الأمي قد يعقد من الصفقات في اليوم الواحد نحو المئة، و مع ذلك نجده يحفظ جميع ما له عند الغير بالتفصيل، وما عليه له بدون خطأ أو نسيان لقرش واحد، بخلاف التاجر المتعلم الذي يتخذ الدفاتر في متجره و يعتمد عليها في معرفة الصفقات وما له و ما عليه، فإنا نجده سريع النسيان لما يكتبه كثير الخطأ فيه، و لذلك كانت موضوع استخدام الآلة الحاسبة كارثة على الأطفال، الآن الأولاد لا يكادون يحفظون جدول الضرب.

    مما يرجح الحفظ على الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات؛ أن الحفظ في الغالب لا يكون إلا مع الفهم و إدراك المعنى، إلى جانب سهولة استدعاءه، سهولة استدعاء المعلومة من العقل في أي وقت أو مكان، لأنه يكفي أن كل أجهزة الحاسوب هذه بكل إمكانياتها هي أصلا مقتبسة من نظام العقل البشري أو المخ و اتصالاته في الجسم، حتى قال بعضهم أن العمليات التي يقوم بها العقل البشري لإنسان واحد تحتاج كي تقوم بها اجهزة الحاسوب إلى سبعمائة مليون جهاز يغطون كل سطح الكرة الأرضية، واضح؟ فالعقل البشري أعطاه الله – سبحانه و تعالى – من الإمكانات الشيء العجيب. قال منصور الفقيه: علمي معي، حيثما يممت أحمل، بطني وعاء له، لا بطن صندوق، إن كنت في البيت كان العلم فيه معي، أو كنت في السوق كان العلم في السوق. ومن أجل هذا كره من كره من السلف كتابة الحديث، فإنهم خافوا ضياع العلم بالاتكال على الكتابة، وعدم تفهم المكتوب. قال إبراهيم النخعي – رحمه الله –: "لا تكتبوا فتتكلوا". يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم – حفظه الله –: كنت أحضر لفضيلة الشيخ بديع الدين السندي – رحمه الله – من علماء الحديث الكبار، و كنا ندرس عليه شرح الترمذي، فكان يتضايق جدا من وجود جهاز تسجيل، يقول: وجود جهاز تسجيل سيجعلكم تنامون و أنتم في الدرس ولا تركزون، على أساس أن الإنسان مؤمن أنه عندما يرجع إلى بيته سيجد الفرصة لسماع الدرس من جديد، فمتى ما لم تركز و تنتبه للمحاضرة مباشرة من الشيخ فإن هذا ينقص تركيزك وهذه فرصة لا تعوض. و لذلك كان من نصائح الشيخ ابن بدران – رحمه الله – صاحب المدخل إلى مذهب ابن حنبل، كان ينصح طالب العلم إذا أراد أن يحفظ شيئا، أو يقرأ كتابا قراءة جيدة، فعليه أن يفترض أنه لا توجد فرصة ثانية بعد هذه الفرصة التي يقرأ فيها الكتاب، أنه مثلا سيحترق أو سيضيع أو سيتبخر ولن يبقى معه، فتقبل على قراءة الكتاب على أساس أن هذه المرة التي سيدرسه فيها هي المرة الوحيدة، أو هذا الدرس هي المرة الوحيدة التي سأحضره، فتستجمع كل قواك حتى لا تتكل على شيء خارج من عقلك، لكن خزنه في عقلك. يقول إبراهيم النخعي – رحمه الله –: "لا تكتبوا فتتكلوا"، تعتمد على أن هناك كتابا أو ورقا مكتوبا و بالتالي لا تركز فهذا يؤثر على حفظك.

    يقول أعداء السنة: إن نهي النبي – صلى الله عليه و سلم – عن كتابة الأحاديث يدل على عدم رغبته في نقلها، وعلى عدم حجيتها. فهذا كلام للمستشرقين أو أعداء السنة. طبعا الجواب:
    أولا: بما سبق من أن الكتابة ليست من لوازم الحجية،يعنى الكتابة إحدى لوازم الحجية، لكن ليست هي الوسيلة الوحيدة بحيث إذا عدمت الكتابة لم يثبت شيء، لا بل الحفظ أقوى من الكتابة و له مزيات على الكتابة كما ذكرنا.
    ثانيا: الجواب هو من نفس حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – الذي يستدلون به، وفيه قول النبي – صلى الله عليه و سلم –: "لا تكتبوا شيئا عني إلا القرآن، و من كتب عني شيئا فليمحه، و حدثوا عني ولا حرج"، إذا عقب – صلى الله عليه و سلم – النهي عن الكتابة مباشرة بأمر أصحابه بالتحديث عنه، و الذي هو أبلغ في النقل و أقوى، ثم في نفس الحديث يتوعد من يكذب عليه متعمدا بأشد الوعيد: "و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، طيب لم الكذب على الرسول – صلى الله عليه و سلم – بالذات من أكبر الكبائر؟ وهناك حتى علماء بالغوا حتى كفروا متعمد الكذب عليه – صلى الله عليه و سلم –، لماذا؟ الجواب موجود في حديث آخر، وهو: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" لأن اختلاق الأحاديث أو وضع الأحاديث يستلزم تبديل الأحكام الشرعية، ولهذا كان في هذا الحديث أحد أدلة حجية السنة، وهو الوعيد الشديد على تعمد الكذب على النبي – صلى الله عليه و سلم – لأن هذا سيؤدي إلى تبديل الحكم الشرعي، أو إثبات حكم هو غير ثابت أصلا، و اعتقاد الحرام حلالا، و الحلال حراما، و هذا فرع عن حجية السنة.

    يقول النبي – صلى الله عليه و سلم –: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آبائكم، فإياكم و إياهم، لا يضلونكم و لا يفتنونكم" رواه مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه –، فإذا لم يكن الحديث حجة، فعلام هذا التحذير من الأحاديث المكتوبة عنه؟ و لم يحصل بها الضلال و الفتنة؟ "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آبائكم، فإياكم و إياهم، لا يضلونكم و لا يفتنونكم". إذا اختراع الأحاديث فيه إضلال و فيه فتنة للناس لأن السنة حجة. كذلك قول النبي – صلى الله عليه و سلم –: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه فأداه كما سمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، فالتركيز على صفة "أفقه" و "فقيه" يدل على أن المقصود من الأحاديث استنباط الأحكام. وقال – صلى الله عليه و سلم – فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة – رضي الله عنه –: "ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". و روى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – بلفظ: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، و رب حامل فقه ليس بفقيه". و قال – صلى الله عليه و سلم – فيما روى الترمذي عن ابن مسعود – رضي الله عنه –: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، ورب مبلَغ أوعى من سامع". و روى البخاري قول النبي – صلى الله عليه و سلم – لوفد عبد القيس بعدما أمرهم بأربع و نهاهم عن أربع، قال: "احفظوا و أخبروا من وراءكم". و يقول فيما رواه الشافعي و غيره عن أبي رافع – رضي الله عنه – مرفوعا: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". و ما إلى ذلك من الأحاديث، و قد سبق الرد على هذه الفرقة الضالة، فرقة القرآنيين بما يكفي من قبل.

    أما نهي النبي – صلى الله عليه و سلم –، فأولا: أن الرسول – صلى الله عليه و سلم – نهى عن كتابة الحديث الشريف مع القرآن في صحيفة واحدة، يعني بعض العلماء حملوا حديث النهي: "لاتكتبوا عني شيئا إلا القرآن" على أن هذا نهي عن أن يكتب القرآن مع الأحاديث في صحيفة واحدة خوفا من الالتباس، و ربما يكون نهيه عن كتابة الحديث على الصحف أول الإسلام، حتى لا يشغل المسملون بالحديث عن القرآن الكريم، و أراد – صلى الله عليه و سلم – أن يحفظ المسلمون الرآن في صدورهم وعلى الألواح و في الصحف و العظام توكيدا لحفظه، وترك الحديث للممارسة العملية لأنهم كانوا يطبقونه، يرون الرسول – صلى الله عليه و سلم – فيتأسون به، و يسمعون منه فيتبعونه، و إلى جانب هذا سمح النبي – صلى الله عليه و سلم – لمن لا يختلط عليه القرآن بالسنة أن يدون السنة كعبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما –، و أباح لمن يصعب عليه الحفظ أن يستعين بيده، حتى إذا حفظ المسلمون قرآنهم وميزوه عن الحديث جاء نسخ النهي بالإباحة العامة، وإن وجود علة من علل النهي السابقة لا ينفي وجود غيرها و لا يتعارض معه، فالنهي عن الكتابة لم يكن عاما، و الإباحة أيضا لم تكن عامة في أول الإسلام، فحيث ما تحققت علة النهي منعت الكتابة، وحيث ما زالت أبيحت الكتابة. يعني الذي كان حفظه قويا ولا يحتاج لكتابة فيحمل عليه أنه ينهى عن الكتابة، وشخص بخلاف ذلك ضعيف الحفظ أذن له في الكتابة.

    أما عن التدوين في عصر الصحابة – رضي الله عنهم –، فمع ما ثبت من إباحة النبي – صلى الله عليه و سلم – الكتابة، و مع ما كتب في عهده من الأحاديث على يدي من سمح له بالكتابة نرى الصحابة – رضي الله عنهم – يحجمون عن الكتابة، و لا يقدمون عليها في عهد الخلافة الراشدة، حرصا منهم على سلامة القرآن الكريم والسنة الشريفة، و صرفوا عنايتهم إلى حفظ القرآن الكريم في الصدور و في السفور، و جمعوه في عهد الصديق – رضي الله عنه –، و نسخوه في عهد عثمان – رضي الله عنه –، و بعثوا به إلى الآفاق، ليضمنوا حفظ المصدر التشريعي الأول من أن يشوبه أية شائبة، ثم حافظوا على السنة بدراستها و مذاكرتها وكتابتها أحيانا عند زوال مانع الكراهة. فثبت عن كثير من الصحابة – رضي الله عنهم – الحث على كتابة السنة و إجازة تدوين الحديث.

    و قد هم الفاروق عمر – رضي الله عنه – أن يجمع الأحاديث و يقيدها بالكتابة، و استشار أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فأشاروا عليه بكتابتها، وطفق يستخير الله في ذلك مدة، و لكن الله لم يرد له ذلك. روى البيهقي عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فأشاروا عليه، فطفق عمر يتخير الله فيها شهرا، ثم أصبح و قد عزم، فقال إني أردت أن أكتب السنن، و إني ذكرت قول من كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها و تركوا كتاب الله، و إني و الله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا، خشي أن يحصل لبس، و لذلك لم يأمر أمرا رسميا بتدوين السنة، و هذا المعنى يعبر عنه أصدق تعبير عروة بن الزبير – وهو من التابعين – حيث يقول: كنا نقول: لا تتخذ كتابا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي، إن كتاب الله قد استمرت مريرته – يعني صار راسخا و ثابتا و قويا و المسلمون حفظوا لغته و أسلوبه بحيث أمن من اختلاطه أو التباسه بشيء –.

    إذا رأينا الصحابة يحجمون عن الكتابة، ولا يقدمون عليها في عهد الخلافة الراشدة، حرصا منهم على سلامة القرآن الكريم و السنة الشريفة. فنجد بينهم – رضي الله عنهم – من كره كتابة السنة، ومنهم من أباحها، ثم ما لبث أن كثر المجيزون للكتابة، بل ورد عن أكثر من كره الكتابة أولا أنه أباحها آخرا، وذلك حين زالت علة الكراهة، وخاصة بعد أن جمع القرآن في المصاحف و أرسل إلى الآفاق.

    يقول ذهبي العصر، العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني – رحمه الله –: "فالدلائل و القرائن التي فهم منها الصحابة – رضي الله عنهم – أن عليهم أن يصنعوا ما صنعوا من جمع القرآن، لم يتوفر لهم مثلها ولا ما يقاربها لكي يفهموا منه أن عليهم أن يجمعوا السنة، على أنهم كانوا إذا فكروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة" فهم كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وأنهم إذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببا لرد من بعدهم ما فاتهم منها (*)، فقد روي عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه أحرق ما جمعه من الأحاديث، و علل ذلك بقوله: أو يكون قد بقي حديث لم أجده، فيقال: لو كان قاله رسول الله – صلى الله عليه و سلم – ما خفي على أبي بكر. طبعا لا بد من استصحاب معنى مهم جدا في هذا الكلام وهو أن المانع من التدوين الرسمي لم يمنع من التدوين الشخصي – الجهود الفردية لآحاد من الناس – واضح؟ يعني كان يدون سواء في عهد الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، لكن نحن نتكلم عن التدوين الرسمي بأمر الخليفة، فهذا لم يحصل في عهد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم –.
    يقول الشيخ المعلمي: "على أنهم كانوا إذا فكروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة، و كذلك كان فيه تفويت حكم و مصالح عظيمة، و توقفهم عن الجمع لما تقدم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تدينهم بها، و انقيادهم لها، وبحثهم عنها، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفل الله تبارك و تعالى بحفظها، ويكرهون أن يعملوا من قبلهم غير ما وضح لهم أنه مصلحة محضة، و يعلمون أنه سيأتي زمان تتوفر فيه دواعي الجمع، و تزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام، و شدة إقبال الناس على تلقي العلم، و حفظه و العمل به وقد أتم الله ذلك كما اقتضته حكمته عز و جل". يعني حتى في جمع القرآن أصلا حصل نظر للمصالح في هذا الأمر و المفاسد و تعارضت الأقوال، فأبو بكر – رضي الله عنه – قال لعمر – رضي الله عنه –: "كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه و سلم –؟" فقال عمر: "هو و الله خير" يريد أنه عمل بما يوافق مقصود الشرع من حفظ القرآن، لأن القتل كان استحر بقراء اليمامة، فقتل عدد كبير في حروب الردة من حفاظ القرآن، فهذا نبه المسلمين إلى ضرورة جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، كذلك اختلافات الناس في القراءات بدأت تظهر بدأت تظهر و يختلفون، و ربما يؤول الأمر إلى أن يكفر بعضهم بعضا بعد ذلك، فاقتضت هذه المصالح أن يفعلوا هذا الأمر، فإذا عدم فعل النبي – صلى الله عليه و سلم – لهذا الشيء إنما كان عدم تحقق المقتضي الذي يقتضيه، فتغيرت الظروف و تحقق هذا المقتضي، و لم يكن يترتب على جمع المصحف محذور، فإذا هو خير محض، واضح؟

    أما عصر التابعين، فقد خالط التابعون الصحابة – رضي الله عنهم –، وتلقوا الحديث و غيره على أيديهم، وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث، ففهموا من معاشرتهم للصحابة و تلمذتهم عليهم متى كرهوا كتابة الحديث و متى أباحوه. فتأسى التابعون بهم في ذلك، و كانت النتيجة أن اتفقت آراءهم حول حكم التدوين، لأن الأسباب في العصرين كانت واحدة. فإذا بالتابعين يكرهون الكتابة مادامت أسباب الكراهة قائمة،و يجمعون على جواز الكتابة عند زوال تلك الأسباب، بل إن أكثرهم ليحض على التدوين و يشجع عليه. و من هنا فلا عجب أن نرى خبرين عن تابعي، أحدهما يمنع الكتابة، والآخر يبيحها، ما دمنا نوجه كل خبر وجهة تلائم الأسباب التي أدت إليه، فنستطيع أن نفهم أن النهي كان بسبب معين، و أن الإذن كان لزوال هذا السبب، لكننا نلاحظ أن سبيل الصحابة المتأخرين و كبار التابعين إباحة تقييد الحديث بشروط تمتنع معها كراهته المأثورة عند النبي – صلى الله عليه و سلم – و كبار الصحابة – رضي الله عنهم –.

    كان أهم أسباب كراهية التابعين للكتابة، اشتهار آرائهم الفقهية، فخافوا أن يدونها طلابهم مع الحديث، وهو سبب جديد لم يكن موجودا من قبل، فكما كان الصحابة الأولون يخافون من الحديث أن يختلط بالقرآن، أصبح التابعون يخافون من الرأي أن يختلط بالحديث.

    حتى إذا فرق طلاب العلم بين النهي عن تدوين الرأي و بين النهي عن تدوين الرأي مع الحديث نشطت حركة الكتابة و شاعت حتى لم يعد ينكرها أحد في أواخر القرن الأول الهجري و أوائل القرن الثاني، ووصل طلبة العلم و المحدثين إلى مستوى أمن فيه أن يختلط الرأي بالحديث، و أيضا نهوا عن تدوين الرأي، وأمنوا وقوع ذلك، فمن ثم نشطت حركة الكتابة. هذا ما في ما يتعلق بالقرن الأول في أواخره.

    أما في القرن الثاني، فقد وجدت هناك أسباب لتدوين الحديث،وأولها: زوال الخوف من أن يلتبس القرآن بالسنة سيما بعد أن كتبت المصاحف على عهد عثمان – رضي الله عنه – و أرسلت إلى الآفاق و الأمصار، كذلك أيضا زال الخوف من أن تلتبس السنة بالآراء.
    ثانيا: امتداد الفتوحات، وكثرة اختلاط العرب بالعجم، فتنوعت أنماط المعرفة، وتوفرت وسائل الكتابة، وازداد عدد الكتاب، ومست الحاجة إلى حماية السنة بسياج من الحصانة نظرا لتفرق الرواة كلما اتسعت الدولة، و موت العلماء.
    ثالثا: ظهور وضع الحديث، فبدأت ضلالة لم يكن للمسلمين بها عهد من قبل، فالصحابة ما يعرفون قط الكذب ولا التابعين، ولكن بدأ في القرن الثاني ظهور وضع الحديث بسبب الخلافات السياسية و المذهبية، قال ابن شهاب الزهري – رحمه الله –: "لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثا ولا أذنت في كتابته".

    وقد كان حرص العلماء – رضي الله عنهم – في ذلك العصر على حديث رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أن يدرُس لا يقل على حرصهم على سلامته من الكذب و الوضع، و من هنا مست الحاجة إلى أمرين، الأول: تدوين المروي عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – تدوينا رسميا عاما، بحيث يكون الرجوع إليه و الصدور عنه، وهذا ما أسس علم الحديث رواية، و هو الخاص بنقل ما أضيف إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – من قول أو فعل أو تقرير.
    الثاني: نقد الرواية، و تحقيق صحة السند، و تمييز المقبول من المردود، و هذا ما أسس لعلم الحديث درايته.
    فالأول هو الرواية، و الثاني هو الدراية وهو الخاص بالقواعد و القوانين التي يعرف بها أحوال السند و المتن لتمييز المقبول من غيره.
    فسلوك العلماء كان طبيعيا و عاديا، ولا يقبل غيره، فلا هم رفضوا الأحاديث كلها، و لا هم قبلوا الأحاديث كلها، و إنما ميزوها و محصوها و دونوها. فانتقل الأمر في القرن الثاني إلى تبني التدوين بصورة رسمية بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز(*)، فتبنت الدولة رسميا موضوع كتابة الحديث في عهد الخليفة الصالح العادل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – حين اتخذ خطوة حاسمة، بأن كتب إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم، و ذهاب أهله. وكان فيما كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عامله على المدينة: أن اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، وحديث عمرة، فإني خشيت دروس العلم و ذهابه. وهي عمرة بنت عبد الرحمن خالة أبي بكر بن حزم، نشأت في حجر عائشة – رضي الله عنها –، وكانت من أثبت التابعين في حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –، كذلك أمر القاسم بن محمد بنفس الشيء ففعل، كما أمر ابن شهاب الزهري وغيره بجمع السنن،و أرسل كتبا إلى الآفاق يحثهم على تشجيع أهل العلم على مدارسة السنة و إحيائها وإشاعتها في الناس، فقد جاء في بعض كتبه: "وليفشوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا". و عن عكرمة بن عمار قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: "أما بعد فأمروا أهل العلم أن ينتشروا في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت"، وطبعا هذه من أبرز مظاهر التجديد في عهد عمر بن عبد العزيز – رحمه الله –، وقال محمد بن شهاب الزهري: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا.
    وهكذا كانت نهاية القرن الأول الهجري(99-101)، وبداية الثاني خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة و إباحتها، فدونت السنة في صحف و كراريس و دفاتر، وكثرت الصحف في أيدي طلاب الحديث، إلا أن انتشار التدوين، و إشراف الدولة عليه لم يمنعا بعض الأصوات المعارضة أن ترتفع محذرة من الاعتماد على الكتب و إهمال الحفظ و الانشغال عن القرآن، لكن الأغلبية تحولت، ففي الأول كانت الأغلبية ضد التدوين، ثم صارت الأغلبية مع التدوين.
    و طبعا في عصرنا هذا عندنا مشكلة الآن في الاعتماد على الحاسوب و برامجه في التعامل مع السنة، في حين أن الإنسان لو كان يبحث بنفسه في الكتب و يتعامل مع الكتب فإن ذاكرته تشتغل أكثر، صحيح أنه سيوفر له وقته، لكن من حيث الواقع فإنه مع الوقت سيؤثر على ملكات طالب العلم أو الباحث لأنه يعتمد على الآلة، يستدعي منها يتأتيه الأشياء، لكن لو هو الذي يبحث بنفسه سيكون له وقع آخر.

    قال الضحاك بن مزاحم – رحمه الله –: "يأتي على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه"، يتوقع أنه بعد التدوين سيبدأ الناس ينشغلون عن القرآن حتى أنه يقول: "يأتي على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه"، فيتراكم عليه الغبار بسبب أن صاحبه لا ينظر فيه بسبب اشتغاله بالسنة عن القرآن الكريم، و في رواية عنه: "يأتي على الناس زمان يعلق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، و تكون أعمال الناس بالروايات و الأحاديث"، ومن هنا ارتفع صوته محذرا: "لا تتخذوا الحديث كراريس، ككراريس المصاحف".
    بعض الناس قالوا أن حديث أبي سعيد – رضي الله عنه – موقوف عليه، فلا يصح للاحتجاج به، وللرد على هذا فإن الحديث في صحيح مسلم فهو حديث صحيح، كما أن النهي كما قلنا هو خاص بنزول القرآن خشية التباسه بغيره، و الإذن في غير ذلك الوقت، وبعض العلماء قالو أن النهي خاص بكتابة القرآن مع الحديث في صحيفة واحدة لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآيات، فربما كتبوه معه، فنهوا عن ذلك خوف الاشتباه، و الإذن إنما كان في كتابة الحديث في صحف مستقلة ليس فيها شيء من القرآن، أيضا النهي خاص بكتاب الوحي المتلوّ، الذين كانوا يكتبونه في صحف لتحفظ في بيت النبوة، فلو أنه أجاز لهم كتابة الحديث لم يؤمن أن يختلط القرآن به، و كان الإذن لغيرهم(*). أيضا قيل أن النهي لمن أمن عليه النسيان، و وثق بحفظه وخيف اتكاله على الخط إذا كتب، و الإذن لمن خيف نسيانه، ولم يوثق بحفظه أو لم يخف اتكاله على الخط إذا كتب.

    إذا رجح بعض المتأخرين أنه لا نسخ في الحقيقة، و كل ما في الأمر أنه انتهى تعلق الحكم بانتهاء علته، و عدم وجودها فيما بعد، و هذا لا يسمى نسخا، لأن النسخ رفع حكم شرعي بخطاب شرعي آخر، فالنهي دائر مع الخوف، و الإذن دائر مع الأمن، وجودا و عدما، و أن الخوف قد يحصل في أي زمن فيتوجه النهي، و الأمن قد يحصل في أي زمن فيتوجه الإذن، و الواجب ألا نقول بالنسخ إلا عند عدم إمكان الجمع بغيره، و قد أمكننا الجمع بتخصيص النهي بحالة الخوف، و الإذن بحالة الأمن، وهو جمع معقول المعنى.

    وأيضا أجابوا عن العارض بين الأحاديث بأن النبي – صلى الله عليه و سلم – خص بالإذن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة و يكتب السريانية و العربية، و كان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد و الاثنان، و إذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خاف عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – ذلك أذن له.

    أيضا من هذه الأجوبة و هو مذهب جمهور العلماء أن يكون النهي من نسخ السنة بالسنة، كأنه نهى في أول الأمر أن يكتب قوله، ثم رأى لما علم أن السنة تكثر ويفوت الحفظ أن تكتب و تقيد. قال الخطابي – رحمه الله –: يشبه أن يكون النهي متقدما، و آخر الأمرين الإباحة. و قال ابن حجر: إن النهي متقدم، و الإذن ناسخ له عند الأمن من الاشتباه. و يفهم من تقرير الحافظ بن حجر أن النهي بقي مستمرا في حالة الخوف كما بينا و فصلنا.
    استمر بعض التابعين على كراهة الكتابة، لكن هذا لم يخفف من نشاط التدوين، فقد كان تيار إباحة الكتابة أقوى بكثير من تيار كراهته، ثم ما لبث التياران أن توحدا و ألحت الحاجة القاهرة إلى الكتابة على هؤلاء المانعين أن يجاروا التيار العام، و يعتمدوا في حفظ السنة على الحفظ و الكتابة معا. قال ابن الصلاح – رحمه الله –: "ثم إنه زال ذلك الخلاف، و أجمع المسلمون على تسويغ ذلك، وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة".

    ثم جاء بعد ذلك العصر الذهبي لتدوين السنة، فبعد انقضاء عصر التابعين، عني العلماء بإفراد أحاديث النبي – صلى الله عليه و سلم – وحدها، و تجريدها من الفتاوى و أقوال الصحابة و التابعين، فكانت كتب عديدة في السنة، و كان منها المسانيد، وهي كتب تورد الأحاديث خالية من فتاوى العلماء، وهي مرتبة على حسب أسماء رواتها من الصحابة، و أول المسانيد مسند أبي داود الطياليسي، و أوفاها مسند الإمام أحمد – رحمه الله –، لكن ما إن جاء القرن الثالث الذي يعتبر العصر الذهبي لتدوين السنة – طبعا لا يفهم من كلمة العصر الذهبي أن القرنين السابقين هما أقل اهتماما بالسنة، فنحن نتكلم عن التدوين فقط، ولا نتكلم عن الاهتمام و العلم بالسنة، فلا شك أن القرون الأولى من الصحابة و التابعين أعلم و أشد اهتماما بالسنة واتباعا لها.. "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم"، لكن نحن نتكلم عن موضوع التدوين، ونسلط الضوء فقط على قضية التدوين –، فما إن جاء القرن الثالث الذي يعتبر العصر الذهبي لتدوين السنة حتى نبغ جهابذة أفذاذ و عمالقة كبار، أصحاب طاقات ضخمة، وقفوا حياتهم و جهودهم على طلب السنة، و الرحلة من أجلها، يحفظون و يكتبون و ينقحون و يؤلفون الجوامع و المصنفات، نعد منهم: البخاري (من بخارى)، و مسلما (من نيسابور)، والترمذي (من كابل) – وهذه كانت من بلاد المسلمين و تعج بالعلماء، ولا حول و لا قوة إلا بالله –، و أبا داود، و النسائي، وأحمد بن حنبل، و يحيى بن معين، وأمثالهم ممن خدم السنة أعظم خدمة و أوفاها، رضي الله عنهم و أرضاهم و جزاهم عن الإسلام و السنة خيرا.

    نختم الكلام بفائدة نحتاجها، أشار إليها العلامة الألباني – رحمه الله – في مقدمة تحقيقه لكتاب اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، إذا أردنا أن نستعير لها عنوانا فأنسب عنوان هو قول بعض السلف: "سيندم المنتخب". فما علاقة هذه الكلمة بموضوعنا؟

    مابالنا نرى كثيرا من كتب السنة التي لم تمحص بالصحيح؟ مثل السنن مثلا، وغيرها، نرى فيها كما لا بأس به من الأحاديث الضعيفة و أحيانا قد تكون موضوعة؟ مع أننا نرى بعض المؤلفين في منزلة عالية من المعرفة بصحيح الحديث و متروكه؟

    كلمة: "سيندم المنتخب" فيها الجواب في الحقيقة، و تهديد لمن كان يشتغل فقط بتدوين الصحيح، واضح؟ فنحن نريد أن نجيب على شبه بعض الناس: أن مثلا سنن الترمذي فيها بعض الأحاديث الضعيفة فنشطب على سنن الترمذي.. وكذا سنن ابن ماجة..
    طبعا هذا المسلك لا يسلكه إلا إنسان جاهل تماما بعلم الحديث، للأسباب التي سنذكرها:

    أولا: يقول العلامة الألباني – رحمه الله –: "قد يقول قائل إذا كان المؤلف وهو الخطيب البغدادي بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث و مطروحه، فما بالنا نرى كتابه هذا – كتاب اقتضاء العلم العمل – وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟ والجواب: أن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده فقد برئت عهدته منه، أدى ما عليه، ولا مسؤولية عليه في روايته، ما دام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تمكن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحا، أو غير صحيح: ألا و هي الإسناد، يعني لا تثريب على أي إمام من الأئمة مادام قد روى الحديث مقرونا بسنده، فهذا لا عهدة عليه، و إنما العهدة على الرواة، و إنما الذي يقرأ الكتاب ممن عنده خبرة هو المطالب في هذه الحالة بتصحيح الحديث و تضعيفه". فإذا وجود الحديث مع السند يعفي المؤلف من العهدة، إلا إذا كان اشترط أنه لا يضمّن كتابه إلا ما صح، كصحيح البخاري مثلا أو مسلم، لكن باقي السنن بخلاف ذلك. يقول العلامة الألباني: "نعم كان الأولى بهم أن يتبعوا كل حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة لكل واحد منهم، و في جميع أحاديثه على كثرتها، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، لكن أذكر منها أهمها، وهي: طبعا الرواة متوافرون في البلاد، والعلماء يرحلون لطلب الحديث، فهذا العالم ألا يمكن أن يموت؟ أو يصيبه الخرق أو الاختلاط؟ فحينها يذهب حديثه و يضيع، فلا بد أن يبادر الفرصة أولا و يدون الذي عنده مع ذكر السند ثم يأتي التحقيق لهذه الأسانيد بعد ذلك، فهي مسابقة مع الزمن. و كذلك فأهم أسباب الانشغال بالتدوين و تأجيل التحقيق: هو لجمع طرق الحديث، فيأخذ الحديث من طريق هذا الشيخ أو الراوي، ومعلوم أن الحديث لا يحكم عليه بصحة أو ضعف بمجرد تدوين رواية أو طريق واحدة، لكن كثير من الأحاديث كما يقول العلامة الألباني لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق و الأسانيد، فإن ذلك إما يساعد على معرفة علل الحديث وما يصح لغيره من الأحاديث، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق و تمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا – والله أعلم – أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الأحاديث و الأسانيد، ولذلك انصبت همم جمهورهم على مجرد الرواية إلا فيما شاء الله، وانصرف سائرهم إلى النقد و التحقيق مع الحفظ و الرواية و قليل ما هم، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

    فهذا هو معنى العنوان الذي ذكرناه: "سيندم المنتخب"، يعني الصواب أن يجمع الحديث ثم يتفرغ بعد ذلك للتحقيق و الحكم بالصحة و الضعف على السند. فعلماء الحديث كانوا يتسابقون مع الزمن خشية حضور الأجل، و تركوا لنا هذه الثروة مقرونة بآلة الحكم على الحديث وهي السند.

    أقول قولي هذا و أستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا و بحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك و أتوب إليك.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي رد: تدوين السنة النبوية - العلامة محمد إسماعيل المقدم

    بارك الله فيكم . هل تم عرضه على الشيخ المقدم ؟

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •