أيّاً كانَ القولُ في صدّام حُسين، فإنَّ الطريقَ إلى العدالةِ المزعومةِ بإعدامهِ يجبُ أن يمرَّ بجماجمِ العديدِ من الحُكامِ والزعماءِ الذين مهّدوا له الطريقَ ليفعلَ ما فعلهُ، ثم تمالئوا جميعاً بالصمتِ المُطبقِ عن تلك الجرائمِ، ولمّا جاءت ساعةُ الصفرِ انقلبوا عليه جميعاً وأسلموهُ إلى حتفهِ.
إنَّ العدالةَ لا تتجزّأ، وما تمَّ فعلهُ بالرئيسِ العراقيِّ صدام حسين يكشفُ عن فظاعةِ وهولِ السياسةِ، التي تمَّ تجريدُها من جميعِ القيمِ النبيلةِ الراشدةِ، لتتحوّلَ إلى نفعيّةٍ ومصلحةٍ دونَ أخلاقٍ أو سماحةٍ، فمن كانوا بالأمس حلفاءَ الرجلِ، والذين بوأوهُ تلك المناصبَ العليا وغذّوهُ بالسلاحِ والعتادِ وصفّقوا لهُ مع كلِّ عمليّةٍ دمويّةٍ، هم من شنقوهُ اليومَ، وشربوا نخبَ الانتصارِ على جثّتهِ.
لو كانَ لصدام حسين يدٌ في رسمِ مستقبلهِ ومنتهى أجلهِ، فلن يبرعَ في حبكتها كما برعَ خصومهُ من الرافضةِ والصليبيينَ في ذلك، فقد صيّروهُ بطلاً مناضلاً شهيداً، وباتتْ تلكَ الكلماتُ القذرةُ التي ثلطتها جموعُ الرافضةِ الحاضرةِ وقتَ إعدامهِ أروعَ من كلماتِ التأبينِ والرثاءِ، وهو ما كان يبحثُ عنهُ صدام منذ أن تمَّ أسرهُ، وأمّا جموعُ الناسِ في العالمِ الإسلاميِّ فقد صاروا رهينةً لتلكَ الكاريزما الآسرةِ لشخصِ صدّام، وذاك الثباتِ العجيبِ، فضلاً عن لحظاتِ السكينةِ المهيبةِ حين نطقَ بالشهادةِ قُبيلَ إعدامهِ.
ما يجري في العراقِ الآن أمرٌ يبعثُ على القلقِ الشديدِ، فأمريكا تقومُ بتقويةِ الشيعةِ، وينتشرُ في العراقِ التشيّعُ بنسختهِ الإيرانيّةِ الفارسيّةِ الشعوبيّةِ، وبوعْي وإطارٍ طائفيٍّ خالصٍ، وفي الوقتِ الذي تتبادلُ فيهِ أمريكا وإيرانُ التهمَ في العلنِ، يجري بينهم في الخفاء اتفاقٌ وثيقٌ، وسواءً كانَ ما فعلتهُ إيرانُ في موقفها من غزو العراقِ والتحالفِ مع أمريكا برغماتيّةً أو عمالةً، فإنّها قد كسبتْ جولةً مهمّةً في بسطِ يدِها على العراقِ، وهو ما حاربتْ لأجلهِ سنواتٍ عدداً.
واللافتُ في الأمرِ أنَّ تقومَ أمريكا بدورِ العمالةِ المزدوجةِ، فهي تُمكّنُ للرافضةِ، وتغضُّ الطرفَ عن جرائمهم البشعةِ، بل وتمكّنُ للميلشيات الدمويّةِ وتُطلقُ أيدهم ليعيثوا في الأرضِ فساداً، وفي الوقتِ ذاتهِ توعزُ إلى حلفاءها في المنطقةِ بضرورةِ التبصيرِ لخطرِ الرافضةِ، واستنهاضِ الهممِ لمواجهةِ التحدّي الطائفي الجديدِ المتمثّلِ في نهوضِ الشيعةِ وانبعاثِهم من جديدٍ.
ومع هذا التشظّي العميقِ الذي تعيشهُ فرقُ الرافضةِ ومجموعاتُها في العراقِ، إلا أنَّ لديهم توحداً عجيباً في مناصرةِ القواتِ المحتلةِ، والوقوفِ في وجهِ أهلِ السنةِ والتعاونَ ضدّهم على كافةِ الأصعدةِ، فهناك أعضاءٌ من حزبِ الدعوةِ خالفوا إيرانَ في حربِهم على العراقِ، واختاروا سوريا كملجئ لهم، ثم في الاحتلال الأخير جاءوا في صفِّ المشروع الإيراني، كما أنَّ الخلافَ بين المرجعيّاتِ الفارسيّةِ والأخرى العربيّةِ ذابَ في المواجهةِ الطائفيّةِ ضدَّ أهلِ السنّةِ.
ولا عجبَ حينئذٍ من الأرقامِ المهولةِ للقتلى العراقيينَ في هذه السنةِ، فقد بلغَ عددهم 12 ألف قتيلٍ بحسبِ إحصائيةِ وزارةِ الداخليةِ العراقيّةِ، وغالباً ما تتسمُ أرقامهم بعدمِ الدقّةِ، فالأرقامُ أكبرُ من ذلك، وغالبُ هؤلاء راحوا ضحيّةَ الصراعاتِ المذهبيّةِ والتصفيّةِ الطائفيّةِ، ومن المُثيرِ للدهشةِ أن نعلمَ أنَّ عددَ القتلى في فلسطينَ على يدِ قواتِ الاحتلالِ الصهيونيِّ هذا العام بلغَ 600 قتيلٍ فقط.
وهذا يقودُنا لفهمِ طبيعةِ الصراعِ الجديدِ، الذي يقومُ على أساسِ استنزافِ التياراتِ المختلفةِ في المنطقةِ، سنّةً وشيعةً، ليقومَ كلُّ تيارٍ منهم بخوضِ حربٍ بالوكالةِ عن الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ، وتتفرّغَ هي لرعايةِ مصالحِها، وهو ما تفعلهُ إسرائيلُ الآنَ في الأراضي المحتلةِ عبرَ عملائها من أجهزةِ الأمنِ الفلسطينيِّ، بعدما حوّلتْ فوّهةَ البندقيّةِ الفلسطينيّةِ عن وجهِها إلى صدرِ أصحابِها، وأشعلتْ بينهم نارَ فتنةٍ تكادُ تطحنهم ولا تنطحنُ.
كما أنَّ التهويلَ من خطرِ السنّةِ والشيعةِ وحتميّةِ المواجهةِ بينهما، سوف يكونُ باباً جديداً لاستنزافِ المواردِ الماديّةِ للدولِ المسلمةِ، وهو أيضاً حجّةٌ قويّةٌ للبقاءِ طويلِ الأمدِ في المنطقةِ، هذا فضلاً عن أنَّ الصراعات الداخليّةَ هي أفضلُ الطرقِ لخلقِ أجواءٍ متوترةٍ يصحبُها فراغٌ أمنيٌّ يُمهّدُ لإحداثِ التغييراتِ المناسبةِ.
لا مزايدةَ على الخطرِ الرافضيِّ، وما يجري في العراقِ شاهدٌ على ذلك، ولكن يجبُ قراءتهُ في سياقهِ الطبيعيِّ، فأمريكا موجودةٌ في العراقِ، وهي التي ترعى هذه الحربَ الطائفيّةَ وتُشعلُ نارها، فقد سلّمتِ البلادَ برمّتها للإيرانيينَ، وأعطتهم الجيشَ والداخليّةَ، وعلى صعيدٍ آخرَ فهي ترسلُ صيحاتِ التحذيرِ من الخطرِ الإيرانيِّ، وتُحذرُ عبرَ بعضِ حلفائها من قيامٍ هلالٍ شيعيٍّ يُجدّدُ الخلافاتِ والصراعاتِ في المنطقةِ.
لهذا فمن غيرِ المستغربِ أن نقرأ ما نشرتهُ الواشنطن بوست لأحدِ الكتابِ السعوديين الليبراليينَ داعياً فيهِ المملكةَ - وبأسلوبٍ إغرائيٍّ مقيتٍ - إلى التدخّلِ المباشرِ في الصراعِ السنّيِّ الشيعيِّ في العراقِ، والوقوفِ مع السنّةِ في الصراعِ المذهبيِّ هناكَ.
يجبُ على أهلِ السنّةِ في العراقِ أن يكونوا أكثرَ وعياً ونُضجاً من الرافضةِ، وليقوموا بعمليّةِ تبادلِ الأدوارِ، ما بينَ عملٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ، وما بينَ عملٍ مسلحٍ ومقاومةٍ، في إطارِ فقهِ المصلحةِ والمفسدةِ الخاضعِ لأصولِ الشريعةِ وتطبيقاتِها، وأن يتفهّموا جميعاً أن هذا الاختلافَ في الدورِ هو الطريقُ الوحيدُ لمنافسةِ الرافضةِ والأمريكيينَ على السيطرةِ وبسطِ اليدِ، وأمّا التخوينُ أو التقاطعُ والتراشقُ بالتهمِ فهو ممّا يُكرّسُ استحواذَ التحالفِ الصليبيِّ الرافضيِّ على المنطقةِ.
إضافةً إلى ذلك فإنّهُ يجبُ على أهلِ السنّةِ أن يوجدوا منبراً إعلاميّاً يرفدُ مسيرتهم، فنحنُ نُشاهدُ الآنَ كيف تقومُ الرافضةُ بالترويجِ لأنفسهم، وتحويلِ جميعِ العملياتِ المسلحةِ التي تقعُ في العراقِ على أنّها حربٌ من السنّةِ ضدَّ الأبرياءِ العزّلِ من الشيعةِ، بينما لا نجدُ لدى السنّةِ تلك القدراتِ الإعلاميّةِ المتسقةِ مع هدفِهم وغايتِهم.
من المتوقعِ في الفترةِ القادمةِ أن يزدادَ الشحنُ الطائفيُّ في المنطقةِ، ويتمَّ تقويةُ الرافضةِ في العراقِ، وفي الخارجِ ربّما يُدفعُ ببعضِ دولِ المنطقةِ إلى دعمِ السنّةِ داخلَ العراقِ أو القيامِ بعملياتِ تعبئةٍ ضدَّ الرافضةِ في بلدانِهم، ويُحصرُ الأمرُ في العراقِ ما بينَ رافضةٍ يرغبونَ في تمددِ مشروعِهم الفارسيِّ، وبين سنّةٍ يدفعونَ عن أنفسهم البلاءَ وينصرونَ إخوانهم في العراقِ، وتنفردُ أمريكا برعايةَ ذلك والإشرافِ عليهِ ويُكفُّ عنها نارُ المقاومةِ وسلاحُ المُجاهدينَ، وكلّما خمدتْ جذوةُ الحربِ أشعلتها من جديدٍ، وليسَ من المُستغربِ إذنْ أن تصدرَ في الغربِ العديدُ من الدراساتِ والكتبِ عن الخطرِ الإيرانيِّ، وهو الخطرُ الذي فرشتْ لهُ أمريكا أرضاً من ورودٍ.
وهي أيضاً فُرصةٌ سانحةٌ للمحتلِّ وعملائهِ لإبرازِ فصائلِ المقاومةِ المسلّحةِ التي تعملُ تحتَ غطاءِ السرّيّةِ والتخفّي، بحُجّةِ دعمِها وتمكينها من مواجهةِ المدِّ الشيعيِّ، ليتمَّ فيما بعدُ تصفيتُها وملاحقتُها.
الخلافُ العقديُّ مع الرافضةِ حقٌّ لا ريبَ فيهِ، وغدرُهم في العراقِ ثابتٌ لا غبارَ عليهِ، لكن هذا لا يعني أن ننساقَ خلفَ الاستفزازَ الذي يهدفُ إلى التصفيةِ والإنهاكِ، ويجبَ أن نعلمَ أنَّ أمريكا أقامتْ تحالفاً سنيّاً شيعيّاً لغزو العراقِ، وكما كان الإيرانيّونَ برغماتيين في تحالفِهم مع أمريكا، فهناكَ من السنّةِ من وقفوا مع أمريكا وفتحوا أرضهم وديارهم للمحتلِّ لينطلقَ من هناكَ غازياً مُدمراً.
نحنَ أمامَ مشروعٍ غربيٍّ جديدِ الفصولِ قديمِ التخطيطِ، بدتْ بعضُ معالمهِ، والبعضُ الآخرُ يتشكّلُ بوعي " متطلباتِ المرحلةِ "، فلا ثابتَ في السياسةِ الغربيّةِ أبداً، وما كانَ محظوراً قديماً، هو اليومَ واجبٌ وحقٌّ، وآياتُ الرافضةِ الذين حوربوا عبرَ العراقِ وصدام حُسين، هم اليومَ الذين يبسطون يدَ المحتلَ الأمريكي في العراقِ بفتاواهم ومواقفِهم المخزيةِ، وهو ما عبّرَ عنه هنري كيسنجر قائلاً: إنَّ بقاءنا في العراقِ مرهونٌ بفتاوى المرجعيّاتِ الشيعيّةِ.
وأمّا السنّةُ فقد تبدّدَ حلمهم بين مطرقةِ المحتلِّ الأجنبيِّ وبين سندانِ الرافضةِ، وجاءتْ طيورُ الظلامِ من جديدٍ لتقتاتَ على آمالهم وأحلامهم وتنشرَ نكهةَ الموتِ ورائحةَ الدماءِ، وبعضُ الحكّامِ قد يجدُ هذه الأحداثَ فرصةً سانحةً لتأخيرِ عملياتِ الإصلاحِ السياسيِّ والاجتماعيِّ، والمضيِّ قدماً في فرضِ أحكامِ الطوارئ، وزيادةِ القيودِ على الشعبِ، فضلاً عن الإنهاكِ الماديِّ، بحجّةِ الأمنِ القوميِّ.
دمتم بخيرٍ.
أخوكم: الفتى.