قال الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني: «إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان».
ويعلل السرخسي ذلك بأن أموالهم لا تصير معصومة بدخوله إليهم بأمان، ولكنه ضمن بعقد الأمان ألا يخونهم، فعليه التحرز عن الخيانة، وبأي سبب طيب أنفسهم حين أخذ المال، فإنما أخذ المباح على وجه منعه من الغدر، فيكون ذلك طيباً له، الأسير والمستأمن في ذلك سواء. حتى لو باعهم درهماً بدرهمين، أو باعهم ميتة بدراهم، أو أخذ منهم مالا بطريق القمار، فذلك كله طيب له. والأصل في هذا الحكم: الأحاديث والآثار والقياس: .........
قال الإمام محمد: إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فبايعهم في الخمر والخنزير والميتة، وعقد معهم من المعاملات ما لا يجوز مثله في دار الإسلام، فلا بأس بذلك. وكذلك إذا أخذ منهم مالا بطريق المراهنة دون أن يعطيهم، فذلك كله طيب له. لأنه أخذ مال الكافر بطيب نفسه، ومعنى هذا أن أموالهم على أصل الإباحة، إلا أنه ضمن ألا يخونهم، فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز عن الغر، ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد.
ولم ينفرد أبوحنيفة وصاحباه بهذا الرأي :
بل هناك شواهد أثرية، واعتبارات معنوية، ومتابعات اجتهادية، تقوي هذا المذهب، منها فتاوى كوكبة من علماء السلف منهم: أبو حنيفة، ومحمد ابن الحسن الشيباني، والكاسائي، والسرخسي، وسفيان الثوري، وابراهيم النخعي، ابن رشد، وابن تيمية الجد، وابن تيمية شيخ الإسلام، وابن القيم، وابن مفلح، والمرداوي، وأبو الحسن اللخمي، ورواية عن أحمد، ورواية عن مالك، وغيرهم،.
فإن الإمامين أبا حنيفة وصاحبه محمدا لم ينفردا بهذا الرأي بل قد وافقهما في ذلك بعض الأئمة الكبار أيضاً وحسبنا من هؤلاء الكبار إبراهيم النخعي وهو من فقهاء التابعين ووارث علم المدرسة المسعودية بالكوفة ، وسفيان الثوري ، وهو أحد الأئمة المتبوعين في الفقه وأمير المؤمنين في الحديث وأحد أئمة الورع والزهد أيضاً . فقد روى الإمام أبو جعفر الطحاوي بسنده عن إبراهيم قال : "لا بأس بالدينار بالدينارين في دار الحرب ، بين المسلمين وأهل الحرب " شرح مشكل الآثار : 8/249
وقال العلامة ظفر العثماني "وسنده صحيح" إعلاء السنن 14/350 فلأبي حنيفة سلف من التابعين . وروى بسنده عن سفيان ، مثل ذلك ،
وقد نقل العلامة الهندي الحنفي ظفر أحمد العثماني (صاحب إعلاء السنن) في كتابه عن عمرو بن العاص (نقل ذلك عن الأموال لأبي عبيد ص 146 قال ورجاله تقات وانظر : إعلاء السنن 14/348 .
ما يدل على أن المعاملات الفاسدة بين المسلمين تجوز في دار الحرب بين المسلمين وأهل الحرب ، بل في (دار الموادعة) أيضاً
وقد نقل عن السرخسي أن الدار بالموادعة لا تصير دار إسلام بل هي دار حرب كما كانت قبل الموادعة .
ونقل عن الإمام الليث بن سعد قال :إنما الصلح بيننا وبين (النوبة) على ألا نقاتلهم ولا يقاتلوننا وأنهم يعطوننا رقيقاً ونعطيهم طعاماً وإن باعوا أبناءهم ونساءهم لم أر بأساً على الناس أن يشتروا منهم . قال الليث وكان يحيى بن سعيد الأنصاري لا يرى بذلك بأساً (أبوعبيد الأموال ص 148) .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك فأكثرهم يرون أن البيع باطل ومن أجازه فإنما لأنه في غير دار الإسلام وقد أجازوه بينهم .
قال الإمام أبوعبيد في "الأموال" معلقاً على رأي الليث ويحيى بن سعيد وكذلك كان رأي الأوزاعي (أي في دار الموادعة) قال : لا بأس به لأن أحكامنا لا تجري عليهم ، وأما سفيان وأهل العراق يكرهون ذلك . قال وهو أحب القولين إلي لأن الموادعة أمانة ، فكيف يسترقون؟ (أبوعبيد : الأموال ص 147) .
قال صاحب إعلاء السنن : هذا إذا كانوا لايرون جواز هذا البيع من مسلم ، وأما إذا كانوا يرون جوازه فلا يفضي إلى عذر ، ولا نقض الأمان . (إعلاء السنن 14/347) .
وبهذا نرى أن هناك عدداً من الأئمة ينظرون إلى دار الحرب ومنها دار الموادعة غير نظرته لدار الإسلام ويجيزون فيها من ألوان التعامل ما لا يجوز في دار الإسلام ، إذا رضيه أهلها وأجازوه بينهم ، بحيث لا يكون مننا غدر بهم لا خيانة لهم .
وأود أن أبين هنا : أني لا أجيز بحال أن يبيع الإنسان أولاده ، لا في دار الحرب ولا في دار الإسلام ، وإنما أردنا من نقل أقوال هؤلاء الفقهاء تقرير المبدأ وهو اختلاف الحكم في دار الإسلام عن غيرها ، وأنه قد يجوز في غيرها من التعامل ما لا يجوز فيها .
وما ذهب اليه ابو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني - وهو المفتى به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وابراهيم النخعي هو رواية أيضاً عن احمد ، ورجحها ابن تيمية ، فميا ذكره بعض الحنابلة في جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في دار الحرب ، ولهم في ذلك ادلة ذكرها الامام الطحاوي وغيره ، لا يتسع المقام لذكرها .
والمراد بدار الحرب عند الحنفية ما ليس بدار اسلام ، فالتقسيم عندهم ثنائي وليس ثلاثيا ، فيدخل فيها ما يسمى عند غيرهم دار عهد ، او دار امان ، ولهذا نفضل التعبير عن هذا المعنى بقولنا (التعامل خارج دار الاسلام ) .
وننقل لك من هذه الأقوال قول ابن تيمية
قول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة
فقد ثبت عن هذا الإمام الجليل قوله بعدم حرمة الربا بين مسلم وغيره في غير دار الإسلام، كما ورد نص ذلك في كتابه(المستدرك على مجموع الفتاوى) الذي صدر أخيرا، في باب الصرف أنه قال: (لا يحرم الربا في دار الكفر، وأقرها شيخنا على ظاهرها). (11
والذي يظهر أن قائل: (وأقرها شيخنا على ظاهرها) ، هو ابن مفلح، ويقصد بشيخنا: تقي الدين ابن تيمية،
حيث جاء ذكر هذه الرواية بتمامها عند ابن مفلح في كتابه الفروع، وأيضا ذكرها المرداوي مفصلة في كتابه الانصاف عن ابن تيمية.
ولا ريب أن ابن مفلح من أعلم الناس بمذهب الإمام أحمد، وكان من أبرز تلاميذ ابن تيمية، وأخبر الناس بمسائله واختياراته، حتى أن ابن القيم كان يراجعه في ذلك. (12