تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: عَرف قصّابي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المشاركات
    239

    افتراضي عَرف قصّابي

    عَرف قصّابي أو (في رحاب وليد قصاب)!


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله


    ـ فرش العَرف ـ

    ألم تدمع عينك، ويقشعر جلدك، حين شنفت سمعك هذه الأبيات؟!

    مغيب الشمس يا أمي = بجانب تلنا الأخضر
    أنا واعدتي أصحابي = هناك الموعد الأكبر
    سنسقي حلم فرحتنا = ونزرع دربنا عنبر
    تواعدنا لكي نمضي = لقد عفنا الذي كنا
    كرهنا الواقع المخزي= أنفنا أننا عشنا
    على الحرمان نمضغه= بلا حول ويطحننا

    ألم تنتشر في نفسك العزة، وتضيء في جوانحك الأنفة، و تتباشر أعضاؤك، وتتهلل قسماتك، حين وقعتَ على هذه الكلمة ؟

    مغيب الشمس يا أمي= متى ليل السُّرى يولد
    سألقى جمع أصحابي= رفاق كفاحنا المجهد
    وبين ذراعنا الرشـا= ش قد أرغى وقد أزبد
    لنزرع دربنا المحزو= ن أثوابا من العسجد
    ونمحو بؤس تاريخ= تلفع بالأسى الأسود

    ألم يرتفع حجاب قلبك، وجلباب سمعك، لهذه المفردة؟

    تواعدنا سنمضي نحـ=ـو رحلتنا ولن نضجر
    لنكسر باب غربتنا=فيشرق صبحنا الأنور
    يسابق زحفنا أمل=كمثل ربيعنا أزهر
    بأن الحق يرجعه=زناد غاضب يزأر

    ومن لا يعرف هذه اليتيمة، التي سارت مسير الشمس،و طارت بين الشرق والغرب، وحين أنشدت بصوت المنشدين القديرين أبي عبد الملك وأبي علي ، تكشف جمالها وتبرج حسنها!

    واعلم ـ أيها القارىء الكريم ـ أنه أنشأها وهو في شرخ شبابه، وميعة عمره ،على رأس العشرين، وهذه آية من آيات إبداعه!
    ومن رام هذه المنيفة كما شُيّدت فسيجدها تامة في (مختارات من شعراء الرابطة 343 ـ 346 تحت عنوان الموعد الأكبر)

    صاحب هذا الموعد هو القائل : أنا لا أهتم كثيرا أن يكتب هذا الأديب أو ذلك قصيدة شعر عامودي ، أو حر ، أو نثر شاعري ، أو ما شاء من ضروب القول ، فذلك حكمه للذوق والتاريخ ومعايير الفن ، ولكني أهتم كثيرا ، ولا أطيق السكوت إذا رأيت ـ باسم التحديث ـ من يهدم عقيدتي ، ويسخر من ديني ، ويستأصل لغتي وتراثي.( من صيد الخاطر112)

    وهو مصنف (الحداثة في الشعر العربي المعاصر، حقيقتها وقضاياها، رؤية فكرية وفنية) الذي قال عنه الشيخ الدكتور سعيد الغامدي : وهو من أحسن الكتب التي تناولت موضوع الحداثة من زاوية فكرية اعتقادية... (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها 1/ 22)

    وهو الذي دعا في كتابه البليغ (مقالات في الأدب والنقد ص 112 ـ 115) إلى الدعاية للأدب الإسلامي فقال ـ أتم الله عليه الفضائل ـ :
    ...ونصرته تكون بإذاعته ما استطاعوا ، والترويج له بكل الطرق التي يملكونها، حتى يكفلوا له ضربا من الذيوع ، مهما يقل فيه فإنه خير من الموت في المنفى وأقبية النسيان. وهذا واجب نقاد المسلمين وأدبائهم وصحفييهم ومفكريهم وأساتذتهم وإعلامييهم...وعل هؤلاء جميعا أن يتظاهروا للدعاية لأدباء المسلمين المخلصين الشرفاء ، بالكتابة عنهم، والتعريف بهم وبمؤلفاتهم، ومساعدتهم على نشر إنتاجهم ، وتمكين هذا الأديب من أن يصل إلى أكبر عدد من الناس ، وأبعد مساحة من الأرض).

    ثم يقول ـ ثبته الله على الخير والعز ـ:

    إن كثيرا من الباحثين المسلمين ما زالوا مشغولين عن أدبهم ، وإلا أ فليس من العجب أن نرى العديد منهم منصرفا إلى إعداد الدراسات الأدبية أو النقدية عن شاعر ماجن ، أو كاتب منحرف ، أو مفكر عدو لله ورسوله ، و يهمل عشرات من أدباء المسلمين ومفكريهم ، وأصحاب الكلمة الطيبة النبيلة؟
    كم دراسة أعدها المسلمون عن امرئ القيس، وأبي نواس ، وبشار بن برد ، وبدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور ، ومحمود درويش ، وطه حسين ، وإحسان عبد القدوس ، ونجيب محفوظ وأمثال هؤلاء !
    وكم دراسة أعدوا في المقابل عن حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وعلي الطنطاوي ، ونجيب الكيلاني ، وعلي أحمد باكثير ، وعمر باء الأميري ، ويوسف العظم، وغيرهم من أصحاب الكلمة الطيبة الشريفة؟)

    وقد صدق ـ حفظه الله تعالى ـ فكم عرفتُ من المغنين والممثلين و اللاعبين والأدباء المنحرفين وغيرهم من خُشارة الناس، قبل أن أعرف نجيب الكيلاني، و عمر الأميري، وحلمي القاعود، وعبد العزيز الخويطر ،وعدنان النحوي، ومحمد ابن حسين، وعماد الدين خليل...وغيرهم وغيرهم ممن لا تلحقهم يد ! وليس هذا لفن الأدب فحسب!
    بل لفنون المسلمين الأخرى فقد غيبها الإقصاء،ودفنها الإبعاد!و يكفيك أن تشاهد برنامج (الأعلام) التي تبثه قناة (المجد) الحبيبة، فتعرف قدر جناية الإعلام ،إذ أخفى حياة علماء أجلاء أفنوا حياتهم ،وقضوا أيامهم في الإصلاح والخير، والمؤلم أن منهم عصري لك!

    وقد أفصح ـ جزاه الله الخير ـ لـ( مجلة البيان1425) عن معوقات الأدب الإسلامي فقال : (المعوقات كثيرة، منها ضعف منابره الإعلامية، وضعف موقعه على شبكة الإنترنت المنتشرة الفعالة. ومنها معوقات تعود إليه هو في حد ذاته متمثلاً ذلك ـ بشكل خاص ـ في قصور في فهمه؛ إذ لا يزال قوم من مبدعيه ونقاده يضيِّقون آفاقه، فيحصرونه في موضوعات معينة، كالحديث عن الجهاد، وفلسطين، وأفغانستان، ومسائل عبادية، وهذا كله ـ من غير شك ـ أدب إسلامي، ولكن قصر الأدب عليها وحدها يقصّ من أجنحة انطلاقه؛ إذ هو أوسع من ذلك وأرحب، وكلُّ تجربة مهما كان نوعها: سياسية، أو اجتماعية، أو عاطفية، أو ذاتية تصلح موضوعاً للأدب الإسلامي ما دام المبدع يقدّم عنها رؤية الإسلام وتصوره.)
    ولأني اهتززت لحروفه المؤمنات ،عزمت على استفتاح الكلام عنه ـ ثبته الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه ـ !

    ـ تعريف بحامل العَرف ـ

    هو الأديب الإسلامي الكبير وليد بن إبراهيم قصّاب ولدفي دمشق (1370 ـ 1949م ) التي يقول عنها :

    مدينتي إني على = هواك لم أبدل
    مازلتُ ذاك العاشق الـ = ـمفتون منذ الأزل
    روحي إذا قدمتها = رخيصة لم أبذل
    فمن يكن متيما = في حبه لا يبخل

    وقبل ذلك يقول:

    شآم يا أنشودة = تجيش في خواطري
    يا ذكريات لم تزل = مثل الصباح الغامر
    في مسمعي ألف = صدى للمجد والمآثر
    وقصة للحق والـ = ـعلياء والمفاخر

    ودرس فيها حتى حمل شهادة الآداب ـ قسم اللغة العربية من جامعة دمشق وحمل شهادة الماجستير (1394 ـ 1973م) والدكتوراة (1397 ـ 1976م) من جامعة القاهرة وتنقل في الجامعات الخليجية والسعودية مدرسا وأستاذا حتى استقر في جامعة الإمام في الرياض ،وهو عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وعضو في اتحاد كتاب العرب ،وترجم له في معجم البابطين، وقد ألّف بين الإبداع والنقد،و قرن بين الإنتاج والتحقيق، فله أكثر من خمسة وثلاثين كتابا، في الشعر والقصة ودراسات في الأدب واللغة وتحقيق التراث.(انظر مختارات من شعر الرابطة ص 340)

    اختلف اسم الأستاذ الكبير وليد قصّاب على ذاكرتي ،في إبداعاته الشعرية والنثرية ودراساته النقدية والأدبية واللغوية كثيرا ، حتى تعلّقته وأحببته ،فطفقت أتلقى كل ما ينشئه ويبدعه ويدرسه، بشغف ونهم ،وزاد كلفي به حين قابلته لأول مرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض ـ حرسها الله ـ فعرفتُ بشاشته، وتهلله!

    وأسأل الكريم أن يجعلني من طلاب وصل العلماء والفضلاء والأدباء وأن يزيد حبال صلتي بهم قوة ومتانة!

    ـ تضوعُ العَرف ـ

    العَرف القصّابي مختلف ألوانه ،فمنه الشعري والقصصي والنقدي واللغوي ...فيحتار من يختار.
    وعَرفنا اليوم، عَرف نقدي ،تضوع من الكتابين البليغين (من صيد الخاطر في النقد الأدبي1424، مقالات في الأدب والنقد1426 ) وأصلهما طاقة مقالات، نشرت في مجلات مختلفة، في دمشق والإمارات والسعودية.
    ومن آياتهما البلاغة الممتنعة، والفصاحة المتأبية، و من يسرح النظر فيهما، سيشهد بمتانة علم كاتبها، وعمق فكره، وفضله وأدبه!

    وكم أتمنى أن أنسخ ما يحويانه من جواهر يتيمات ،ودرر أثيرات، ليلتذ القارئ، وتنعم نفسه، و ينشرح خاطره !

    ولكن هذه اللُّبثة، لا تسع إلا نتفا و شذرات، ولعل فيها تحريضا لاقتنائهما!

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المشاركات
    239

    افتراضي

    عَرف قصّابي (2)


    كتاب (من صيد الخاطر في النقد الأدبي ، دار البشائر ، ط1، 1424، 136 صفحة)


    طاقة مقالات قسمت إلى ثلاثة أقسام في (النقد وقضاياه الكبرى) و (قضايا الشعر والنثر)وأخيرا (قضايا ثقافية فكرية عامة تتصل بالحداثة والأصالة والمثاقفة مع الآخر...)


    القسم الأول

    النقد العربي الحديث : التبعية والتأصيل


    وإن تراثنا الأدبي النقدي حافل بالنظرات والأفكار الفنية النفيسة ، ولا يزال كثير منها صالحا، بل لا يزال كثير منها متفقا مع أحداث ما توصلت إليه الدراسات الأدبية المعاصرة. (12)

    بين ناري الإبداع والنقد

    إن أزمة التوصيل هذه ، والتي أصبحنا ـ نقادا ومبدعين ومتذوقين ـ نصلى نارها من طرفين : الإبداع والنقد ، هي أصل الداء. ولولا خشية الوقوع في الظن لقلنا إن الناقد اليوم يخادع المبدع ، ويتعامل معه بمكر شديد، فيرد له الصاع صاعين ، يرد على غموضه في الإبداع بغموض في النقد ، حتى كأنه يقول له : أفهمني ما تقول أُفهمك ما أقول . هذا نقد من جنس البضاعة التي تقدمها إلينا أيها المبدع . طلاسم تُقابل بطلاسم وأحاج تليق بها أحاج والبادئ أظلم. (18)

    ...والضحية الأولى هو القارئ العاشق للأدب ، والذي ينشد فيما يقرؤه المتعة والفائدة ، وأن يزداد خبرة بالحياة والكون من حوله، لا أن تُعمّى أمامه السبل ، وتسد في وجهه منافذ النور.(18)

    الناقد يرفع ويضع

    كم يجور النقد اليوم على أقوام ((فيقزمهم)) ويحجبهم، وكم يعملق من أقوام ويضخّمهم وهم مثل الطبول الجوفاء.
    إن الناقد كالقاضي ، فهل يتقي اللهَ النقادُ ، فيعرفوا حق الكلمة وأمانة القول؟ (31)

    الاتجاه اللغوي في درس الأدب

    ...ولو أردنا أن نلملم شتات كل ما يقال عن وظائف النقد الأدبي ، وأن نصنع منها جوابا موجزا مختصرا مبسطا، يكون فيه ـ كما يقال ـ ((ما قل ودل )) لما وجدنا أفضل من القول إن وظيفة النقد معرفة الأدب. فإذا سلمنا بهذه المقولة ، فإن الأدب مكون من عناصر مختلفة، وما اللغة إلا واحد من هذه العناصر ومن ثم فإن المنهج النقدي اللغوي وحده لا يبدو قادرا على تحقيق هذا الغرض، ولا بد من منهج نقدي متكامل يوظف جميع المعارف والتقانات في سبيل معرفة الأدب معرفة عميقة ، واستكناه أسراره ودقائقه.( 35)

    بين علم اللغة وعلم الأسلوب


    ...أن علم اللغة يدرس ما يقال في اللغة وأما علم الأسلوب فإنه يدرس كيف يقال ما في اللغة ...(37)

    وتكلم ـ فضيلته ـ عن جريمة علم اللغة الأوروبي على الفصحى، فمن أفكاره نفي القداسة عن اللغات، فليس للغات أية صلة عقدية، أو دينية، أو وجدانية، بحياة الناس فاستوردها العرب ـ كالعادة ـ دون تمحيص، وطبقوها على لغة القرآن :

    ...وعندما استوردنا نحن العرب عن الأوربيين هذا العلم اللغوي الحديث كما نستورد عنهم كل شيء ، رحنا نطبق ذلك على لغتنا العربية جميع ما نادوا به دون تفكير أو روية ،فاعتقدنا في لغتنا ما اعتقدوا في لغتهم .وسرى إلينا وهم انفصال العربية عن أي جانب ديني أو عقدي أو وجداني ،فلم نعد ننظر إليها ـ كما كان يفعل علماؤنا وفقهاؤنا ـ بعين القداسة والإجلال ، أو بعين التوقير والإكبار...(38)


    ...وصرنا بوحي من هذا الوهم نتحمس للعاميات ونقبل على درسها وتأصيل جذورها ...بل نعد العامية ـ في بعض الأحيان لغة كالفصحى بل محترمة مثلها...وفتحت الأبواب للأدب الشعبي على مصراعيها ، ولم يعد كثيرون يرون حرجا من الكتابة بالعامية، ولم يعد اللحن بالفصحى وركاكة التعبير بها وخرق قواعدها يعد عيبا أو عارا... (38 ـ 39)

    ثم أتى ـ وفقه الله تعالى ـ بمثال لأحد الحداثيين وهو يجترئ على اللغة وينتهك قواعدها وجمالها :

    الدرج الحالي بزيزفون
    والفوقه تعرش يا سمينة
    تكوكب السفينة
    للحلوة التخطر كالظنون
    الدرج الرنا إليّ عهدا
    والكاد يشهق لي في دلال...إلخ

    فأدخل (أل التعريف) على الظرف والفعل ـ ماضيا ومضارعا ـ وتعمد عددا من الشواذ والتجاوزات في مقطوعة سقيمة لا تتعدى اثني عشر سطرا...(40)

    إن اللغات الأوربية ليست لغات ذات قداسة دينية ، ولا زعم لها أحد ذلك من أهلها أنفسهم...

    وأما العربية فهي من الدين وتعلمها دين وقد كان ابن تيمية يرى أن تعلمها فرض واجب على المسلم ...(41)

    التجربة الشعرية بين الفن والمعتقد


    إن لكل قارئ للشعر طبيعته الخاصة ، وإن كثيرا أو قليلا من الإعجاب بالقصيدة ليرجع إلى كونها تقدم تجربة تشبه تجربة المتلقي ،أو حالة من حالاته... (45)

    الالتزام مطلب حضاري

    فالالتزام اليوم مطلب حضاري ، لأنه يعني تواصل الإنسان مع عصره، وعيشه فيه. وهذا عصر الأفكار والإيديولوجيات والمذاهب الفلسفية والسياسية والاجتماعية ولا يمكن للإنسان أن يعيش متفرجا على ذلك كله من غير أن يكون له موقف. (47)

    وإن الالتزام يجعل الأدب نشاطا جادا فعالا، ذا تأثير في مسار الحياة،وفي حركتها، مما يكسبه المصداقية والقيمة...إن الالتزام يتمشى مع سنة الله في الكون الذي لم يخلق شيئا عبثا...(48)

    الالتزام ابن الحرية


    الالتزام ابن الاختيار ، والإلزام ابن الإجبار . الأول ثمرة من ثمرات الوعي والإدراك ، واليقظة والمسؤولية والثاني من ثمرات التغييب والإملاء والتسيير وشتان ما بينهما.

    إن كل أديب ملتزم هو أديب حر شريف. وإن كل أديب ملزم هو أديب ((مُسيس)) مستعبد مباع أو مُشترى.(49)

    الشاعر والجمهور

    إن الحياة الإنسانية ـ بكل عمقها وثرائها وواقعيتها ـ هي مادة الأدب...ولكما كانت صلة الشاعر بالحياة صلة عميقة حميمة كانت حظوته عند الجمهور أبلغ، وكان احتفاء الناس بشعره أعمق وأغزر، وإن انهماكه في قضايا عصره، وتفهمه لمشكلات الناس وهمومهم، وعيشه في ضمير المجتمع، ينبض بقلبه، ويتنفس برئته، هو الذي يدنيه من الجمهور ، ويدني الجمهور منه.

    وإن الاتجاه الشكلي، أو الفن من أجل الفن، ليقصران الشعر على القيم الحسية، مجردة عن الحياة والمجتمع...(61)

    الغموض واحتقار القارئ


    وبدا الغموض ، واحتقار التواصل مع القارئ، من معالم الحداثة البارزة ومما يتباهى به القوم يقول أدونيس:

    حيث الغموض أن تحيا= حيث الوضوح أن تموت

    ويقول محمود درويش متباهيا بانعدام التواصل:

    طوبى لشيء غامض
    طوبى لشيء لم يصل
    ويقول في موضع آخر :
    لن تفهموني دون معجزة
    لأن لغاتكم مفهومة
    إن الوضوح جريمة.(67)

    وفي غمرة النقاش المحتدم حول مشكلة ((الغموض والتواصل)) تمخضت النزعة الحداثية عن تقليعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الآداب، وهي ((احتقار القارئ)) والاستعلاء عليه، أو ((موت القارئ)) على شاكلة ما يسمى ((موت المؤلف)) الذي أشاعته البنيوية... (68)

    وهكذا يفقد كثير من الشعر الحداثي وهو يُحدر إلى هذه الوَهدة كلّ هدف، ويصبح ثرثرة لا تهم أحدا ، ولا تهتم بأحد. وإذا كان الشاعر الحداثي لا يبالي بالقارئ ولا يضعه في حسبانه، فلمن يكتب إذن؟ وإذا كان هذا الشعر نتاجا في ذاته ولذاته فلماذا يذيعه صاحبه في الناس؟ولماذا لا يريحهم مما لا طائل من ورائه، حفاظا على هذه الذاتية المزعومة؟ (68ـ 69)

    وضوح العمودي وغموض الحديث


    إن ادعاء نمطية التعبير في الشعر العمودي وحده، مما يقود إلى جلاء أكثر هو ادعاء غير صحيح، بل إن ظاهرة تكرار الرموز، وتجمد الدلالة، وأنماط التعبيرات التي أصبحت كالرواسم الجاهزة المبتذلة، هي في شعر الحداثة اليوم أكثر بروزا. (71)

    القسم الثاني : في الشعر والنثر

    تراسل الأجناس الأدبية لا يعني توحُّدها


    لماذا يصر مثلا كتاب نثر مجيدون، استوفى نثرهم كثيرا من ملامح الشعر وجمالياته أن يسموا نثرهم شعرا مادام لم يأخذ من الشعر كل شيء، ولا سيما الوزن، أبرز خصائصه؟ أليس هذا احتقارا للنثر وإشعارا بدونيته؟(77)

    طبقية الأجناس الأدبية


    ليس هناك ـ في رأيي ـ جنس أدبي أرقى من جنس آخر، بل لكل جنس طبيعته ووظيفته، وله نكهته وطعمه ومذاقه، وهو يستطيع أن يلج من العوالم والآفاق، وأن يكون له من الحضور ما لا يملك الآخر شيئا منه.(79)

    قصيدة النثر وحمار الكتابة


    وعلى أن هذا الذيوع لا يدل على أية شعبية لهذا النمط الكتابي، وهو لا يحمل أي مؤشر على رصيد جماهيري له عند المتلقين، بل هو ذيوع موهوم، مُسوّغ بمجموعة من العوامل، من أبرزها:

    ـ الترويج الإعلامي الهائل، الذي يشبه ((تسويق )) السلع الرديئة..
    ـ استسهال الكتابة ، واستعجال الوصول.
    ـ شحّ المواهب، وانعدام الجدّ والدأب.

    إن ما يدعى قصيدة النثر هو اليوم مطيّة ذلول، لا تتأبى على راكب ، ولا ترد يد لامس. إنها ((حمار الكتابة)) كما قالت العرب قديما عن الرجز إنه ((حمار الشعر)).. (81)


    وانظر غير مأمور لـ ص (82 ـ 86) فقد تحدث عن مرجعية قصيدة النثر، وهل لها جذور وما هي هويتها؟ وقد أفحم القوم وأثبت من كلامهم أنها تقليد غربي، وأنها بلا هوية،حتى أن أدونيس هجر كتابتها واتجه إلى ((ملحمية الكتابة)) كما يسميها!وقد كان أول من كتبها وشجعها!

    هل غربت شمس الشعر العمودي؟


    ولنحتكم إلى معجم البابطين الذي صدر حديثا، ويعد موسوعة أدبية ضخمة تمثل الشعر العربي المعاصر إذ ضم (1644) شاعرا من مختلف الاتجاهات والأصقاع. إن هذا المعجم يُري ـ كما ورد في مقدمته التي وضعتها لجنة إعداده ـ أن الذين يكتبون القصيدة العمودية من الشعراء العرب المعاصرين هم أكثر ممن يكتبون أي نمط شعري آخر.

    جاء في معجم البابطين (1/42) : جاءت معظم النماذج من الشعر العمودي ، ثم شعر التفعيلة، وجاء بعضها من قصيدة النثر..)

    وإذا استحضرنا أن الشعراء في هذا المعجم هم الذين اختاروا نماذجهم بأنفسهم، قدرنا أن هؤلاء الشعراء لم يفقدوا إيمانهم بالشعر العمودي ، وإلا لما اختاروه ليمثل تجاربهم الفنية، ويكون سفيرهم إلى المتلقي. (88)

    القسم الثالث: في الحداثة والمثاقفة

    سؤال الهوية في الحداثة


    وفي أثناء هذا الاكتساب الدائم ، لمجاراة العصور ، لا مانع ـ وقد يكون واجبا ـ أن نستعير من الآخر أدواتٍ في التفكير ، والتنظيم ، والعمل ، والمنهج، وأن نتصالح معها ، وأن نتعامل معها بمودة وترحاب بعد أن نصفيها بمصفاة الهوية ، وأن ننظر إليها عندئذ على أنها من المنجز الإنساني العام الذي اشتركت الحضارات جميعا في الوصول إليه.

    إن أخطر ما يصيب الهوية نفسها في مقتل هو أن نجمد عند نصوص تراثية ليس لها أي لون من القداسة أو العصمة، وأن نتعصب لها ، ونحسب أن مناقشتها أو نقدها ضرب من التجديف العقدي، أو التغرب الفكري، أو ينطوي على عقوق للأجداد والآباء. (113 ـ 114)

    إن القرآن الكريم نفسه يدعونا إلى النظر الدائم ، والتأمل الجاد، وقد ورد فيه كثيرا أمثال قوله تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا ) وقوله ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا) ولا بد أن يقود كل سير، وكل نظر أو تأمل إلى كشف جديد...(114)

    الحداثة العربية المعاصرة والتراث


    وقد أفاضل القول ـ جزاه الله خيرا ـ عن مواقف الحداثة تجاه تراثنا العربي الإسلامي مستندة على أدلة وأقوال ثم قال في ختام المقالة:

    تلك هي مواقف الحداثة العربية المعاصرة غير الراشدة من تراثنا العربي الإسلامي : الانسلاخ منه نهائيا، أو الإشادة بنماذجه الشاذة الهجينة التي تصور انحرافا في فكر الأمة وعقيدتها وسلوكها ، أو تأويل النصوص والأحداث في ضوء إسقاطات فكرية، ومناهج غربية علمانية معاصرة،مما حمل ظلما فادحا ، وتشويها خطيرا لهذا التراث، إذ استخرج غير الأصيل منه، ودفن الأصيل، أو قُوَّل ما لم يقل. (118)

    أين عولمة العرب الثقافية؟


    إن العولمة بحسب قاموس وبستر هي إكساب الشيء طابع العالمية(123)

    إن الثقافة هي خط الدفاع الأخير في هذا الوقت الراهن على الأقل لصمود هذه الأمة ، وحمايتها من الاندثار والسقوط النهائي، وفقدان الهوية الفكرية المميزة.(124)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المشاركات
    239

    افتراضي

    عَرف قصّابي (3)

    كتاب (مقالات في الأدب والنقد ، دار البشائر ، ط1 ،1426، 144 صفحة)

    طاقة مقالات في ثلاثة أبواب باب في (المسائل النقدية والأدبية المعاصرة) وباب في (الأدب الإسلامي وقضاياه والشبهه المثارة حوله) وباب عن (ثقافة المواجهة وعن صلة الأدب والثقافة بقضايا الأمة المعاصرة).

    الباب الأول : قضايا نقدية

    خصوصية النقد عند كل أمة


    إن النقد العربي الحديث المشرع اليوم أبوابه لرياح الشرق والغرب عليه أن يدرك ـ قبل غيره ـ هذه الحقيقة التي يتحدث عنها رينيه ويليك ، وهي أنه ما من نقد أدبي لأمة من الأمم يتماهى في نقد أمة أخرى ، وهو ـ مهما أخذ من هذا الآخر ، أو جمعت بينهما أواصر مشتركة وقواسم عامة ـ ذو فرادة ، وينبغي أن تكون له خصوصيته المميزة التي تمثل الحضارة التي ينتمي إليها.

    ذلك أن من أكثر ضروب المعارف الإنسانية تميزا وعكسا للطوابع الوطنية والقومية والفردية هو النشاط الأدبي والنقدي، إذ النشاط ـ في طبيعته ـ رؤية شخصية للأشياء كما تنعكس في وجدان الأديب... (11ـ 12 )

    سلطة القارئ أم تملّق القارئ؟

    تمخض نقد ما بعد الحداثة عن آراء خطيرة في التلقي، ودور القارئ ، وسلطة القراءة ، حتى زعمت التفكيكية أن النص الأدبي يحتمل عددا غير نهائي من القراءات ، فهو نص مفتوح ، مشكوك في وجود مركز ثابت له ، أي في وجود معنى يمكن أن يقال إن النص يحتمله، أو يدّل عليه...

    والحق أن هذا السلطان غير المتناهي الذي أعطي للقارئ هو ـ في رأينا ـ نوع من تملقه واسترضائه ، وذلك في إثر شعور الحداثة وما بعد الحداثة المتزايد بالانفصام الحاد، بل الانفصال التام، بينها وبين الجمهور المتلقي...(28)

    القراءة الفاعلة


    أعلت الاتجاهات البنيوية من سلطة النص ، ولم تعر اهتماما مماثلا للعناصر الأخرى، فكان ذلك أحد المآخذ التي جعلت البنيوية منهجا نقديا عاجزا عن الوفاء بالدرس الأدبي درسا عميقا متكاملا.

    ثم جاءت التفكيكية لتأخذ اتجاها أحاديا آخر مخالفا للمنهج البنيوي ، إذ أعلت من سلطة القارئ والقراءة ، وأعلنت انتهاء عصر تسلط النص الأدبي، وبدأ الكلام على فاعلية القراءة، مستوياتها، وأشكالها، حتى كاد يتطور على جمال خاص بالقراءة أو التلقي... (30)

    شاعر الخاصة


    ولكن الأديب ما إن يفكر في إذاعة أدبه بين الناس، وإخراجه من درجه لينشره حتى يحضر المتلقي بشكل تلقائي، ويصبح طرفا هاما في عملية الإبداع، وتصبح مراعاته، والتفكير فيه، ثم اكتسابه والتأثير فيه معيارا من معاير نجاح المبدع في إبداعه.(37)

    إن كثيرا من الصور الأدبية تفقد مع الأيام ـ بسبب تداولها، وكثرة استعمالها ـ روح الغرابة التي فيها، وتصبح ـ بعد أن كانت أدبية ـ لغة عادية ((معيارية)) لا تثير أحدا.

    ولقد طرحت هذه المسألة بقوة ووضوح في البلاغة والنقد العربيين فتحدث النقاد طويلا عن هذه الظاهرة، وأطلقوا على أمثال هذه الصور التي كثر تداولها اسم ((الصور المبتذلة)) ودعوا الشاعر إلى ابتكار غيرها، أو تجديدها، بأن يقدّمها في ثوب آخر طريف، أو يضيف إليها، أو يعدل في جزئياتها، أو يقيدها، أو غير ذلك من البدع الفنية...(41)

    أيقضي الحداثيون على الشعر بالضربة القاضية؟

    أرخصَ الشعر العربي عند متعاطيه إلى هذا الحد، وقد كان فنا عظيما له في نفوس القوم توقير وتعظيم لا يزيد عليهما إلا تعظيم القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ حتى كان الحطيئة يقول:
    الشعر صعب وطويل سلمه= إذا ارتقى فيه الذي لا يفهمه
    زلّت به إلى الحضيض قدمه= يريد أن يعربه فيعجمه
    وحتى كان الكثيرون ـ من العلماء ـ يتهيبون ولوج ساحته. قيل للأصمعي:
    ما يمنعك من قول الشعر؟فقال نظري لجيده.(45)

    إن عدد من يسمون ((شعراء)) في هذه الأيام عدد هائل جدا، يفوق عدد ما عرفه أي عصر من عصور الأدب العربي.(46)

    الشعر والنقد الحداثيان، إلى أين؟

    إن النقد الحداثي وما بعد الحداثي لم يزد على اجترار نظريات غربية ثبت إخفاقها عند أهلها المصنعين لها ، وهو عادة يستقبلها بعد أن يمل الآخر من التسلي بها ، أو يتبين له عقمها ، فيلفظها غير آسف عليها...(49)

    الاعتداء على المصطلحات التراثية


    إن التجديد الحقيقي هو ابتداع الجديد لفظا ومعنى، ظاهرا وباطنا ، وأما تغيير اسم القديم فحسب فليس بتجديد، بل هو فوضى وتبديد، وهو كذلك اعتداء على حقوق الغير، وإذا كان هذا ((الغير)) هم آباؤنا وأجدادنا صار الاعتداء جريمة.

    لقد اعترف بعض الدارسين المشتغلين بالنقد الأسلوبي الحديث أن أدواتهم البحثية لا تفرق عن أدوات التراث العربي إلا في الأسماء فقط.
    يقول الدكتور محمد عبد المطلب ـ في كتابه هكذا تكلم النص ـ : تأكد لي ((كفاءة الأدوات البلاغية ـ التراثية ـ وصلاحيتها للتعامل مع الظواهر الحداثية، بل تأكد لي أن كثيرا من الدارسين الأسلوبين والبنيويين لا تفترق أدواتهم عن الأدوات القديمة، إلا في المسميات فحسب...))(51)

    الباب الثاني : في الأدب الإسلامي

    دور الكلمة


    إن الكلمة أمانة ومسؤولية، وهي رسالة عظيمة، يحملها الشرفاء ممن يعرفون خطرها. إنها ليست لهوا، ولا دعابة، ولا متعة، وليست من باب (الفن للفن) كما يذيع قوم. وإنما هي أداة خير وإصلاح.

    إن إسرائيل منذ استيلائها على فلسطين تجند الكلمة ـ كما تجند كل شيء ـ لخدمة قضايا الصهاينة والدعاية لها. وقد جيشت كتابا وفنانين من داخل البلاد وخارجها للترويج والدفاع عن معتقداتهم الباطلة. إن الأدب اليهودي أدب هادف وملتزم، وهو مجند لخدمة الدولة العبرية، إنه يحاول صياغة وجدان الإنسان الإسرائيلي صياغة دينية توراتية ، مستمدة من تعاليم اليهود المزعومة، وكتابهم المحرف ، وهو يجتهد أن يرسخ في نفوس الناس ـ من أتباعه وغيرهم ـ أن فلسطين هي أرض الميعاد، التي بارك الله فيها، ووهبها بني إسرائيل، الذين جعلهم شعبه المختار، وأمته المصطفاة، وفضلهم على جميع العالمين ، وجعل شعوب الأرض الأخرى أميين رعاعا ينبغي ذبحهم، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في قوله (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل)

    وقد عبر الشاعر اليهودي (رافي دان) ذات مرة عن هذه الروح العدوانية العنصرية في قوله للمقاتلين اليهود (صوبوا بنادقكم نحو الشرق)(65)


    فمتى تكف طائفة من أرباب القول عندنا عن الدعوة إلى الكلمة المجردة عن أي هدف أو رسالة ، وتفريغها ـ كما يحصل عند الكثيرين من كتاب هذا الزمان ـ من أي محتوى خلقي ، أو ديني ، أو اجتماعي؟(66)

    الأدب بين المتعة والفائدة


    كان مرتبطا بالقبيلة والمجتمع(يقصد الأدب القديم)، مجندا لخدمتهما، ولم يكن نشاطا هازلا، بل إنما وضعت العرب الشعر (للتغني بمكارم أخلاقها، وطيب أعرافها، وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد ، وسمحائها الأجواد، لتهتز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم).

    ولأهمية الرسالة الاجتماعية التي كان الشاعر ينهض بها ، وخطر الدور الخلقي المنوط به ، احتل فيهم المنزلة الرفيعة...وكانت (القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس ، ويتباشر الولدان، لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم..)

    ولما انحرفت طائفة من الشعراء عن هذا المسار الخلقي للأدب قوبلوا برفض اجتماعي، تمثل في مجموعة من ردود الفعل...(68)

    ثم سردها انظر (68 ـ 69)

    النص يحيا بلفظه و فكره


    تشتد يوما بعد يوم قبضة النزعات النقدية التي تريد تجريد الأدب ـ أو الفن عموما ـ من أي وظيفة فكرية ، أو اجتماعية ، أو خلقية...وتريد قصره على التعبير عن التجارب الجمالية ، أو الذاتية، أو تلك البعيدة عن الواقع بشكل عام، حتى كأن الفكر قد صار سُبّة في العلم الأدبي...

    لقد أخطأت النظريات المثالية والجمالية النقدية باستمرار خطأين كبيرين في تعاملها مع النص الأدبي:

    ــ أحدهما قصر طبيعة التجربة الفنية على تغذية حاسة الجمال في الإنسان، والتماس الفن لذات الفن.

    ــ ثانيهما : وهو تابع للأول ، قصر الفن على الموضوعات التي لا تمت إلى الواقع أو المجتمع بصلة.

    ولذلك تجرد الأدب من وظيفته الاجتماعية ، بل قل الإنسانية، وأوشك أن يتمحض للتشكيل اللفظي وحده. (72 ـ 73)


    لماذا الأدب الإسلامي؟

    إن الدعوة إلى سد نوافذنا في وجه الثقافات الغربية جهل بيّن، وهو قصور في الإدراك، وهروب من العصر، ولا يدعو إلى هذا كله إلا أخرق فاقد الثقة بنفسه ، ولكن الأظهر في الجهل كذلك أن نأخذ كل شيء تنتجه تلك الثقافات ، أن نستقبله بعيون مغلقة ، وعقول غير واعية، أن نحتفي به غير مميزين فيه حقا من باطل أو ما يصلح لنا مما لا يصلح.

    إن الأدب الإسلامي دعوة إلى التبصر والرشد، إنه كابح لجماح الجري الأعمى وراء كل جديد ينجم هنا وهناك، إنه لا يعادي الجديد ولا يرفضه، وهو لا يدعو إلى السكون والثبات، أو التحصن في الأبراج والتمسك بالمواقع، بل هو دائب الحركة ، مستمر في إطلالته على الآخرين، ولكنه يطل دائما مفتوح العينين، بيده معيار لا يخطئ وهو التصور الإسلامي ، به يزن الأفكار ، ويحاكم الثقافات ، فما لم يتصادم معه ، أو يشكل اعتداء عليه، قبله واحتفى به، بل عده من الحكمة التي هو أولى بها. (80)

    إن أدب الغرب الذي يجري وراءه من فقدوا الرشاد عندنا ليعكس مأساة أهله ، ويدل على إفلاسهم الروحي وخوائهم العاطفي، وما يعانون من ضروب الشك والقلق، والحيرة والضياع،وفقدان الثقة بكل شيء ، والإحساس بعبثية الحياة والموت، وسخف الأديان والقيم، وقيود الأخلاق والعادات ، والرغبة الملحاح الدؤوب ـ في غيبة الإيمان واليقين ـ بالهروب الدائم، والانسحاب المستمر، والجموح من أي ضابط أو قيد.(83)

    الأدب الإسلامي أصل..وليس بدعة


    فالأدب الإسلامي إذن بدأ بنزول القرآن الكريم ، فهو ليس بدعة حادثة، ولا دعوة طارئة، ولا مذهبا مستوردا من هنا أو هناك..

    ووجد في كل عصور الأدب العربي قوم من النقاد يدعون الأديب إلى مراعاة حق الإسلام فيما يقول، فالثعالبي الذي يرى ـ بحق ـ أن شاعرية الشاعر لا تقاس بتدينه بل بقدرته الفنية، يدعو الشاعر إلى أن يلتزم أحكام الدين، ولا يخرج عليها في شعره.

    يقول الثعالبي : للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولا ونقلا ،ونظما ونثرا، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى ، وتعرض لمقته في وقته(85)

    لقد غدا الشك والإلحاد والشذوذ والإباحية وغيرها من القيم الفاسدة من السمات الواضحة التي تميز الأدب الغربي المعاصر الذي يغترف من كثير من أدباء العرب المشهورين في زماننا(86)

    وإذا كنت آخذ الحكمة التي تصدر عن كافر مادامت حكمة، فهل يمنعني شرع أو عقل أن آخذ دعوة حق صدرت عن أية طائفة من طوائف المسلمين وإن كنت لا أسلم لها بآرائها الأخرى؟(87)

    ويشهد التاريخ ـ قديما وحديثا ـ أن بعض أدباء المسلمين كتبوا من القول الذي يعتدى على الإسلام أكثر مما كتبه أعداؤه، مما يبطل زعم من زعم أن الأديب المسلم لا يكتب إلا أدبا إسلاميا ، وأسماء الأدباء الذين انحرفوا عن الجادة أكثر من أن تُحصى.(88)

    إبداع أدب ملتزم


    إن العقيدة إذا دخلت الأدب لا يمكن أن تضعفه أو تُلينه ، ولا يمكن أن تحول بين الأديب وبين التحليق في سماء الإبداع ، وليس صحيحا ما ذهب اليه الأصمعي وغيره من أن (الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير لان وضُعف..)

    إن هذا التصور مغلوط لطبيعة العلاقة بين الفنّ والدين، أو بين الأدب والعقيدة، وإذا كان الالتزام اختيارا شخصيا نابعا من أعماق الأديب بحرية وتلقائية، غير مفروض عليه ، ولا مجبر ولا مُكره، فإنه لا يعد قيدا، لأنه عندئذ صنو الحرية، بل هو الحرية ذاتها في وجه من الوجوه...(94)

    القصيدة الإسلامية بين الفن والرؤية


    إن آفاق الأدب الإسلامي لا حصر لها، وهو يستطيع أن يخوض جميع التجارب التي يخوضها الآخرون، يعصمه معياره الضابط، وهو تقديم التصور السليم عنها.

    وإن كان من الكلام المستحب والمباح ، والمحظور فلماذا يصر كثير من الشعراء الإسلاميين على ألا يتجاوز النوع الأول؟ لماذا لا يثرون التجربة باقتحام المباح ، وتلوين الصوت، وإغناء الفكرة، وتوسيع الأفق؟(97 ـ 98)

    لقد أصبحنا في زمن يحاكم الناس فيه ـ الشعر والشعراء ـ إلى الشهرة أكثر مما يحاكمونها إلى الجودة والتألق...

    إن أغلب نماذج الشعر الإسلامي المعاصر مجهول لدى جمهور العامة إن لم نقل الخاصة، والذين عرفوه أو تسامعوا به ـ من خصومه ـ يحاولون تجاهله وطمسه والافتراء عليه...(100)

    الأدب بين الجودة والدعاية


    فكم من أديب مجيد ومفكر ألمعي لا يكاد يسمع به أحد، ولم يعرف أدبه الطريق إلى دنيا الناس ولن يعرفه ، وكم من (متشاعرين ) هم اليوم حديث الغادي والرائح ، وهم أغث القوم قولا ، وأسفهم كلمة! (114 ـ 115)

    الباب الثالث : ثقافة المواجهة

    الحوار مع الآخر


    وشدد القرآن النكير على من يرغم أحدا على الإيمان ، أو يكرهه على تبني ما لا يعتقد ، حتى خاطب نبيه قائلا له معلما ومبينا ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس99.(119)

    ثقافة الهزيمة

    إن استرداد الأرض والجغرافيا أمر ميسور ، وإن الحروب ـ على مر التاريخ ـ كرّ وفرّ ، وإقبال وإدبار، ولكن ضياع الذات هو الخطر الأكبر، لأن ضياع الذات، وفقدان الهوية، يحملان على التفريط في الثوابت ، بل نسيان هذه الثوابت ، ثوابت الدين ، والشريعة، واللغة ، والتاريخ، والجغرافيا...(121 ـ 122)

    المثقف العربي(*)...وكارثة العراق

    ولن ينسى التاريخ كيف جمع سعد بن أبي وقاص المثقفين جميعا، من قراء ، وشعراء، وخطباء، وحكماء، في معركة القادسية ، ثم حثهم على أداء دورهم قائلا: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق لهم عند مواطن البأس...إنكم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال..

    تلك وصية من قائد عظيم يعرف دور الثقافة والمثقفين في الحرب، ويعرف تأثير الكلمة وقدرتها الخارقة على صياغة وجدان الناس...وإذا انشغل المثقف العربي(*) اليوم عن مأساة أمته، ومورس عليه من الترهيب والترغيب ما يشغله عن ذلك ، ويجعله بوقا لهذا النظام أو ذلك ، فتلك هي المأساة الكبرى، وتلك هي الهزيمة الحقيقة التي لا تقل إن لم تكن أفدح عن هزائمنا العسكرية...(124)

    العدوان الأمريكي

    هل يغير بعض مفاهيمنا الثقافية؟


    ويثبت بالدليل القاطع ـ من خلال قتلهم اليوم الآلاف من أهلنا في العراق وتدميرهم بلد الحضارة والعلم ، واستعمالهم من الأسلحة الفتّاكة ما يحرمه كل ضمير إنساني، وتناقض أقوالهم مع أفعالهم. وازدواجية معايير الحكم عندهم ، وآلاف التصرفات اللا إنسانية الأخرى ـ يثبت أنهم قوم غير مؤهلين أصلا للقبض على ناصية الحضارة الإنسانية أو صناعتها ، ناهيك عن أن يكونوا القدوة أو النموذج الأرفع...(129)

    صناعة النجومية

    ولا ينبغي أن يكون عدم نجومية الأديب الفلاني ، أو شهرة الشاعر العلاني، أو غيرهما ، شيئا حاجبا عن درسه وتقويمه ، فقد يكون وراء غيبة هذه النجومية تلك العوامل الإعلامية والسياسية والحزبية وصنعة الانتماءات المختلفة التي أشرنا إليها.(133)

    الحالة الفكرية لكل أمة

    إن الأمم تموت وتتلاشى مثلما يموت الأفراد ويتلاشون، وإن الأمة التي لا شخصية لها ، ولا فكر ، ولا عقيدة ، وإنما هي ذيل ، تمشي في ركاب الآخرين ، وتأتمر بأمرهم ، لهي أمة ميتة، وإن كان لها وجود مادي على مسرح الحياة...(135)

    التهاوي من الداخل

    إن طائفة من أدباء هذه الأمة ومثقفيها، ممن هم من بين جلدتنا ، أصبحت (عين الرضى) عندهم هي (الآخر) وأصبحت (عين السخط) عندهم هي كل ما هو عربي وإسلامي، بل أصبحت هذه الأمة ـ التي تسنّمت ذروة البشرية ن وقادت مسيرتها الحضارية قرونا طويلة أخرجت فيها الناس من الظلمات إلى النور ـ مدينة للآخرين في إنجازاتها الثقافية والفكرية ، في القديم وفي الحديث.

    *في القديم


    ردت طائفة من هؤلاء المنهارين من الداخل الثقافة العربية الإسلامية القديمة إلى الفكر اليوناني...

    ومثل بـ محمد عابد الجابري الذي شايع رأي رينان الفرنسي ومثل بـ طه حسين الذي رد البيان العربي إلى أصول يونانية...انظر(137 ـ 138)

    *في الحديث

    يزعم اليوم أن ما سبق عصر النهضة العربية الحديث كان عصر انحطاط ، عصرا غير نهضوي ، وعندما سقطت خلافة المسلمين في الأستانة، وغزا الغرب الصليبي أمة العرب والمسلمين ، فحررها من ((الاستعمار العثماني)) حمل إليها مفاهيمه الثقافية والفكرية العلمية ، فانتهت عصور الانحطاط العربي، وبدأت نهضتهم الحضارية الحديثة...إن النهضة عند هؤلاء تعني التبعية للغرب، تعني الانسلاخ من قيم الإسلام والعروبة ، وتقليد الأوروبيين في كل شيء على نحو ما كان يدعو إلى ذلك طه حسين في كتابه ((مستقبل الثقافة في مصر))...(138 ـ 139)

    أما بعد:فهذه إيماءة وتلويحة لما تقلّه هاتان الصحيفتان البليغتان، من عرف فواح، وورد جني، وفاكهة كثيرة، و والله لولا رهبة الإطالة، أو أن يقال نسخهما بحروفهما ،لأتيت بكل ما شرح صدري، وروى فكري، وأنعش قلبي، مما لا يزهد به المثقف المسلم!

    وصلى الله على العز والفضل، سيدنا وعظيمنا وقدوتنا وكبيرنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.



    كتبه
    حسين بن رشود العفنان


    ــ
    * لو قال : المسلم!
    *نشر في موقع صيد الفوائد


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •