فلما فكرت في الدنيا وأمورها وأن الإنسان هو أشرف الخلق فيها وأفضله ، ثم هو لا يتقلب إلا
في الشُّرُرِ والهموم عرفت أنه ليس إنسانٌ ذو عقلٍ إلا وقد أغفل هذا ولم يعمل لنفسه ويحتل
لنجاتها فتعجبت من ذلك كل العجب ، ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذةٌ
صغيرةٌ حقيرةٌ من النظر والسمع والشم والذوق واللمس لعله أن يصيب منها الطفيف أو يقتني
منها اليسير ، فإذا ذلك شغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها .
فالتمست للإنسان مثلاً فإذا مثله مثل رجلٍ نجا من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها وتعلق
بغصنين كانا على سمائها فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر ، فإذا حياتٌ أربعٌ قد أخرجن
رؤوسهن من أجحارهن ثم نظر فإذا في قعر البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه ، فرفع
بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض وهما يقرضان الغصنين دائبين لا
يفتران ، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه إذ بصر قريباً منه بخليةٍ فيها عسل فذاق
العسل فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه ولم
يذكر أن رجليه على حيات أربع لا يدري متى يقع عليهن ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع
الغصنين ومتى انقطعا وقع التنين ، فلم يزل لاهياً غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم
التنين فهلك .
فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشروراً ومخافاتٍ وعاهاتٍ وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط
الأربعة التي في البدن فإنها متى هاجت أو هاج أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت ،
وشبهت بالغصنين الأجل الذي لا بد من انقطاعه ، وشبهت بالجرذين الاسود والابيض الليل
والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل ، وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه وشبهت
بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيرى ويطعم ويسمع ويشم ويلمس ويتشاغل
عن نفسه ويلهو عن شأنه فينسى أمر الآخرة ويصد عن سبيل قصده .
كليلة ودمنة
تحقيق مصطفى المنفلوطي