بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم دُعاءَان يُدْعَى بهما في سجودِ التلاوة، فأحببتُ في هذا البحث جَمْعَ طرقَ هذين الدعاء ودراستها.
الصيغة الأولى:
قولُ: "سجدَ وجهيَ للذي خلقَه؛ وشقَّ سمْعَه وبصَرَه بحولهِ وقوتهِ".
جاءت هذه الصيغة من حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث عطاء بن السائب عن قيس بن السكن.
فأما حديث عائشة فمدارُه على (خالد الحذاء) وقد اختلف عليه على وجهين:
الوجه الأول/ رُوي عن خالد الحذاء عن أبي العالية -رُفيع بن مهران- عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل: "سجدَ وجهيَ للذي خلقَه، وشَقَّ سمعَه وبصرَه، بحوله وقوَّتِه".
وهذا الوجه أخرجه النسائي في سننه الصغير (1129) والكبير (714) وَالترمذي في جامعه
(580، 342) -ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3 / 313)- وابن خزيمة في صحيحه
(564) والحاكم في المستدرك (1/ 220) -وعنه البيهقي في سننه الكبير (2/325)- وإسحاق في مسنده (1679) والبيهقي في الدعوات (388) من طريق عبدالوهاب الثقفي.
وهذا لفظ النسائي، وزاد الحاكم والبيهقي في سننه الكبير: "فتبارك الله أحسن الخالقين".
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (564) والحاكم في المستدرك (1/220) من طريق خالد بن عبدالله الطحان.
والحاكم في المستدرك (1/220) والطبراني في الأوسط (3476) وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 512) من طريق وُهيب بن خالد.
وأحمدفي المسند(24022) وابن أبي شيبة في المصنف (2/20) وابن المنذر في الأوسط (5/ 272) من طريق هشيم بن بشير.
والدارقطني في سننه (1/ 406) من طريق سفيان بن حبيب.
خمستهم (عبدالوهاب وخالد ووهيب وهشيم وسفيان) عن خالدالحذاء عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها.
الوجه الثاني/ رُوي عن خالد الحذاء عن رجل عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا الوجه أخرجه أبوداود في سننه (1414) -ومن طريقه البيهقي في سننه الكبير (2/325)- والإمام أحمد في المسند (25821) والبيهقي في الدعوات (389) وابن خزيمة في صحيحه (565) وابن أبي شيبة في المصنف (2/20) والبيهقي في السنن الصغير (907) وفي الأسماء والصفات(1/215) من طرقٍ عن إسماعيل بن عُلية عن خالد الحذاء عن رجلٍ عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها، بمثله.
وقد صحح الترمذيُّ والحاكم هذا الحديث بالوجه الأول، بينما أعلَّه ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني في العلل (5/96/مخطوط) حيث رجَّحا الوجه الثاني؛ وهو روايةُ إسماعيل بن عُلية عن خالد الحذاء عن رجل.
ولعلَّ سببَ ترجيحهم روايةَ إسماعيل على رواية الآخرين –مع أنَّ الذين خالفوه خمسةٌ، بعضهم ثقةٌ ثبت-هو أنَّ خالداً الحذاء لم يسمع من أبي العالية الرياحي، كما قال الإمام أحمد ( التهذيب 3/ 122).
وعبارةُ الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود (صـ446) والعلل لعبدالله بن أحمد (1/253-):
ما أُرَى خالداً الحذاء سمع من أبي العالية شيئاً.
فقرينةُ عدم سماع خالدٍ من أبي العالية تُقَوِّي احتمالَ الواسطة بينهما.
وعلى كلِّ حالٍ، فالحديث ضعيفٌ من الوجهين:
فهو ضعيفٌ للانقطاع في رواية (خالد الحذاء عن أبي العالية).
وضعيفٌ للإبهام في رواية (خالدٍ عن رجل عن أبي العالية) والله أعلم.
يُضاف إلى ذلك احتمال عدم سماع أبي العالية من عائشة رضي الله عنها، والذي جعلني أشير إلى ذلك أنَّ الحافظَ ابنَ حجر رحمه الله قال في مسند عائشة من ( إتحاف المهرة 16/1077): "رُفيع أبو العالية عنها، ولم يسمع منها".
بينما أثبتَ سماعَه منها الذهبي رحمه الله، كما في تذكرة الحفاظ (1/61).
ولم أجدْ من المتقدمين مَنْ أثبتَ السماعَ أو نفاه، إلا أنَّ احتمالَ السماع وارد.
وأما حديث عطاء بن السائب، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (2/20) عن محمد بن فُضيل عن عطاء بن السائب قال:
دخلتُ المسجدَ فإذا أنا بشيخين يقرأُ أحدهما على صاحبه القرآن، فجلستُ إليهما فإذا أحدهما قيس بن سكن الأسدي، والآخر يقرأ عليه سورةَ مريم فلما بلغ السجدةَ قال له قيس: دَعْها فإنا نكره أن يَرَونا أهلُ المسجد، فتركَها وقرأَ ما بعدها ثم قال قيس: والله ماصرَفَنَا عنها إلا الشيطان، اقرأْهـا، فقرأهـا فسجدنا، فلمارفعنا رؤوسَنا، قال له قيس: تدري ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذاسجد؟ قال: نعم، كان يقول: "سَجَدَ وجهيَ لمن خلقه، وشقَّ سمعه وبصره".
قال: صدقتَ، وبلغني أنَّ داود كان يقول: سجد وجهي متعفِّراً في التراب لخالقي، وحُقَّ له.
ثم قال: سبحان الله، ما أشبهَ كلامَ الأنبياء بعضهم بعضاً.
وهذا الإسناد ظاهرُ الضعف، فـإنَّ محمدَ بن فُضيل ممن سمع من عطاء بعد اختلاطه كما قال أبو حاتم، بالإضافة إلى إرسال قيس بن السكن للحديث، وجهالة الرجل الآخر.
ولذلك لا أرى صحة جعله شاهداً لحديث عائشة رضي الله عنها.
وسيأتي -بمشيئة الله- ذكر الصيغة الثانية، وتخريجها، ودراسة أسانيدها.