الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين إن منهج السلف الصالح في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه على الرغم من وضوحه وعدم غموضه لم يسلم من أقلام غلاة النفاة الذين يرون أن إثبات صفات الله وأسمائه هو عين التشبيه والتجسيم. ولا يتم تنـزيه الله تعالى عما لا تليق به إلا بنفي الصفات عند بعضهم، وبنفي الصفات والأسماء معاً عند البعض الآخر، بل لم يسلم المنهج حتى من بعض الصفاتية الذين يثبتون بعض الصفات أو أكثرها ولكنهم يرون وجوب تأويل بعض الصفات الأخرى، وقد استهدف منهج السلف هؤلاء جميعُهم على اختلاف مناهجهم فنالوا من المنهج، ورموا السلفيين بالتشبيه والتجسيم، وهم بريئون عن ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وفيما يلي نتحدث عما قام به عدد من أئمتنا من الجهود للدفاع عن منهج السلف والسلفيين. المدافعون عن منهج السلف: ابتدأت آراء الجهمية في القرن الثاني من الهجرة النبوية، ثم انتشرت في المائة الثالثة، وتولى إذاعتها والدعاية لها والكتابة فيها بشر المريسي المتوفى سنة 218هـ، ويقال: إنه فقيه ومتكلم إلا أنه اجتمعت فيه أمراض عدة ينسب إلى المرجئة أحياناً، وينسب أحياناً أخرى إلى الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان ويذكر الإمام ابن تيمية أن أصل الجهمية يرجع إلى عناصر دخيلة على الإسلام، لأن جهم بن صفوان المتوفى سنة 281هـ أخذ مقالته عن الجعد بن درهم، وأن الجعد أخذها عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي، ويذكر أنه من يهود اليمن. أما الجعد بن درهم فهو من أرض حران التي كانت فيها عناصر كثيرة من الصابئة والفلاسفة، ومن ثم فإن مقالة الجهمية ترجع إلى عناصر فلسفية وصابئية ويهودية. وقد أخذ الفارابي المتوفى سنة 339هـ نفسه عن فلاسفة حران، كما أخذ جهم بن صفوان عن البوذية أو السمنية163. ولما انتشرت آراء الجهمية ومذهبها في التعطيل وإنكار الصفات وفي القول بخلق القرآن، تصدى لها الأئمة من سلف هذه الأمة بالرد وبيان ضلالها وانحرافها164. منهم من كتب في ذلك كتاباً أو كتباً، ومنهم من نقلت عنه عبارات وجمل تدل على الاستنكار، وكل ذلك يوضح لنا أن أئمة السلف لم يأل جهداً في الرد على منكري الصفات من يوم ظهورها، وسوف نقدم فكرة موجزة عن بعض هؤلاء الأئمة مع ذكر نموذج من كلامهم، وفي مقدمتهم: أ- الإمام أحمد بن حنبل، وهو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، وقد ترجم لهذا الإمام غير واحد من المؤرخين، وذكروا جميعاً أنه رحمه الله حملته أمه (بمرو) وولدته (ببغداد) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ وقد كان أبوه والي بلدة (سرخس) وتوفي والده سنة 179هـ فنشأ ببغداد، وتولت أمه تربيته، وظهرت عليه لوائح النجابة في صباه. ويذكر المترجمون: أنه من شدة رغبته في أخذ علم الحديث، كان يذهب إلى المساجد مبكراً حتى إن أمه تشفق عليه وتطلب منه أن يتأخر حتى يصبح الناس وينتشر ضوء النهار165، وذكر بعض من ترجم له أن الإمام أحمد لم يقتصر في طلب العلم على علماء بلده بغداد فقط، بل إنه رحل إلى كل من الكوفة، والبصرة ومكة، والمدينة المنورة، واليمن والشام بل إنه رحل إلى بلاد فارس، وخراسان، وأخيراً عاد إلى بغداد، وتفيد المصادر أيضاً أن الإمام أحمد بدأ في الاشتغال بالحديث، وعمره ست عشرة سنة. المحنة وكان الإمام أحمد كغيره من أهل الحديث والسنة يذهب إلى أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود يوم يرفعه الله. وعندما قامت للمعتزلة دولة قوية بتولي الخليفة السابع من خلفاء بني العباس الخليفة (المأمون) بلغ الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة ذروته، وتلك الفتنة التي عرفت في التاريخ باسم (المحنة) كان فيها للإمام أحمد موقف معروف في تاريخ الأمة الإسلامية، إذ وقف فيها موقفاً فريداً عجز كثير من الأئمة والعلماء الثبات فيه. وملخصها ما يرويه المؤرخون والمترجمون للإمام أحمد: أن الخليفة (المأمون) قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق، وأوقعوه في الباطل إذ زينوا له القول (بخلق القرآن)، ونفي صفات الله عز وجل، والخوض في المطالب الإلهية بعيداً عن نصوص الكتاب والسنة، بل إنه ضرب صفحاً من النصوص زاعماً بأنها لا تفيد اليقين متأثراً بفكرة المعتزلة166. قال البيهقي: "ولم يكن في خلفاء بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف، ومنهاجهم، فلما تولى المأمون الخلافة اجتمع به هؤلاء المعتزلة فحملوه على نفي الصفات والقول بخلق القرآن"اهـ. وكل الذين تحدثوا عن المحنة يتفق كلامهم بأن الخليفة المأمون أتِيَ مِنْ قِبَلِ بطانة السوء، من أئمة الاعتزال، وتورط في مشكلة هزت خلافته لأنه لم يأخذ الأمر بِرَويّة وحكمة لحل المشلكة، وهي مشكلة يحلها العلماء بالمناقشة والحوار الحر، ومقارعة الدليل بالدليل، بل نصب نفسه داعية لا يرد له قول، ولا يعصى له أمر مستغلاً في ذلك سلطانه العريض. وفي عام 218هـ كتب المأمون إلى نائبه وواليه ببغداد (إسحاق بن إبراهيم بن مصعب) يأمره أن يدعو الناس إلى القول (بخلق القرآن) هكذا بهذه الجرأة ودون مقدمة أو تمهيد. ولم يسع الوالي إلا الامتثال فجمع مجموعة من أئمة الحديث، وبعض القضاة والفقهاء، فدعاهم إلى ذلك القول الخطير، فامتنعوا فأخذ يتهددهم بالضرب وقطع المرتبات بالنسبة للموظفين منهم، فأقر كثير منهم مكرهين، وأصر على الامتناع جماعة، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل الذي صمد في موقفه لم يزعزعه التعذيب، ولم تأخذ بقلبه تلك الفتنة، ولم يبال بسلطان الخليفة وما يملكة من أنواع التعذيب، ويذكر بعض من ترجم له أن الخليفة المأمون توفي (بطرسوس) قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، وهو محمول إليه، ثم رد إلى بغداد، واستمر الامتحان أمام المعتصم ثم الواثق ثم بقي الإمام بعد موت الخلفاء الثلاث، وقد ماتت معهم المحنة، وبقي الإمام بعدهم لنشر السنة التي عذب من أجلها وليرفع صوته بنصوص الصفات من جديد، وقد أتى الله بالفرج في عهد (المتوكل) وقضى بذلك على بقية البدعة ولذلك لقبه أهل عصره (ناصر السنة وقامع البدعة) فاستحق لقب (إمام أهل السنة) وقد ساعده الخليفة المتوكل الذي أعلن برفع (المحنة) وأمر بنشر أحاديث الصفات بما في ذلك صفة الكلام، التي هي بيت القصيد في الموضوع. وبمناسبة انتشار آراء أهل البدع، صرح الإمام أحمد وأوضح موقفه من نصوص الصفات فيما يرويه ابنه عبد الله بن أحمد، ومن ذلك قوله رحمه الله: "هذه الأحاديث نرويها كما جاءت"، وقوله: "إن ما يرجع إلى عالم الغيب لا ينبغي الخوض فيه، وإنما نفوض أمره إلى الله". ومن كلامه: "من صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة إرجاء ما غاب عنه من الأمور إلى الله"، كما جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة يرون ربهم"، فيصدقها ولا يضرب لها الأمثال، ووقف الإمام من أهل الكلام موقفاً معارضاً فقال: "لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذَبّوا عن السنة"، وقال أحمد: "صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: من شهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأقر بجميع ما جاءت به الأنبياء والرسل. وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه ولم يشك في إيمانه ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب. وأرجأ من غاب عنه من الأمور إلى الله. وفوض أمره إلى الله"... الخ. وقد عدد الإمام صفات كثيرة يرى أنها من صفات أهل السنة والجماعة لئلا يلتبس الأمر على من يريد معرفتهم ويميز بينهم وبين أهل البدع الذين يتصفون عادة بأضداد هذه الصفات. وإذا ما تحدثنا عن المحنة وصبر الإمام أحمد فيها يَجْدُرُ بنا أن نذكر نموذجاً من أسئلة الامتحان ليتصور القارئ صورة المحنة ولو بعض التصور، والي بغداد يسأل والإمام أحمد يجيب: إسحاق: ما تقول في القرآن؟ الإمام أحمد: هو كلام الله. إسحاق: أمخلوق هو؟ الإمام أحمد: هو كلام الله لا أزيد على هذا. إسحاق: ما معنى أنه تعالى سميع بصير؟ الإمام أحمد: هو كما وصف نفسه. هذه بعض الأسئلة التي يوجهها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب والي بغداد الذي كلف من طرف المأمون بامتحان العلماء وشيوخ الحديث والسنة، وقد ثبت الإمام أحمد أمامها ونجح في الامتحان نجاحاً نال به أعلى (وسام) يناله عالم سلفي وهو (وسام الإمامة) إذ لقبه أهل عصره العارفون بموقفه لمعرفتهم كيف أبقى الله بع على العقيدة بصبره وثباته (بإمام أهل السنة وقامع البدعة). هكذا نوجز ترجمة هذا الإمام اقتصاراً على ما يتلاءم وبحثنا، رحمه الله وجزاه عن السنة وأهلها خير الجزاء. وقد خلف الإمام أحمد للمكتبة الإسلامية كتباً ورسائل كثيرة ونافعة، ومن أبرزها (مسند الإمام) المعروف، الذي تغني شهرته عن التعريف وله كتابه الفريد الذي كتبه رداً على الزنادقة والجهمية إذ يعتبر من أهم ما كتب في مجاله، وقد ناقش فيه الإمام المشككين في القرآن الذين يتأولونه على خلاف ظاهره، وقد دافع الإمام في هذا الكتاب عن المنهج السلفي خير دفاع، فجزاه الله خير ما جازى به المجاهدين. مواقف الإمام وبعد أن استعرضنا نبذة من حياة الإمام أحمد واستعرضنا أيضاً طرفاً من المحنة، وما جرى بينه وبين خصومه في مشكلة خلق القرآن، فلنسمع صوت الإمام وهو في حوار (حيّ) مع الجهمية حيث يدافع عما يعتقده السلف في صفات الله، فلنأخذ مقتطفات من كلامه في مبحث الرؤية، وصفة العلو، والمعية فتعال بنا لنحضر الحوار ثم لنستمع إليه بقلب حاضر وكأنك تسمع الصورة الصوتية للإمام وهو يناقش بأسلوبه الخاص ولغته القوية. وقد بوب الإمام لكل موضوع يجري فيه الحوار إذ يقول مثلاً: بيان ما جحدت الجهمية من قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}167، قال الإمام أحمد رحمه الله: فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟! فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه لأن المنظور إليه معلوم موصوف. لا يرى إلا شيء يفعله. فقلنا: أليس الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، قالوا: إن معنى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}168، أنها تنظر169 الثواب من ربها وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته، وتلوا آية من القرآن: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}170، فقالوا: إنه حيث قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ}، إنهم لم يروا ربهم، ولكن المعنى ألم ترَ إلى فعل ربك، فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فقالوا: إنما تنظر الثواب من ربها، فقلنا: إنها مع من تنظر الثواب هي ترى ربها. فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قوله الله جل ثناؤه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}171، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معنى قول الله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، وقال: "إنكم سترون ربكم"172، وقال الله لموسى: {لَن تَرَانِي}، ولم يقل: لأن أرى، فأيهما أولى أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إنكم سترون ربكم" أو قول الجهمي حين قال: لا ترون ربكم؟! والأحاديث بأيدي أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم لا يختلف فيها أهل العلم. وبعد: إنّ القارئ يدرك أن الإمام يشير إلى أن الإدراك المنفي في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، أمر زائد على الرؤية وهذا المعنى في غاية الوضوح، لأن العباد عندما يرون ربهم لا يدركونه أو لا يحيطون به، كما أنهم يعلمون ربهم ويؤمنون به، ولا يحيطون به علماً ومعرفة، وقد يتصور هذا المعنى حتى في مخلوق من مخلوقات الله تعالى. فمثلاً إنك ترى الشمس دون شك، وهي في ضحى النهار ولكن لا تحيط بها إحاطة من كل وجه، وهي خلق من خلق الله تعالى ولله المثل الأعلى، فلا غرابة في إثبات الرؤية من مجموع الآيات والأحاديث مع نفي الإدراك، كما نفت آية سورة الأنعام {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}. والله أعلم. فلنعد إلى سماع الحوار مرة أخرى في الموضوع نفسه، حيث يقول الإمام أحمد رحمه الله: وحديث سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد في قوله الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}173. قال: النظر إلى وجه الله: ومن حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: إذا استقر أهل الجنة في الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إنّ الله قد أذن لكم في الزيادة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله لا إله إلا هو. ثم قال الإمام: وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله، لأن الله قال للكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }174، فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ والحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع ولم يجعلنا ممن ابتدع والحمد لله وحده175. هكذا رأينا كيف كان الإمام أحمد يدافع عن منهج أهل السنة والجماعة، في هذا الباب الخطير الذي ضل فيه كثير من المتأخرين ممن وقعوا فريسة لآراء أهل الكلام من الجهمية وشيعتهم، ولعل القارئ أدرك من طريق الحوار أن شيوخ الحديث وأئمة السنة يجيدون طريقة الاستدلال بالنصوص بأسلوب استنباطي ومنطقي دقيق. وليس الأمر كما يزعم خصومهم من أنهم (نَصِيّون) يحفظون النصوص، وليسوا بعقليين، أي لا يعمدون إلى ذكر الأدلة العقلية، بل لا يزيدون على سرد النصوص فقط. ولو سايرنا الإمام إلى آخر حواره الطويل، لرأينا كيف يضرب الأمثال التي تقرب المعاني إلى الأذهان، وتعين على الفهم. فلنسمع مثلاً إلى هذا النموذج من كلام الإمام وهو يفسر قوله تعالى: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}176، يقول الإمام رحمه الله: وإنما معنى قوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} يقول: وهو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان. ولا يكون علم الله في مكان دون مكان. وذلك قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}177. ثم قال الإمام رحمه الله: ومن الاعتبار178 في ذلك لو أن رجلاً كان في يده قدح من (قوارير) صاف وفيه شراب صاف، كان يصير ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله - وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه، ثم قال خصلة179 أخرى: لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وهو خارج كان بن آدم لا يخفى عليه كم بيتاً في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله - وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق وعلم كيف هو، وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق180. هكذا يحلل الإمام معنى الآية ليقربه إلى أفهام القراء، وهكذا يفهم أئمة الحديث معاني النصوص مع القدرة على البيان الشافي والدقة في ضرب الأمثلة، ولله الحمد والمنة. بمثل هذا المثال وهذا التحليل نضرب في وجوه أرباب الكلام والمتفلسفة الذين يزعمون أن أئمة الحديث والسنة بمثابة الأميين الذين يرددون النصوص ولا يفقهون لها معنى. ولقد أثبت الأمام بهذا الحوار المؤيد بالأمثلة أن الله تعالى فوق عرشه بائن من خلقه، وهو معهم بعلمه وسيأتي لهاتين الصفتين مزيد بحث إن شاء الله عند الكلام على معاني الصفات في الأبواب اللاحقة. ب- أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بن إبراهيم الجعفي ولد - الإمام البخاري- كما يحدثنا المترجمون في بلدة (بخارى) من بلاد ما وراء النهر، قرب (سمرقند)، وهذه المناطق تقع حالياً تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي، والله المستعان. ويذكر المترجمون له أن الإمام ولد في 13 من شهر شوال لعام 194هـ من أسرة جمع الله لها بين الصلاح والتقى والثراء والعلم، وتوفي والده وهو لا يزال طفلاً وتولت أمه تربيته (وحَدبتْ) عليه ورعته خير رعاية، وقد حجت به أمه وهو صغير ثم تركته بمكة فرجعت إلى بخارى، فبقي الطفل بجوار بيت الله الحرام، ليطلب العلم ويجالس شيوخ الحديث والعلم، في الحرم الشريف، فأخذ العلم على أيدي شيوخ مشهورين في بلده وغير بلده، ويحدثنا الإمام نفسه أنه حفظ كتب ابن المبارك وكتب وكيع وهو ابن ست عشرة سنة181، ومن أشهر شيوخه إمام أهل السنة والجماعة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل كما يحدثنا الإمام البخاري أنه لقي أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، وخراسان، وأخبرنا أنهم ما كانوا يختلفون في أن الدين أو الإيمان قول وعمل، وأن القرآن كلام الله، وقد زار الإمام البخاري بلداناً كثيرة في طلب العلم، وتردد إلى بعض البلدان أن من مرة منها بغداد حيث يوجد شيخه الكبير الإمام أحمد بن حنبل. أما مكة فقد أقام بها ستة أعوام، وحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح182. وخرج كتابه (الجامع الصحيح)، من نحو ستمائة ألف حديث. وصنفه في ستة عشر عاماً، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عند أهل العلم والمعرفة183. وللإمام البخاري كتاب مستقل ناقش فيه الجهمية في صفة الكلام والاستواء خاصة، وفي بقية الصفات عامة، وأورد فيه كلام أهل العلم من شيوخه وغيرهم. موقف الإمام البخاري من الجهمية في صفة الاستواء والعلو يحكي البخاري عن عبد الله بن المبارك، وهو أحد مشايخه الكبار حيث يقول ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى، وقيل له: كيف تعرف ربك؟ قال: فوق سماواته على عرشه، وقال لرجل منهم: أتظنه خالياً منه؟ فبهت الآخر. وقال من قال: (لا إله إلا هو) مخلوق، فهو كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية184. وقد ألف البخاري كتاباً سماه (خلق أفعال العباد) تحدث فيه عن القرآن الكريم، ورد فيه ما زعمت المعتزلة من أن القرآن مخلوق بأسلوب يشبه جداً أسلوب شيخه الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله في رده على الزنادقة والجهمية. وقد قال البخاري في هذا الكتاب: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وأني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"185. يقال إنه قد نسب إلى الإمام البخاري أنه كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، ولما سئل عن ذلك أجاب بقوله: القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة. والامتحان بدعة186، وكان رحمه الله يكره التعمق والتنقيب عن النقاط الغامضة في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي تتعلق بالأسماء والصفات وأفعال العباد، بل يرى الاكتفاء بظاهر النصوص بعد فهمها على حد فهم السلف الصالح رحمهم الله، ومن أطلع على ما حققه في صحيحه في كتاب التوحيد وكتاب الدعوات وغيره في مسائل هذا الباب يدرك أنه من الأئمة المدافعين عن منهج السلف الصالح الذي يجهله كثير من المتأخرين مع ثنائهم العاطر على السلف الصالح، يعرفونهم ويجهلون منهجهم، إنه تناقض غريب، (والله المستعان). قال سعيد بن عامر187: "الجهمية أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد أجمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان على أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء". جـ- الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: وهو ذلك الأديب الفقيه والمحدث المعروف، وقد أخذ الحديث عن أئمة كالجبال في علوم الحديث مثل يحيى بن معين، وعلي بن المديني وأمثالهما. ويقول بعض من ترجم له إنه أخذ من شيوخ لا يعدون كثرة، وقد توفي هذا الإمام الفذ في بابه في سنة 280هـ ودفن ببلدة (هراة)188، وقد ألف الإمام الدارمي كتاباً في الرد على الجهمية وصفه بعض أهل العلم بأنه من أقوى ما كتب في هذا الباب أسلوباً ومن أمتنها حجة. ويكفي فخراً لهذا الإمام، أن الإمام ابن تيمية كان يوصي بقراءة كتابين من كتبه وهما: 1- كتاب الرد على الجهمية. 2- كتاب النقض على بشر المريسي. ويصفهما بأنهما من أجل الكتب المصنفة في السنة، وأنفعها لكل طالب سنة، مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون. كما أثنى عليهما الإمام ابن القيم بمثل ثناء شيخه ابن تيمية، وفي الكتابين المذكورين تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما189. أما الكتاب الآخر فقد ألفه ليرد فيه على بعض أتباع بشر المريسي الذي كتب الرد على الإمام الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية)، ثم رد الإمام بهذا الكتاب على شيخهم ورئيسهم بشر المريسي، وناقش فيه المريسي لا صاحب الكتاب لأن صاحب الكتاب كان يورد كلام المريسي وحججه ويستدل بها لأنه عمدته في الرد الذي كتبه. هكذا ذكروا، قال الإمام الدارمي في مطلع كتابه الذي رد فيه على المريسي: أما بعد، فقد عارض مذهبنا في الإنكار على الجهمية من بين ظهرانيهم معارض، وانتدب لنا منهم مناقض ينقض ما روينا فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفاسير المضل المريسي الجهمي... الخ190اهـ. وقد ناقش الإمام الدارمي في هذا الكتاب المريسي خاصة وأهل الاعتزال عامة مناقشة حادة ومفحمة في تأويلاتهم وتلاعبهم بالنصوص. فعقد باباً في أسماء الله وأوضح أنها غير مخلوقة كما عقد باباً خاصاً في صفة النـزول، فأجاد فيه وأفاد، وباباً آخر في مبحث السمع والبصر، وإثبات الرؤية في الدار الآخرة، وهو: معتقد أئمة السلف قاطبة، وقد أكثر من التبويب للصفات الخبرية وغيرها إمعاناً منه في الرد على المريسية والجهمية في تأويلاتهم. وقد كان منهجه في عرض الصفات وسوقها منهجاً سلفياً واضحاً، إذ يفصل في الإثبات مع الإجمال في النفي على طريقة القرآن الكريم، فمثلاً يقول: "يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويغضب، ويحب، ويبغض، ويكره، ويضحك، ويأمر، وينهى، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير، والكلام المبين، واليدين... الخ. ثم قال: - بعد أن ساق مجموعة من الصفات على النمط الذي ذكرنا-: "فبهذا الرب نؤمن، وإياه نعبد، وله نصلي ونسجد، فمن قصد بعبادته إلى إله بخلاف هذه الصفات فإنما يعبد غير الله، وليس معبوده بإله. (كفرانه لا غفرانه)191 ا.هـ وقال الإمام الدارمي في كتابه الذي رد فيه على الجهمية: (باب الإيمان بالعرش): وهو أحد ما أنكرته المعطلة، ثم قال: قال أبو سعيد: "وما ظننا أن نضطر إلى الاحتجاج على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله، فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا. وإلى الله نشكو ما أوهت هذه العصابة من عرى الإسلام، وإليه نلجأ وبه نستعين192اهـ. هكذا ناقش الدارمي الجهمية بحرارة وبلهجة يظهر عليها التأثر الشديد من ذلك الإلحاد الذي فاجأه من حيث لا يتوقع. والمريسية التي ناقشها الإمام الدارمي ورد شبهها من أشد الطوائف الاعتزال تطرفاً، كما لا يخفى على كل مطلع على طوائف أهل الكلام. ولذا لا ينبغي أن يستغرب أن يناقشهم الإمام الدارمي بتلك الشدة وبهذه اللهجة القوية، لأن موقف القوم وتصرفاتهم مثير دون شك، رحم الله ذلك الإمام الغيور وأمثاله من الأئمة المدافعين عن منهج السلف الذين خلدوا بجهادهم ودفاعهم المنهج، ليبقى ما بقيت الحياة. ومما يمتاز به المنهج السلفي، أن الذين ينهجونه لا يختلفون إلا في الأسلوب والتعبير على اختلاف أزمنتهم ومشاكلهم. وذلك راجع لوحدة المصدر لدعوتهم، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة الموضحة لمعاني النصوص إذ هم الذين حضروا نزول الوحي وفهموا النصوص فور نزولها، قبل أن يطول عليها العهد، ولذلك يحرص اللاحقون من السلف أن يقتدوا بالسابقين كما تقدم عند الحديث عن منهج السلف في إثبات الصفات. وقد رد الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية) على دعاة الضلال من المعطلة وعلى المغرضين من ذوي الديانات الأخرى، وله جهاد معروف ودفاع مشكور أجزل الله له المثوبة على جهاده. د- شيخ الإسلام ابن تيمية: هو الإمام المجتهد السلفي المحدث المفسر البارع، وقد ترجم له غير واحد من العلماء، فذكروا أنه ولد ببلدة (حران)، ثم حمل إلى دمشق، وهو ابن سبع سنين فنشأ بها، وكانت ولادته في ربيع الأول سنة 661هـ193. ومما ذكروا في ترجمته أنه كان شديد العناية بالحديث، وقد دار على الشيوخ ونسخ الأجزاء وخرّج، وانتقى وبرع في الرجال، وعلل الحديث، وفقهه، وفي جميع علوم الإسلام. واطلع على الفلسفة، والمنطق فبرع فيهما وأخذ ينقض المنطق بشدة، ويرد على الفلاسفة بأسلوبهم وقواعدهم، ولقد كان شديد الاهتمام بشئون المسلمين العامة، فجاهد في الله بسيفه، وقلمه وبذل للمسلمين النصح والإرشاد. وقد حدث الإمام ابن تيمية في المسجد الأموي بدمشق كثيراً، وله فيه (كرسي) خاص يحدث عليه، وليس من عادته أن يعظ الناس من على المنبر أو يخطب خطبة الجمعة، وإنما كان المعروف عنه التدريس والتأليف والإجابة على الأسئلة والحوار العلمي. وقد حدث بدمشق وفي مصر وكان معروفاً بالشجاعة والإقدام أيام حروب التتار. بل هو من المجاهدين المعدودين الذين جمعوا بين علوم عصرهم، وكان كثير النصح للولاة والسلاطين، بل كان يحثهم على الجهاد والدفاع عن العقيدة الإسلامية. ولما برز ابن تيمية في جميع الميادين، وأكثر من الدعوة إلى تصحيح العقيدة وإصلاح الأحكام، ومحاربة البدع وأنواع الشرك المنتشرة بين عوام المسلمين، ونقد علم الكلام وبين عواره وكشف عن شطحات المتصوفة، وإلحاد وحدة الوجود، ودعا إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة، وتعظيم هدي الرسول، وألا يقدم قول أحد على سنته، وكان يدعو إلى عدم التقيد بمذهب معين، بل على المسلم أن يدور مع الحق حيث دار. كان يدعو إلى الإسلام بهذا الأسلوب الذي لم يكن شائعاً في بيئته، وعلى ذلك المنهج العام الذي عليه عامة الناس، دون أن يختار مجلاً لدعوته دون مجال. ولما فعل ذلك قامت قيامة المتكلمة والمتصوفة والمتفلسفة. وانضم إليهم بعض المتعصبين من المتفقه الذي هزت هذه الدعوة السلفية شعبيتهم الواسعة، فخافوا على مناصبهم ومراكزهم، وقد امتحن الشيخ بسبب دعوته الصريحة والقوية، فأوذي حتى سجن بقلعة القاهرة والإسكندرية وقلعة دمشق مرتين، وأخيراً توفي بها في 20 من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728هـ). ولقد كان ابن تيمية شديداً في نقض الفلاسفة، وقد بدد أوهامهم وأثبت لهم عدم صلاحية أدلتهم في المطالب الإلهية، فكان يقول رحمه الله: "العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل، والفرع. ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة، والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم بل أوضح ابن تيمية في مناسبات عديدة في كثير من كتبه أن آراء الفلاسفة أمشاج من الإلحاد والكفر والزندقة، وقد خاف من خطرها على الدين والفكر، فركز عليها في جهاده ودفاعه، ولقد كان عصره عصراً مائجاً بالآراء المتباينة، والمذاهب المتضاربة، والعقائد المتنابذة التي أشرنا إليها سابقاً. 1- من فلاسفة يخضعون لأرسطو وأفلاطون، ويقولون بقدم العالم. 2- من متصوفة متأثرة بالفلاسفة أو هم أبناؤهم بل هُمْ هُمْ. وقد تطول غلاتهم في الحلول المطلق. وكان هذا من الميادين التي ركز عليها شيخ الإسلام في جهاده. 3- ومن جهمية جريئة يعطلون صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة، غير مبالين بالنصوص، وهم من ألد أعداء شيخ الإسلام، وإليهم وجه جلّ اهتمامه. 4- الأشاعرة الذين كانوا يزعمون التوفيق بين المعتزلة، وبين منهج السلف، ولكنهم لم يفلحوا إذ ليس من الممكن التوفيق بين الحق والباطل، بل الواجب الانتصار للحق وإزهاق الباطل.