تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (90)
صــ471 إلى صــ 475
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين .
قوله تعالى: (وكأين من نبي) قرأ الجمهور "وكأين" في وزن "كعين" . وقرأ ابن كثير "وكائن" في وزن "كاعن" قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: "كأين" مثل: "كعين" ينصبون الهمزة ، ويشددون الياء . وتميم يقولون: "وكائن" كأنها فاعل من "كئت" . وأنشدني الكسائي:
وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا على ابن غدا منه شجاع وعقرب
وقال آخر:
وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة على الله عقباها ومنه ثوابها
، وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى "كم" مثل قوله: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها [ الطلاق: 8 ] وفيها لغتان: "كأين" بالهمزة وتشديد الياء ، و"كائن" على وزن "قائل" [وبائع ] وقد قرئ بهما [جميعا في القرآن ] والأكثر والأفصح تخفيفها . قال الشاعر:
وكائن أرينا الموت من ذي تحية إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم .
وقال الآخر:
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
قوله تعالى: (قاتل معه ربيون) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبان ، والمفضل [ ص: 472 ] كلاهما عن عاصم: "قتل" بضم القاف ، وكسر التاء ، من غير ألف ، وقرأ الباقون: "قاتل" بألف ، وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، والحسن ، وابن يعمر ، وابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، وأيوب: "ربيون" بضم الراء . وقرأ ابن عباس ، وأنس وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والجحدري ، بفتحها . فعلى حذف الألف يحتمل وجهين .
أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده ، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل ، ومعه ربيون ، فما وهنوا بعد قتله .
والثاني: أن يكون قتل للربيين ، ويكون: "فما وهنوا" لمن بقي منهم . وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا ، فما وهنوا . وفي معنى الربيين خمسة أقوال .
أحدها: أنهم الألوف ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، واختاره الفراء .
والثاني الجماعات الكثيرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة .
والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، واختاره اليزيدي ، والزجاج . والرابع: أنهم الأتباع ، قاله ابن زيد .
والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى ، قاله ابن فارس .
قوله تعالى: (فما وهنوا) فيه قولان .
أحدهما: أنه الضعف ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة . والثاني: أنه العجز ، قاله قتادة .
قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع ، والذل ، ومنه أخذ المسكين . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما: فما وهنوا بالخوف ، وما ضعفوا بنقصان القوة ، ولا استكانوا بالخضوع .
[ ص: 473 ] . والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم .
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
قوله تعالى: (وما كان قولهم) يعني الربيين . (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا) أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار . والإسراف: مجاوزة الحد ، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر ، وبالإسراف الكبائر .
قوله تعالى: (وثبت أقدامنا) قال ابن عباس: على القتال . وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على دينك ، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه .
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا) فيه قولان .
أحدهما: أنه النصر ، قاله قتادة . والثاني: الغنيمة ، قاله ابن جريج . وروي عن ابن عباس ، أنه قال: النصر والغنيمة .
وفي حسن ثواب الآخرة قولان . أحدهما أنه الجنة .
والثاني: الأجر والمغفرة ، وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو .
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين [ ص: 474 ] قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه . وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم المنافقون على قول ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن جريج .
والثالث: أنهم عبدة الأوثان ، قاله السدي . قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم . ومعنى (يردوكم على أعقابكم): يصرفوكم إلى الشرك ، (فتنقلبوا خاسرين) بالعقوبة .
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين قوله تعالى: (بل الله مولاكم) أي: وليكم ينصركم عليهم ، فاستغنوا عن موالاة الكفار .
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين .
قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق ، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة ، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، ونزلت هذه الآية . والإلقاء: القذف . والرعب: الخوف . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، [ ص: 475 ] وحمزة "الرعب" ساكنة العين ، خفيفة وقرأ ابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، مضمومة العين ، مثقلة ، أين وقعت . والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة . والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه . والمثوى: المقام ، والثوى: الإقامة . قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: الكافرون .