تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 30

الموضوع: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(2)

    اعداد: الفرقان





    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    باب: في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة}
    2123. عن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ «.
    الشرح:
    الحديث الأول في الباب الأول: في سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وهذه الآية من الآيات التي ذكر الله تبارك وتعالى فيها نعمته على بني إسرائيل، وقد عدد الله عز وجل في سورة البقرة ما أنعم به على بني إسرائيل، كقوله قبل هذه الآية: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (البقرة: 57).
    فهذا من نعم الله عز وجل التي امتن بها على بني إسرائيل: وهي تظليل الغمام عليهم التي يقيهم حر الشمس لما كانوا في صحراء سيناء، وأنزل عليهم المن الذي هو شبيه بالعسل، والسلوى الذي هو طائر يأكلون منه ما يشاؤون، وغير ذلك من النعم التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى عليهم قبل هذه الآية في سورة البقرة.
    ثم ذكرهم الله عز وجل بنعمة أخرى هاهنا فقال لهم: {وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية} وهذه القرية هي: بيت المقدس على المشهور عند أهل التفسير، فالله سبحانه وتعالى أمرهم بدخول بيت المقدس، وان يأكلوا مما سبق من – المن والسلوى - أو مما حبا الله به بيت المقدس من أشجار وبركات وخيرات.
    ثم قال لهم {وادخلوا الباب سجدا} أي: خاضعين خاشعين راكعين، وقال بعض أهل التفسير: أي كهيئة الركوع. وقلنا بذلك مع أن الآية تقول (سجدا) لأنه لا يتصور دخول الإنسان الباب وهو ساجد على جبهته، ولذلك قال أهل التفسير المقصود: أمرهم بان يدخلوا بيت المقدس خاضعين خاشعين، معترفين بنعمة الله تعالى عليهم.
    وان يقولوا: (حطة) وهو من الحطط، يعني: اللهم احطط عنا خطايانا، يعني: اللهم اغفر لنا.
    وقوله تعالى: {وسنزيد المحسنين} هو وعد من الله سبحانه وتعالى للمحسنين بالمغفرة، بأعمالهم الحسنة مع الله تعالى ومع عباده، عاجلا أو آجلا.
    فاستهزأ الظالمون منهم والمعاندون، فقال سبحانه وتعالى عنهم {فبدل الذين ظلموا منهم} وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى ومن إنصافه لهم، إذ قال {فبدل الذين ظلموا منهم} ولم يقل: فبدلوا، فلم يعمهم بهذا الفعل الذي هو التبديل والتحريف في القول، بل وتحريف في الفعل؟! فقد حصل التبديل من بني إسرائيل في القول والفعل؟! أما الفعل فالله سبحانه وتعالى قال لهم {ادخلوا الباب سجدا} فلم يفعلوا، فلم يدخلوا ساجدين ولا خاضعين ولا راكعين، وإنما دخلوا مستهزئين مستكبرين رافعي رؤوسهم، يزحفون على أستاههم ؟! أي: على أدبارهم ؟! فأيّ كفرٍ بالله تعالى واستهزاء هذا؟؟!
    وقال الله تعالى لهم {قولوا حطة} فقالوا: حبة في شعره , وفي رواية أيضا في الصحيح قالوا: «حنطة»؟! وقال بعضهم: حبة في شعرة؟ أو حبة في شعيرة؟! وكل ذلك من تحريف القول الذي وقعوا فيه. أي: بدلا من أن يقولوا حطة , وهو طلب حط الخطايا والذنوب، قال الذين ظلموا منهم من المعاندين والمستكبرين والمستهزئين ما قالوا، فبدلوا قول الله تعالى، وبدلوا ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به فعلا.
    قال رسول الله [: «قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} والجدير بالذكر: أنه لا يزال هناك باب في المسجد الأقصى اسمه « باب حطة « إلى يومنا هذا، وهو الباب الذي أمروا أن يدخلوا من عنده.
    فلما بدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم ويقولون مستهزئين حنطة بدلا من أن يقولوا حطة، ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى بهم بأسه وعذابه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، بسبب خروجهم عن طاعته، قال سبحانه فيهم {فأنزلنا على الذين ظلموا} وهذا أيضا تنبيه على عدل الله عز وجل، أنه إذا وقعت المعصية في قوم، نزل عذاب الله على القوم الظالمين منهم فقط، إذا تميزوا عن غيرهم، كما في قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير.
    وقوله {رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} أنزل الله تعالى عليهم رجزا وعذابا من السماء، لأنهم خالفوا أمره، واستخفوا به، واستهزئوا وبدلوا القول والفعل، قال ابن عباس (رجزا) يعني: عذابا أليما، وكل شيء في القرآن رجز فهو العذاب.
    وقال بعض أهل التفسير وهو قول سعيد بن جبير وغيره: أن الرجز هو الطاعون، أنزله الله تعالى عليهم.
    وروى البخاري ( 3473 ) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: قال رسول الله [: « الطاعون رجز أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل – أو على من كان قبلكم – فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه «.
    وقد روى جماعة من الصحابة أيضا منهم: سعد ابن أبي وقاص وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت: عن رسول الله [ أنه قال: « الطاعون رجز عذابٍ، عُذّب به من كان قبلكم « رواه النسائي في سننه.
    وقد جعله الله تعالى لهذه الأمة رحمة ومغفرة، بل شهادة، فمن أصابه فهو شهيد، لقوله [: « الطاعون شهادة لكل مسلم « متفق عليه.
    وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله [ عن الطاعون فأخبرني « أنه عذابٌ يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقعُ في الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كَتب الله له، إلا كان له أجر شهيد « رواه البخاري في الأنبياء ( 3473 ).
    فكون الطاعون رحمة إنما خاص بالمسلمين، وهو شهادة لهم ورحمة، ورجز على الكافرين والعاصين.
    وقد وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أن الطاعون ينشأ عند ظهور الفاحشة والمجاهرة بها، كما في الحديث عند ابن ماجة ( 4019 ) والبيهقي بلفظ: « لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا..» نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
    وقوله {بما كانوا يفسقون} الباء هنا باء السببية، يعني: بسبب فسقهم وخروجهم عن قول الله تعالى وعن أمره وشرعه، عذبهم الله بهذا العذاب المؤلم الشديد، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليهم طاعونا عذابا لهم.
    وأخرج أحمد ( 1/402 ): عن ابن مسعود ] عن النبي [: « ما ظهر في قوم الربا والزنا، إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل «. وانظر الفتح لابن حجر ( 10/193).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(3)

    -{وأتـوا البيــوت مـن أبوابـها}

    اعداد: الفرقان


    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    الباب الثاني: باب في قوله تعالى: {وليس البر ...}.
    2124- عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولَ: كَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَرَجَعُوا لَمْ يَدْخُلُوا الْبُيُوتَ إِلا مِنْ ظُهُورِهَا، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ بَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (البقرة: 189).
    الشرح :
    الباب الثاني هو في تفسير قوله تعالى: {وليس البر بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، وهي الآية التاسعة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة، وقد روى الإمام مسلم فيها حديث البراء رضي الله عنه : أن الأنصار كانوا إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها وليس من أبوابها , فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . وقد رواه البخاري في الحج ( 1803) وفي التفسير.
    وما جاء في هذا الحديث: هو عادة كانت عند أهل الجاهلية من الأنصار، وجاء مرسلا: أن سائر العرب كانوا كذلك إلا قريشا، فروى ابن خزيمة والحاكم: عن جابر ] قال: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من الأبواب، فبينما رسول الله [ في بستان فخرج من بابه فخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة رجل فاجر، فإنه خرج معك من الباب، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال: «إني أحمسي» قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله هذه الآية.
    فهذه العادة وهي أن أحدهم إذا حج أو جاء من سفر، كما في إحدى الروايات -وهي رواية أبي داود الطيالسي – «أن الأنصار كانوا إذا قدموا من سفرهم» وهذا أعم، يعني سواء كان حجاً أم غيره من الأسفار، فإذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من جهة الباب، وإنما من الجهة الخلفية للبيت؟! فنزلت هذه الآية, التي يأمرهم الله فيها بأنهم إذا جاء أحدهم من السفر أن يدخل من الباب، ولا يدخل من ظهر البيت.
    وقيل: كانوا يفعلون هذا الأمر في الحج؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم إذا أحرم، لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، فكانوا يتسنّمون ظهور بيوتهم، وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين، كما روى ذلك الزهري وغيره عند الطبري في التفسير.
    وروى عبد بن حميد بسند صحيح – كما في الفتح 3/622- عن الحسن - رحمه الله - قال: كان الرجل من الجاهلية يهم بالشيء يصنعه، فيُحبس عن ذلك، فلا يأت بيته من قبل بابه، حتى يأتي الذي كان يهم به.
    قال الحافظ ابن حجر معلقا: فجَعل ذلك من باب الطيرة، وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام انتهى.
    قوله: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ بَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ» أي: أنكروا عليه، لماذا لما رجع من الحج دخل من بابه ولم يدخل من ظهر البيت؟ وخالف ما كان عليه الناس في الجاهلية، فقيل له: لم تخالف؟
    فعند ذلك ذكر للنبي [، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهذه الآية فيها فوائد أخرى منها:
    1- أن كل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله عز وجل، فهي باطلة مردودة عليه، فأهل الجاهلية من الأنصار وغيرهم كانوا يتعبدون الله بهذا الفعل، فإذا جاء الرجل من الحج لم يدخل منزله من الباب، وإنما يدخل من خلف البيت؟! وإن لم يكن للمنزل باب آخر تسور السور، كما جاء في رواية بن أبي حاتم وغيره أن الرجل كان يتسوّر السور، إذا لم يكن للبيت إلا باب واحد. فمثل هذا التكلف وهذا الفعل الذي يربطونه جهلا بعبادة الحج أو غيرها، هو فعل لم يأذن الله تعالى به، ولا كلّف عباده به أيضا، ولهذا فهو مردود على فاعله.
    فنأخذ من هذا قاعدة شرعية عظيمة، دل عليها حديث المصطفى [: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» متفق عليه. أي: مردود على صاحبه؛ لأن الأصل في العبادات التحريم، ولا يجوز لإنسان أن يشرع لنفسه عبادة ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولا برهان.
    2- قال أهل العلم: إن هذه الآية فيها توجيه وإرشاد للخلق: أن الأمر إنما يؤتى من بابه، ولا يؤتى من المكان البعيد، فأنت إذا أردت الأمر فاته من بابه القريب، ولا تأته من بابه البعيد؟! لأن هذا أرفق بك وبمن معك، فتقصير الطريق تخفيف ورحمة وحكمة ورفق. فالإنسان إذا أراد العلم مثلا، فإنه يأتيه من أبوابه التي نبه عليها العلماء، فيتعلم العلم من أهل الاختصاص، ويقرأ عليهم الكتب العلمية النافعة، ويحرص أولا على الشيخ القريب عنده قبل البعيد، فلا يذهب إلى الشيخ البعيد عن داره أو بلده وهو قادر على القريب، ولهذا كان من هدي السلف رحمهم الله: أن الواحد منهم لا يرحل عن بلده لطلب العلم، إلا بعد أن يأخذ عن شيوخ أهل بلده جميعا، فيستنفد ما عندهم من العلوم والروايات، ثم بعد ذلك يرحل إلى البلد البعيد لاستكمال الطلب، فهذا التوجيه الرباني نافع في مثل هذا، بألا يأتي المسلم الأمر البعيد، ويترك القريب، إلا لمانع، كأن يكون علماء بلده مثلا: من أهل البدع والأهواء.
    وهذا أمر دلت عليه أيضا الفطرة المستقيمة، والعقل السليم، فلا يطول الإنسان الطريق على نفسه من غير داعِ ولا حكمة ولا مصلحة، لأنه أمر ترفضه الفطرة ويرفضه العقل الصحيح.
    3- قول الله عز وجل في تمام الآية: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} أي: اتقوا الله سبحانه وتعالى، فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه، {لعلكم تفلحون} أي: في الدنيا والآخرة، والفلاح هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، فأنت إذا أخذت بقول الله، وبأحكام شريعة الله تعالى، فإنك تصيب كل خير وصلاح.
    4- وأيضا: هذه الآية تدل على وجوب الالتفات إلى أمور البر، وأعمال الخير التي شرعها الله عز وجل، دون غيرها مما لم يشرع، فهذا الواجب علينا معاشر المسلمين. أما إن تعبدت الله بعباده لم يشرعها الله عز وجل، فإنك حتما ستترك ما شرع الله، وتشتغل بالبدع والمحدثات؟! وتترك السنن التي سنها الله ورسوله [ للأمة، وهذا ضلال، وإتيان للأمر البعيد الصعب، وترك للقريب السهل؟!
    ولا يخفى أن في الاشتغال بما أنزل الله وبما شرع، غنية وكفاية عما أحدثه الناس من البدع والأمور المحدثة التي لا دليل عليها ولا برهان، والحمد لله الذي أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(4)

    ليـس الخـبرُ كالمعاينـة



    اعداد: الفرقان





    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    باب: في قوله تعالى: {رب أرني كيف تحيي الموتى}
    فيه حديث أبوهريرة ] وقد تقدم في كتاب الفضائل ( 1608)
    الشرح: باب: في قوله تعالى {رب أرني كيف تحي الموتى} وهذه الآية الستون بعد المائتين من سورة البقرة يقول الله عز وجل {وإذا قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تُؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فَخُذ أربعةً من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم}. هو سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه في طلبه لرؤية كيفية إحيائه الموتى.
    قول المنذري: فيه حديث أبي هريرة ] وقد تقدم في الفضائل. والحديث لفظه: أن رسول الله [ قال: « نحن أحقّ بالشك من إبراهيم، إذ قال {رب ارني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وقال: «ويرحمُ الله لوطاً لقد كان يؤوي إلى ركن شديدٍ، ولو لبثت في السجن طولَ ما لبث يوسف، لأجبتُ الداعي».
    وهذا الحديث أورده الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وأيضا أعاده في كتاب الفضائل.
    وأما معنى الآية والحديث: فهو أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه عز وجل فقال: {رب ارني} يعني: اجعلني انظر كيف تحيي الموتى، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى، ولا يجوز أن نظن بنبي من أنبياء الله، بل بخليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، وهو معصوم عن الكبائر، أنه كان يشك في أن الله عز وجل يحيي الموتى أو لا يحييهم؟! بل الصحيح أنه كان يعلم علم اليقين أن الله تعالى يحيي الموتى، وكما قلنا: إن الرجل الصالح منا لا يشك في إحياء الله تعالى الموتى، فكيف بنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟!
    لكن المقصود: أن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، من العلم اليقيني إلى المعاينة بالبصر، فيريد أن يرى بعينيه كيف يحي الله الموتى، وقد صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث الصحيح: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه أحمد والطبراني في الأوسط.
    فأنت إذا أخبرك إنسان بخبرٍ وأنت مصدّق له، لا يكون تأثيره عليك كما لو إذا رأيته بعينك، هكذا جبلت النفوس البشرية، ولهذا جاء في تتمة حديث: «ليس الخبر كالمعاينة» قال: «إن الله أخبر موسى بما صَنعَ قومُه في العجل، فلم يُلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت».
    فإبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو أبو الأنبياء، وإمام التوحيد، وكل الأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا من نسله عليه الصلاة والسلام، أراد أن يرى كيف يحيي الله الموتى وأن ينظر إلى ذلك، فقال الله تعالى له {أولم تؤمن قال بلى} وهذا ما يؤكد إيمانه بالله وباليوم الآخر، وبقدرته سبحانه على إحياء الموتى {قال بلى} ولكن ليطمئن قلبي لأزداد إيماناً ويقينا، قال الله عز وجل له {فخذ أربعة من الطير} وخص الطير بذلك، قالوا: لأن الطائر من أظهر المخلوقات وأبينها وأوضحها دليلا على الإحياء والبعث {فخذ أربعة من الطير} ولا يهمنا ما هي هذه الطيور؟ وما هي أنواعها؟ وهل هي في الحرم أو في غيره؟ هذا كله ليس بمهم، ولذلك لم يذكر الله سبحانه وتعالى أسماء الطيور، ولا حاجة لنا في أن نخوض في أسمائها ولا في أنواعها.
    فالمقصود أن الله تعالى أمره أن يأخذ أربعة من الطير، يعني أربعة أنواع من الطير أو أربعة أشكال مختلفة، سواء كانت من الحمام أو من غيره من الطيور، وأمره بأن يقطعهن فقال: {فصرهن إليك} أي: اجمعهن إليك بحيث تراهن بعينك، ثم قطعهن ومزقهن، واخلط هذه الطيور بعد تقطيعها بريشها وعظامها ولحمها وعصبها {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} أي: اجعل على رأس كل جبل من هذه الطيور جزءا {ثم ادعهن} أي: ناديهن، أي: نادي هذي الطيور تحصل لهن الحياة سريعا، ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فجمع أربعة طيور وقطعها وخلط عظامها بلحمها بدمها بريشها، ثم جعل هذا الخليط أربعة أجزاء، فوضع كل جزء منها على جبل، ثم بعد ذلك نادي هذي الطيور، فقامت العظام والتأم كل عظم إلى صاحبه، وكل بدن إلى صاحبه، فجاء اللحم إلى هذا الطير وهذا اللحم إلى ذاك الطير، وركب الريش كل ريشة في الطائر الذي يخصه، وإبراهيم عليه السلام ينظر إلى ذلك بعينيه، وجاءت الطيور طائرة إليه.
    وقوله {يأتينك سعيا} يعني طائرة بقوة وبحياة كاملة، وربما تكون ماشية على الأقدام، فالمقصد أنها جاءته [ حية بعد موتها، ثم قال الله تعالى {واعلم أن الله عزيز حكيم} أي: عزيز لا يغلب، ولا يرد أمره سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يمتنع على الله سبحانه وتعالى شيء، بل كل شيء منقاد لعزته، لأنه عز وجل عزيز.
    وهو حكيم في ذلك، فلا يفعل شيئا إلا لحكمة، ولا يترك شيئا إلا لحكمة، فالبعث كائن لحكمة عظيمة، كما قال سبحانه {إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} (يونس: 4).
    وقال تعالى {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى} (النجم: 31 ). فهذا من أعظم حكم البعث، أن الله سبحانه وتعالى يجمع العباد لأجل أن يجازي كل عامل على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
    فالحاصل: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قلنا لا يجوز أن نعتقد انه شك في قدرة الله على إحياء الموتى، فهذا ينافيه عصمة الأنبياء لا يجوز على الأنبياء الشك، لأن الشك في هذا نوع من الكفر، وهذا مما يتعارض مع عصمة الأنبياء، فإنهم متفقون على الإيمان بالبعث والنشور، ولا سبيل للشيطان عليهم كما هو معلوم، لأن النبي من الأنبياء معصوم من الشيطان، ولهذا لا يمكن أن يشك، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قلنا إنما سأل لأجل أن يشاهد كيفية إحياء الله تبارك وتعالى للموتى، وكيفية جمع الله تعالى لأجزاء الموتى المتفرقة من الأرض.
    فالإنسان إذا مات تفرقت أجزاءه، واضمحلت ذهب اللحم وذهب العصب، العظام، واختلطت بالتراب، فكيف يحصل إحياء الله تعالى للموتى، فهذا من العجب العجاب، ولكن الله عز وجل يخبر بأنه عزيز قادر على كل شيء، وأراد إبراهيم عليه السلام أن يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين.
    وقول الرسول [: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» يعني إن كان إبراهيم \ قد شك في إحياء الله للموتى، فنحن أحق بالشك منه، وهذا قاله دفاعا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن إبراهيم لم يكن ليشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وإنما هو قال ذلك لأجل أن يرى ذلك بعينه، فينتقل - كما قلنا - من علم اليقين إلى عين اليقين.
    وقال بعض أهل التفسير إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، فروى ابن أبي حاتم: عن ابن المنكدر: أنه قال التقى عبدالله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقال: ابن عباس لابن عمر: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ - أي: ما هي أرجى آية عندك؟ فهي من أرجى الآيات التي تتكل عليها وتطمع من خلالها برحمة الله - فقال عبد الله بن عمر: قول الله عز وجل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} فقال ابن عباس: لكني أنا أقول {َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى }فرضي من إبراهيم قوله: بلى.
    فهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: إذا كان الله تبارك وتعالى لم يؤاخذ إبراهيم على سؤاله: كيف تحيي الموتى؟ فهذا دالٌ على سعة رحمته جل جلاله، ومغفرته لعباده، وأن انه عز وجل لا يؤاخذ عباده ولا يحاسبهم لو طرأ عليهم شيء من الشك العارض، فإن الله تبارك وتعالى يعفو عنه، ولكن من علِم قدرة الله عز وجل العظيمة العجيبة، التي لا يعجزها شيء، أيقن بأن البعث واقعٌ لا محالة، فالأمر هين عليه، كما قال سبحانه {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدة} (لقمان: 28).
    فجميع الخلق على كثرتهم واختلافهم وتنوعهم، إنما خلقهم وبعثهم بعد موتهم وتفرقهم، كنفس واحدة، بلمح البصر، وهذا مما يحير العقول والألباب!
    قال بعض السلف: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، فلكم في ذلك آية في كل يوم وليلة.
    أي: الموت والبعث حاصل لك كل يوم، فأنت تتوفى وتنقطع عن الدنيا كل يوم، فالإنسان إذا نام ينقطع عن الحياة، فلا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يأكل ولا يشرب، ولو ناديته لا يجيب، ولو حذرته لا يستجيب، ولا يكتسب شيئا من الأعمال، فكأنه ميت، وقد سمى الله سبحانه وتعالى النوم وفاة، في قوله {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الزمر: 42).
    والاستيقاظ من النوم نوع من البعث، هو نوع من البعث الذي يحصل في كل يوم وليلة، وهو من آيات الله تبارك وتعالى، ودليل عقلي واضح على المعاد، وصحّ عن النبي [: أنه كان إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، واليه النشور» رواه البخاري في الدعوات (6312، 6314).
    فقوله « وإليه النشور» أي: البعث يوم القيامة، يقال: نشر الله الموتى فانتشروا، أي أحياهم فحيوا، كما في قوله {ثم إذا شاء أنشره} (عبس).
    فقيامك من النوم إذن هو نوع من رجوع الحياة لك بعد الموت، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(5)

    لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها

    اعداد: الفرقان



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    باب: في قوله تعالى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}
    2125. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: َفاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ نَعَمْ: رَبَّنَا {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ.
    الشرح:
    الباب الرابع من كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري هو في قوله تبارك وتعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} الآية من أواخر سورة البقرة، وقد روى فيها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، حديثا في سبب نزولها، وقد أخرجه مسلم في الإيمان ( 125). والحديث أنه:
    لما نزل على رسول الله [ أولها، وهو {لله ما في السموات وما في الأرض} أي: لله سبحانه وتعالى ما في السموات وما في الأرض مُلكاً وخلقا، فالجميع خلقه والجميع عبيده، والجميع ملكه، فرزقهم على الله، وتدبيرهم على الله، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا، إلا ما شاء الله، ثم قال تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}، لما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله [، وشقّ عليهم، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحاسبهم على ما أخفوا في الضمائر، فيحاسب الإنسان على ما أسر في نفسه، أي: ما جال في صدره، وخطر في قلبه من الخواطر، يحاسبه الله عليه، فكانت هذه شديدة على الصحابة؛ لأنه ما من إنسان، إلا ويخطر في باله أشياء قد يفعلها وقد لا يفعلها.
    ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: «يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها «فقولهم» ولا نطيقها» يعني: كيف يحاسبنا الله سبحانه وتعالى على ما نحدث به أنفسنا، ولا يسلم أحدٌ من البشر من ذلك ؟!
    لكن النبي [ حذّرهم من مشابهة أهل الكتاب الذين كانوا يقولون: سمعنا وعصينا، أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، فكانوا يسمعون أوامر الله ثم يخالفونها عمدا! فقال: « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا» أي: استجيبوا لله سبحانه وتعالى، وانقادوا لأمره، وقولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
    ولما طلب منهم رسول الله [ ذلك، استجابوا وقرأوه بألسنتهم، وذلوا لأمر الله سبحانه، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تبارك وتعالى، فأنزل هذه الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...} (البقرة: 286).
    - إذاً: فقول الله سبحانه وتعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}، هذا منسوخ؛ لأن راوي الحديث ينص على النسخ لفظا، وهذا لا يكون إلا بعلم من رسول الله [، والنبي [ أمرهم أن يأتوا بالسمع والطاعة لما أنزل الله عز وجل، فلما فعلوا ذلك ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الإيمان، واستسلموا لله، وهذا هو معنى الإسلام، هو الاستسلام لله عز وجل بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، بطاعته عز وجل فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، لما فعلوا ذلك، رفع الله عز وجل عنهم الحرج، ونسخ عنهم هذا التكليف. ومعلوم أن النسخ له طريقان: العلم به إما بخبر من الراوي أو بخبر من رسول الله [، وإما أن يعرف النسخ بالتاريخ، وقد اجتمعا في هذه الآية، فهذه الآية فيها نص الراوي على حصول النسخ، وفيها أيضا بيان ترتيب النزول وتاريخ الخبر؛ فإن هذه الآية فيها خبر لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} فهذا خبر عن التكليف والمؤاخذة بما تحدث بها أنفسها، ثم جاء الخبر برفع الحرج والمؤاخذة.
    ومن أهل العلم من قال: إنه لا نسخ في الآية؛ لأن الصحابة فهموا شيئا لا يريده الله تعالى، فقالوا: إنما أخبرهم الله عز وجل أنه يؤاخذهم بما تستقر عليه الأمور في نفوسهم، ولا يؤاخذهم بالخواطر العابرة؛ لأن ما استقر بالقلب صار همّاً وعزما، يؤاخذ به الإنسان، والله سبحانه وتعالى ما جعل في دينه من حرج، لا في الأوامر ولا في النواهي.
    فالحاصل أن الأمور التي تشق على النفوس، ليست هي من دين الله عز وجل؛ لأنه ليس في دين الله عز وجل تكليف بما لا يطاق.
    لكن الحديث يدل على حصول النسخ، وأنهم لما أمروا بذلك وشق عليهم، رفع الله تعالى عنهم ذلك، لما ذلوا لله وانقادوا لله سبحانه وتعالى.
    وهاتان الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه...ِ} (البقرة: 285 - 286)، هما آيتان عظيمتان، وقد جاء في الحديث أنهما نزلتا من كنز تحت العرش، وورد في الحديث: « أنهما لا تقرأن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال «. وورد في الحديث عند مسلم أيضا: «من قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كفتاه «. قال أهل العلم: أي كفتاه من كل شر. وقال بعضهم: كفتاه من قيام الليل؛ لعظمة ما في هاتين الآيتين.
    وأما المعنى الإجمالي لهاتين الأيتين: فأولا ابتدأ الله تعالى قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ} ابتدأه بالشهادة لرسوله عليه الصلاة والسلام بإيمانه بما أنزل إليه من ربه، وصار كالمؤمنين في ذلك الإيمان، فالمؤمنون شاركوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الإيمان بما أنزل إليه من ربه، ومن آمن بما أنزل إليه من ربه، فقد ضمن إعطاءه ثواب الإيمان من الله عز وجل. وقال أهل العلم: إن إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بما أنزل إليه من ربه، هو زيادة على ثواب الرسالة والنبوة، لأنه شارك المؤمنين في الإيمان، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة. وقوله تعالى: {بما أنزل إليه من ربه} يتضمن أن القرآن كلام الله، ومنه نزل لا من غيره، كما قال تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بالحق} (النحل: 102). وقال {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة: 80).
    ثم شهد تعالى للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم من الإيمان بالله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله، وهذه قواعد الإيمان الخمسة التي لا يكون أحدٌ مؤمنا إلا بها، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا {لا نفرق بين أحد من رسله} أي: لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ لأنهم لو فعلوا ذلك ما نفعهم إيمانهم بالله، فلو آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم ما نفعهم الإيمان؛ ولذلك هم لا يفرقون في الإيمان بين أحد من رسله؛ لأن الجميع جمعتهم الرسالة الإلهية، فالذي يفرق بينهم يكون مؤمناً ببعض كلام الله كافرا ببعضه، مصدقا ببعض كلام الله مكذبا ببعضه. وتضمنت أيضا هذه الآية: الإقرار بركني الإيمان الذي لا يقوم الإيمان إلا بهما: وهما أولا: السمع {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} فالسمع هاهنا بمعنى القبول، لا مجرد سماع الصوت لأن سماع الصوت أمر مشترك بين المؤمنين والكافرين، لكن قولهم: سمعنا، بمعنى: قبلنا.
    الركن الثاني: الطاعة {وأطعنا} أي: انقدنا لأمر الله سبحانه وتعالى، وامتثلنا أمره، وهذا عكس عمل الأمة الغضبية، وهم اليهود الذين قالوا: سمعنا وعصينا. ثم قالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير} لما علموا أنهم لن يوفوا مقام الإيمان حقه من الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم، بل لا بد أن تحصل منهم غلبات الطباع، والدواعي البشرية للوقوع في بعض التقصير في واجبات الإيمان، وعند ذلك لا بد لهم من مغفرة الله سبحانه وتعالى لهم.
    {وإليك المصير} مصيرهم ومردهم الذي لا بد لهم منه، هو الرجوع إلى الله عز وجل، وهو المرجع لجميع الخلائق.
    ثم قال سبحانه وتعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، في هذه الآية نفى الله عز وجل ما توهموه، من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها، وبين أنهم غير مؤاخذين بمجرد الخواطر القلبية، وأخبر عز وجل أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. ودلت هذه الآية أيضا: على أن جميع ما يكلف به الإنسان في الإسلام هو مما يطيق؛ لأن الله تعالى قال في هذه الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، فهذا دليل على أن ما كلفك الله عز وجل به أنت مطيق له.
    وفيه ردٌ صريح على من زعم خلاف ذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر خلقه بعبادته، وضمن لهم أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يطيقون وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فهذا هو اللائق برحمة الله سبحانه وتعالى وفضله وبره وإحسانه وحكمته وغناه.
    ثم أخبر الله عز وجل أن هذا التكليف يعني أن هذه الأعمال الصالحة ثمرتها عائدة عليهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يستغني بكسب العباد شيئا، ولا يتضرر بتركهم للاكتساب، فقال تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فلا يتضرر الله عز وجل بتركنا للأعمال الصالحة، بل الكسب نفعه لنا وتركه ضرره علينا، فمن رحمة الله عز وجل أن أمر عباده بما يحتاجونه، ونهاهم عما يضرهم، فهذا من رحمة الله وإحسانه.
    وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} دليل على أن الإنسان لا يؤاخذ بكسب غيره، بل أنت مسؤول عن عملك ولست مسؤولا عن كسب غيرك.

    وأيضا: أنت لا تأخذ كسب غيرك ونفعه وثوابه، بل كل إنسان يأخذ ثواب عمله هو، فلا الأبناء يأخذون اكتساب آبائهم، ولو كانوا أبناء الأنبياء فإنهم لن يأخذوا ما اكتسب آباؤهم من الأعمال الصالحة، والدرجات العالية، والعكس أيضا صحيح، فلا يضرهم ما فعل آباؤهم، كما قال الله عز وجل: {ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال عز وجل: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 39).
    وأيضا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ردٌ على الجبرية الذين يقولون: الإنسان ليس له فعل ولا كسب، وأنه مجبور على عمله ؟! فهذا فيه إثبات الكسب، وأن الإنسان يدخل في طاقته اكتساب الأعمال الصالحة.
    ثم قال عز وجل: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، كما قلنا لما كلف الله سبحانه وتعالى عباده بما هو عبارة عن عهود ووصايا وأوامر يجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يقصر العبد في شيء منها، لكن الإنسان تغلبه طباعه أحيانا التي فيها النسيان والخطأ والضعف والتقصير والغفلة؛ لذلك أرشدهم الله عز وجل أن يسألوه مسامحتهم، وأن يغفر لهم فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا}.
    ثم قال {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} والإصر هو العهد الثقيل، {كما حملته على الذين من قبلنا} فالله عز وجل قد شدد على بعض الأمم، بعصيانهم وفسوقهم وخروجهم عن الطاعة، كما شدد الله عز وجل على أهل الكتاب فقال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً} (النساء: 160). فسألوا الله عز وجل التخفيف، ثم سألوه سبحانه وتعالى العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، وهذه الأربعة تتم بها النعمة المطلقة، فسألوه سبحانه وتعالى أولا العفو والمغفرة، والعفو يعني ترك المؤاخذة على ما فعلوا من سيئات، والمغفرة تعني محو ما بدر منهم من السيئات، والرحمة معروفة وهي تطلق على أشياء كثيرة، ومن أعظمها الجنة، فالجنة أعظم رحمة خلقها الله سبحانه وتعالى، كما قال: {يدخل من يشاء في رحمته}، ثم سألوه النصر على الأعداء الكافرين به، فهذه الأربعة تتم بها النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح.
    وبالنصر على الأعداء يتمكن الإنسان من إعلاء دينه، ومن إعلاء كلمة الله عز وجل في الأرض ، فبالنصر يحصل قهر الأعداء، وشفاء الصدور منهم وذهاب غيظ القلوب، فتوسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء بأنه عز وجل مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه، وهو ناصرهم وهاديهم وكافيهم ومعينهم ومجيب دعواتهم سبحانه وتعالى.
    هذه كلمات مختصرة في معرفة مقدار هذه الآيات عظيمة الشأن، والتي خص الله سبحانه وتعالى بها محمدا [ وأمته من كنز تحت العرش، كما قلنا.
    وقد قال أهل العلم: أوتينا من العلوم والحكم والمعارف ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به.
    نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا وإياكم الفهم في كتابه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(6)

    -المحكم والمتشابه



    اعداد: الفرقان
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    2126. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ[: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .
    الشرح:
    الباب الخامس من كتاب التفسير ، باب قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (آل عمران : 7).
    وأورد في الباب، حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: تَلا رَسُولُ اللَّهِ[: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7). قالت: قال رسول الله[: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» هذا الحديث رواه الإمام مسلم، في كتاب العلم، وبوب عليه الإمام النووي: باب النهي من اتباع متشابه القرآن ، والتحذير من متبعيه ، والنهي عن الاختلاف فيه .
    ولكن لما كان له تعلقٌ بتفسير الآية ، جاء به الإمام المنذري في كتاب التفسير هاهنا .
    قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فيه أن القرآن نزل من عند الله تعالى ، لا من عند جبريل عليه السلام، ولا من الرسول محمد[، وقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الإحكام له معنيان: فأولا: كتاب الله سبحانه وتعالى محكم كله، بل في غاية الإحكام، بمعنى في غاية الإتقان والحسن ، والبلاغة والبيان، كما قال سبحانه: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)، فهو كتاب عظيم محكم، مشتمل على الغاية في الحكمة والعدل والإحسان ،كما قال سبحانه وتعالى: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50).
    والمعنى الثاني : أن القرآن منه آيات محكمات، يعني: واضحات الدلالة، ليس فيها اختلاف، ولا شبهة ولا إشكال، ولا التباس على أحد، لأنها واضحة الدلالة جدا.
    وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: هي معظمه وأكثره، وهي أصله الذي يرجع إليه ما تشابه من الكتاب.
    وأما المتشابه فكذلك، فالقرآن أولا: كله متشابه من حيث أن آياته متشابهه من حيث المعنى العام، وما تدعو إليه من التوحيد والأخلاق الحسنة، والمبادئ الفاضلة، ومن حيث الإتقان والحسن والبلاغة، فالقرآن يصدق بعضه بعضا ، لفظا ومعنى.
    وهناك تشابه بمعنى آخر : وهو الذي قصده الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، وهو الذي ورد ذكره في الحديث ، وهو أن في القرآن (آيات متشابهات) أي: يلتبس معناها على كثير من الناس؛ لأن دلالتها مجملة وخفية، ومحتملة لأكثر من معنى، فيلتبس معناها على كثير من الناس، فتحتاج في تفسيرها إلى الرد إلى المحكم الواضح، لفهم المراد منها، وأكثر القرآن محكم - كما قلنا - وواضح الدلالة، لا إشكال ولا التباس فيه ، وفيه آيات تشكل على بعض الأذهان ، فالواجب على المسلم الذي يريد الحق، أنه إذا التبست عليه آية من كتاب الله ، أن يردها إلى الواضح ، أي : يرد المتشابه الذي التبس عليه معناه ، وأشكل عليه فهم المراد منه ، يرده إلى الواضح المحكم ،كي يفهم المعنى المراد ، لأن كتاب الله ،كما قلنا يصدّق بعضُه بعضاً ، ويبين بعضه بعضا، فإذا فعلت ذلك زال عنك الإشكال بحمد الله ، وانتفت عنك المعارضة والمخالفة ، وهو ما حكاه الله عن أهل العلم والاستقامة على الصراط المستقيم .
    وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي : في قلوبهم زيغٌ وميل عن الاستقامة ؛ لأن لهم مقاصد فاسدة، وقد انحرفوا عن الصراط المستقيم، وابتعدوا وضلوا، فقلوبهم فيها زيغ، يعني: فيها انحراف، والانحراف قد يكون بالنية والقصد.
    وقد يكون الزيغ والانحراف في طريقة فهم الآيات ، وفي المنهج الذي يسير عليه هذا الإنسان لمعرفة المعنى .
    قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ي : يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه ، يتركون الواضح الجلي، ويذهبون إلى الذي فيه التباس وإشكال، وهذا عكس ما عليه أهل الإيمان والعلم .
    وهكذا قوله[ في الحديث هنا : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه» .
    قال تعالى : {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ فلو سأل سائل: لماذا يفعلون ذلك؟! فالجواب: قصدهم الفتنة، وصدّ الناس عن الحق الذي تضمنه كتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأن المحكم الصريح الواضح، لو ترك على حاله لاهتدى به الخلق، لكنهم يقصدون صد الناس عن سبيل الله بالمتشابه ابتغاء الفتنة .
    قوله: {وابتغاء تأويله} أي: تأويلا فاسداً، وتفسيرا محرفا ، وصرفه عن المراد منه .
    قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فيها قولان لأهل العلم: فمن المفسرين من قال بالوقوف على لفظ الجلالة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وهم أكثر أهل العلم.
    وبعضهم يصل الآية ويعطف فيقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
    وهو محتمل للأمرين، فإذا قصد بالتأويل حقيقة الشيء، أو ما يؤول إليه الأمر ، فإن الصواب الوقوف عند لفظ الجلالة ، فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأشياء عن الجنة والنار ، وما يكون عليه الحال يوم القيامة ، وهذه أمور مسلم بها ومعروف معناها ، لكن كيف تكون ؟! ما حقائقها ؟ وما كيفياتها وصفاتها ؟ فحقائق هذه الأشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .
    وأما إذا قصدت بالتأويل في: {وما يعلم تأويله} معنى تفسيره والمراد منه، فأهل العلم يعلمون تفسيره ومعناه ، لا سيما أهل العلم الراسخين في العلم ، والراسخون في العلم هم الثابتون المستقيمون على الحق، الذين ليس من حالهم التغير والتقلّب ، كحال أهل البدع والأهواء ، عافانا الله من ذلك ، بل هم راسخون في العلم ، ثابتون على طريق الله عز وجل وعلى دينه ، فعلمهم راسخ ثابت ، نسأل الله عز وجل أن يثبت قلوبنا على دينه ، فهؤلاء أيضا يعلمون معنى كتاب الله سبحانه وتعالى، ولهذا يجوز أن تصل {والراسخون في العلم} ولا تقف عند لفظ الجلالة .
    أما التأويل الذي هو بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤل إليه ، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، كحقائق اليوم الآخر، وكيفيات صفات الله عز وجل، التي لم يطلعنا الله عليها ، فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفيات صفاته ، ولا حقائق أوصافه، وكذلك حقائق يوم القيامة، ولهذا لما قال السائل لمالك رحمه الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، كيف استوى؟ أنكر الإمام مالك هذا السؤال، وقال: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول - أي كيفية الاستواء مجهولة بالنسبة لنا ، ولا يجوز لنا السؤال عنها - والسؤال عنها بدعة ، وأمر بطرد هذا الرجل. لأنه من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
    فالسؤال عن كيفيات الأسماء والصفات بدعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن أسمائه وصفاته ولم يخبرنا بكيفياتها، فيجب الوقوف على ما حد خبر الله تعالى لنا، أما أهل الزيغ فإنهم يتبعون الأمور المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، أما الراسخون في العلم فيعلمونها ويؤمنون بها .
    ويقولون آمنا به فهم يؤمنون بهذه الآيات، ويكلون علم حقائقها إلى الله تعالى ، فَيُسَلِمون ويَسْلمون، فأنت لا تَسْلَم حتى تُسلِّم ، كما قال السلف:لا تَسْلَم في آيات الصفات وأحاديثها، حتى تُسَّلِم ، فإذا سَلّمتَ سَلِمت ، وإذا لم تُسَلِّم لم تَسْلَم.
    قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يعني: المحكم والمتشابه كله من عند الله عز وجل، وليس فيه تعارض، ولا تناقض، بل هو متفقٌ، يصدّق بعضه بعضا، ويشهد لبعضه البعض، ولهذا عندنا أصل كبير ، وهو: أنه إذا حصل التباس في فهم آية ، رددناه إلى المحكم من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله[.
    وهل في كلام النبي[ محكم ومتشابه؟ الجواب: نعم، فيه كذلك محكم ومتشابه، فهناك أحاديث واضحات الدلالة صريحة، لا لبس فيها ولا إشكال ، وهناك أحاديث قد تشكل على بعض الناس أحيان ، فالخلاص من الإشكال، هو رد هذه الأحاديث المشكلة إلى الأحاديث الواضحة ، التي لا إشكال فيها، ولا لبس ، ولا غموض فيها.
    قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) وما يذكر من التذكر، الذي هو من الذكرى، وهي الموعظة والتذكير، أي: لا يتعظ بأوامر الله ونصحه وإرشاده إلا أهل العقول ، وهم أولوا الألباب ، أهل العقول الراجحة الرزينة ، لأن العاقل هو الذي دُلّ على ما ينفعه اتبعه وفعله ، وإذا حذّر مما يضره تركه ، لكن صاحب العقل الضعيف لا يستجيب ، فلو عندك طفل صغير ، فلا ينفع معه أن تقول هذا ينفعك وهذا يضرك، لأن عقله ضعيف ، وهكذا بعض الخلق تقول له: هذا ينفعك، وهذا حلال، وهذا حرام ، هذا يجلب لك غضب الله ، هذا يجلب لك لعنة الله ، فلا يستجيب .
    وهو ليس بمجنون بل قد يكون ذكيا ، وقد فرق أهل العلم بين الذكاء وبين العقل، فالعقل هو الذي يمنعك مما يضرك، ويحثك على ما ينفعك، وهناك أذكياء اخترعوا الذرة والصاروخ، والأجهزة الدقيقة، وفعلوا وفعلوا، ولكن لم يستجيبوا للإيمان ولا ينقادون لله عز وجل ، ولا لرسوله[، ولذلك هم بحكم الشرع ووصف القرآن (قوم لا يعقلون) (لا يعلمون ) هذا وصفٌ الله عز وجل لهم في الكتاب، وقال: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} (سبأ: 6-7 ) أي : يبتغون الظاهر من الحياة الدنيا، وما يظهر لهم بالسمع ، والبصر ، وبالذوق ، وبالحس ، فيأخذون بالأسباب الحسية فقط، ولا ينظرون إلى مسبّب الأسباب، {وهم عن الآخرة غافلون} لأن قلوبهم وإراداتهم متوجهة للدنيا وشهواتها فقط .
    ومما يجب التنبه له: أن أسماء الله عز وجل وصفاته الثابتة بالكتاب والسنة ليست من المتشابه، كما أراد أهل البدع أن يدخلوها فيه؟! فصفات الله عز وجل الثابتة بالقرآن أو بالسنة الصحيحة ليست من المتشابهات، لأنها واضحات المعاني، أي مفهومة لغةً ومعنى، لكن المتشابه من الأسماء والصفات، هو الكيفيات فقط، والله عز وجل علمنا كيف نرد التشبيه بكلمة إجمالية، وكيف نثبت بكلمة إجمالية أيضا ، فقال سبحانه وتعالى في نفي التشبيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: {ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 4)، كفوا، يعني: كفؤا،كما في بعض القراءات يعني: مكافئا، أي: ليس لله عز وجل مكافئ ، ولا مشابه ولا نظير.
    وكذلك الإثبات في قوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ([الشورى : 11) إثبات لصفتي للسمع والبصر ، فلا يثبت لك الإيمان بالله عز وجل، إلا بنفي وإثبات، فكما أنك لا تشهد لله عز وجل بالوحدانية إلا بنفي وإثبات ، فتقول : لا إله إلا الله، لكن إذا قلت وسكت: (لا إله) لا تكون مؤمنا؟! لو قلت: الله إله وسكت ؟لم تكن مؤمنا، وكذلك لو قلت : (ليس كمثله شيء) ووقفت عند ذلك، لا يتم الإيمان، وهذا واقع فيه المعتزلة وأشباههم ، فإنهم بالغوا في النفي فقالوا: ربنا ليس بكذا ولا في داخل العالم، ولا في خارج العالم، وليس فوقنا، وليس بكذا، وليس بكذا، لكن أين الإثبات؟ وأين الإيمان؟ لا إثبات ولا إيمان؟! بل إذا قالوا: هو السميع البصير! إذا سألهم سائل: هل تؤمنون أن السميع معناه الذي يسمع؟ يقولون : لا، ويقولون: هو البصير ، فتسألهم: هل هو الذي يبصر؟ يقولون: لا؟! وهكذا قولهم في الرحيم والعليم والحكيم.. وهو تناقض عظيم لا تقبله العقول .
    قال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قولكم سميع بلا سمع؟ بصير لا بصر؟ عليم بلا علم؟ حي بلا حياة؟ كقول الإنسان: هذا حلو بلا حلاوة ، مرٌ بلا مرارة، قوي بلا قوة، جميل بلا جمال؟! وهذا نوعٌ من الجنون والهذيان، وعدم العقل عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسوله [، ولذلك قال السلف -رحمهم الله جميعا-: «صفات الله عز وجل معناها وعلمها، ليس من المتشابه، بل المتشابه هو الكيفيات فقط».
    وقول النبي[: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» فيه: التحذير من أهل البدع والأهواء.
    قال الإمام النووي -رحمه الله-: وفيه التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات بالفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه منها بالاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس عليه ، وجوابه واجب انتهى
    إذن الأول لا يجاب، أي الذي يسأل عن المتشابه لأجل الفتنة، هذا لا يجاب ! بل يهجر ويعزّر؟! كما عزّر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسل، حين كان يتتبع المتشابه، فقد جاء إلى المدينة وهو يتتبع المشكلات والمتشابهات من الآيات، فبلغ ذلك عمر، وأنه يشكك الناس، ويسأل عن أشياء، فدعاه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ! فضربه عمر على رأسه بالدَّرة – وهي عصاه - وقال له : أنا عبد الله عمر! فلم يزل يضربه ويعيده إلى الحبس ، حتى قال له صبيغ: والله لقد شفاني الله عز وجل! أي تأدب بذلك، فأمر بإخراجه من المدينة ، ونفاه إلى الكوفة ، ونهى الناس عن مجالسته ، حتى تاب إلى الله سبحانه وتعالى من هذا المسلك ، وهو اتباع المتشابه والتشكيك ، والذي يسلكه بعض الكتاب اليوم، للأسف الشديد، في الجرائد والفضائيات، فيشكك بالآيات والأحاديث، وبأصول الدين، التي لا يعرف فيها اختلاف، صارت محل تشكيك مستمر عند بعض من ينتسب للإسلام، فأمثال صبيغ بن عسل اليوم كثر والعياذ بالله منهم .
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا لما يحب ويرضى .
    وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(7)

    من أحب أن يُحمَد بما لم يفعل





    اعداد: الفرقان
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    باب في قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
    2127. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: « أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ [، كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ [ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ [، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ [ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ}.
    2128. عنَّ حُمَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ لِبَوَّابِهِ، إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُالْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ ! إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} هَذِهِ الْآيَةَ وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمْ النَّبِيُّ [ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْه ُ.
    الشرح:
    الباب السادس من مختصر الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله، للحافظ أبي بكر المنذري رحمه الله، هو في قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ} (آل عمران: 188).
    ذكر فيه الإمام مسلم، حديث أبي سعيد الخدري، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب صفات المؤمنين وأحكامهم. وقول الراوي: نزلت في كذا وكذا، هذا نص في سبب نزول الآية، وأسباب النزول منصوص عليها بأقاويل الصحابة، وأحيانا على لسان الرسول [، وأسباب النزول تعين على فهم الآيات؛ لأن واقعة الحال تعين على فهم الآية النازلة فيها.
    فالذي كان من المنافقين في عهد رسول الله [ أنهم تخلفوا عنه في الجهاد، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم النبي [ من سفره، اعتذروا إليه وحلفوا له كذبا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 188).

    فيقول أبو سعيد الخدري: « إن رجالا من المنافقين في عهد الرسول [، كانوا إذا خرج النبي [ إلى الغزو تخلفوا عنه، وهذه صفة للمنافقين، ذكرها الله سبحانه وتعالى عنهم في كتابه أنهم يتخلفون عن الجهاد، ويكرهون الغزو في سبيل الله، مع رسول الله [، فكانوا يتثاقلون عن ذلك، ويميلون إلى الدنيا وشهواتها، ويكرهون الموت في سبيل الله، إذا دعت الضرورة إلى ذلك والحاجة، وإلا فالإنسان بطبعه يكره الموت ويدافع ذلك، لكن إذا حضر القتال الواجب، فإنه لا يجوز للإنسان أن يترك هذا الواجب كراهية الموت، قال تعالى عنهم: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} (التوبة: 81 – 82).
    فهم مع تخلفهم عن رسول الله في فرح وسرور! وهذا قدر زائد على المعصية؛ لأنه فرح ورضا بها.
    وقال أيضا: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} (التوبة: 86-87).
    والخوالف هم النساء المتخلفات عن الجهاد.
    وقال سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة: 38)، وغيرها من الآيات التي تبين حرمة التقاعس عن الجهاد في سبيل الله مع الإمام المسلم، خصوصا مع رسول الله [، فهذا أقبح وأشد حرمة، وكان المنافقون إذا تخلفوا فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، والحقيقة لو كانوا يعقلون: أن التخلف عن الرسول عليه الصلاة والسلام ذنبٌ ومعصية، فليس هو من الأمور التي يفرح بها الإنسان، وإذا فرح الإنسان بالمعصية، أو فرح بالذنب، دلّ ذلك على فساد قلبه، وضعف عقله وسفهه، وعدم علمه بعاقبة هذا الفعل، فالفرح الحقيقي إنما يكون بالطاعة والقربة والحسنة، وإنما يكون بالرحمة وفضل الله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58).
    وكانوا إذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ورجع من الجهاد، أو رجع من الغزوة اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا} ويتقدمون له بالأعذار الواهية، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم كاذبون، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتركهم ويعرض عنهم، ويستغفر لهم، وقد عاتبه الله تعالى فيه فقال: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43).
    ولما عفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام وظن أنهم أصحاب أعذار، أحبوا أن يحمدوا بذلك، وقد حمدوا بغير ما فعلوا وبغير حق، فنزلت الآية فيهم {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} أي: من ترك الجهاد والتخلف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويحبون أن يثنى عليهم بما لا يستحقون.
    قال عز وجل مهددا لهم {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} بمفازة يعني ينجاة من العذاب، أي: لا تحسبنهم بمنجاة من العذاب، بل لهم عذاب أليم.
    وهذه الآية يدخل فيها أهل الكتاب أيضا، كما في حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان - وهو ابن الحكم الأموي - كان أميرا على المدينة ومكة، قال: « اذهب يا رافع لبوابه» رافع هو اسم البواب أو الحاجب الذي كان يعمل عند مروان.
    قوله: «اذهب إلى ابن عباس رضي الله عنهما» وخص ابن عباس بالسؤال لأنه كان مشهورا بتفسير كتاب الله تبارك وتعالى، وذلك أن النبي [ دعا له كما في الحديث الصحيح: «اللهم علمه التأويل، وفقه في الدين» متفق عليه.
    قوله: « فقال له قل له لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون» أي: إذا كان كل واحد منا يفرح بما أتى من العمل الصالح، أو يفرح بما أعطاه الله تعالى من الخير ومن الفضل، ويكون في نفسه محبا أن يحمد بما لم يفعل، لكن يحب أن يحمد بين الناس، فهل هذا يكون سببا من أسباب العذاب؟!
    قوله: « فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما لكم ولهذه الآية؟! إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس قوله تعالى {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187)، يعني: أن هذه الآية نزلت في آل الكتاب، وليست فيكم أيها المسلمون.
    وهذا سبب نزول آخر غير السبب الأول، وهل يمكن أن تتعدد أسباب النزول والآية واحدة؟ الجواب: نعم ممكن أن تتعدد والأسباب وتكون الآية النازلة في هذه الأسباب واحدة، أو قد تنزل الآية أكثر من مره لأسباب متنوعة؛ وذلك لسعة مفهوم الآية، فالآية يكون لها مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة، فبمفهومها الواسع تشمل هذه الأسباب المتنوعة؛ لأنها صور متعددة، تدخل بمنطوق هذه الآية.
    قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم والكتاب، ولم ينقادوا للرسول [، ولم يدخلوا في الإسلام وقالوا: نحن على علم، وعندنا كتاب من الله، ونحن أتباع موسى ونحن أصحاب حق، وفرحوا بما عندهم من العلم، كما هو الحال اليوم من النصارى الضالين، الذين يفرحون بما عندهم من الكتاب المحرف، والطقوس الدينية التي هي أشبه باللغو واللعب والغناء والتمتع، ومخالفة الرب سبحانه وتعالى، وزعمهم الابن والولد لله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فيفرحون بما عندهم من الكفر، ويفرحون بما عندهم من الكتاب المبدل، ويتركون الكتاب العزيز، والقرآن العظيم، الكامل التام الذي حفظه الله تعالى من التحريف والتغيير. وهكذا يدخل في هذه الآية بالمفهوم: أهل البدع الذين يفرحون بما عندهم من البدع والضلال، سواء كانت بدعا قولية، أم بدعا فعلية، فهم يفرحون بما عندهم من الباطل.
    وهكذا كل من فرح بما عنده من الباطل القولي أو الفعلي وأحب أن يحُمد عند الناس بما لا يستحق، فهذا لا تحسبنه بمفازة من العذاب، لا تحسبنه بمنجاة من العذاب. وقول ابن عباس: سألهم النبي [ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره قيل: إن المقصود بذلك أن النبي [ سألهم عن صفته، وهي في التوراة موجودة ومكتوبة، فكتموا وكذبوا وقالوا: إن صفة النبي الذي يبعث في آخر الزمان، لا تنطبق عليك يا محمد، [، فصفة النبي الذي عندنا في كتابنا، والذي بشرت به الرسل، أو بشر به عيسى عليه السلام على وجه الخصوص، هي لا تنطبق عليك يا محمد؛ لأنهم حرفوا الكتاب حتى قال بعض أهل التاريخ والسيرة، أنهم قالوا إن النبي الذي يبعث في آخر الزمان، سبط الشعر، أزرق العينين، أبيض الوجه، جاءوا بصفات محرفة، من أجل ألا تنطبق على النبي [، فالنبي [ تركهم وخرج، وفرحوا هم بهذا الباطل الذي أدوه وظنوا أنهم استطاعوا أن يصرفوا الناس عن الإسلام، وصرفوا أتباعهم، وهم في الحقيقة بهذا العمل يكونون قد أوقعوا أنفسهم في غضب الله وعذابه، وأيضا تحملوا أوزار الذين يضلونهم بغير علم، وهذا أعظم مع أن وزر الواحد فيهم كاف في عذابه، فكيف إذا حمل أوزار العالمين على ظهره؟!
    وهكذا دعاة الباطل ودعاة الكفر: فإنهم يتحملون آثام من يتبعهم على باطلهم، كما قال [: « من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى باطل كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص من آثامهم شيئا» رواه مسلم وغيره.
    وأيضا أهل الكتاب وقعوا في ذلك، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187)، فالله تعالى قد أخذ العهد والميثاق على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء من ورثتهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فإذا كتم العلماء الحق الذي جاء في كتاب الله، فقد خالفوا الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليهم، وصح في الحديث أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول [: «من سئل علما يعلمه فكتمه، ألجم بلجام من نار» أخرجه الترمذي.
    ولفظ أبي داود: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وهذا دليل على حرمة كتمان العلم مع القدرة على إظهاره، أي إذا كان الإنسان قادرا على إظهار هذا العلم، ولم يمنعه من إظهاره شيء من الموانع التي تمنع من إظهار العلم كالخوف على النفس من القتل، وما أشبه ذلك فهذا محرم.
    أما أن يحمد الإنسان على الاستقامة والطاعة، ويحمد على الصفات الجميلة، ويحب ذلك من غير رياء ولا سمعة، دلت الآية بمفهومها على أنه غير مذموم، فلو أحب الإنسان أن يحمد، وأن تكون له سمعة حسنة طيبة بين الناس، وحرص على ذلك بأعماله الصالحة وصفاته الجميلة، وأصلح من نفسه، وعامل الخلق بما ينبغي محبا للسيرة الحسنة بين الناس، ولم يكن في ذلك قصد الرياء، هذا غير مذموم - بل دعت الأنبياء بذلك – فقد قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 84) أي: اجعل لي لسان ثناء عند الناس، أن الناس تثني علي بخير، وتكون لي سيرة حسنة فيهم وكذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)، هذا يدل على أنه لا مانع أن يكتسب الإنسان السمعة الطيبة بين الخلق.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(8)

    العدل مع اليتيم

    اعداد: الفرقان



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    باب: في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (النساء: 3)
    وقوله: {ويَسْتَفْتونك فِي النِّسَاءِ} (النساء: 127).
    2129. عن عُرْوَة بْن الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3). قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ [ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ويَسْتَفْتُونك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.
    الشرح:
    هذا الحديث الأول في سورة النساء، وهو في بيان معنى قوله تبارك وتعالى {ويَسْتَفْتُونك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وأورد فيه المنذري حديث عروة رضي الله عنه، وقد رواه مسلم في كتاب أول كتاب التفسير أيضا .
    سأل عروة خالته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) وهذه الآية لها تعلق بقوله عز وجل: {ويَسْتَفْتُونك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فالآية الأولى تقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} أي: إن خفتم ألا تعدلوا في النساء اليتامى اللاتي في حجوركم وولايتكم، فانكحوا سواهن، إذا خفت ألا تعدل في اليتيمة، وألا تنصف هذه اليتيمة وتقوم بحقها، من المهر وغيره، فانكح سواها، مما طاب لك من النساء سواها، من ذوات الدين والخلق والجمال والمال، مثنى وثلاث ورباع .
    ومعنى ( مثنى وثلاث ورباع ) يعني: من أحب أن يتزوج اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد على ذلك، ولا نقول معنى الآية: اثنين وثلاثا وأربعا، فيكون المجموع تسعا من النساء ؟؟!
    بل الصحيح هو الأول، وهو الذي عليه عامة أهل الإسلام، فعامة أهل العلم يقولون: إن المقصود بمثنى وثلاث ورباع، أن يتزوج الرجل اثنتين أو ثلاثا أو أربعا من النساء، وقد دل على ذلك أيضا، عدة أحاديث صحيحة، منها: حديث غيلان الثقفي رضي الله عنه: أنه لما أسلم كان عنده عشر نسوة، فقال [: «أمسك أربعا وفارق سائرهن» وهذا حديث صحيح رواه الترمذي.
    وكذلك حديث قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبي [ فذكرت له ذلك، فقال: «اختر منهن أربعا» رواه أبوداود وابن ماجة .
    وكذلك حديث نوفل بن معاوية الديلي، أخرجه الشافعي في مسنده .
    فإجماع المسلمين إذاً: على أن الرجل لا يحل له في الشريعة الإسلامية: أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة في عصمته .
    وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى {ويَسْتَفْتُونك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النساء: 127) . فالاستفتاء: هو طلب السائل معرفة حكم الله تعالى من العالم به، فيسأل الرجل أو المرأة العالم أو الفقيه، عن حكم الله تبارك وتعالى في النازلة، أو عن معرفة الحكم الشرعي في ذلك الشيء الذي يسأل فيه .
    لكن الله تبارك وتعالى يقول هاهنا {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: الذي يتولى بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة هو الله سبحانه وتعالى بنفسه، فهو الذي تولى بيان هذا الحكم الشرعي للمؤمنين، وليس رسول الله [ ولا غيره، فقد كان الصحابة يستفتون الرسول [، ويرجعون إليه في معرفة الأحكام الشرعية؛ لأنه رسول من الله تعالى، فقال ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وهذا يدل على أن هذا الأمر عظيم، وهو أمر اليتامى، وأن وظيفة الإفتاء، أيضا وظيفة عظيمة جليلة، إذ كان الله سبحانه وتعالى يقول: أنا أفتيكم فيها لأنه قال: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.
    هذا من جانب، ومن جانب آخر: أن الفتيا شيء مهم وخطير، لعظم أثرها؛ وشدة حاجة الناس إليها، ولخطر أثرها؛ لأنها متعلقة بالحلال والحرام في كل شؤون الدين والدنيا، وكان بعض السلف يفتي الناس وهو وجل خائف، ويقول: ها أنا يتعلم مني ما تُضرب فيه الأعناق، وتُستحلّ به الفروج .
    فكلام المفتي أثره عظيم؛ لما قد يترتب عليه من الأحكام الشرعية، فقد يسأله السائل فيقول: أنا تزوجت امرأة وحصل كذا وفعلت كذا ؟ فيقول: زواجك صحيح، أو يقول: زواجك باطل ! أو يقول: فلان يستحق القتل، أو الجلد أو الرجم، أو يسأله إنسان يشتري ويبيع فيقول له: هذا حلال وهذا حرام وهكذا، إذاً الأمر متعلق بالدماء والأعراض و الأموال .
    ومن هاهناكانت وظيفة الإفتاء عند المسلمين، وظيفة لها شروطها المطلوبة وأهليتها، ولها آدابها؛ فلا ينبغي أن يقدم الإنسان على إفتاء الناس، أو على بيان حكم شرعي إلا بعلم من الكتاب والسنة ومعرفة بأقوال الفقهاء والعلماء، ولا بد أن يسكت عن المسائل التي لا يعرفها فيقول: الله أعلم، أو يقول لمن يسأل: اصبر حتى أسأل لك، أو حتى أراجع، وما أشبه ذلك .
    قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: في يتامى النساء، سواء كن زوجات أم صغيرات، فاتركوا ظلمهن، وقوموا بحقوقهن .
    قوله: {وما يتلى عليكم في الكتاب} وهذا نوع من الربط بين الآيات في كتاب الله سبحانه وتعالى، أي: ما جاءكم في كتاب الله تبارك وتعالى في يتامى النساء فارجعوا إليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تحدث عنه في موضع سابق، فقال {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فهذا إخبار عن الحالة الواقعة في زمنهم، فاليتيمة تكون على حالتين: اليتيمة التي تكون تحت وليها من الرجال، فإذا كانت تحت ولاية رجل ثم هذه اليتيمة بلغت، وأراد أحد الناس أن يتزوجها، يتقدم إلى وليها فيطلب الزواج بهذه اليتيمة، فعند ذلك بعض الأولياء يظلم هذه اليتيمة، فيمنعها من الزواج؛ خشية أن يذهب زوجها بمالها، أو أن تذهب هي بمالها، بأن تأخذ حقها منه، والذي أكل بعضه أو أكله كله فيمنعها من الزواج طمعا في مالها، أو أن يطلب مهرا عاليا من الرجل الذي يريد الزواج بها، من أجل أن يعدل عن الخطبة، ويمسكها ظلما وعدوانا، هذا إذا كان لا يريد أن يتزوجها.
    أما الحالة الثانية: أن تبلغ اليتيمة عنده، وهو ليس من محارمها، وإنما هو وصي عليها، ويريد أن يتزوج بها، لكن لأنها يتيمة ليس لها أهل أو ولي، فإنه لا يقسط لها، أي لا يعطيها حقها الذي تأخذه مثيلاتها من النساء، بالنسبة للمهر، لأنها يتيمة !
    فمثلا مهر اليتيمة ألف أو ألفان أو ثلاثة، فيعطيها خمسمائة فقط !! لأنها يتيمة فلا يعدل في مهرها، لا يعدل في حقها لأنها عنده، وهذا ظلم يدخل تحت هذه الآية .
    إذاً فقول الله عز وجل، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} له معنيان: ترغبون أن تنكحوهن يعني: ترغبون عن نكاحهن - لا ترغبون بالزواج بهن - وتمنعوهن مع ذلك من الزواج بغيركم من أجل المال .
    والمعنى الثاني: وترغبون أن تنكحوهن، يعني: ترغبون بالزواج بهن، فإذا أردت ذلك فلا بد أن تقسط في مهرها وتعطيها حقها؛ لأن اليتيمة في هذه الحال مستضعفة، والله سبحانه وتعالى قد أفتاكم في المستضعفين من اليتامى والولدان والنساء، أن تعطوهم حقهم من الميراث، وألا تستولوا على أموالهم، ولا تبخسوهم إياها، على وجه الظلم، والقهر والاستبداد، فالله تعالى قد قال: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} يعني: بالعدل، وهذا يشمل القيام على أموالهم بالقسط، بألا تأكل أموالهم، ولا تأكل بعضها، ولك أن تشاركهم فيها إن كنت محتاجا فتأكل بالمعروف، كما سيأتي في الآية التي بعدها، فالله سبحانه يأمر هؤلاء الأولياء بالقيام على أموال اليتامى بالقسط، ومن ذلك استثمارها لهم وتنميتها وتكثيرها بالاتجار فيها، وألا يقربوها إلا بالتي هي أحسن أي بالحال التي تصلح بها أموالهم، فلا يحابون في أموال اليتامى أحدا، ولا يضيعونها بالهدايا أو إعطاء الأموال للناس محاباة من مال اليتيم !! لا يجوز له أن يفعل ذلك! بل عليه ألا يقربها إلا بالتي هي أحسن، كما قال الله عز وجل:{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} حتى لا تقع في الظلم وهضم الحقوق.
    وقوله: {والمستضعفين من الولدان} أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار أن تعطيهم حقهم من الميراث، وألا تستولوا على أموالهم وحقوقهم ظلما وعدونا، وقد بين الله تعالى جزاء من يفعل ذلك في قوله سبحانه: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم وسيصلون سعيرا} (النساء: 10), فما أكلوه بغير حق، سيكون نارا تتأجج في أجوافهم، وسيصلون نارا محرقة، وهذا يدل على أن هذا الأمر من الكبائر العظيمة .
    ثم حثّ الله سبحانه وتعالى على الإحسان، فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء: 127).
    يعني: سواء كان هذا الخير لأنفسكم من عبادة وقربة وصلاح، أو كان خيرا متعلقا بالغير كالنفقة على الأهل والأقارب، والزكاة والصدقات للفقراء والمساكين، فإن الله عليم بكل شيء، أحاط علمه بكل شيء، سواء كان قليلا أو كثيرا، حسنا أو غير حسن، فسيجازي كلا بعمله .
    فهذه الآية إذاً: توجيه لأولياء الأيتام الذين تكون اليتيمة في حجورهم بالعدل فيهن على كل حال.
    وشبيه بذلك أيها الإخوة اليوم: ما يفعله بعض الآباء هداهم الله، الذين يمنعون بناتهم من الزواج، طمعا في رواتبهن؟! أو طمعا في الأموال التي عند ابنته، فيمنعها من الزواج، ويرد الخطاب من أجل هذا الشيء ؟! فيكون سببا في تعاستها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    مع أن الأب في العادة أرحم الناس بأبنائه، لكن لهذه القاعدة شواذ، عافانا الله جميعا من منكرات الأخلاق والأعمال.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(9)

    أموال اليتامى


    اعداد: الفرقان


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    2130. عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْله {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 6). قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ، إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ.
    - الشرح: الحديث رواه مسلم أيضا في التفسير من كتابه الصحيح. وهذه الآية في أموال اليتامى من سورة النساء، يأمر الله سبحانه وتعالى فيها أولياء الأيتام - كما ذكرنا في الحديث السابق - بالعدل والقسط في أموال اليتامى التي يلونها، إذ يقول في أولها {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبداراً أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً} (النساء: 6).
    فيأمر الله تعالى فيها أولا باختبار اليتامى فيقول: {وابتلوا اليتامى} وذلك بأن يدفع لليتيم الذي بلغ الحلم شيئا من ماله ليتصرف فيه، وينظر هل يتصرف فيه برشد، أم بسفه ؟ كأن يبذره، أو يصرفه فيما لا فائدة فيه، أو في المعاصي، فبذلك يتبين رشده من سفهه، فإن كان لا يحسن التصرف بماله، لم يدفع له بقية المال؛ لأنه باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كبيرا.
    أما إذا تبين رشده وصلاحه للتصرف بالمال، فإنه يدفع له ماله كاملا موفراً، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} رشدا: يعني: صلاحا في دينهم، وحفظا لأموالهم، قاله الحافظ ابن كثير.
    وقوله: {ولا تأكلوها إسرافا} أي: مجاوزة للحد الذي أباحه الله لكم في الإنفاق، ومن غير حاجة ضرورية.
    وقوله: {وبداراً أن يكبروا} أي: مبادرة قبل بلوغهم، فهم صغار لا يمكنهم منعكم من أخذها أو أكلها.
    ثم قال سبحانه وتعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِف ْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} من كان في غنية عن مال اليتيم، فليستعفف عنه فلا يأكل منه شيئا، الغني عن أموال اليتامى، ينبغي له أن يستعفف عنها؛ لأن الله سبحانه قد أغناه ، وما دام قد أغناه الله فلا يمد بصره ويده إلى مال اليتيم، ولا يأكل منه إلا معه على وجه المشاركة، التي لا يمكن فيها الفصل، مثل أن يشتري طعاما من ماله ومن مال اليتيم، فيتشاركان في الأكل، أو يتشاركان في السكن في بيت اشتري بمالهما جميعا، أو ما أشبه ذلك.
    فالغني إذاً عليه أن يستعفف بما أحل الله له من الطيبات عن مال اليتيم.ومن كان فقيرا محتاجا، فليأكل بالمعروف، أي: بما تعارف عليه الناس .
    قالت عائشة رضي الله عنها: بقدر قيامه عليه. رواه البخاري. أي: يقدر أجرته بقدر قيامه وعمله في مال اليتيم، كالموظف لذلك.
    وقال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله أو قدر حاجته. فالفقير له أن يشارك اليتيم في ماله بالمعروف، بما تعارف عليه الناس، لا يسرف في أموال اليتامى، بحجة أنه يأكل مع اليتيم، ولا يشتري شيئا خاصا له من مال اليتيم، كأثاث لبيته أو شيء لأولاده، ولا يستأثر بأموال اليتامى دون اليتامى، والله سبحانه وتعالى قد حذر من أكل أموال اليتامى ظلما، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)
    قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله [ فأنزل الله {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} (البقرة: 220)، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبوداود والنسائي وابن جرير في تفسيره.
    وقوله {وإن تخالطوهم} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم فلا بأس.
    {والله يعلم المفسد من المصلح} أي: الله عليم بمن قصده ونيته الإصلاح أو الإفساد.
    وولي اليتيم عليه القيام بإصلاح مال اليتيم والمتاجرة فيه قدر المستطاع، وتكثيره بأحسن الطرق، وأبعدها عن الخطر، كما جاء في الأثر عن عمر ] أنه قال: « اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة».
    فولي اليتيم عليه كما قالت عائشة رضي الله عنها: أن يقوم عليه ويصلحه، وهذا هو الواجب، أن يقوم على هذا المال وأن يصلحه ويستصلحه، وان يطلب له الأحق، وأن يتجنب ما يهلك هذا المال أو يعطبه، بأن ينميه له ويكثره بالطرق المشروعة .
    وولي اليتيم قد نهي أيضا أن يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، قال سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (النساء: 6).
    وقال بعضهم: إن هذه الآية نسخت قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 6).
    والصحيح أن الآية ليست منسوخة، وإنما على والي اليتيم أن يأكل بالمعروف، يعني المتعارف عليه بين الناس، فلا يترف ويتوسع في أموال اليتامى ويبالغ في التمتع أو التنعم بالمطعوم والمشروب والملبوس، وإنما يأكل بقدر الحاجة.
    جاء في مسند الإمام أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائي، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل النبي [ فقال: « ليس لي مال، ولي يتيم» فقال [: « كُل من مال يتيمك غير مسرفٍ ولا مبذّر، ولا متأثل مالا « رواه أحمد.
    وروى ابن حبان وصححه: عن جابر ]: أن رجلا قال: يا رسول الله، فيم أضرب يتيمي؟ قال: « ما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل مالاً ».
    وروى ابن أبي الدنيا: عن أمير المؤمنين عمر ] قال: « إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت اسقترضت، فإذا أيسرت قضيت» وإسناده صحيح.
    وهذا الرأي بناء على قول من قال: إن من أكل من مال اليتيم، عليه أن يقضي إذا أيسر. والقول الثاني: أن له أن يأكل بالمعروف، دون أداء البدل. وهو الصحيح إن شاء الله. فقول النبي [ لولي اليتيم: « كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر» التبذير والإسراف حرمهما الله عز وجل، والإسراف هو المبالغة في الشيء، والتبذير هو الإنفاق فيما لا ينفع.
    « ولا متأثل مالا» أي: لا تتخذ لنفسك مالا تجمعه من مال اليتيم، ولا أن تأخذ لنفسك من مال اليتيم شيئا خاصا بك، لا نفع له فيه، كأن تشتري لنفسك سيارة مثلا، أو تؤثث بيتك الخاص، فهذا لا نفع لليتيم فيه، بل هو نفع خاص بك أنت.
    وقوله « غير واقٍ مالك بماله» يعني: ألا تتقي مالك بماله، بأن تضع مالك في الحفظ والحصون، وتصرف من مال اليتيم ؟! هذا محرم، لكن أن تشاركه في التجارة، فتضع شيئا من عندك وهو يضع شيئا من عنده وتشتركان في الشيء الذي تنتفعان به، فلا مانع في ذلك.
    وهذا الحديث: فيه تفسير وبيان منه عليه الصلاة والسلام، بمقدار الأكل من أموال اليتامى بالنسبة للفقير والمحتاج والوصي.
    والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(10)

    باب في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}


    اعداد: الفرقان


    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2131- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ[ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِ[َ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن}.
    الشرح :
    الباب التاسع من كتاب التفسير من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري، هو في قوله تبارك وتعالى من سورة النساء وهي الآية الثامنة والثمانون: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، والآية بتمامها يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 88).
    هذه الآية أورد فيها الإمام مسلم رحمه الله، حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد ذكره في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم: أن النبي[ خرج إلى أُحد، فرجع ناسٌ ممن كان معه، فكان أصحاب النبي[ فئتين، قال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
    وشرح الحديث: أن النبي[لما خرج إلى غزوة أحد، خرج معه عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، فلما كانوا ببعض الطريق خذلوا رسول الله[ ورجعوا إلى المدينة؟! كيدا ومكراً! فحصل من جراء ذلك خلخلة وبلبلة في جيش المسلمين، لرجوع بعض الجند منهم ، بعد ما خرجوا من المدينة وعزموا على ملاقاة عدوهم . قال ابن إسحاق: أن عبدالله بن أبي رجع بثلث الجيش، رجع بثلاثمئة وبقي النبي[ في سبعمائة.
    وهم أرادوا أن يحصل مثل هذا، في صفوف أصحاب رسول الله، فلما قرب القتال اعتذروا بأعذار واهية، وقالوا كما حكاه القرآن: {وليَعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاك ُمْ}، وهذا كذبٌ منهم، فإنهم يعلمون حنق المشركين وغيظهم على المسلمين ، وأنهم يتحرقون على قتالهم، بما أصابوا منهم يوم بدر، من قتل ومال، قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}؛ لأنهم منافقون، يظهرون مالا يبطنون في قلوبهم، ومنه قولهم هنا {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاك ُمْ}، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر يروج على المؤمنين ، قال الله تعالى مهددا لهم: {والله أعلم بما يكتمون}.
    فكان أصحاب النبي[ بعد ذلك، لما رجعوا إلى المدينة اختلف فيهم أصحاب النبي[ فيهم فرقتين، فقالت فرقة: نقتلهم، لأنه حصل منهم خيانة عظيمة للنبي[ وللمسلمين، وخذلان للإسلام، ومحاولة لبث الفرقة والزعزعة في صفوف الجيش وإضعافه.
    وقالت طائفة: لا نقتلهم؛ لأنهم مسلمون يظهرون الإسلام، فنزلت الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 88).
    فلأنهم يظهرون الإسلام، توقف فيهم بعض أصحاب النبي[، ولكنهم في الحقيقة منافقون، ودلّت أعمالهم على ما في قلوبهم.
    قال زيد بن ثابت فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن}.
    وقوله: {وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ} يعني: أن أعمالهم وما كسبت أيديهم، سبب في ارتكاسهم في الكفر، ووقوعهم فيه, ومثل هذه الأعمال الكفرية، يستدل بها على كفر الإنسان، وعلى خبث طويته، وظلمة قلبه .
    وقوله: «أتريدون أن تهدوا من أضل الله» فمن أضله الله فلا هادي له، وهؤلاء قد أضلهم الله بسبب ما كسبت أيديهم، وما أضمروه من العداوة لله والرسول، ومجرد إظهار الإسلام، لا يدل على إسلامهم؛ لأن قرائن أفعالهم يحكم بها العاقل عليهم .
    وقال بعض أهل التفسير: المراد بالمنافقين هنا، هم من أظهروا الإسلام ولم يهاجروا إلى رسول الله[، فقد كانت الهجرة واجبة في زمن النبي[ قبل الفتح، وكل من أسلم، وجب عليه أن يهاجر إلى رسول الله[، وأن يفارق قومه المشركين إلى المدينة النبوية، فقال الله تعالى لهم: لا تتحرجوا من قتالهم.
    ولكن الآية التي بعدها تبين أن المراد بالمنافقين هاهنا، هم المنافقون الذين لم يهاجروا، أظهروا الإسلام ولكنهم لم يهاجروا، بدليل قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} (النساء: 89)، هذا أيضا مما أطلعنا الله سبحانه وتعالى من ضمائرهم، وما انطوت عليه قلوبهم، وهو أنهم يودون لو أن المسلمين كفروا وارتدوا عن إيمانهم وإسلامهم إلى الكفر، فيكونون سواء، يعني: لا يقتل بعضهم بعضا، لأن الجميع سواسية في الكفر ، فلا تفضلونهم بالإسلام ! فهذا خبر من الله عز وجل عن هؤلاء المنافقين .
    وهذا والعياذ بالله من الأمراض القلبية، أن الإنسان إذا انحرف عن الصراط المستقيم، يود لو أن الناس كلهم صاروا مثله، فبعضهم إذا رأى شابا مستقيما، تضايق وحاول أن يغريه ويضله عن سبيل الله؛ لأنه يكره أن يراه متميزا عليه بالصلاة وبالاستقامة وبالخوف من الله، واتقاء حدود الله عز وجل ومحارمه، فيود لو أنه انحرف كما انحرف، وكفر كما كفر، وفسق كما فسق، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} (النساء: 89).
    فالآية تبين أن المنافقين الذين حصل فيهم الاختلاف وانقسم فيهم الصحابة إلى فرقتين، هم هؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يهاجروا ، والسبب في إظهارهم الإسلام هو أنهم يريدون أن يأمنوا جانب النبي[ وأصحابه فلا يقاتلونهم، ولم يهاجروا في سبيل الله لأنهم مستفيدون بالبقاء في أهليهم وديارهم وفي أموالهم، فلا يريدون أن يخسروا شيئا بالهجرة.
    ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ} (النساء: 89) أي: إن تولوا عن الهجرة، يعني: لم يهاجروا، فلا تتحرجوا من قتالهم، بل {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ } (النساء: 89) أي: في أي وقت وزمان، وفي أي محل ومكان.
    وهذه الآية من الأدلة التي يستدل بها على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول الجمهور؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ }، والمخالفون يقولون: هذا نص عام، تقيده نصوص تحريم القتال في الأشهر الحرم.
    ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فرق: فرقتين أمر بتركهم وأوجب ذلك ، الفرقة الأولى: من يصل إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فمن يصل من هؤلاء المنافقين إلى قوم بينكم أيها المسلمون وبينهم ميثاق وعهد، فهؤلاء لا تقاتلونهم لأنهم صاروا في صفوفهم وحكمهم، فمن انضم إلى قومِ صار له حكمهم بالدم والمال.
    والفرقة الثانية: من قال تعالى فيهم: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} (النساء: 90) يعني: ضاقت أنفسهم بقتالكم، فلم تسمح أنفسهم بقتالكم، فتركوا قتالكم، وتركوا قتال قومهم ، فهؤلاء أيضا أمر الله سبحانه وتعالى أن يتركوا، وألا يقاتلوا، وأخبر سبحانه أنه لو شاء لسلط هذه الفرقة التي تركت قتالكم، فقال: {ولو شاء لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} فاقبلوا من الله عافيته واحمدوه .
    أما الفرقة الثالثة: فهم قوم يردون مصلحة أنفسهم والسلامة، بغض النظر عن احترامكم، كما قال سبحانه وتعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } (النساء : 91)، فهؤلاء الذين أمر الله سبحانه وتعالى بقتالهم حيث وجدتموهم، هم كالفرقة التي اختلف فيها الصحابة سابقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن حكمهم واحد، أن لم يعتزلوا قتال المؤمنين إلا لمصلحة أنفسهم، فالواجب قتالهم.
    فإذاً ربنا سبحانه وتعالى أنكر على الصحابة عندما اختلفوا في قتال الفرقة المارقة، التي ظهرت منها علامات الكفر والردة والإلحاد.
    وفي هذا الحديث أيضا: زاد في آخره: قال النبي[: «إنها طيبة « يعني المدينة النبوية ، فسماها النبي[» طيبة و طابة من الطّيب، وأمر أن تسمى بذلك، بدلاً من اسمها في الجاهلية ، وهو يثرب، لخلوصها من الشرك، وتطهيرها منه.
    قوله: «وأنها تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة»، فالمدينة تنفي الخبيث من الناس، كما تنفي النار خبث الفضة، أي:كما أن من أراد أن ينقّي الفضة أو الذهب أو الحديد أو غيرها من المعادن، فإنه يضعها على النار، ليخرج منها الخبث، ويخرج منها الزبد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} (الرعد: 17)، فإذا وضعت المعدن على النار حصل له النقاء، بخروج الخبث منه، فهكذا الفتن والشدائد تنقي الناس ، وتبين معادنهم، فإن الناس في حال الرخاء لا يكادون يعرفون، ففي حال الرخاء لا تكاد تعرف المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، من ضعيف الإيمان، لكن إذا جاءت الفتن - عافانا الله وإياكم - سواء فتنة السراء أو فتنة الضراء، فعند ذلك تخرج أحوال الخلق، وتبلوا معادن الناس، فتعرف ما في قلوبهم من أعمالهم، أي بقرائن أفعالهم تعرف أحوال الناس ومعادنهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(11)

    تعظيم قتل النفس المؤمنة

    اعداد: الفرقان



    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2132. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلِـمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَتَلَوْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَان:ِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}.
    الشرح: الباب العاشر: باب قوله تبارك وتعالى من سورة النساء أيضا، وهي الآية الثالثة بعد التسعين، قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93).
    وقد رواه الإمام مسلم في كتاب التفسير أيضا. والحديث عن سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير هو الأسدي مولاهم الكوفي، ثقةٌ ثبت فقيه، أحد الأئمة في التفسير، ومن أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما المكثرين من الرواية عنه.
    يقول: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال لا، قال فتلوت عليه هذه الآية في الفرقان، وهي: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 68 – 70).
    يعني أن الله سبحانه وتعالى أخبر في هذه الآيات أن من تاب إليه، تاب الله عليه؛ لأنه يقول: {إِلّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} فكيف تقول ليس له توبة؟!
    قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا}. أي قال ابن عباس رضي الله عنهما ردّا عليه: هذه آية مكية، وسورة الفرقان سورة مكية نزلت بمكة، فنسختها آية مدنية، وهي الآية التي في سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فهذه آية مدنيه نسخت هذه الآية المكية، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هاهنا.
    قال الإمام النووي رحمه الله: هذا هو المشهور عن ابن عباس - أي إنه كان يقول ليس لقاتل المؤمن توبة - وروي عنه أن له توبة، وجواز المغفرة له؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء: 110).
    قال: وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين، ومن بعدهم - يعني أن لقاتل المؤمن توبة - قال: وما روي عن بعض السلف مما يخالف هذا محمول على التغليظ، والتحذير من القتل، والتورية في المنع منه، وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس رضي الله عنهما أنه يخلّد، وإنما فيها أنه جزاؤه جهنم، ولا يلزم منه أنه يجازى، وقد سبق تقرير هذه المسألة وبيان معنى الآية في كتاب التوبة. انتهى.
    فهذه الآية التي ذكرها ابن عباس من سورة النساء، وهي آية عامة، ومن سورة مدنية وهي قوله: {ومن يعمل سوءا...} أي: عملاً سيئا، وهي تعم جميع الذنوب والمعاصي والكبائر {أو يظلم نفسه} يعم جميع أنواع الظلم {ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} وعدٌ بالمغفرة لها جميعا إذا هو ندم وتاب واستغفر.
    أما قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93).
    فيخبر الله سبحانه وتعالى أن قاتل المؤمن متعمدا جزاؤه جهنم خالدا فيها، لكن ربنا سبحانه وتعالى قد يصرف عنه هذا العذاب بأشياء كثيرة، وبأعمال متعددة، وأعظمها التوحيد، ثم الأعمال الصالحات، والمصائب المكفرات، فيصرف الله سبحانه وتعالى الخلود عنه في نار جهنم بتلك الأمور، وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام جميل في هذه الآية، وبيان ما في هذا الوعيد الشديد الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، في قاتل المؤمن، وأنه وعيد ترجف له القلوب، وتنصرع له الأفئدة، وينزجر منه أولو العقول، ولم يرد في شيء من الكبائر من الوعيد، أعظم من هذا الوعيد، فلم يرد في كتاب الله تبارك وتعالى تشديد ووعيد في ذنب من الذنوب مثل ذنب قتل المؤمن عمدا، فالله سبحانه وتعالى ذكر فيه خمسا من أنواع التشديدات: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فهذه خمسة أنواع من التشديدات، الأول: أن جزاءه جهنم , الثاني: خالدا فيها. الثالث: غضب الله عليه، الرابع: لعنه الله، الخامس: أعد له عذابا عظيما، نسأل الله العافية من ذلك كله.
    وهذه الآية أيضا: دليل على أن قاتل المؤمن ليس بمؤمن؛ لأن القتل ينافي الإيمان الصحيح، الإيمان الكامل التام، فالمؤمن حقا لا يمكن أن يقتل مؤمنا؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الآية التي قبلها: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (النساء: 92).
    أي لا يتصور أن المؤمن يقتل مؤمنا أبدا! إلا أن يقع منه خطأ دون عمد، كأن يحصل منه إهمال أو استعجال، مثل أن يرمي طيرا فيقع في مؤمن، أو أن يكون سائرا بسرعة، أو مهملا وغافلا فيقع في قتل مؤمن، أما القتل العمد، فهذا العمل لا يصدر عن المؤمن أبدا؛ لأنه مما ينافي إيمانه بالله، واتباعه لشريعة الله، وقال [: « الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن « رواه أحمد وأبوداود.
    والفتك: هو القتل غفلة وخديعة والاغتيال، فالمؤمن لا يفعل ذلك.
    ولكن القتل من الكبائر، وأئمة أهل السنة والجماعة متفقون على أن كل الكبائر لا تخرج الإنسان من حد الإيمان والإسلام، فلا توجد كبيرة ولا ذنب إذا فعلها الإنسان يكون كافرا بالله تعالى، إلا إذا استحلها، وإلا الشرك بالله بأنواعه وصوره، والكفر بالله بأنواعه وصوره، وأما ما كان دون الشرك والكفر، فقد قال سبحانه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48).
    فما دون الشرك، فإن الله سبحانه وتعالى يغفره للعباد، وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة، فقد أخرجوا الإنسان من الإيمان والإسلام بذنوبه، فالخوارج والمعتزلة يقولون: إذا سرق العبد كفر ! وإذا زنى كفر ! وإذا شرب الخمر كفر! وهكذا.
    وهذا طبعا خلاف الأدلة الكثيرة التي وردت في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله [، ومن أظهر وأوضح الأدلة على عدم كفر القاتل: أن أولياء الدم إذا عفوا عن القاتل، ورضوا بالدية، سقط القصاص عن القاتل، فلو كان القتل كفرا على كل حال لكان يجب قتله على كل حال، ولا يقبل منه عفو.
    ومن الأدلة أيضا: أن الله سبحانه وتعالى سمى القتيل أخا للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178).
    وأيضا: شارب الخمر يجلد ويترك، فلو كان شرب الخمر كفرا، لكان يجب أن يقتل على كل حال ! وكذلك السارق تقطع يده ويترك، ولو كان كافرا لكان يجب أن يقتل. وهذه بعض الأدلة من الأدلة الكثيرة، من كتاب الله تبارك وتعالى، والتي ذكرها أهل العلم ردّا على الخوارج والمعتزلة.
    وقال الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم رحمه الله في «المدارج»، بعد أن ذكر تأويلات الأئمة وانتقدها، قال: وقالت فرقة إن هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة، ومقتضى لها.
    أي: إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن ذنب القتل يقتضي دخول النار، والخلود فيها واللعنة والغضب، لكن هذا المقتضي قد يكون له موانع، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، بعضها بالإجماع وبعضها بالنص، فالتوبة مانع من العقوبة بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة من الخلود في النار، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، وكذا المصائب مكفرة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين، ولا بد من الموازنة بين الحسنات والسيئات، واعتبار مقتضي العقاب ومانعه، وإعمال الأرجح منها.
    قالوا: وعلى هذا المنوال بناء مصالح الدارين ومفاسدهما، أي: على هذا النهج الذي هو الموازنة بين الحسنات والسيئات، والنظر لمقتضي العقوبة والمانع منها، بناء مصالح الدارين، دار الدنيا والآخرة، وعلى هذا أيضا بناء الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية مبنية على هذا، على الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، وهكذا الأحكام القدرية التي يجري بها قدر الله سبحانه وتعالى، وهي مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وفيه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا.
    ثم قال: « وقد جعل الله سبحانه لكل ضدٍ ضداً يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما، فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاق وبغيها، مانعٌ من عمل الطبيعة وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض، والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه؛ فإذا ترجح عليه وقهره، كان التأثير له.
    ومن هنا يُعلم انقسام الخلق: إلى من يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه: من يدخل النار ولا يدخل الجنة، ومن يدخل النار ثم يخرج منها، ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث، في سرعة الخروج وبطئه، ومن له بصيرة منوّرة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه، من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي العين، ويعلم أن هذا مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته، وعزّته وحكمته، وأنه مستحيلٌ عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه، نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره، وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان، يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان، يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه. وهذا من أحب الخلق إلى الله» انتهى كلامه وجزاه عن الإسلام خيرا.
    فمقتضى الإيمان ولازمه: أن العبد لا يصر على الذنب وعلى الكبيرة، بل يتوب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، بل يتوب إلى الله عز وجل عدد الأنفاس؛ لأن الإصرار على المعاصي مما يخالف الإيمان، وباب التوبة مفتوح، لم يغلق ولن يغلق، حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا الباب مفتوح لكل عاص، ولكل من قصد الدخول فيه، بل لو وقع في الشرك الذي هو أعظم الذنوب وأشدها، فإن التوبة تمحوه إذا تاب إلى الله توبة نصوحا قبل موته.
    وكذلك لو دخل الإنسان في هذا الباب ثم خرج منه، يقبل منه أن يرجع إليه مرة أخرى، أي: من دخل في باب التوبة ثم خرج منه، بأن غلبته نفسه ورجع إلى الكبيرة مرة أخرى، فإنه إن تاب وندم بعدها ورجع، يقبل منه توبته.
    ولو تكرر منه ذلك عشرات المرات، فكيف بما دون ذلك من المعاصي؟!
    لكن قال أهل العلم بالنسبة لقاتل العمد: إنه لا بد له من الاعتراف بالنفس وتسليم نفسه للقصاص؛ لأن من توبته الصحيحة ردّ الحقوق إلى أصحابها، أما مجرد التوبة من القاتل عمدا وعزمه على ألا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فهذا توبته فيها نقص، ولا نقطع بقبولها، بل مرد أمره إلى الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وهو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (12)

    خطـر التكفـير!

    اعداد: الفرقان





    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    باب: في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
    2133. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ، فَنَزَلَتْ {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ {السَّلَامَ}.
    الشرح:
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    الباب الحادي عشر من كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري: باب في قوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وهي الآية الرابعة والتسعون من سورة النساء، وقد روى الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب التفسير. وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
    قوله: لقى ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه وأخذوا تلك الغُنيمة، فنزلت {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قرأها ابن عباس: السلام.
    هذا الحديث هو حكاية حادثة حدثت على عهد النبي[، ونزلت فيها آية الباب، وهي أن رجالا من الصحابة كانوا في غزوه مسافرين، وفي أثناء السفر لقوا رجلا يرعى غنما له، فسلّم عليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: سلَّم علينا ليحمي نفسه؟! وليعصم دمه وماله منا؟! فقتلوه.
    قوله: «وأخذوا تلك الغنيمة»، الغنيمة تصغير الغنم، يعني: معه شيء يسير من الغنم، فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة مغنما؟! باعتبار أنه رجل كافر؟! فنزلت هذه الآية.
    فقال الله تعالى فيها معاتبا، وآمرا عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادا في سبيله، وابتغاء مرضاته، وإعلاء كلمته، أن يتثبتوا ولا يستعجلوا، والتثبت إنما يكون في الأمور غير الواضحة والملتبسة، أما الأمور الواضحة فإنها لا تحتاج إلى تثبت، فالأمر الجلي البين، لا يحتاج فيه الإنسان إلى التثبت والتحري، أما الأمور الخفية والمشتبهة والمشكلة، فعلى المسلم أن يسأل ويتأكد من الأمر، وينظر هل يقدم عليه أو يحجم؟ هل يفعل أو لا يفعل؟
    والتثبت في الأمور المشكلة فيه فوائد كثيرة، ويحصل به العصمة من شرور كثيرة، فالعبد إذا توقف وتبين قبل أن يقدم على الأمر، استطاع بعد التأكد والتثبت أن يفعل الصواب، أما المستعجل فقد يضع الأمور في غير نصابها بسبب العجلة، كما جرى لهؤلاء النفر من الصحابة رضي الله عنهم الذين عاتبهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية؛ لأنهم لم يتثبتوا، وقتلوا من أظهر الإسلام – وهو من سلّم عليهم – وكان معه شيء يسير من المال، وظنوا وتأولوا أنه إنما فعل ذلك من أجل أن يعصم نفسه، ويحمي دمه وماله!
    وهذا الخطأ من الصحابة غير مقصود، بل هو اجتهاد خاطئ؛ ولهذا عاتبهم الله سبحانه وتعالى وناداهم باسم الإيمان، فقال: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} أي: سافرتم لأجل الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله في الأرض {فتبينوا} أي: تثبتوا في الأمور المشتبهة، ولا تستعجلوا، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} أي: لا تقولوا لمن أظهر لكم الإسلام، وقال لكم: السلام عليكم، وهي كلمة الإسلام المشتهرة عندكم، وهي من شعائر دينكم، ومما يميزكم عن غيركم، لا تقولوا له: لست بمسلم؟! إذ كيف تقولون له ذلك، وهو قد أظهر الإسلام؟! فهل شققتم عن قلبه؟! واطلعتم على داخلة نفسه؟
    وقد قال النبي [ مرة لخالد بن الوليد رضي الله عنه لما قال: ألا أضرب عنقه؟ لما اعترض الرجل على قسم النبي[ للغنائم، فقال[ له: «لا، لعله أن يكون يصلي؟ « فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال له[: «إني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم؟» رواه البخاري ومسلم.
    أي إن الله عز وجل لم يأمرنا أن نشق عن صدور الناس، ونرى ما في قلوبهم، ونرى هل قالوا هذه كلمة الإسلام بصدق وإخلاص؟ أم قالوها نفاقا وتقية؟ نحن شرعاً لم نؤمر بذلك، بل أمرنا الله ورسوله بأن نعامل الناس بالظواهر، والله يتولى السرائر، وهذا من القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية: أن الأمور تؤخذ بظواهرها، وأما البواطن فإنها موكولة إلى الخالق سبحانه وتعالى علام الغيوب، حتى إن النبي[ كان يقبل من المنافقين اعتذارهم إذا تخلفوا عن الجهاد معه؛ عملا بهذه القاعدة.
    وقوله تعالى: {لمن ألقى إليكم السَّلَام} وفي قراءة لابن عباس: {لمن ألقى إليكم السلم} يعني: أظهر لكم السّلم، أي المهادنة وليس الحرب، فلم يبارزكم بحرب، ولا رفع عليكم سيفا، ولا طعنكم برمح، فلماذا بارزتموه أنتم بالعداوة وقتلتموه؟! وإنما بعثكم الله ميسرين، ولم يبعثكم معسرين، وقد أثنى الله تعالى على رسوله [، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).
    وقوله تعالى: {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي: حصل هذا عند بعضهم، فطمع في العرض الفاني، لما رأى ما مع الرجل من الغنم، حمله حب المال على الاستعجال في القضية، وارتكاب ما لا ينبغي شرعا؛ قال الله سبحانه وتعالى لهم: {فعند الله مغانم كثيرة} أي: لا ينبغي لكم أن تفوتوا ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو العظيم الجزيل الباقي، في الدنيا والآخرة، لا تفوتوه بالقليل الفاني؛ فإن الدنيا كلها متاع قليل، والإنسان العاقل لا يبيع الكثير الجزيل، الباقي الأبدي، بالنزر القليل، الفاني المضمحل، بل إذا كان عقله صحيحا لا يمكن أن يوافق على هذه الصفقة الخاسرة!!
    وهذا أيضا: فيه موعظة لحال العبد مع الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه إذا رأى نفسه مائلة إلى الدنيا وزخارفها وشهواتها، فعليه أن يوازن بينها وبين نعيم الآخرة، كما قال بعض السلف: «من باع ذهباً يفنى، بخزف يبقى، فهذا خاسر» أي: لو خيرك إنسان بين ذهب يفنى، فقال لك: أعطيك هذا الإناء من الذهب لتأكل فيه، لكن عمره شهر، أم أعطيك هذا الإناء من الخزف الذي عمره دائم باقي؟ فالعاقل ماذا يقدم؟ يقدم بلا شك الخزف الذي يبقى، على الذهب الذي يفنى، فكيف إذا قدم واختار الخزف الذي يفنى على الذهب الذي يبقى؟ فهذا أشد خسرانا!
    وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الأخرى؛ فإن الحياة الأخرى ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى، فينبغي للعبد أن يقدم ما عند الله سبحانه وتعالى، كما قال: {ما عنكم ينَفد وما عند الله باقٍ ولنجزينّ الذين صَبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:96).
    ثم يذكّر الله تبارك وتعالى صحابة رسوله خاصة، وكل من منّ عليه بالإسلام من الناس كافة، يذكرهم بما كانوا عليه قبل الإسلام والإيمان، فيقول: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} (النساء: 94) أي: تذكروا حالكم من قبل أن تسلموا، فالصحابة كانوا ضلالا فهداهم الله، جهالا فعلّمهم الله ورسوله[، كفارا فأسلموا، جاحدين فآمنوا، فكما حصلت لكم الهداية بفضل الله ونعمته عليكم ، تحصل لغيركم من خلق الله.
    وقيل: معنى {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} أي: كنتم تخفون إسلامكم عن المشركين.
    فهذا كله تنبيهات من عند الله سبحانه وتعالى لعبادة؛ لاستعمال الحكمة والعقل، والتبين والتثبت في الأمور؛ ولهذا أكدّ الأمر مرة أخرى، فقال: (فتبينوا) وهذا تكرير للتأكيد، وتكرار الأمر يدل على تأكده بحق المأمور، وأهميته وخطره.
    فكل من خرج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، لا بد أن يكون عنده تثبت وتبين وتأنّ في الأمور؛ لأن الخطأ في الجهاد يؤدي إلى إزهاق أرواح بغير حق، وتعدٍّ على أنفس معصومة، وإتلاف أموال لم يأذن الله بإتلافها؛ فلهذا وجب التأني والتثبت، وقد قال[ في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» رواه البيهقي في «الشعب» عن أنس رضي الله عنه.
    وهكذا الداعية إلى الله عز وجل ينبغي له أن يتبين ويتأكد، وأن يتثبّت من الأخبار، ولا يستعجل أو يتهور، في إصدار الأحكام على الناس، أو القضايا التي يسأل عنها؛ لئلا يقع في الأخطاء الفادحة، التي تضر به وبدعوته وبأتباعه، وربما شوهت جمال الإسلام، وصدت الناس عنه، كما حصل في هذا الزمان كثيرا، من بعض المستعجلين والمتحمسين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    وهكذا الحاكم والقاضي إذا عرضت عليه قضية من القضايا، فلا بد له من العلم بواقعة حالها، بالإضافة إلى العلم بالحكم الشرعي بها، فيحتاج إلى علمين: علم بالشرع وأحكامه، ثانيا: العلم بواقعة الحال، وتفاصيلها المعتبرة والمؤثرة في الحكم، حتى ينظر هل تنطبق عليها الآيات والأحاديث أم إنها لا تدخل في ذلك؟ وكلما كانت القضية كبيرة ومهمة وتمس الأمة كلها، فإنها تحتاج للتشاور مع أهل العلماء، وسماع أقوالهم وفتاويهم.
    وقد قال الفقهاء: إن من قتل كافرا بعد أن قال: لا اله إلا الله، قُتل به؛ لأن الكافر إذا قال هذه الكلمة، فقد أسلم، وعصم دمه وماله، وإنما سقط القصاص عن هؤلاء النفر من الصحابة في زمن النبي[؛ لأنهم كانوا قد اجتهدوا وتأولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح، لا يكون مسلما، ولا معصوم الدم والمال، وأنه لا بد أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، ولم تكن أحكام الشرع قد تكاملت وعلمت للجميع؛ ولذا عذرهم الرسول [.
    لكن لا بد للكافر بعد قول هذه الكلمة، من الاستسلام والانقياد لشرع الله عز وجل بالقول والعمل، فلو قال: لا اله إلا الله، ثم أبى أن ينقاد لشرائع الإسلام، فأبى أن يصلي مثلا، أو أبى أن يتطهر ويتوضأ، أو أبي أن يصوم، أو أن يحرّم الحرام، فهذه الكلمة لا تنفعه؛ فليس الإسلام مجرد قول هذه الكلمة، ثم عدم الانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، وشرائع الإسلام.
    والله تعالى أعلى وأعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(13)

    -الصلـح بيـن الزوجيـن

    اعداد: الفرقان




    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    باب في قوله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}.
    2134 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ أَلَّا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا، وَتَكُونُ لَهَا صُحْبَةٌ وَوَلَدٌ، فَتَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي.
    الشرح:
    الباب الثاني عشر من كتاب التفسير من مختصر مسلم، هو في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (النساء: 128).
    والحديث قد أخرجه مسلم في التفسير أيضا.
    قوله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} هذه الآية من سورة النساء وهي الآية الثامنة والعشرون بعد المائة.
    وهي تذكر مسألة النشوز، والنشوز من جهة الزوج: هو الترفع على المرأة بترك مضاجعتها، أو التقصير في نفقاتها وحقوقها؛ لبغضها، أو لرغبته بغيرها، أما النشوز من جهة المرأة: فهو الترفع عن طاعة الزوج، والمعارضة لأوامره، أو عدم الرغبة في البقاء عنده.
    والآية يقول الله فيها: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ وأحضرت الأنفس الشح وإن تُحسنوا وتَتقوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء: 128).
    تقول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وزوج النبي [ في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يستكثر منها، وتكون له صحبة وولد فتكره أن يفارقها فتقول له: أنت في حلّ من شأني.
    قول عائشة رضي الله عنها: « إن هذه الآية نزلت في المرأة « إذا قال الراوي: هذه الآية نزلت في كذا وكذا، فهذا نص على سبب النزول، وأسباب النزول كما ذكرنا سابقا مما يعين على فهم الآية، وفهم معانيها بفهم قصتها وسبب نزولها.
    قولها: «نزلت في المرأة تكون عند الرجل « تعني الزوجة تكون عند زوجها».
    قولها: «فلعله ألا يستكثر منها» تعني: يرغب عنها، فلا يريد البقاء عندها أو البيات، وربما تكون قد بلغت من السن الكبر، فيريد أن يفارقها ليتزوج غيرها، فيحصل إعراض من الزوج عنها، وهو النشوز المذكور وهو الترفع والإعراض، فعند حصول ذلك، أرشد الله تعالى إلى الأحسن للزوجين، ولها خاصة، إذا كان لها صحبة مع زوجها، أو كان لها ولد منه تكره أن يحصل بينها وبينه الفراق، فتقول له: أنت في حلٍّ من شأني، يعني: إن أحببت أن تبيت عندي فحياك الله، وإن أحببت أن تبيت عند زوجتك الثانية أو الثالثة، فأنت مخير، فتسقط القسم الذي لها، وهو المبيت وتهب يومها أو تهب ليلتها لضرتها، أو تقول له: أنت في حلّ من النفقة، أنا أنفق على نفسي، أو أنا أتدبر أموري وشؤوني، فتُسقط نفقتها، أو بعض نفقتها، تقول مثلا أنت في حل من كسوتي، أو أنت في حل من إيجار بيتي، فتسقط بعض النفقة.
    فقوله تعالى: {فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ} فإذا اصطلحا واتفقا على هذه الحال {فلا جُناح عليهما} أي: فلا مانع ولا بأس عليهما، لا بأس على الزوج، ولا بأس على الزوجة في التصالح على ذلك. وقوله: {فلا جناح} والجناح هو الإثم، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، لتبقى معه العشرة وتدوم الألفة، ويكون ذلك بطيب خاطر من الطرفين، وهو جائز في جميع القضايا، إلا إذا تضمن الصلح تحليلا لما حرم الله، أو تحريماً لما أحل الله، فإذا كان الصلح يتضمن شيئا حرمه الله تبارك وتعالى فلا صلح، وكذلك لو تضمن الصلح تحريم شيئا أباحه الله؛ لقوله [: « الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالا» رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجة.
    وقد ورد في الصحيحين أيضا: أن هذه الآية إنما نزلت في أم المؤمنين سودة بنت زمعة زوج النبي [، فإنها لما كبرت خافت أن يفارقها النبي [ ويطلقها، فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان النبي [ يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة.
    وسودة بنت زمعة رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قديما بمكة بعد أن مات زوجها، وبعد خديجة وبعد زواجه بعائشة رضي الله عنهن، لكن لما تزوج النبي [ بعائشة لم يدخل عليها بمكة، وإنما دخل عليها بالمدينة لأنها كانت صغيرة.
    فكانت سودة امرأة قد كبرت بالسن، ورضيت أن تهب يومها لعائشة؛ لأجل أن تبقى في مسمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فتحشر يوم القيامة مع أزواج النبي [، فلأجل هذا الخير العظيم، رضيت أن تهب يومها لعائشة، وأن تتنازل عن بعض حقها، من أجل بقائها في ضمن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة.
    فالصلح جائز بين المسلمين في جميع القضايا، فإذا حصلت بينك وبين أحد من الناس خصومه في حق من الحقوق، واتفقتما على أن تسقط أنت بعض حقك ويسقط هو بعض حقه ليحصل الاتفاق فلا مانع، لكن إذا كان الصلح يتضمن إباحة شيءٍ حرّمه الله، فهذا حرام لا يجوز، ولو اتفقا عليه؛ لأن الاتفاق على الأمر المحرم لا يجعله حلالا! ومثالاً على ذلك نقول: إن المتعاقدين بالربا متراضيان، فلماذا العقد فاسد وباطل؟ قلنا: لأنه تضمن محرما، ولو تراضيا على هذا العقد المحرم؛ فإن التراضي لا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال، ومثله: حُلْوان الكاهن، ومهر البغي.
    فالله سبحانه وتعالى أحلّ الصلح بين الرجل وامرأته، وذكر الله سبحانه وتعالى المقتضي لذلك ونبّه عليه بقوله: {والصلح خيرٌ}.
    أي: يرشد الله سبحانه وتعالى إلى أن بقاء العقد مع حصول التقصير في بعض الحقوق خير للطرفين؛ لأن بقاء الزوجية عموماً فيه خير، ودوام كيان الأسرة المسلمة فيه خير للأولاد، وفيه خير للمجتمع عامة؛ ولهذا أباح الله سبحانه وتعالى مثل هذا الصلح ورغّب فيه، فقال تعالى: {والصلح خير}.
    وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالصلح في مواضع أخرى من القرآن، فقال {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
    ثم ذكر المانع من الصلح أحيانا، وهو الشح، الذي هو البخل مع الحرص، فقال: {َأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128).
    فإذا شحّ كل واحد من الطرفين بحقه، لم يمكن الصلح، فالصلح إذاً لا يكون إلا بأن يتنازل أحد الطرفين عن شيء من حقه أو أن يتنازلا جميعا، أما أن يحرصا ويشحا جميعا بالحق الذي لهما، فلن يمكن الصلح، فالشح وهو البخل بالحق الذي له، أن يبخل بالحق الذي له فلا يتنازل عن شيء منه.
    والشح أمر طبعي، فالنفوس مجبولة على الحرص، ومجبولة على حب الخير لنفسها كما قال تعالى {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات: 8 ) أي: كثير حب الخير لنفسه.
    لكن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى السماحة، ويدعوهم إلى الكرم، والى التنازل عن الحقوق التي لهم، والقناعة ببعض الحق أحيانا، إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة أكبر؛ إذ إنك لا يمكنك بكل حال أن تحصل على حقك كاملا وتاما، وفي كل الظروف، فلا بد إذاً أن تقنع وترضى أحيانا بأقل من حقك، من أجل حصول مصلحة أعظم ، كالتقريب بين المسلمين، والصلح بين المتخاصمين وهكذا.
    وقوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 128) أي: إذا أحسنتم في عبادة الخالق أولاً، وأحسنتم إلى المخلوق ثانيا - لأن الصلح نوع من الإحسان للغير، الذي يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه - أي: إذا أحسنتم في هذا وهذا، فإن الله تبارك وتعالى يحفظ لكم ذلك، ويجزيكم عليه أتم الجزاء {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} فلا تخافوا أن يضيع عليكم شيء من أعمالكم الصالحة وحسناتكم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(14)

    كمــال الديـن

    اعداد: الفرقان





    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2135. عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [ بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
    الشرح:
    هذا الحديث أول حديث في سورة المائدة هاهنا، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب التفسير - الذي هو في آخر صحيحه - وهو في قوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم...} ( المائدة: 3) الآية.
    قوله: عن طارق ابن شهاب وهو البجلي الأحمسي معدود في الصحابة، قال أبو داود: رأى النبي [ ولم يسمع منه، مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين، روى له الستة.
    قال: «جاء رجل من اليهود إلى عمر ]» وهذا الرجل كما هو واضح من سؤاله أنه من أحبار اليهود، أي من علمائهم. جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا يعني لو أن هذه الآية النازلة عليكم من كتاب الله تعالى، نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا نحتفل بها، ونحتفي بها، وهذا يدل على عظمة هذه الآية، وفضلها وبركتها وخيرها.
    قال عمر ]: وأي آية؟ قال الحبر أو قال هذا الرجل من اليهود: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله [ في عرفات في يوم جمعة. وجاء في بعض الروايات: « نزلت ليلة جَمْع نزلت ليلة جمع»، ولا تعارض بين الروايتين، فليلة جمع هي ليلة العيد، وتكون هذه الآية نزلت في يوم عيد فلا حاجة بنا إلى أن نتخذ هذه الآية عيدا، أو نتخذ يوم نزولها عيدا؛ لأنها في الحقيقة نزلت في يوم عيد، بل نزلت في يوم عيد اجتمع مع عيد آخر، وذلك أنها نزلت في يوم الجمعة، ويوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فيه يلتقون ويجتمعون، ويتزينون ويتطيبون ويلبسون أحسن الثياب ويصلون الجمعة، وهي أيضا نزلت في يوم النحر الذي هو عيد من أعياد المسلمين، فهذا اليوم إذن يوم عيد من وجهين: أنه يوم عرفة وليلة جمع ويوم الجمعة، وكل منهما يوم عيد لأهل الإسلام.
    وقوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} هذا من فضل الله سبحانه وتعالى ومنته على هذه الأمة، أن أكمل لها الدين، فلم يبق للمسلمين حاجة إلى شريعة غيرهم، ولا إلى الشرائع الأخرى، وكذا لا حاجة لهم إلى الالتفات إلى العلوم الأخرى في مجال التشريع والأحكام، لأن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهم الدين، وهذا شامل للأصول والفروع، في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، الدين كامل.
    وهذا أبلغ رد على من ادّعى أنه ينصر الإسلام بعلم الكلام المبتدع؟؟! المأخوذ عن اليونان وفارس والهند، فاليونان وفارس والهند وغيرها من الحضارات التي سبقت الإسلام والأديان، لسنا بحاجة لعقيدتهم، ولا لنصرة شريعتهم، ولا الالتفات إلى غير كتاب الله سبحانه وهدي نبيه [، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأن الله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}، ومن قال: إن الإسلام يحتاج لغيره؟! كذبناه ورددنا عليه، وقلنا له: الله أصدق منك قيلا، وكلامك هذا فيه تكذيب لكلام الله تبارك وتعالى؟!
    فإذاً نحن لسنا بحاجة إلى الآراء، ولا إلى المبتدعات من الأقوال أو الأعمال، أو الأقوال والقواعد المخالفة للشرع، ولا حاجة لنا للاشتغال بها؛ لأن ما عندنا كاف شاف، والحمد لله حمدا كثيرا، لأن الله عز وجل لم يقبض رسوله عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن أكمل لنا الدين.
    وقال سبحانه وتعالى أيضا في هذا: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38).
    أي: ما أهملنا ولا أغفلنا شيئا، بل كل شيء أحصيناه في اللوح المحفوظ، الذي هو أم القرآن الذي نزل إليكم، فجميع الأشياء صغيرها وكبيرها فيه.
    وقيل: قوله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أن الكتاب هو القرآن العظيم، وهو قول له ما يشهد له.
    فيشهد له قوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} (النحل: 89) أي: لأصول الدين وفروعه، وفي كل ما يحتاج إليه العباد في الدارين، قد بينها أتم بيان وأوضحه، وبمعان جليلة لا تجدها في مكان آخر.
    وقال تعالى أيضا {ولقد صرفنا في هذا القرأن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ( الكهف: 54 ). فيخبر سبحانه عن عظمة هذا القرآن وجلالته، أنه صرف فيه من كل شيء نافع لكم في الدنيا والآخرة، يوجب لكم السعادة التامة.
    وهذا يعني أن الكتاب العزيز لم يفته شيء أبدا، وأنه ما نزلت بالمسلمين نازلة، إلا وفي كتاب الله سبحانه وتعالى الدليل عليها، أو الدليل على أمثالها؛ لأن الفرعيات من المسائل لا تنتهي، لكن الأصول في كتاب الله تعالى وسنة رسوله التي يقاس عليها، شاملة لكل حادثة تحدث بالمسلمين إلى يوم القيامة.
    قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره ( 2/12): هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه الى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، كل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خُلف، كما قال تعالى {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما اكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} اي: فارضوه أنتم أنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فقد أكمل الله لنا الدين فيما أمرنا به من فريضة وفضيلة ونَدْب، وكل سبب ينال به صلاح القلب والدين، وفيما نهانا عنه من كل مكروه ومحرم، وكل سبب يؤثر فسادا في القلب والدين. (الكلام على مسألة السماع ص 110).
    وقوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} أي: أتم الله سبحانه وتعالى عليكم النعمة، بهذا الدين الكامل الشامل، ظاهراً وباطنا، فإتمام الدين نعمة عظيمة، يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها؛ لأنه غناء وكفاية عن كل الناس.
    وقوله جل وعلا: {ورضيت لكم الإسلام دينا} فالله سبحانه و تعالى رضي لنا هذا الإسلام دينا واصطفاه لنا واختاره، واختارنا نحن لهذا الإسلام، فلنشكر الله عز وجل على هذا، أن ارتضى لنا الإسلام، ومن علينا بنعمة الإيمان، فجعلنا مؤمنين مسلمين موحدين، دون بقية خلق الله أجمعين.
    وهذه الآية من أعظم الأدلة في الرد على أهل البدع والأهواء، الذين يدعون أنهم يكملون الدين، أو يتممون الشريعة، بما أحدثوه من الأقوال والأفعال المبتدعة ، كإقامة الموالد مثلا، أو إحداث الأعياد المختلفة، وغيرها من البدع، فهم يزعمون أن في هذا نصرة للدين، وإظهارا لسيرة الرسول [، فنقول لهم: خير الهدي هدي محمد [، وما عندنا كاف شاف، والحمد لله سبحانه وتعالى الذي امتن علينا به، وقد قال علية الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
    وقال عليه الصلاة والسلام: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك».
    وقال أيضا: «إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض « رواه الطبراني وغيره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    كتاب التفسـير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (15)

    التوحـيد أمـنٌ وأمـان

    اعداد: الفرقان



    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    136. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
    الشرح:
    هذا الحديث في سورة الأنعام، وقد أورده الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: باب صدق الإيمان وإخلاصه، وهو حديث الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي ].
    قوله: « لما نزلت « هذا نص من ابن مسعود في أنه عند نزول هذه الآية، حصل ما ذكر، والمرويات التي تحتف بنزول الآيات، يستعان بها على فهم الآيات والمراد منها، وكيفية العمل بها؛ ولذا لا يستغني عنها المفسر لكتاب الله تعالى، كما في أصول التفسير.
    فابن مسعود ] يقول لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) شق ذلك على أصحاب رسول الله [ «لأنهم ظنوا أن المراد بالظلم هنا، هو الظلم المطلق، أي: كل الذنوب والمعاصي؛ ولذلك قالوا: «أينا لا يظلم نفسه؟ « أي: من منا الذي لا يخطئ أو يقع منه التقصير في حقوق الله تعالى؟!
    ولذلك قال رسول الله [ لهم: « ليس الأمر كما تظنون ! إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) أي: المراد بالظلم هنا، المقيد وهو الشرك.
    وهذه الآية التي من سورة الأنعام، قد ذكرها الله سبحانه وتعالى بعد المحاجة التي كانت بين خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه، فقال سبحانه عنه: {وحاجّه قومه قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئا} (الأنعام: 80). أي: كيف: تجادلونني وقد تبين لي الهدى، واتضح لي الحق؟ وأي فائدة في الجدال، وقد هداني الله ووصلت إلى كمال العلم واليقين بالنبوة والرسالة؟!
    وقوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: أنا لا أخاف آلهتكم الباطلة؛ لأنها لا تضرني ولا تنفعني لعجزها عن ذلك، وقوله {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: إلا أن يشاء الله أن ينالني بمكروه أو سوء، بقضائه وقدره وفعله، لا بفعل أصنامكم وآلهتكم.
    وقوله: {وسع ربي كل شيء علما} أي: قد علم ربي كل شيء؛ لكمال علمه وسعته وشموله، وليس كآلهتكم التي لا تعلم شيئا، ولا تفهم ولا ترد جوابا؛ لأنها جماد، أخشاب وأحجار، لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تعقل. {أفلا تتذكرون}: ألا تتعظون وتعتبرون إن كانت لكم عقول وأفهام، فتتركوا عبادة الصور المنحوتة، والتماثيل المصورة، التي لا تقدر على نفع لكم ولا ضر، ولا تفقه ولا تعقل، بل أنتم أكمل منها؛ لأنكم تسمعون وتبصرون وتتحركون، وهي جامدة.
    ثم قال: {وكيفَ أخافُ ما أَشركتُم ولا تَخافون أنكم أشرَكتُم بالله ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً} أي: كيف أخاف ممن لا يقدر على ضر ولا سوء، لي ولا لغيري، ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن نفسها كسري لها، وضربي لها بالفأس. وقوله {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا} أي: بل أنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم، وهو على كل شيء قدير.
    ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (81) أي: أي الفريقين أحق بالأمن: الذين آمنوا بالله عز وجل، وعبدوه وحده لا شريك له، أم الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، من علمٍ أو كتاب، ولم يرسل به رسولا؟ فالشرك الذي يفعله المشركون لم ينزل فيه كتاب، ولم يأمر الله سبحانه وتعالى به الرسل، بل فعلوه هم بغير برهان ولا كتاب.
    قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) فبين أن الذي يستحق الأمن والهداية، هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: أهل التوحيد، ومعنى (يلبسوا): يخلطوا، أي: لم يخلطوا إيمانهم وإسلامهم بظلم، أي: بشرك، وهذه الآية بعمومها تشمل جميع أنواع الظلم، الظاهرة والباطنة، الكبيرة والصغيرة، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من الآية، وهو المتبادر للذهن، أن الظلم هو أي ظلم، والظلم كما عرّفه أهل العلم هو: وضع الشيء في غير موضعه.
    لكن السنة بيّنت هذه الآية، وأن المراد بالظلم فيها هو: الظلم الأكبر، والظلم الذي لا يغفره الله عز وجل، وهو الشرك به، وهو ما أعلمهم به النبي [ - بعد أن شقت عليهم هذه الآية - أن المقصود بالظلم ، هو ما ذكره لقمان الحكيم في وصيته لابنه بقوله تعالى: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13).
    والوعظ: هو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، فأمره بالإخلاص ونهاه عن الشرك، وبيّن له السبب في ذلك فقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذلك أنه لا أبشع ولا أقبح ولا أظلم ممن سوى بين التراب ورب الأرباب؟؟! بين الناقص العاجز الفقير، والكامل القادر الغني الذي بيده ملكوت كل شيء؟؟!
    إذاً الظلم هنا: صرف العبادة لغير الله تبارك وتعالى، ومن فعل ذلك فهو أظلم الظالمين؛ لجعله المخلوق بمنزلة الخالق.
    وهذا الحديث يبين أن المقصود بالآية هو الشرك بالله تعالى، وهو جعل العبادة في غير موضعها. وقال أهل التفسير: إن الذي يؤمن إيمانا مطلقا، ويسلم تسليما مطلقا، فلا يلبسه بشرك ولا معصية، فهذا له الأمن التام، والاهتداء التام، في الدنيا والآخرة.
    وأما الذي يؤمن إيمانا يخلطه بمعاصي وذنوب، فهذا له أمن غير تام واهتداء غير تام، لكن يحصل له أصل الأمن، وأصل الاهتداء؛ لأنه مسلم لكن لا يحصل له الأمن التام الكامل، بل هو متعرض للعذاب؛ لأن كل معصية تنافي التوحيد، فالمعاصي تنافي كمال الانقياد لله سبحانه وتعالى، وعبادة الله عز وجل حق العبادة، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
    وهكذا الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والحلف بغير الله ونحوه، ينافي الاهتداء التام، والأمن التام.
    وكذلك ظلم الناس، والتعدي على أموالهم وأعراضهم، صاحبه غير مهتد، ومعرض للخوف.
    وقال المعتزلة: إن المراد بالظلم في هذه الآية هو عموم المعصية، لا الشرك؟! وذلك أن الإيمان والمعصية عندهم لا يجتمعان؟! لأن مذهب المعتزلة والخوارج أن صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان بكبيرته؛ لأنه لا يمكن أن يكون مؤمنا ويسرق، أو مؤمنا ويشرب الخمر، فلا يجتمع عندهم هذا وهذا، بل عندهم إن شرب الخمر كفر؟ وإن سرق كفر؟ وان قتل كفر، وان فعل أي كبيرة من الكبائر كفر؟؟!
    أما أهل السنة فيقولون: يمكن أن يجتمع في الإنسان كفرٌ وإسلام، وإيمانٌ ومعصية، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) فهذا قول أهل السنة والجماعة، أن الإسلام والمعصية قد يجتمعان في الشخص، وارتكاب الكبيرة لا يخرج الإنسان عن حدّ الإسلام، بل يسمى صاحبه مؤمنا بإيمانه، فاسقا بكبيرته، وهم معرضون للعقوبات في الدنيا والآخرة.
    ولقمان المذكور في الآية عند عامة أهل العلم أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا. وتفرد بهذا القول، وقيل اسمه: أنعم، وقيل اسمه: مشكم، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(16)

    من علامات الساعة الكبرى

    اعداد: الفرقان


    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2137. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ «.
    الشرح: الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (158) وبوب عليه النووي: باب الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان.
    وهو في قوله تبارك وتعالى: {هل يَنظرون إلا تأتيهم الملائكةُ أو يأتي ربُّك أو يأتي بعضُ آياتِ ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قل انتظروا إنا منتظرون} وهي آية من سورة الإنعام، الآية الثامنة والخمسين بعد المائة.
    والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل، راوية حديث رسول الله، وحافظ سنته، وناقل هديه لمن بعده.
    قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ».
    قوله: «ثلاث» يعني: ثلاث آيات وعلامات، والآيات هي الأمور الخارقة للعادة، والتي يسميها العلماء بالمعجزات، وهي المعجزات الكائنة قبل يوم القيامة، وهذه الآيات كائتة قبل يوم القيامة، وهي دالة على قرب قيام الساعة، وتسمى أمارات الساعة، أو علامات الساعة، وأشراط الساعة، وهي التي تدل على قرب قيام الساعة، قال تعالى: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} (محمد: 18). أي: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون إلا قيام الساعة فجأة، فقد جاءت علاماتها الدالة على قربها {فأنى لهم} فأين لهم وقت التوبة والتذكر، إذا جاءت الساعة، وقامت القيامة؟!
    ففيه حثٌ على الاستعداد للقاء الله تعالى.
    وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هاهنا ثلاث علامات تدل على قرب قيام الساعة، فقال: « ثلاث إذا خرجن» أي: ثلاث آيات وعلامات إذا خرجن، يعني: إذا ظهرن للناس.
    قوله: «لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» هذه الآيات الثلاث إذا خرجن، لا ينفع نفساً إيمانها، أي إذا رأتها ثم آمنت، أي: تابت إلى الله من كفرها وأسلمت، فإنه لا يفيدها ذلك، فلا ينفع الكافر إيمانه إذا رآها، أي: إذا أسلم بعد رؤية هذه الآيات، فان إسلامه لا ينفعه.
    وما الحكمة في هذا؟ أو ما المانع من قبول التوبة؟
    والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته وسنته، واقتضت حكمته، ألا يقبل من الإيمان، إلا ما كان اختياريا، أي: برغبة الإنسان واختياره وإخلاصه، أما ما كان إيمانا اضطراريا، مدفوعا إليه ومكرها، فإن الله عز وجل لا يقبله؛ ولذلك قال الله سبحانه: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرُّشد من الغي} (البقرة: 256). فالمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا حاجة لنا لإكراه الناس على دين الله عز وجل؛ لأن دين الله وهو التوحيد والإسلام واضح جلي، وآياته وحججه وبراهينه أظهر من أن تنكر، وإنما يجبر المرء على ما لم يتضح فائدته وصلاحه، من الأمور الخفية أو الغامضة أو الضارة.
    ولذلك لا يقبل الله عز وجل إسلام المكره على الإسلام، وهكذا إيمان الغريق إذا عاين الموت، كإيمان فرعون لما أدركه الغرق، فإنه قال لما جزم بهلاك نفسه كما حكى لنا القرآن الكريم: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس: 90). فقال الله تعالى له: {ءآلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين} (يونس: 91) أي: الآن تسلم وتنقاد لله ولرسوله، وقد عصيت الله وبارزته بالمحاربة وبالكفر والتكذيب؟! فلا ينفعك ذلك.
    وهكذا المريض إذا عاين الموت، أو الحريق، وغرغرت الروح، وآمن عند ذلك، فلا يقبل الله منه هذا الإيمان؛ لأن الإيمان المطلوب من العباد هو الإقلاع عن الذنوب والمعاصي والشرك، في زمن الاختيار، أي: في زمن يختار فيه الإنسان إيمانا رغبة فيه، وإخلاصا لله عز وجل، واستجابة لأمره، وإلا فالأمر كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 84 - 85).
    أي: لما رأوا عذاب الله وشاهدوه، وأحاط بهم، آمنوا وأقروا، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان. قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي: في تلك الحال، وهذه {سُنَّة اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي عادته؛ فلا يقبل إيمانهم، ولا ينجيهم من عذابه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم.
    وقال صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليقبل توبة العبد، ما لم يغرغر» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه.
    وقوله تعالى: {أو كسبت في إيمانها خيرا} أي: ولا يقبل من المؤمن المقصّر المذنب، صاحب المعاصي، إذا رأى هذه الآيات، لا يقبل منه أن يتوب عن معاصيه ولو كانت غير مكفّرة، ولا يقبل منه كذلك أن يزداد في إيمانه، بعمل الطاعات والقربات؛ لأنه عاين الساعة وشاهدها، وإنما يقبل منه ما كان له من عمل صالح سابقا، وإيمان قبل ظهور هذه الآيات، وقبل خروج هذه العلامات للقيامة، فينفعه الخير الذي كان عنده قبل، أما إذا أراد مثلا أن يزداد عملا، فكان سابقا يصلي الفريضة فقط ولا يزيد، فإنه إذا تطوع بعد هذه الآيات لا يقبل منه، ولو أراد أن يصلي من الضحى، أو يصلي من الليل بعدها، ولم يكن يعمله قبل ظهور هذه الآيات، فإنه لا يقبل؛ لأنه إنما فعله مضطرا، والله سبحانه وتعالى إنما يحب منا الإيمان والطاعة في زمن الاختيار؛ ولهذا كان التعبد لله سبحانه وتعالى والدعاء في زمن الرخاء والراحة، يحبه الله عز وجل من العبد؛ لأنه دليل الرغبة فيما عند الله، والرهبة مما عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي: « من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر من الدعاء في الرخاء ».
    أما أول هذه الأمور التي إذا حصلت وخرجت، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فهو: « طلوع الشمس من مغربها» وفي الرواية الأخرى لمسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا ».
    وطلوع الشمس من مغربها قال أهل العلم: هو أول الآيات الكونية الكبرى، وعلامات الساعة منها صغرى ومنها كبرى، ومنها أرضي ومنها سماوي، فالأرضي هو ما يفعله الناس، أو ما يقع من الناس، أو ما يحدث على الأرض، مثل: كثرة الجهل وقلة العلم، وذهاب العلماء، وكثرة الزنى وانتشاره، وشرب الخمر مع تسميتها بغير اسمها، ومثل عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وإخلاف الوعد، فهذا وما أشبهه مما يقع، هو من علامات الساعة الأرضية.
    وهناك علامات سماوية: أي تقع في السماء، وأعظم الآيات الكونية: طلوع الشمس من مغربها، وسيأتي الكلام عليها في الحديث التالي.
    أما الدجال: فالمقصود به رجل يخرج في آخر الزمان، عند ظهور المهدي ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء، عند ذلك يخرج الدجال، وهو الدجال الأكبر، وإلا فالدجالون كثر في كل زمان ومكان، ولكن هذا رأسهم وكبيرهم، ومن كفره وطغيانه أنه يدعي الإلهية ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، وتكون معه فتنة عظيمة؛ إذ إنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها، فتتبعه كنوزها كأنها يعاسيب النحل، أي: كأنها جماعات النحل، ومعه جنة ونار، جنة فيها ماء يجري، ومعه نار تلظى، فناره جنة في الحقيقة، وجنته نار، ويدعو الناس إلى الإيمان به بأنه هو الإله، فمن آمن به قذف به إلى جنته، التي هي في الحقيقة نار، ومن كفر به قذف به إلى ناره، التي هي جنة في الحقيقة.
    وأما دابة الأرض: فهي دابة تخرج في آخر الزمان، جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل: 82).
    أي: إذا جاء الوقت الذي حتمه الله، أخرج لهم دابة من الأرض وليست من السماء، تخاطب وتكلم الناس، كلاما خارقا للعادة، فتكون عليهم حجة وبرهانا.
    وهذه الدابة تخرج إلى الناس وتميزهم وتسمهم بعلامات، يعرف بها المؤمن من الكافر، كما ورد في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم – أي على أنوفهم – ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطّمين» رواه أحمد (5/268) وصححه الألباني – الصحيحة (322).
    وهذه الدابة لها بعض التفاصيل المذكورة في كتب التفسير لا تصح، وقد أعرضنا عنها، وإنما ورد ذكرها في القرآن في هذه الآية من سورة النمل، وجاء ذكرها أيضا في هذا الحديث.
    وفي الحديث هنا: أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من المؤمن عملا ما يزيد في إيمانه عند خروجها، كما لا ينفع الكافر إسلامه أو إيمانه أو رجوعه وتوبته؛ لأن تصديقه صار اضطراريا وليس اختياريا، أما ما كان قبل ذلك من عمل، فإنه يكتب لأهل الإسلام وأهل الإيمان.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(17)

    -من علامات الساعة الكبرى (2)

    اعداد: الفرقان




    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2138. عَنْ أَبِي ذَرٍّ ] أَنَّ النَّبِيَّ [ قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}».
    الشرح: الحديث الثاني في هذا الباب: وهو باب قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} (الأنعام: 158). وقد رواه مسلم في الإيمان (159)، هو حديث أبي ذر ] أن النبي [ قال يوما لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم» وهذه عادة الصحابة الكرام، وهي من أدبهم مع رسول الله [، أنهم لم يكونوا يتكلمون بين يديه، وأحيانا لو علموا الجواب ما تكلموا، وفي هذا طلب زيادة الانتفاع بكلام النبي [، وكذلك الكبراء والعلماء، ولو كان عند الإنسان علم.
    قوله [: «إن هذه»، يعني الشمس «تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها»، فهذه الشمس تجري كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} يعني: أنها غير ثابتة، بل أثبت الله  تبارك وتعالى لها الجريان، والجري: هو السير بقوة وبسرعة، فالشمس تجري بسرعة وبقوة حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش.
    قال عياض: هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين من أهل السنة، خلافا لما تأولته الباطنية (شرح النووي 2/195).
    ولا بد أن نعلم أولا: أن الشمس أينما كانت فهي تحت العرش، وكذلك جميع المخلوقات هي تحت العرش؛ لأن العرش فوق السموات كلها، وهو سقف المخلوقات جميعاً، فهو أعلى ما خلق الله تعالى من المخلوقات، وقد ذكر الله سبحانه استواءه عليه، وارتفاعه فوقه، فقال: {الرحمن على العرش استوى} أي: علا وارتفع، في سبع آيات من القرآن الكريم.
     وجاء في الحديث الصحيح أن العرش سقف جنة الفردوس، إذ يقول [: «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة» رواه البخاري (7423). والفردوس كما هو معلوم هو أعلى الجنة، يعني في السموات العلى.
    فالشمس أينما كانت، هي تحت العرش، وسجود الشمس يليق بخلقها، ويليق بطبيعتها؛ لأن سجود كل مخلوق بحسب خلقه، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الجبال والجمادات أن سجودها بالعشي والإبكار، إنما هو بالظلال، وكذا كل كافر يسجد ظله لله رغما عنه، قال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل: 48) فقوله: {ما خلق الله من شيء} أي: كل مخلوقات الله التي لها ظل، هي ساجدة لله،خاضعة لعظمته، بظلالها، تارة عن اليمين، وتارة عن الشمال، في الشروق والغروب {وهم دَاخِرُونَ} يعني: راغمون صاغرون.
    فذكر الله سبحانه وتعالى أن سجود الجبال ونحوها أنه يكون بالظلال، فالظل يكون على الأرض خارّا ساجدا، وهذا نوع من السجود لله تعالى.
    وسجود الشمس هو أيضا بحسب خلقتها وطبيعتها، وهو بتمييز منها وإدراك خلقة الله فيها. وقد أخبر النبي [ أنها إذا صارت تحت العرش، وذلك عند منتصف الليل - وهي أبعد ما تكون عن العرش - فحينئذ تسجد، وتظل كذلك ساجدة حتى يؤذن لها.
    قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم، استقرت تحت العرش، إلى أن تطلع من مغربها.
    قوله: «فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها» يعني تشرق الشمس من المشرق كالعادة، لا يستنكر الناس منها شيئا؛ إذ كل يوم يرونها تشرق من المشرق، وتجري حتى تكون في كبد السماء - منتصف السماء - عند الظهيرة، وبعد ذلك تميل لجهة الغرب حتى تغرب، ثم تظل سائرة حتى تكون في منتصف الليل تحت مكانها من الظهيرة، فحينئذ تسجد ثم تستأذن بأن تخرج مرة أخرى من مشرقها.
    (انظر تفسير ابن كثير 3/528) عند قوله {والشمس تجري لمستقر لها} (يس: 38).
    وهذا كله خبر غيبي، يخبر به نبينا [ الذي {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} (النجم: 3- 5).
    قوله «فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا»   حتى تنتهي إلى يوم يقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، بدلا     من أن تطلع من المشرق، أي: على عكس ما كانت تفعل كل يوم، فتصبح طالعة من مغربها، بأمر الله تعالى وتقديره وعلمه وحكمته.
    وهذا تحول كوني عظيم، يندهش له العالم، وتطير له عقولهم، ويهرعون عنده إلى التوبة وترك المعاصي، والدخول في الإسلام، ولكن هيهات وقت التوبة؟! فقد مضى وانتهى، وحقّ عليهم قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مُريب} (سبأ: 54).
    ثم قال [: «أتدرون متى ذاكم؟» يعني: متى يكون طلوع الشمس من المغرب؟!
    قال: «ذاك حين {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}» فإذا طلعت الشمس من المغرب، فإنه لا ينفع نفسا إيمانها، لا ينفعها إيمانها إن كانت كافرة فآمنت وأسلمت؛ إذ لا يقبل منها الإسلام حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى كما ذكرنا في الحديث السابق، لا يقبل من الناس الإيمان الاضطراري، وإنما يقبل منهم الإيمان الاختياري، وإذا حصل ما يدفع الإنسان إلى الإيمان والإذعان اضطراريا، فإن الله لا يقبل منه هذا الإيمان، مثل الغرق والحرق وظهور هذه الآيات الكونية الباهرة فعندئذ لا ينفع نفسا إيمانها، {أو كسبت في إيمانها خيرا}، يعني أن تزيد في عملها الصالح عملا آخر لم تكن كسبته من قبل، فأهل القبلة المصدقين إذا رأوا هذه الآية التي اضطرتهم إلى هذا العمل الصالح، لا يقبل منهم ذلك، إلا ما كانوا عملوه من قبل. وذكر في الحديث السابق أيضا: ظهور الدجال وخروج دابة الأرض، فهذه ثلاث آيات إذا خرجت لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا.
    وقال أهل التفسير: للشمس مستقر زماني، ومستقر مكاني، أما المستقر الزماني فهو قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38). وهو منتهى سيرها؛ حيث ينتهي جريانها، وذلك في يوم القيامة، فإذا جاءت الساعة بطل سير الشمس ووقفت، وكوّرت، أي: تُجمع وتلف وتصير كالكرة، وجمعت هي والقمر، كما قال سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 
    (القيامة: 9).

    فتسكن حركة الشمس عند نهاية هذا العالم، وهذا المستقر الزمني الأول.
    أما المستقر المكاني: فهو سجودها تحت العرش، كما نص هذا الحديث عليه. وقد روى الإمام مسلم    هذا الحديث عن أبي ذر مختصرا (1/139)، ولفظه: «قال أبو ذر ]: سألت رسول الله [ عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) قال: «مستقرها تحت العرش».
    وفي رواية أخرى قال:  دخلت المسجد ورسول الله [ جالس، فقال: «يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها».
    وذلك التقدير تقدير العزيز العليم، العزيز الذي لا يخالف في أمره، ولا يمانع في قدرته، العليم بجميع الحركات والسكون، وهو سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
     وقد يقول قائل: نحن نرى الشمس تشرق وتغرب وتسير، ولا نرى لها سجودا؟! ولا نرى لها تحركا غير اعتيادي؟!
    والجواب أن نقول: نحن نؤمن بهذا الخبر الغيبي، الذي قد لا يدرك بالحس والمشاهدة؛ إذ هو من العلم الغيبي، الذي علّمه الله تعالى لنبيه [، والواجب علينا الإيمان والتصديق والتسليم، وترك الاعتراض والشك، كما قال عز وجل عن صفات المؤمنين: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: 2).
    والله تعالى أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(18)

    من قبائح الجاهلية

    اعداد: الفرقان


    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2139. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ، فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
    الشرح: هذا الحديث في سورة الأعراف، وقد رواه مسلم في التفسير، وهو عن الحبر ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
    يقول ابن عباس: « كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانه».
    وفي رواية لمسلم عن ابن عباس: « أن الرجال كانوا يطوفون بالبيت عراة نهارا، وكانت النساء تطوف بالبيت عراة ليلا طلبا للستر « أي: طلبا للتستر عن أعين الناس؟
    فتقول: «من يعيرني تطوافا» التطواف هو الثوب الذي يطاف به، أي: لكي تستر به عورتها أثناء الطواف.
    وهذا الفعل المنكر الذي زيّنه الشيطان الرجيم لأهل الجاهلية، وهو أنه زيّن لهم الطواف بالبيت الحرام بمكة عراة؟! إذا جاؤوا مكة للعمرة، يرمون ثيابهم التي يزعمون أنهم عصوا الله تعالى فيها، ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها بعد ذلك أبدا، بل تُداس بالأرجل حتى تبلى وتتمزق، ويسمونه: الإلقاء أو اللقى، حتى جاء الإسلام، وحرم الله ذلك، ومنع النبي [ المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة، وأمر بستر العورة، وذلك لما أرسل أبا بكر رضي الله عنه، وأردفه بعلي ]، أن يؤذّنا في الموسم: « ألّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». رواه البخاري (369) ومسلم في الحج (4/982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    وكان أهل الجاهلية ينسبون هذا الفعل القبيح إلى آبائهم وإلى الله تعالى؟! قال سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف: 28).
    فقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الفاحشة هنا: هي الطواف بالبيت عراة، وهذا من أبشع ما يتصور!! أن يتعرّى الإنسان عند بيت الله الحرام، في المسجد العتيق المبارك؟! الذي أمر الله من بناه وهو خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتطهيره، فقال: {وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (الحج: 26).
    فقوله: {وطهر بيتي} أي: من الشرك والمعاصي، ومن النجاسات والأقذار، الحسية والمعنوية، وأضافه إلى نفسه فقال: {بيتي} تشريفا وتعظيما، فتعظم محبته في القلوب.
    فانظر كيف استدرج الشيطان أهل الجاهلية، وجعلهم ينحطون إلى مثل هذه الحالة المزرية القبيحة، بما سوّل لهم وزين من القبيح، وإظهاره بصورة التعبد والتبرر، وهذا من قلب الحقائق، وعكس المفاهيم، وعدو الله بارع في مثل هذه الأحوال، حيث يقلب الحق باطلا، والباطل حقا، والحسن قبيحا والعكس، ويأتي الناس من باب العبادات، فيشرع لهم ما لم ينزل به الله سلطانا، فقال للمشركين: هذه ثياب عصيتم الله فيها، فكيف تطوفون بها ببيت الله الحرام؟! بل نزهوا بيت الله الحرام عن الطواف بهذه الثياب المليئة بالذنوب؟! فألقوها عنكم، وحرموا ما أحل الله اتباعا للشيطان؟! فكان أحدهم إذا جاء إلى مكة، ووجد من يُعيره ثوباً يطوف به فعل، وإلا ألقى ثيابه، وطاف بالبيت عريانا بغير ثياب؟؟!
    وهذا إذا كان لم يقدر على شراء ثوب جديد يطوف به.
    والأقبح من ذلك أنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ذلك؟! ثم نسبوا هذا الفعل الشنيع لله عز وجل ولشرعه، فقال الله تعالى عنهم {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالله الذين اتبعوا الشيطان، يزعمون أن الذي أمرهم بذلك هو الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! فرد الله عليهم هذا الزعم الباطل فقال: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} قال ابن جرير: أي: قل لهم يا محمد: الله لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها، ثم قال: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أتروون على الله أنه أمركم بالتعري؟! والتجرد من الثياب واللباس للطواف؟! وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟
    ثم قال الله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي: قل لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله: إن الله إنما يأمر بالقسط، أي: بالعدل، وأن تجعلوا سجودكم لله خالصا، دون ما سواه من الآلهة الباطلة.
    وقد قال الله سبحانه وتعالى محذرا قبل هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} (الأعراف: 27).
    فقوله: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي لا يخدعنكم الشيطان، ويوقعكم في الفتنة والبلاء العظيم، ويصدكم عن سبيل الله تعالى، كما فعل مع أبويكم، بمكره وحيلته، حيث زين لآدم وزوجه الأكل من الشجرة التي نهاهم الله عنها، فلما أكلا من الشجرة، بدت لهما سوءاتهما، وطارت عنهم ثيابهما، وما كان يسترهما من الستر، قيل: كان نورا، فظهرت لهما السوءة؛ فلهذا حذر الله من هذا المكر الشيطاني وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وأنزل تبارك وتعالى بعدها {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. رواه ابن جرير (14507 ).
    وقوله: {عند كل مسجد} يعني: عند كل صلاة، فرضا كانت أو نفلا، فيجب على المصلي أن يأخذ زينته للصلاة.
    والزينة: قال أهل التفسير: هي اللباس الذي يستر العورة، فيجب على الإنسان إذا أراد أن يصلي أن يستر عورته، فهذا واجب كما قلنا في الصلوات كلها بلا خلاف بين المسلمين.
    وقال بعض أهل التفسير: قوله {خذوا زينتكم} المقصود به ما هو زائد على مجرد الثياب، فهو ما يتزين به الإنسان زيادة على ثيابه، يعني الزينة التي تكون فوق الثياب التي يستر بها عورته ، كالعمامة والعباءة، وكذا الطيب، والتنظّف ما استطاع، والسواك، ولاسيما في الصلوات التي يجتمع لها المسلمون كصلاة الجمعة والعيدين؛ فإن هذا مما يزداد سنيته واستحبابه، والنبي [ حث على ذلك: «ومن أتى الجمعة فليغتسل يمس من طيبه ومن طيب أهله» ويتسوك فيأخذ زينته عند كل صلاة، فهذا مشروع وشي محبوب.
    وروى الطبراني: عن تميم الداري ] بسند صحيح: أنه اشترى ثوبا بألف دينار، أو بألف درهم يلبسه للصلاة؛ تجملا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
    وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى، وأمر القيام بين يديه.
    لكن هذا لا يعني الإسراف في ذلك، فقد قال سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال {ولا تبذر تبذيرا}، وقال: {إن الله لا يحب المسرفين} وغيرها.
    فكما أمركم الله سبحانه وتعالى بأخذ الزينة، وخاطبكم بذلك فهذا لا يعني الإسراف في ذلك. وقال [: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، في غير إسراف ولا مخيلة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
    ويروى أيضا موقوفا عن ابن عباس أنه قال: كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة.
    من غير أن يكون في ذلك مبالغة في الإسراف، ولا مخيلة: يعني خيلاء وفخر وكبر.
    وقد حث النبي [ على لباس البياض، فقال [ فيما رواه الإمام أحمد وأهل السنن: «البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم».
    وقال أيضا: «البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر واطيب، وكفنوا موتاكم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وابن ماجة – صحيح الجامع.
    فهو لباس كان يستحبه النبي [ ويكثر من لبسه.
    وستر العورة عند إرادة الصلاة، واجب في كل حال من الأحوال كما ذكرنا، ولو كان الرجل خاليا وحده في بيته، فالصلاة لا تصح إذا صلى الإنسان كاشفا عورته , والمرأة كذلك، وهي كلها عورة في الصلاة إلا الوجه والكفين على الصحيح، كما جاء ذلك في حديث النبي [: « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار».
    وقوله «حائض» يعني: بالغة.
    والله تعالى أعلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(19)

    من صفة نعيم أهل الجنة

    اعداد: الفرقان



    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    2140. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِ[: «يُنَادِي مُنَاد:ٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}».
    الشرح:
    هذا الحديث الثاني في سورة الأعراف، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
    وهو حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا، روياه عن النبي [ أنه قال: «ينادي مناد» وهذا المنادي قد يكون من الملائكة، أو من غيرهم، فينادي أهل الجنة مبشرا لهم فيقول: «إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا» أن تصحوا يعني أن تكونوا صحاح الأبدان، فلا يصيبكم في الجنة الأمراض ولا الأسقام، فالمرض لا يطرأ على أهل الجنة، بقدرة الله سبحانه وتعالى وحفظه وبأمره.
    قوله: «وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا»، فأهل الجنة لا يموتون أبدا، كما قال الله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان: 56). يعني: لا يموتون أبدا إلا موتة الدنيا.
    وقال سبحانه تعالى في مواضع كثيرة من القرآن: {هم فيها خالدون} وقال {خالدين فيها أبدا} وقال: {لهم فيها نعيم مقيم}، وقال: {عطاءً غير مجذوذ} أي: غير مقطوع. وهذا وأمثاله في القرآن كثير؛ مما يدل على أبدية الجنة وأهلها ونعيمهم.
    قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في «العقيدة»: « والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان».
    وذلك أن الموت من أعظم المنغصات للإنسان، وهو يتقيه بكل ما أوتي من قوة ومال وجاه وسلطان، ولو ذكره أو تذكره وهو في فرحه وسروره، وبين أهله وولده، وفي ملكه وسلطانه، لضاقت نفسه وتكدّرت، وتغيرت من الفرح والسعادة، إلى الضيق والحزن، والهم والغم.
    فأهل الجنة لا يجري على بالهم الموت ولا الفناء، أو حتى الانتقال مما هم فيه، كما قال تعالى: {لا يبغون عنها حولا}.
    قوله: «وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» أي: إن أهل الجنة في شباب دائم، لا يطرأ عليهم الهرم، ولا تصيبهم الشيخوخة، ولا يشيبوا، بل هم في شباب مستمر دائم لا ينقطع، بأمر الله سبحانه وتعالى، قال [: «أهل الجنة جُردٌ مردٌ كُحل، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم» رواه الترمذي بسند حسن.
    قوله: «وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» أي: إن لكم أن تنعموا نعيماً مستمرا أبدا، ليس فيه بؤس، والبؤس: هو الفقر وشدة الحال، وأيضا البؤس هو الشقاء، فأهل الجنة لا يصبهم شقاء، بل هم في راحة وسعادة وطمأنينة، لا يكدر عيشهم شيء من الأكدار، لا الأمراض ولا الفقر، ولا يهابون الأعداء، ولا يذهب عنهم الأمن، ولا يصيبهم الفزع، ولا ينغص عيشهم مرض ولا موت، ولا ارتحال ولا انتقال، كل هذه المنغصات ممنوعة عنهم ومرفوعة، فلا يصبهم فيها شيء منها؛ لكمال نعيمهم.
    قوله: قال [: «فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43)».
    { وَنُودُواْ}: أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات (نودوا) مبني لغير المذكور، قيل: المنادي هو الله سبحانه وتعالى؛ تكريما لهم وتشريفا.
    وقيل: المنادي هم الملائكة.
    والحاصل أنهم ينادون بذلك تهنئة وبشارة لهم، وتحية إكراما.
    ومعنى قول الله عز وجل: {أورثتموها} أي: كنتم أنتم الوارثين لها، والمقصود هم أهل الجنة، لكن هم ورثوا الجنة عمن؟! هل كان في الجنة أحد قبلهم ليرثونها عنهم؟ قال بعض أهل التفسير: إن أهل الجنة يرثون منازل الكفار؛ لأن كل إنسان له منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن هو آمن وعمل بعمل أهل الجنة، دخل منزله في الجنة، وإن هو كفر وعمل بعمل أهل النار والعياذ بالله، دخل منزله في النار، وورث أهل الجنة منزله بالجنة.
    وقيل: معنى {أورثتموها} أن هذه المنازل التي في الجنة إنما أعطيتموها بالأعمال الصالحة التي اكتسبتموها، وبرحمة الله تبارك وتعالى.
    وقيل: {أورثتموها} يعني: جاءتكم بلا تعب ولا نصب، ولا بناء بيوت وقصور، ولا غرس زروع وأشجار، ولا شق أنهار، بل أخذتم ذلك كله سهلا، كالميراث في الدنيا، فالميراث يأتيك بغير تعب ولا اكتساب، فكذلك الجنة وما فيها من النعيم الواسع، من مساكن وأشجار وبساتين وأنهار وأزواج، هذا كله جاءك بغير تعب ولا نصب كالميراث الذي لم تتعب فيه.
    وقول الله عز وجل: {بما كنتم تعملون}، الباء هنا هي السببية، أي إن أعمالكم كانت سبباً في دخولكم الجنة، بعد رحمة الله سبحانه وتعالى وفضله؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي وفقكم للإيمان والعمل الصالح، وهو الذي أقدركم وأعانكم على العمل الصالح، ووقاكم شر أنفسكم والشيطان.
    أما المعتزلة فيقولون: أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم وليس بتوفيق الله؟! لأنهم يزعمون: أن الله عز وجل لا يقدر أن يهدي ضالا؟! ولا أن يضل مهتديا، بل ولا أن يزيد المهتدي هداية؟! وإنما هي أعمال كلها كسب من العباد فقط عندهم؟!
    قال جار الله الزمخشري المعتزلي صاحب كتاب: « الكشاف في التفسير» في تفسيره لقوله تعالى: {بما كنتم تعملون}: بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة؟؟! انتهى.
    هكذا قال؟! ومن هم المبطلة؟ يقصد أهل السنة والجماعة؟! للأسف الشديد!! لأنه على مذهب المعتزلة في تفسيره «الكشاف»، وقد بث فيه عقيدتهم؛ فلهذا حذر منه أهل العلم قديما وحديثا، وتعقبه ابن المنير في حاشية له مطبوعة على الكتاب.
    وذلك لأنهم قدرية في باب القدر، والقدرية يقولون: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، أي: إن أفعال المخلوقين غير مخلوقة لله عز وجل؟! وهذا خلاف الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقال {والله خلقكم وما تعملون}، وهو إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
    واحتجوا بأن النبي [ يقول: «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
    والجواب: أن الباء التي في قوله «بعمله» غير الباء التي في قوله: {بما كنتم تعملون} فإن الباء الأولى هي باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الجنة، وأما الباء الثانية، فهي باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى خالق الأسباب والمسببات، فيرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
    فالتصريح بأن الأعمال سبب لدخول الجنة، لا يعني نفي سبب آخر، وهو فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، كما ذكّر الله به عباده في كتابه كثيرا فقال سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وقال عز وجل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} وقال: {ذلك الفضل من الله} وقال: {يدخل من يشاء في رحمته} وقال: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} فهذه كلها آيات تدل على أن الأعمال التي كانت سببا لدخول الجنة، كانت برحمة الله تعالى وإحسانه، وهي السبب العظيم - بل هي الأصل – لدخولها.
    وقال بعض أهل العلم: إن دخول الجنة هو برحمة الله وفضله، وأما الدرجات فبتفاضل الأعمال وتفاوت ما بين المؤمنين، فهناك السابق بالخيرات وهناك المقتصد، وهناك الظالم لنفسه.
    وما أجمل ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
    فحيّ على جنات عدنٍ فإنها
    منازلك الأولى وفيها المخيم
    ولكننا سبي العدو فهل ترى
    نعود إلى أوطاننا ونسلّم
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا جميعا في رحمته، ويرفع منازلنا في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد [.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(20)

    الأمان من العذاب

    اعداد: الفرقان



    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    سورة الأنفال: باب: في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
    2141. عن أَنَس بْن مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ، أَو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
    الشرح: الحديث في سورة الأنفال، وقد أورد فيها المؤلف حديثاً واحدا، في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 33- 34 ).
    والحديث عن أنس بن مالك ]، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، وأورده الإمام المنذري في كتاب التفسير من مختصره هنا؛ وذلك لأن المنذري جمع أحاديث التفسير من صحيح مسلم في مكان واحد، والإمام مسلم وأن كان قد ذكرنا سابقاً أنه قد أفرد أحاديث التفسير في كتاب في آخر صحيحه، إلا أنه قد فرّق بعض الأحاديث المتعلقة بالتفسير في خلال كتابه الصحيح.
    قال أنس ابن مالك رضي الله عنه: «قال أبو جهل، وأبو جهل هو عمرو بن هشام عدو الله ورسوله، وكان يسمى بأبي الحكم، فسمّاه النبي [ بأبي الجهل! وجاءت تسميته في بعض الأحاديث - وان كان في سندها كلام – تسميته بفرعون الأمة، وهكذا كان لعنه الله، فقد كان رأساً في الكفر والإلحاد، والمحادّة والمعاندة لله تعالى، والمعاداة لرسوله [، وقد قتل يوم بدر كافرا.
    قال: قال أبو جهل: « اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فأمطر علينا حجارةً من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم» وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه هذه المقالة، التي تدل على جهله وسفاهته، وقلة عقله، وظلمه لنفسه وقومه، إذ قال: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} أي: إن كان ما يدعو إليه محمد [ هو الحق الذي أرسلته به. وقال مجاهد وعطاء والسدي وغيرهم إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث (انظر تفسير الطبري 11/142 – 145).
    وقد تكون هذه المقالة قد تكررت على لسان هؤلاء جميعا.
    وقوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) أي: أنزل علينا عذابا، إن كنا قد عصيناك بترك اتباع محمد [؟! وهذه مقالة الأغبياء والسفهاء، والجهلة الظالمين؛ لأنه إن كان يريد التوصل إلى الحق الذي يعتقده بدليل أو ببرهان، فكان الواجب عليه أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأرشدنا إليه، أو اهدنا له، وبينه لنا، لكن قال هذه المقالة التي تدل على الغباء والسفاهة وقلة العقل، وقد قالها من قبله الجهلة والكفرة من الأمم السابقة، فاستعجلوا العذاب والعقوبة من الله عز وجل، كما قال سبحانه عنهم: {ويستعجلونك بالعذابِ وولولا أجلٌ مسمّى لجاءهم العذاب وليأتينّهم العذابُ بغتةً وهو لا يَشعرون} (العنكبوت: 53).
    وقال تعالى أيضا: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس دافع له من الله ذي المعارج} (المعارج: 1 – 3)، قال ابن عباس: إن السائل: هو النضر بن الحارث ابن كلدة. وقال تعالى أيضا: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: 16) أي: عجل لنا قسطنا وما قسمت لنا من العذاب عاجلا غير آجل؟! إن كان محمد [ صادقا!
    وقال الجهلة من قوم شعيب \: {فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} (الشعراء: 187) أي: أنزل علينا قطعا من العذاب من السماء. وهذا يدل على الجحود والإنكار من الأمم لما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم من الهدى ودين الحق والتحدي والعناد.
    وكأنما ما جاءت به الرسل، وما جاء به محمد [ ليس بيّنا ولا ظاهرا ولا واضحا، ولا دلت عليه الدلائل المتكاثرة والآيات والمعجزات! بل كأن ما جاءوا به كان خفيا، فقال هنا «إن كان هذا هو الحق من عندك»، وهذا لا شك أنه معاندة ومكابرة لرسول الله [.
    قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: يكون قذف بالحجارة من السماء ورجم، أو أي عذاب أليم ينزل من السماء، فقال الله سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم، حتى يخرجهم.
    والمقصود هو رسول الله [، أي: ما كان الله عز وجل ليَعم بالعذاب أمةً فيها نبيها، حتى يتوفاه الله عز وجل، أو يخرجه من بين ظهرانيها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} (الزخرف: 41).
    يعني: إذا توفاك الله أو ذهب بك، فإنه سينتقم من قومك المكذبين المستكبرين؛ فلهذا قال عز وجل هنا: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الأنفال: 33). قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال ابن عباس: كان فيهم أمانان، يعني: أمانان من العذاب: الأمان الأول: وجود النبي [ بينهم، والأمان الثاني: الاستغفار.
    فذهب الأمان الأول بوفاة النبي [، وبقي الأمان الثاني وهو الاستغفار، فوجود النبي [ في الأمة، أمان من عذاب الله سبحانه وتعالى، والأمان الثاني الاستغفار، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة.
    وما المقصود بالاستغفار في قوله: {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فهل كان المشركون يستغفرون الله؟! قال أهل التفسير: كانوا يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك. وقال آخرون: كانوا إذا خلوا بأنفسهم: استغفروا الله عز وجل من قولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء؛ إذ كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن هذا القول قبيح، وكلام عظيم، فكانوا إذا رجعوا إلى بيوتهم وخلو بأنفسهم، خافوا الله عز وجل وخافوا من عذابه، فكانوا يستغفرون الله عز وجل.
    والقول الثالث: وهو قول أيضا راجح وقوي: أن معنى الآية: أن الله عز وجل لم يكن معذبهم وفيهم المسلمون الذين يستغفرون الله تعالى، فلما خرج المسلمون من بين أظهرهم، أي لما هاجروا إلى المدينة، عذّبهم الله عز وجل في يوم بدر وما بعدها. فالمقصود إذاً من كان من المسلمين بمكة. والمعنى الرابع: وهو معنى قد يمكن دخوله في الآية، أي: وفي أصلابهم من يستغفر الله، يعني سيخرج من أصلاب المشركين من يستغفر الله.
    والمعنى الخامس: أن هذه دعوة من الله لهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله، إذا أرادوا أن يرفع الله عز وجل عنهم البلاء والعذاب، والحجارة من السماء التي طلبوها، فعليهم أن يستغفروا الله سبحانه وتعالى.
    إذاً دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان من عذاب الله تعالى وعقوبته، وأمان من سيئات الأعمال، فمن خاف من سيئات أعماله، أي السيئات التي تصيبه بسبب ما كسبت يداه، بسبب ظلمه، أو بسبب فسقه، بسبب تعديه لحدود الله، فعليه أن يستغفر الله عز وجل، والآيات والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا، كقوله تعالى {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} (هود: 3).
    وكقول نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} (نوح: 10 – 12) وغيرها من الآيات التي يمكن الرجوع إليها في مظانها.
    وقول الله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله} أي هم مستحقون لعذاب الله عز وجل في الحقيقة، وأهل لذلك، لماذا؟ قال الله عز وجل في بيان ذنبهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 34).
    وهذا ذنبٌ عظيم ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، وهو أنهم كانوا يصدون عن البيت الحرام، فيمنعون المؤمنين من الحج والعمرة والطواف بالبيت الحرام، وهذا حصل منهم بعد هجرة النبي [، بل قبل هجرته [، فكانوا يمنعون من يقرأ القرآن عند البيت الحرام، ويمنعون من الصلاة عنده، كما يمنعون المسلمين من الطواف بالبيت الحرام، ويسبونهم فيقولون: هؤلاء الصابئة هؤلاء كذا وكذا، فيؤذونهم إذا طافوا بالبيت الحرام، قال عز وجل: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أولياؤه إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنفال: 34).
    وقوله: {وما كانوا أولياءه} فيه قولان: الأول: أن الضمير في (أولياؤه) عائد إلى الله عز وجل، أي: أن هؤلاء المشركين ليسوا أولياء لله؛ لأن أولياء الله هم الصحابة المؤمنون المتقون، أما المشركون فليسوا من أهل الولاية. والقول الثاني: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} عائدٌ إلى البيت الحرام، أي: إن هؤلاء المشركين ليسوا بأحق من المسلمين بالبيت الحرام؟! بل أهل الإيمان أحق بالبيت الحرام من المشركين.
    لماذا؟ لأن البيت الحرام إنما أسس على التوحيد والإيمان والإسلام، ولعبادة الله وحده لا شريك له، وهؤلاء المشركون أدخلوا إلى البيت الأصنام والرجس والشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى والأخلاق الرديئة؛ ولهذا كان أهل الإيمان والإسلام أحق بالبيت الحرام، لأنه إنما بُني البيت لأجل ذكر الله وتوحيده، كما قال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} (البقرة: 125).
    يطهره من ماذا؟ يطهره من النجاسات الحسية، ومن النجاسات المعنوية، والتي هي أشد من النجاسة الحسية، ألا وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى، وكل ظلم وخلق قبيح.
    فالصحابة في الحقيقة هم أولياء الله، وهم الذين أحق بالبيت الحرام، الذين اتقوا الله تعالى بفعل أوامره، وترك زواجره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

    شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(21)

    خطر النفاق على صاحبه

    اعداد: الفرقان



    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
    (سورة براءة) باب: في قوله تعالى: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تَقم على قبره} (التوبة : 84) .
    فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في فضائل عمر رضي الله عنه (رقم 1636) .
    الشرح: أورد في الأنفال حديثا واحدا، ثم انتقل إلى سورة براءة، وهي سورة التوبة، سميت براءة؛ لأن أولها كلمة ( براءة ) فسميت بذلك؛ إذ يتبرأ فيها الله سبحانه وتعالى ورسوله [ من جميع المشركين .
    وسميت بـ«سورة التوبة» لأن الله سبحانه وتعالى تاب فيها على النبي والمهاجرين والأنصار، في غزوة العسرة كما في الآية: {لقد تابَ الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في سَاعة العُسرة} (التوبة : 117) .
    وأيضا : تاب الله فيها على الصحابة : كعب بن مالك وصاحبيه، وأنزل توبتهم في أواخرها، في قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا} إلى قوله: {ثم تابَ عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم} (التوبة: 118) .
    وأيضا: في هذه السورة العظيمة دعا الله سبحانه وتعالى المشركين إلى التوبة من الشرك، والدخول في الإسلام، في أكثر من موضع فقال سبحانه: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 5).
    وقال بعدها: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فإخوانكم في الدين} (التوبة : 11).
    قول المنذري: باب في قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} هذه الآية الرابعة والثمانون من سورة التوبة.
    وقال: فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في كتاب الفضائل، أي في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الحديث إنما أشار إليه المؤلف إشارة هنا، بأنه قد تقدم في كتاب الفضائل، حيث أورده الإمام مسلم هناك، والإمام مسلم قد أورد هذا الحديث الذي له تعلق بهذه الآية من سورة التوبة، أورده في باب فضائل عمر رضي الله عنه؛ لموافقته للحق ونزول الآية بما رأى واختار .
    والحديث المشار إليه هو : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه لما توفي عبد الله بن، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول [ الله[، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه! فقام رسول الله [ ليصلي عليه! فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله [! فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله [: «إنما خيرني ربي، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} وسأزيد على السبعين « قال عمر : إنه منافق ! قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة : 84).
    وهكذا أيضا رواه البخاري في صحيحه، ورواه الإمام أحمد بزيادات فيه : أنه لما قام النبي [ رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أبي؟! القائل يوم كذا.. كذا وكذا، ويوم كذا.. كذا وكذا، يعدد أيامه».
    أي: يعدد الأيام التي كانت له فيها مواقف مشينة، بل كفرية وفيها محادة لله ورسوله، صدرت عن عبد الله بن أبي؛ لأنه كان رأسا من رؤوس النفاق، وقد آذى الله ورسوله في غير ما مناسبة، فمن ذلك كلمته المشهورة التي حكاها القرآن عنه في الآية: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون : 8)، هذه كلمته، ونقلها الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه، وهو وأصحابه أيضا القائلون: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون: 7)، أي : ضيقوا عليهم الإنفاق، واقطعوا عنهم الأموال؛ حتى تضيق عليهم الأحوال، ويشتد عليهم الفقر والحاجة، فيتفرقوا عن رسول الله[ بسبب الجوع والفقر، وهذا كله من الصد عن سبيل الله تعالى، والمكر الخبيث، والبغض للنبي [ وأصحابه، بل كراهية الإسلام وانتشاره وقوته وعلوه!
    وهذه الحيل وهذا المكر وهذه الخطط الشيطانية تتكرر في كل عصر ومصر، فاليوم يضيق الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على أهل الإسلام، ويضيق على الجمعيات الخيرية، والهيئات الدعوية في جمع الأموال والتبرعات، ويضيق عليهم في نقل الأموال للمحتاجين والفقراء، أو بناء المساجد وغيرها، في مختلف بلاد المسلمين، مع اتهامهم بشتى أنواع التهم المنفرة، كل ذلك لمنعهم من العمل والدعوة لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى في الأرض، لكن الله سبحانه وتعالى {مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8).
    فالنبي [ لما عدّد له عمر رضي الله عنه أيام عبدالله ابن أبي وما فعل مع نبي الله والمسلمين تبسم، حتى إذا أكثر عليه قال: «أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}، ولو أعلم أني لو زدت» على السبعين غفر لهم زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله [ وسلم، والله ورسوله أعلم « أي : كيف تجرأت ووقفت على النبي [ وقلت له: أتصلي على عدو الله، أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! يوم كذا وكذا، وعدد أيامه، قال عمر: فوالله ما كان إلا يسيرا، حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} (التوبة : 84)، فما صلى رسول الله [ بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل .
    وفي هذا الحديث : أن رسول الله [ كان من هديه ومن سننه أنه يصلي على موتى الصحابة ويدعى إلى ذلك من قبلهم .
    ومن هديه [ أيضا : أنه كان يقف على القبر بعد أن يدفن صاحبه ولا ينصرف مباشرة، إذ كان يدعو له، وكان يقول لأصحابه إذا وقف على القبر: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل» رواه أبو داود (3221).
    ففي هذا الحديث استحباب الاقتداء بالنبي [ في هذه السنة المهجورة عند الناس .
    فهذا لعموم المسلمين، ولكن في هذه الآية منعه الله عز وجل من الصلاة على المنافقين، الذين ظهر نفاقهم، وبان كفرهم للمسلمين بأفعالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال الله تعالى له: لا تصلِّ عليهم، ولا تقم على قبورهم، ولا تستشفع لهم؛ فإن الشفاعة فيهم لا تقبل لأنهم ليسوا أهلا لذلك .
    وقد يقول قائل : إذاً لماذا النبي [ فعل ذلك مع عبد الله بن أبي؟! والجواب: أولا: لا شك أن ما فعله النبي [ كان اجتهادا منه، لا يخالف نصاً صريحا، بل كان مراعاة لمصالح يراها [، وترغيبا منه لقوم بن أبي في الإسلام، وسعياً في تأليف قلوب أتباعه، وتثبيتهم على الدين وهي مصلحة كبيرة.
    وأيضا: كان النبي [ رؤوفاً رحيماً كما وصفه الله تعالى بقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، فلعله طمع أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه، وإن كان مَن كان، لكن الله سبحانه وتعالى نهاه عنه .
    وأما إلباسه ثوبه، فقد ذكر بعض أهل السير: أن النبي [ إنما أعطاه ثوبه وكساه قميصه، لأن عبد الله بن أبي كان قد كسا العباس عم النبي [ مثله، وذلك لما قدم العباس المدينة، وطلب له قميص فلم يوجد على قدره إلا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان ضخما طويلا فأعطاه ثوبه، ففعل النبي [ به ذلك مكافأة له، ورد له الجميل.
    وقوله: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» يدل على أنه [ كان يطمع في حصول المغفرة له؛ لأنه كان يظهر الإسلام، والمنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأنه خير فيه لقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وأن ذكر السبعين مراد، وليس للمبالغة، ولذلك قال [: سأزيد عليها . وقد يكون قد قاله تألفا لقومه .
    وهذا النهي عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم، لمن ظهر نفاقه وفجوره أو الاستغفار له، هو نهي للأمة وليس للرسول [ وحده، فالأمة عليها أن تتابع نبيها في ذلك، ولكن على المسلم أن يأخذ بالظاهر ولا يسأل عن السرائر، فمن ظهرت منه أمارات الإسلام والإيمان، صلينا عليه ووقفنا على قبره، أما من ظهرت منه أمارات الكفر بعمل أو قول، اجتنبناه ولم نصل عليه، أما من كان تاركا لبعض الفرائض، أو مسرفا على نفسه بالكبائر وهو أقرب إلى الكفر، فهذا ينبغي يصلى عليه ألا الأكابر من المسلمين، من العلماء والفضلاء والمشهورين بالصلاح، فهؤلاء لا يصلون عليه زجراً له ولأمثاله من العصاة.
    وكان عمر بن الخطاب ] لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم المنافقين بأعيانهم؛ إذ كان النبي [ قد أخبره بأسماء المنافقين، وكان يكتم هذا السر؛ ولذلك كان يقال له : صاحب السر، يعني الذي لا يعلمه غيره من الصحابة . وقول الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} يعني : أنه لا تصح الصلاة على هؤلاء الكفار، ومن أظهر الكفر بالله ورسوله، لا تصح الصلاة عليه .
    {وماتوا وهم فاسقون} الفسق هو الخروج عن الطاعة، وهي في الأصل دون الكفر، لكن قد يجتمع مع الكفر، فقد يكون الرجل كافرا وفاسقا، وقد يكون كافرا ليس عنده ما يفعله أهل الفسق والكبائر، فقد يكون كافرا بالله عز وجل لكنه لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش والمنكرات، فإذا جمع بين هذا وهذا قيل له: كافر فاسق، وقد تجتمع به أيضا صفة الظلم للخلق، والصد عن سبيل الله، وهذا مما يزيد في عذابه، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (النساء : 167 – 168).
    وقال سبحانه: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون} (النحل : 88 ) أي : ضاعفنا لهم العذاب .
    فهناك الكفار، وهناك أئمة الكفر، ودعاة الضلال، ممن جمع بين ضلال نفسه وإضلال غيره، وهذا أشد، وعذابه عند الله أكبر .
    وفي الحديث : جواز الإعلام بوفاة الميت، وأن ذلك لا يدخل في النعي المنهي عنه . وفيه : جواز العمل بالظاهر إذا كان النص محتملا .
    وفيه : جواز تنبيه المفضول الفاضل على ما يظن أنه سها عنه .
    هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •