رابعاً: فقال النبي .. أم فقال أبو هريرة؟
مما يلفت الانتباه - كما أشار الأخ المفضال السكران التميمي حفظه الله - أن الروايات الموقوفة نفسَها رَفَعَت آخر الحديث وهو قوله: ((لو قال: "إن شاء الله"، لم يحنث، وكان دركاً في حاجته)). ولكن هذا الرفع أيضاً اشتبه على بعض الرواة، فجاء من طريق علي بن المديني موقوفاً على أبي هريرة. قال البخاري (6341): حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن هشام بن حجير، عن طاوس: سمع أبا هريرة قال: ((قال سليمان: "لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأة، كلٌّ تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله". فقال له صاحبه – قال سفيان: يعني الملك – قل: "إن شاء الله"، فنسي. فطاف بهنَّ، فلم تأت امرأة تلد منهنَّ بولد، إلا واحدة بشق غلام)). فقال أبو هريرة يرويه، قال: ((لو قال: "إن شاء الله"، لم يحنث، وكان دركاً في حاجته)). وقال مَرَّة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو استثنى)).
وقال البيهقي (الأسماء والصفات 354): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرني أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه: ثنا عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا علي بن المديني: ثنا سفيان، عن هشام بن حجير، عن طاوس، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ((قال سليمان عليه السلام: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كلهن تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله عز وجل". فقال له صاحبه – يعني الملك –: "قل: إن شاء الله"، فنسي. فأطاف بهن، فلم تأت امرأة بولد إلا واحدة، بشق غلام!)) قال أبو هريرة رضي الله عنه، يرويه: ((لو قال: "إن شاء الله"، لم يحنث، وكان دركاً له في حاجته)).
وإنما استشهد أبو هريرة في آخر القصة بالحديث الذي رواه بنفسه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف فقال "إن شاء الله"، لم يحنث)). أخرجه عبد الرزاق (16118) ومن طريقه الترمذي (1571) وابن ماجه (2104) والنسائي (3855)، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً.
قال الترمذي: ((سألتُ مُحَمَّدَ بنِ إسماعيلَ عن هذا الحديثِ، فقال: هذا حديثٌ خطأٌ، أخطأَ فيهِ عبدُ الرزَّاقِ. اختصرهُ من حديثِ معمرٍ عن ابنِ طاوسٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيرَةَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم قال: "إنَّ سليمانَ بنِ داودَ عليهِ السَّلامُ قال: لأطُوفنَّ اللَّيلةَ على سبعينَ امرأةً تلدُ كلُّ امرأةٍ غُلاماً. فطافَ عليهنَّ فلم تلدْ امرأةٌ منهنَّ إلاَّ امرأةً نصفَ غلامٍ. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم: لو قالَ إنْ شاءَ اللهُ لكانَ كما قال". هكذا روى عبدُ الرزَّاقِ عن معمرٍ عن ابنِ طاوسٍ عن أبيهِ هذا الحديثَ بطولهِ، وقال: "سبعينَ امرأةً")). اهـ
قلتُ: حديث طواف سليمان ساقه البخاري بالمعنى فتصرّف في ألفاظه، فقد رواه في صحيحه عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق بلفظ ((مائة)) لا ((سبعين))، وبلفظ ((لم يحنث وكان أرجى لحاجته)) وليس ((لكان كما قال)). وحديث الاستثناء ليس خطأ، فقد رُوي عن غير أبي هريرة أيضاً، وهو مرفوع حُكماً. وقد استند أبو هريرة رضي الله عنه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستثناء من اليمين وطبّقه على قصة سليمان. فاشتبه على الرواة، فرفع بعضهم القصة نفسها وجعلها من كلامه صلى الله عليه وسلّم. ثم تصرّفوا في آخر المتن:
فقال الأعرج: ((لو قال: "إن شاء الله"، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)).
وفي رواية هشام بن عروة من طريقه: ((لو قال: "إن شاء الله"، كان كما قال)).
وقال ابن سيرين: ((لو كان سليمان استثنى، لحملت كل امرأة منهنَّ، فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله)).
وقال طاوس: ((لو قال: "إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركاً لحاجته)).
فرواه جميعهم بالمعنى.