السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
ما هو قول علي بن المديني في سماع عروة بن الزبير من زيد بن ثابت، فقد وجدتُ نصّين متعارضين في كتاب العلل:
النص الأول: "وأصحاب زيد بن ثابت، الذين كانوا يأخذون عنه، ويفتون بفتواه - منهم من لقيه، ومنهم من لم يلقه، - اثنا عشر رجلا: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ونافع بن جبير بن مطعم. أما[1] من لقيه منهم وثبت عندنا لقيه: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار. ولم يثبت عندنا من الباقين سماع من زيد، فيما أُلقِيَ إلينا؛ إلا أنهم كانوا يذهبون مذهبه، في الفقه والعلم."[2]
هكذا عد عروة ابن الزبير فيمن "لقيه منهم وثبت عندنا لقيه"، والنص كذلك في نسخة ط الفاروق الموجود في الشاملة ص71، ومثله في ط الأعظمي الثانية ص45. والنص في مخطوطة الكتاب التي عندي اللوحة 257 (03.JPG) الصفحة اليسرى السطر 5-14. وهذا النص روى مثلَه عن ابن المديني ابنُ منده[3]، وابن عساكر[4].
قال السرساوي: "لكن المعدودون ثلاثة عشر رجلاً!، فسبحان من جل عن السهو والنسيان."
النص الثاني: "وكان أصحاب زيد بن ثابت، الذين يذهبون مذهبه في الفقه، ويقولون[5] بقوله، هؤلاء الاثني عشر كان منهم من لقيه، ومنهم من لم يلقه. كان ممن لقيه، من هؤلاء الاثني عشر: قبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار. وكان ممن يقوم[6] بقوله ممن لا يثبت له لقاؤه - مثل هؤلاء الأربعة[7]: سعيد ابن المسيب، وعروة بن الزبير، وعَبد الملك بن مروان، وقبيصة بن ذؤيب."[8]
فهنا، عد عروة بن الزبير فيمن "لا يثبت له لقاؤه"، وكذلك سعيد بن المسيب، بينما ذكرهما في النص السابق فيمن "لقيه منهم وثبت عندنا لقيه". والنص كذلك في نسخة ط الفاروق الموجود في الشاملة ص20 (كذا حسب الترقيم، ولعله خطأ)، ومثله في ط الأعظمي الثانية ص45. والنص في مخطوطة الكتاب اللوحة 258 (04.JPG) الصفحة اليمنى السطر 5-10. وهذا النص روى مثلَه عن ابن المديني البيهقيُّ[9] ومن طريقه (رغم اختلافات يسيرة في اللفظ[10]) ابن عساكر[11]، إلا أنهما ذكرا فيمن "لا يثبت له لقاؤه" بدل قبيصة بن ذؤيب: "وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسالم، والقاسم." ولعله الأرجح، ويكون ما في أصل كتاب العلل غلطاً، لسببين:
ما في كتاب العلل ظاهر التناقض، حيث ذكر قبيصة بن ذؤيب في الأربعة "ممن لقيه" وفي الأربعة "ممن لا يثبت له لقاؤه".
قد ذكر اثني عشر، ولكن في كتاب العلل ذكر أربعة "ممن لقيه" وأربعة "ممن لا يثبت له لقاؤه"، فالمجموع ثمانية فقط، ولكن إذا بدلنا بأحد الثمانية هؤلاء الخمسة، صار لدينا اثنا عشر
فظاهر مما سبق أن النص الأول المذكور آنفاً يناقض هذا النص الثاني في جعل عروة وسعيد بن المسيب فيمن "لقيه منهم وثبت عندنا لقيه"، بينما هذا النص الثاني جعلهما "ممن لا يثبت له لقاؤه".
قال العلائي عن عروة: "وذكره بن المديني فيمن لم يثبت له لقاء زيد بن ثابت"[12]
ويظهر أن ياسر فتحي حاول الجمع بين هذين النصين، فذكر النص الثاني ثم قال: "وبهذا النقل يتبين أن ابن المديني أراد أن يفرق بن طبقتين من أصحاب زيد بن ثابت، طبقة طالت صحبتها وأكثرت عن زيد، وطبقة أخرى دونها في الصحبة وكثرة الرواية. وكان ابن المديني قبل ذلك قد سوى بين هاتين الطبقتين في ثبوت اللقاء"[13] ثم ذكر النص الأول. فكأن معنى "مثل هؤلاء الأربعة" عنده هو أن الجميع ثبت لقاؤهم لزيد بن ثابت ولكن الثمانية لم يثبت لقاؤهم ثبوت لقاء الأربعة، أي لم يكن لقاء الثمانية في نفس متربة لقاء الأربعة في الثبوت، لأن الأربعة طالت صحبتها لزيد وكثرت روايتها عنه بخلاف الثمانية. وهذا غريب، فإنما وقع الاختلاف بين النصين في عروة وسعيد بن المسيب، ولكن بقية الثمانية لم يثبت لقاؤهم لزيد حسب أي من النصين، فلكان أوجه أن يقول: الأربعة هم من ثبت طول صحبتهم لزيد والثمانية لم يثبت طول صحبتهم، بل منهم من لقيه ولم تطل صحبته، ومنهم من لم يلقه أصلاً. وكلن حتى هذا فيه بعد، والأظهر في تفسير "مثل هؤلاء الأربعة" هو ما ذكرتُه سابقاً. وزعم أن ابن المديني "قد ذكر دليله على ثبوت لقاء عروة لزيد" ثم ذكر النص الآتي في خبر أبي حميد، وظاهر أنه ليس دليلاً على اللقاء بل يُستدل به على المعاصرة وإمكانية اللقاء فقط.
وهناك نص آخر في العلل: "وسمعت يحيى يقول: من روى عن زيد بن ثابت، من أصحاب النبي ﷺ: ... ومن روى عن زيد بن ثابت، ممن لقيه من أهل المدينة من التابعين: ... وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد بن ثابت ... وأبان بن عثمان ... وسليمان بن يسار ... ومن أهل المدينة - ممن روى عنه، ممن أدركه، ولا يثبت له لقيه، ولا يثبت له السماع منه -: سعيد بن المسيب ... وعروة بن الزبير روى عن زيد بن ثابت، وروى عمن روى عنه. وقد روى هشام بن عروة، عن أبيه: أنه سمع أبا حميد، يحدث بحديث الصدقة، فقال أبو حميد: سمع أذنيه، وبصر عينيه، وسلوا زيد بن ثابت؛ فقد سمعه معي. فهذا يدل: أن عروة سمع هذا من أبي حميد وزيد حيّ."[14]
فهنا عد عروة كذلك "ممن روى عنه، ممن أدركه، ولاَ يثبت له لقيه، ولاَ يثبت له السماع منه". والنص مثله في نسخة ط الفاروق الموجود في الشاملة ص74 (كذا حسب الترقيم، ولعله خطأ)، وفي ط الأعظمي الثانية ص45. والنص في مخطوطة الكتاب اللوحة 258 (04.JPG) من السطر 5 من الأسفل على الصفحة اليمنى إلى السطر 13 على الصفحة اليسرى. وذكر السرساوي أنه لم يقل على من نقل هذا النص[15] (مثل ابن منده والبيهقي وابن عساكر في النصوص السابقة).
ولستُ بمتأكد هل هذا النص كله كلام يحيى بن سعيد القطان أم أنه كلامه مقتصر على فقرة قصيرة منه ثم عاد ابنُ المديني متكلماً. مما قد يرجح الأول: حرف العطف المستمر عبر الفقرات، واستمرار الموضوع وهو الكلام على من روى عن زيد بن ثابت. ومما قد يرجح الثاني: أن تمام الفقرة الأخيرة المحذوف بعضها:
"... ولا يثبت له السماع منه -: سعيد بن المسيب. قال يحيى بن سعيد: قال مالك بن أنس: لم يسمع سعيد بن المسيب، من زيد بن ثابت. وروي[16] عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: شهدت جنازة زيد بن ثابت. وعروة بن الزبير ...".
فصرح باستئناف النقل عن يحيى بن سعيد، مما قد يدل على أن ما قبله مباشرة لم يكن من كلامه، فكذلك ما بعده عندما يذكر عروة بن الزبير يكون عطفاً على "ممن روى عنه، ممن أدركه ..." إضافة لسعيد بن المسيب فيكون من كلام ابن المديني. ثم الكلام يشبه كلام ابن المديني المتقدم في النصين المنقولين آنفاً.
وتمام الكلام بعد انتهاء الكلام على عروة آنفا، فيما يظهر أنه عطف على "ممن روى عنه، ممن أدركه ...": "أن عروة سمع هذا من أبي حميد وزيد حيّ. وروى عنه أبو سلمة ... وروى عنه القاسم ... وروى عنه سالم، ولم[17] يثبت عندنا أنه سمع منه شيئا[18]. بسر بن سعيد! فقلت ليحيى: بسر بن سعيد؟ فقال: ما تنكر؟ فقلت: إنه روى عن مولى السفاح، عن زيد بن ثابت فقال: قد روى شقيق، عن عبد الله؛ وعن رجل، عن عبدالله. قال علي: قيس بن أبي حازم، سمع من أبي بكر و..."[19] فكأن قوله "فقلت ليحيى" يدل على أن ما سبقه من كلام يحيى، فقد يرجح الأول. ولكن معنى الكلام غير واضح عندئذ. وقد فسره السرساوي بأن الكلام كان لابن معين، وأنه يستدل هنا على عدم السماع بأن بسراً روى عن مولى السفاح عن زيد، فبينهما واسطة، فيدل أن روايته عن زيد مباشرةً غير متصلة بل بينهما واسطة، فرد عليه يحيى بضرب مثال شقيق عن عبد الله، حيث روى عن عبد الله مباشرة وبواسطة رجل، ومع ذلك فسماع شقيق من عبد الله ثابت. فعلى هذا يكون معنى قول يحيى "ما تنكر؟" أي ماذا تنكر من أن يكون بسر سمع من زيد؟ ولكن هل "بسر بن سعيد!" عطف على "وروى عنه ..."؟ فإن كان كذلك فهو سرد لمن لم يثبت سماعه من زيد، فما وجه استفهام ابن المديني "بسر بن سعيد؟" وباقي النقاش حيث (على تفسير السرساوي) يكون الطاعن في السماع هو ابنَ المديني ويحيى يرد عليه؟ فهذا التفسير يعكر على القول بأن الكلام ليحيى.
ومن الممكن أن قول ابن المديني ليحيى ليس استفهاماً، وأن أول ورود لبسر بن سعيد هو كالعنوان، فيكون:
"بسر بن سعيد
فقلت ليحيى: بسر بن سعيد. فقال: ما تنكر؟ فقلت: إنه روى عن مولى السفاح، عن زيد بن ثابت فقال: قد روى شقيق، عن عبد الله؛ وعن رجل، عن عبدالله."
يعني فابن المديني يقول ليحيى "بسر بن سعيد" أي هو ممن لم يثبت سماعه من زيد، ثم يحيى يستفهم: ماذا تنكر من أن يكون سمع من زيد؟ وجعل "بسر بن سعيد" الأول عنواناً كأنه كلام منفصل عما سبقه، قد يفسر عدم تقدمه بـ"وروى عنه" كما فيمن سبق ذكره. ولكن الكلام هنا حول سماع بسر من زيد بن ثابت، فكيف يكون منفصلاً عما سبقه من الكلام، كأنه انتهى الكلام على الرواة عن زيد بن ثابت ثم بدأ عنوان جديد بكلام في مسألة جديدة؟ ولا يظهر في المخطوطة ما يميز "بسر بن سعيد" الأول ويشير إلى أنه عنوان.
وهناك علامات فصل في صلب النص في المخطوطة، ومواضعها في هذا النص:
قبل قوله "ومن روى عن زيد بن ثابت ممن لقيه من أهل المدينة" مباشرة
قبل قوله "ومن أهل المدينة ممن روى عنه" مباشرة
"شهدت جنازة زيد بن ثابت [فصل] وعروة بن الزبير"
"سمع منه شى [فصل] بسر بن سعيد"
"وعن رجل عن عبدالله [فصل] قال علي قيس بن أبي حازم"
وقد رجح خالد الدريس[20] أن يكون الكلام ليحيى بن سعيد (أي رجح الأول آنفاً)، وكأنه لم ينتبه للنص الثاني آنفاً وإنما تكلم على النص الأول، حيث زاد في الاستدلال أن ابن المديني سبق له الكلام على الرواة عن زيد بن ثابت (في النص الأول) فلا حاجة له لتكراره، ولكن هذا ليس تكراراً لأن الكلام هنا عن الرواة عن زيد عموماً لا الذي كانوا يأخذون بمذهبه في الفقه فقط، والكلام هنا مفصل أكثر، ثم لو كان تكراراً فالنص الثاني آنفاً أكثر تكراراً للنص الأول من هذا النص للنصين الأول والثاني. واستدل كذلك بأن الكلام السابق لهذا النص على الرواة عن زيد فيه أن عروة وسعيد لقياه، بينما ينفي في هذا النص ثبوت اللقي، فلا بد أن يكون الكلام هنا لشخص آخر غير ابن المديني وإلا كان تناقضاً، ولكن كما هو ظاهر النص الثاني آنفاً نفسه يناقض النص الأول، وكأن خالد الدريس لم ينتبه للنص الثاني وإنما تكلم على النص الأول.
وكذلك جعل إبراهيم اللاحم الكلام ليحيى بن سعيد[21].
فهل من إفادة بمزيد؟
المراجع
المراجع كلها نسخ مصورة للطبعات المشار إليها آنفاً، وعند عدم الإشارة إلى الطبعة فالأصل أنها المعتمدة رسمياً في الشاملة.
والمخطوطة المشار إليها هي هذه: https://archive.org/download/M-00029/0875-.zip
[1] والأظهر من المخطوطة السطر 12: فأما
[2] علل الحديث لابن المديني ت السرساوي ص133-137
[3] شروط الأئمة ص93-95 (والإسناد إلى ابن المديني ص85)
[4] تاريخ دمشق 25\48-49
[5] والأظهر من المخطوطة: ويقومون
[6] كذا في المطبوع وكذا يظهر من المخطوطة، وفي ط الأعظمي الثانية ورواية البيهقي وابن عساكر: يقول
[7] والظاهر أن المراد "ممن لا يثبت له لقاؤه، لقاءً مثل لقاء هؤلاء الأربعة" الذين ذكروا قبل هذا مباشرةً، أي "ممن لا يثبت له لقاؤه خلافاً للأربعة الذين لقوه".
[8] علل الحديث لابن المديني ت السرساوي ص141
[9] المدخل إلى علم السنن ت عوامة ص582 (والإسناد إلى ابن المديني ص581)
[10] وذكر إسناداً آخر أيضاً ولكن صرح بأن هذا "لفظ البيهقي"
[11] تاريخ دمشق 19\328 (والإسناد إلى ابن المديني ص327)، وهو في ط مجمع اللغة العربية 23\461 (والإسناد إلى ابن المديني ص460)
[12] جامع التحصيل 515
[13] فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود 5\88
[14] علل الحديث لابن المديني ت السرساوي ص147-156
[15] انظر ص147، ص150، ص156
[16] "وروي" غير منقوطة في المخطوطة، فصورتها: وروى
[17] والأظهر من المخطوطة: لم (دون حرف العطف)
[18] والأظهر من المخطوطة: شى (دون نصبه)
[19] العلل ص158-161
[20] انظر موقف الإمامين االبخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين ص83
[21] الاتصال والانقطاع ص109