الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فإنَّ (الردَّ على المخالف) مِن (أصول الإسلام والسُّنَّة)، لما يتضمَّنُه من النُّصح لله ورسوله، ومن حماية لهذه الدعوة
المباركة من الأخطاء المُشَوِّهة لجمالها وبهائها.
وقد أولاه أهلُ العلم العنايةَ التي يستحقُّها، وصنَّفوا في بيان آدابه وأحكامه.
وكان من أعظم هذه الآداب والأحكام: (تجريد الإخلاص لله -تعالى-) عند الردّ على المخالف، بعيداً عن حظوظ النفس،
كـ(حبّ الظهور)، أو (التشفِّي)، أو غير ذلك من آفات النفوس!!
ولهذا احتاج الكاتب في (أبواب الردود) -سيما على المخالفين والمخطئين من أهل السُّنَّة- إلى التقوى، ومراقبة المولى
-عزَّ وجَلَّ- في كُلِّ حرفٍ، وكلمةٍ، وجُملةٍ يسطرها.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا (بالعلم، والعدل) -معاً-.
على أنَّ الملاحظ (بقوة ووضوح!) على كثيرٍ من ردود المتأخِّرين خلوّها من هذَيْن الأصلَيْن!
فأكثر (!) الردود المنشورة في (المنتديات) تخلو مِن العلم والعدل، فضلاً عن خلوِّها من (الأدب، والخلق، ولغة العلم!!)
، مِمَّا زاد في اتِّساع الفجوة بين المختلفين، بعيداً عن تحقيق المصلحة المنشودة.
وقديماً قيل: «لو سكت من لا يدري؛ لزال الخلاف».
وقيل: «العلم نقطةٌ كثَّرها الجاهلون!».
وإن من أبرز سمات هذا الصِّنف من الرَّادِّين -بغير علمٍ ولا عدلٍ ولا أدبٍ-: تحميلُهم لكلام المردود عليه ما لا يحتمله
فترى أحدَهم «كُلَّما وجد كلمةً فيها إجمالٌ؛ نزَّلها على رأيه!» [«مجموع الفتاوى» 4/82-83]!!، وحمَّلها من المعاني
والمقاصد ما لا تحتمله.
مع أنَّ الواجبَ عليه: اعتبارُ أحوال المُنْتَقد عليه، والنظرُ في منهجه ودينه، ومحاكمتهُ بحسب قصده هو ومراده، لا
بحسب مراد القارئ وفهمه.
على أنَّ الأمر -كما قال شيخُ الإسلام -رحمهُ الله-: «ولكن من في قلبه مرضٌ يأخذ من كلِّ كلامٍ ما يناسب
مرضه!» [«قاعدةٌ في الفناء» (ص/53)].
وهذا كلُّه بسبب (ضعف الإخلاص)، و(عدم الصِّدق) في النُّصح لله ورسوله، و(ترك العدل في الخصومة).
وهذه الآفات إذا أصابت قلب العبد أفسدته، وأفسدت فهمه، وشوَّهت حسن الظنّ عنده.
ومن ثَمَّ تراه يغضُّ الطرف عن محاسن المردود عليه، وينسى -بل يتناسى!!- فضله وسابقته، ويتعامى عن خدماته
للسنَّة وأهلها، وبذله في توطيد وترسيخ صَرْح التوحيد في حياة الناس.
كما يتخلَّى عن الإنصاف في الردِّ، والتروِّي في النَّقد، ويركب في ذلك (الموج العالي)، فيرفع مستوى الخلاف فوق
حجمه! ويُسيء الأدب والخلق، ويترك لغة العلم، بل (والشهامة، والمروءة!).
فما أجدر من هذا حاله أن يراجع نفسه، ويرحمها من الإيغال في ظلم العباد، وهدم السنة باسم نصرتها! وإضعاف
شوكة الدعوة باسم خدمتها! وصرف الأوقات والجهود في غير ما خُلِقَت له.
وعليه أن يجدِّد توبته، ويتعاهد قلبه، ويحاسب نفسه.
كما يجب على هذا الصنف معرفةُ أحكام الردِّ والنظر في نوع الأخطاء المردود عليها.
ومنشأ الغلط فيها.
وحال صاحبها ومنزلته في السنة.
وهل ما وقع فيه من موارد النزاع أم لا؟!
وهل هو مِمَّا يسوغ فيه الاجتهاد أم لا؟!
وأنْ يفرِّق بين ما هو واردٌ في الزجر والرّدْع، وبين ما هو من باب التعقُّب والبيان؟!
وبين الكلام المسموع والمكتوب!
وبين ما خرج من جهة المُقدِّمات، وبين ما هو من جهة النتائج.
وهل الخطأ في باب (الوسائل) أم (المقاصد)؟!
... إلى غير ذلك من الأحكام المبسوطة في كتب أهل العلم المحقِّقين للعدل والإحسان.
ومن لم يعتبر هذه الأصول -وغيرها-؛ كانت ردوده: إما محرمة، أو مكروهة -كما وصف ابن القيم الكتابة المحرَّمة
بقوله: «فيها ما يخالف حكم الله ورسوله... ولا فائدة فيها، ولا منفعة في الدنيا ولا الآخرة» [«المدارج» 1/121].
ومن تدبر ردود العلماء العارفين؛ ظهر له الفرق بين ما يترتب عليها من تحقيق المقاصد الشرعية، وبين الآفات
الخطيرة المترتبة على ردود أولئك المتسرِّعين، الذين شابوا ردودهم بحظوظ النفس وآفاتها!
ورحم الله شيخ الإسلام القائل في «ردّه على الأخنائي» (ص/21):
«فأما ما فيه من الافتراء والكذب على المجيب فليس المقصود الجواب عنه، وله أسوة بأمثاله من أهل الإفك والزور،
وقد قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ }[النور:11].
بل المقصود الانتصار لله، ولكتابه، ولرسوله، ولدينه وبيان جهل الجاهل الذي يتكلم في الدين بالباطل، وبغير علم...
وليس المقصود -أيضاً- العدوان على أحد -لا المعترض ولا غيره- ولا بخس حقّه، ولا تخصيصه بما لا يختصُّ به مِمَّا يشاركه فيه غيره، بل المقصود الكلام بموجب العلم والعدل والدين كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8].
وليس -أيضاً- المقصود ذمّ شخص مُعيَّن، بل المقصود بيان ما يُذم ويُنهى عنه، ويحذِّر عنه من الخطأ والضلال في هذا الباب كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما بال رجال يقولون -أو يفعلون- كذا»؛ فيذمُّ ذلك الفعل، ويُحذِّر عن ذلك النوع، وليس المقصود إيذاء شخص معين...» اهـ.
والمراد: أن أولئك الكتبة تركوا هذه الأصول بخوضهم في أعراض المردود عليهم؛ فوقعوا بسبب (الجهل!) بأنواعٍ من (الظلم!!).
وما أشبههم بقول عليّ بن أبي طالب -رضيَ الله عنه-: «هَمَجٌ رَعاعٌ أتباع كلِّ ناعق».
قد سمعوا الناس يقولون قولاً وافق (دفائنَ نفوسهم!)؛ فسارعوا لتأييده، ومدحه!!
فالأمر -كما يُقال-: (فرصة ولاحت)!!
هذا كله مع كونهم لم يفهموا الكثير من المآخذ والردود! ولا فقهوا وجه التخطئة ومنشأها!!
وعليه؛ فحيهلاً بك (كائناً من كُنتَ) و(قلتَ ما قلتَ)!!
ولهذا تجد كثيراً منهم إذا أثنى وأيّد؛ أتْبَعَ ذلك بالسَّبِّ والتجريح، وألفاظ التنقُّص والازدراء، وذلك ليشفي غيظه أكثر وأكثر!!
وهو في الوقت الذي أيد وشكر فيه، وسبَّ وطعن مظهراً ضغائنه وخوافيه، لم يتعرض للمسألة المردود عليها بأيِّ لغة علمية؛ لا من قريب ولا من بعيد!!
على الأقل (ليبين للناس) أنه أيّد الرادّ (بعلم)، وخطَّأ المردود عليه (بعلم) -أيضاً-.
أمَّا الواقع -وهو (لا في العير ولا في النفير)-: فهو يكتب تأييداً لذاك، وطعناً في ذيّاك، فلا غرض له إلا تكثير السواد(!) ولو بغير فهم ولا حلم ولا عدل!!!
ولو أنه تدبّر وأنصف؛ لعَلِمَ أنه لم ينصر بصنيعه -هذا- سنةً، ولم يكسر بفِعلِهِ -هذا- بدعةً، بل زاد في توسعة دائرة الخلاف، وتفويت فرصة الإصلاح.
بل -هو في الحقيقة- لا يعدو أن يكون حِملاً ثقيلاً، ووزراً كبيراً يُحمل على ظهر ذلك الرادّ بالباطل الذي ترك العلم والعدل والأدب.
الله أكبر... {قل موتوا بغيظكم}...
والله لو كتب فيهم كلّ من تهوى نفوسكم (المريضة!)، ولو طعن عليهم من تتمنَّون أن يطعن؟!!! لما زادهم ذلك -عند أهل الإنصاف!- إلا علوَّ كعبٍ ومنزلةٍ.
وبم؟!
وأين؟!
لعلَّ هذه التساؤلات وغيرها، تكون سبباً لإطلاع الغافل (!) على بعض الحقائق، لِيهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بيّنة...
اللهم اهدِ كبارنا، وأرشد صغارنا، واجمعنا على السنة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه الشيخ عمر ابو طلحة حفظه الله