ومن هذا نقله الثاني عن الشيخ في الصلاة خلف أهل الأهواء، وعدم تكفيرهم وأن القول يكون كفرًا، ويطلق تكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم عليه بكفر، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها إلى أن قال: والشخص المعين لا يشهد عليه، فقد لا يكون التحريم بلغه - إلى أن قال - ومن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحقّ، فأخطأه فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل العملية أو النظرية، وأنه لا فرق بين مسائل الأصول والفروع - وأطال الكلام في الرد على من فرّق بينهما، واحتج بحديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين" ثم استدل العراقي بقوله: "ولا يعكر على هذا أن أكثر المتأخرين على أن المخطئ في مسائل الاعتقاد يفسق ويؤثّم كالرافضة والخوارج والمعتزلة؛ لأنّ استدلال الشيخ بأقوال الصحابة وجماهير السلف على عدم التكفير والتفسيق من حيث بعض المسائل المختلف فيها. ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير والتفسيق في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين والحلف بغير الله، والنذر وصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين وهذه المسائل لا يكفر صاحبها عند الشيخين، كما عند غيرهما فيرد إطلاقهما لتخصيصهما، بل لم يذكر هذه الأشياء أحد من العلماء غير الشيخين. ولو كانت هذه المسائل من أمور الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون في تفاسيرهم وأهل العقائد في كتبهم. فلما لم يذكرها أحد من السلف والخلف غير ابن تيمية ومن تابعه، وهي من اجتهادياته لكنه أطلق اللفظ في الكفر والشرك، وأراد الأصغر وقيده إذا لم يكن الفاعل مجتهدًا ولا مقلدًا ولا متأولًا ولا جاهلًا. فدل كلامه على أنها من الفروع المختلف فيها في الحل والحرمة؛ فرجعت إلى الاجتهادية، وقد قال العلماء قاطبة الحنابلة وغيرهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
والجواب عن هذا النقل وما بعده من الكلام أن يقال:
أولًا: موضوع الكلام والفتوى في أهل الأهواء، كالقدرية والخوارج والمرجئة ونحوهم. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية؛ لأنّ فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين وعبادتهم. فالعراقي لا يعرف أهل الأهواء وما يراد به، ومع هذا لاجهل فالتحريف غالب عليه في كل ما يشير إليه.
ويقال: هذا النقل الذي نقله فيه تكفير من قامت عليه الحجة ولو في المسائل الخفية ونحن لا نكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية في المسائل الجلية فبطلت الشبهة العراقية. ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة. كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا هو زبدتها وحاصلها. وسائر الأحكام تدور عليه. قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ووجه الحصر: ما أشرنا إليه من أن التوحيد هو الأصل المقصود بالذات، فراجع كلام المفسرين فبطل ما زعمه هذا الملحد من أن هذه من مسائل أهل الأهواء.
وأما الكلام في تكفير المعين، فالمقصور به مسائل مخصوصة، قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء. فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورًا كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة النبوية. فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرًا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع، كالجهل وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته. فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها. ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء. وقد نص على هذا، فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال: بعدم التكفير. وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة. فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وسيأتيك كلامه مفصلًا فراجعه إن شاء الله تعالى.
واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها.
وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة؛ فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلا من لم يمارس شيئًا من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا، كما في المسائل التي يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع، فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقر به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفي به دليلًا مبطلًا للشبهة. كاشفًا لها منكرًا لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق: "ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمدًا يبشّرك بالنار". هذا وهم أهل فترة. فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية من إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها. فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره، والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا } الآية، وقال: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية، وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم. والنصارى شبهتهم في القول بالبنوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خُلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم؛ لأنهم عرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، فلذلك ظنوا أن الكلمة تدرعت في الناسوت، وأنها ذات المسيح، ولم يفرقوا بين الخلق والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى إلى شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ }، وقوله: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات.
ومن عرف هذا تبين له ضلال العراقي وأنه نبطي لم يمارس شيئًا من العلوم وإن قل. وقد قيل: يفسد الأديان: نصف متفقه، ويفسد اللسان: نصف نحوي، ويفسد الأبدان: نصف متطبب، فكيف ترى بالمعدم المفلس إذا خاض في العلوم وخبط فيها؟
والشيخ قيد الشبهة المانعة من التكفير ووصفها بصفة كاشفة، فقال: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها؛ يريد أن الكلام يخصص بالشبهة التي يعذر فيها.
والعراقي أخذ كلامه من غير نظر للقيد والوصف المانع من دخول المشركين وعباد القبور، ولما عرف أن العموم في هذا لا يتجه استدرك فقال: فإن قلت: أكثر المتأخرين على أن المخطئ في المسائل الاعتقادية يفسق ويؤثم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة، قلنا: استدلال الشيخ من حيث الجملة في بعض المسائل المختلف فيها.
فنقول له: مسائل دعاء الصالحين والاستعانة بهم من المسائل الاعتقادية، فتدخل في الاستثناء والتفريق بينها وبين أقوال الروافض والخوارج والمعتزلة فالإخراج لها من كلام الشيخ تحكم وتهور، ولا يصير إليه من عرف الحقائق. والصواب أن عباد القبور شرّ الأصناف، وأن شبهتهم أوهن الشبه وأضعفها، وفي حديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أحمد في مسنده.
وهذا العراقي في إخراجه الخوارج ونحوهم من العذر بالشبهة، وقوله في عباد القبور: إنهم معذورون تابع لهواه، دائر معه في هذا ونحوه. ولو كان فيه الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي، عياذًا بالله من جهد البلاء.
إذا عرفت أن استثناءه واستدراكه على كلام الشيخ برأي أكثر المتأخرين في عدم الاعتداد والعذر بالشبه في العقائد، فاعلم أن هذا الاستدراك مبني على فهم فاسد، وعدم تحقيق. فإن الشيخ لم يرد ما قاله العراقي من المسائل الاعتقادية التي تعلم من الدين بالضرورة. وإنما يريد ما فيه شبهة يخفى دليلها على مثل القائل بها، ولا تقوم عليه حجة يكفر مخالفها إلا بتوقيف وكشف، ولا فرق في ذلك بين المسائل الاعتقادية والعملية.
وأما مسألة عبادة القبور ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها؛ وعدم اعتبار الشبهة فيها.
هذا وجه الإخراج والاستدراك، لا ما زعمه الغبي، فإن الخوارج لا يكفرهم الشيخ، ولا كثير من أهل العلم، وقد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: "أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرّوا"، فما أخرجه العراقي غير خارج، ما أدخله غير داخل، فكلامه مجرد تخبيط لا يروج على النقّاد.