وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
تذكرت هذا البيت حين جلست بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي في ذلك المكان الذي كان آخر مكان جلست فيه مع أخي بدر المحمود رحمه الله أواخر شهر رمضان المنصرم .
بكيت على بدر وقد غودر الشهر
ومالشهر إن كان الذي غودر البدر
محاولات هنا وهناك لتنفيس الحزن بشعر ركيك تارة ، ودمع شحيح تارة ، وصمت أليم تارة ، وكم كنت في حاجة لعزاء فيه أيام تعزية الناس لأهله .
لقد كان الحزن عليه مركبا من خسارة شخصية وخسارة عامة ، وكم كنت أعزي نفسي فيه بما أرجوه من ثواب الله تعالى لمن احتسب صفيا له في الدنيا عنده ، ويبقى في النفس حسيكة من فقد رجل كان كل من عرفه يرجو الله تعالى أن ينفع المسلمين به .
فما كان ( بدر ) هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
لم يكن أخي بدر رحمه الله عالما من علماء العصر ، ولا كبيرا من كبرائه ، وليس من شرط الشهادة لأحد بالخير بعد موته أن يكون مشهورا تعرف الأمة فضله ، ولكنه وقد أمنت عليه الفتنة بموته كان طالب علم صالح له ورد من عبادة وذكر ومناجاة مع همة في العلم عالية يعرفها من عرفه أحسبه مخلصا فيه والله حسيبه .
لقد قارب رحمه الله الثلاثين من عمره ومات عزبا مشغولا بالطواف على علماء عصره والقراءة عليهم ، حتى استقل بمكتبته عن بيت أهله في غرفة فوق بعض المحلات في شارع مشهور من شوارع الرياض .
كانت بداية صلتي به رحمه الله في مجلس الشيخ عبدالله بن عقيل حفظه الله ، فقد كان كثير القراءة عليه بترتيل تميز به عن غيره لطبيعة مجالس الشيخ التي يعقدها في بيته ويغلب عليها القراءة السريعة التي ينجز فيها الراغب حصته من الكتاب ثم يفسح المجال لغيره ، وقد كانت هذه القراءة التي تعود عليها قد نشأت معه في مجالس الشيخ ابن جبرين حفظه الله حيث إن قرب منزله من منزل الشيخ ابن جبرين قد سهل له قراءة كتب كثيرة على الشيخ في حضر وسفر وكان الشيخ ابن جبرين حفظه الله يختصه بوقت راتب في مسجده المجاور لبيته ، وقد ذهب الشيخ ابن جبرين لبيته وعزى أهله فيه وكذلك الشيخ البراك حفظهما الله .
وقد رأيت فيه عند الشيخ ابن عقيل من أدب الطلب وحسن الخلق وبشاشة الوجه ماقوى صلتي به ، ورأيت عنده من معرفة شيوخ الزوايا المغمورين ماكان دافعا لرحلات معه للقصيم والحجاز وغيرها .
لقد ذهبت تلك الأيام وبقيت في الصحف ، وأشهد له فيها بعلو الكعب في الذوق ، ورقة القلب في الصلاة ، وعفة اللفظ في اللسان .
وكم كان رحمه الله واسع الأفق في الخلاف ، عارفا بمواطن النزاع مع اخوانه ، مدركا لأسباب تفرق الصالحين في زمانه
ولم يكن رحمه الله متكلفا في هيئته وحاله تكلفا يظنه بعض طلاب العلم سمتا ، بل كان هينا لينا يظنه من لايعرفه حديث الاستقامة ، وتلك والله سجية حسنة كادت تصبح عيبا .
حضرت يوما مجلسا خاصا يقرأ فيه الشيخ الفاضل عبدالمحسن العسكر مع بعض الاخوان صحيح مسلم على الشيخ ابن عقيل حفظه الله ، وقد توزع الاخوان بعض شروح مسلم بينهم فكان فتح الملهم للعالم الهندي شبير أحمد من نصيب أخي بدر المحمود رحمه الله ، وكانت القراءة في كتاب الحيض ، فقال الشيخ عبدالله بن عقيل :
" المعروف عن اليهود أنهم يتنزهون عن مخالطة الحائض مطلقا والنصارى لايتنزهون عن كثير من النجاسات فهل نص أحد على أن النصارى يجامعون الحائض في الفرج ؟ "
فما أتم الشيخ قوله حتى قرأ بدر رحمه الله قول الشارح : " والنصارى يجامعون الحائض في فرجها ..." بمعناه
فسر الشيخ بهذه الموافقة ودون الفائدة على نسخته .
وكان رحمه الله يشاكس الشيخ عبدالمحسن – وهو من أهل العلم بالعربية – بملح ولطائف واستدراكات يقاطعها الدكتور بظرفه المعهود ويقول : " أشغلتنا ياابن محمود " !
كن حلس بيتك إن سمعت بفتنة
وتوف كل منافق فتان
لم أزر بيت أخي بدر رحمه الله بلاموعد إلا وجدته في بيته ، فلم يكن له أنيس غير مكتبته ، وكم من خميس وجدته قبل الغروب متهيئا فيه لفطره ، لقد كان مثل كثير من الصالحين الذين فرض اعصار الفرقة الذي ضرب المستقيمين حصارا على علاقاتهم بين الحلف والنصرة أو الهجر والعزلة ، وكان موفقا في التوازن بين اقباله على شانه وعذره لاخوانه .
وقد رأيت أخي بدر رحمه الله بعد موته ضاحكا مسرورا ينقلني من مكان لآخر يريني أمورا ماوعيتها عنه ، وماعلق في ذهني بعد رؤياي غير فرحه .
رحمك الله يا بدر رحمة واسعة ، وجمعنا بك في مستقر رحمته ، وأظلنا جميعا في ظله يوم لاظل إلا ظله ، آمين .
==========
بدر المحمود رحمه الله مثل للشاب الصالح :
http://www.al-jazirah.com.sa/105044/rj6d.htm