هل يقع التجدد في علم الله تعالى ؟
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
علم الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة والجماعة يتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات ؛ فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ؛ وهو بذلك لا يتجدد ولا يتغير .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال
أحدها : أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات لكن هؤلاء يقولون يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم لا بين العلم والمعلوم ... .
والقول الثاني : أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف لم يسبق القدر بشقاوة ولا سعادة وهم غلاة القدرية الذين حدثوا في زمان ابن عمر وتبرأ منهم وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على تكفير قائل هذه المقالة .
لكن القدرية صرحوا بنفي العلم السابق والقدر الماضي في أفعال العباد المأمور بها والمنهي عنها وما يتعلق بذلك من الشقاوة والسعادة ثم منهم من اقتصر على نفي العلم بذلك خاصة وقال إنه قدر الحوادث وعلمها إلا هذا لأن الأمر والنهي مع هذا العلم يتناقض عنده بخلاف ما لا أمر فيه ولا نهي .
ومنهم من قال ذلك في عموم المقدرات وقد حكي نحو هذا القول عن عمرو بن عبيد وأمثاله وقد قيل إنه رجع عن ذلك قبل إنكاره لأن كون{ تبت يدا أبي لهب وتب } سورة المسد 1 {و ذرني ومن خلقت وحيدا } سورة المدثر 11 ونحو ذلك في اللوح المحفوظ وأمثال ذلك .
والقول الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها ويعلمها بعلم آخر حين وجودها وهذا قد حكاه المتكلمون كأبي المعالي عن جهم فقالوا إنه ذهب إلى إثبات علوم حادثة لله تعالى وقال البارىء عالم لنفسه وقد كان في الأزل عالما بنفسه وبما سيكون فإذا خلق العالم وتجددت المعلومات أحدث لنفسه علوما بها يعلم المعلومات الحادثة ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها أي العلوم متقدمة على الحوادث وذكروا أنه قال إنها في غير محل نظير ما قالت المعتزلة البصرية في الإرادة .
وهذا القول وإن كان قد احتج عليه بما في القرآن من قوله ليعلم فتلك النصوص لا تدل على هذا القول .
مجموعة الرسائل والمسائل -رسالة في علم الله-
الجواب عن الآيات التي قد يفهم منها التجدد في علم الله
وقد عرض سؤال في ملتقى أهل التفسير عن الآيتين الكريمتين :
1- قال تعالى في سورة فاطر : إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور.
2- وقال في سورة الحجرات : إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون.
عن السبب في مجيء علم الله في سورة فاطر باسم الفاعل وفي الحجرات بالفعل المضارع ؛ ومعلوم أن الفعل المضارع يفهم منه التجدد .
وقد أجاب الدكتور ظافر العمري إجابة وافية فقال :
الآيتان تتحدثان عن علم الله تعالى، ولا ريب أن علمه سبحانه له صفة الكمال ، فإذا ورد بصيغة المضارع المشعرة بأن الفعل يقع مستقبلا فُهم منها اللازم أي لازم العلم. فأما آية الحجرات فهي في سياق الخطاب الدنيوي، وأما آية فاطر فهي في سياق الخطاب يوم القيامة. فقوله تعالى في سورة الحجرات: ( إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون) جاءت تعليلا للآية التي قبلها (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) إذ تفيد (إنََ) تعليل ما قبلها بما بعدها بمعنى أن الإخبار عنهم بمنتهم على الرسول عليه السلام ومنة الله عليهم كل ذلك داخل في علم الله تعالى وأن من لوازم علمه ما يقع من الإحاطة بما في صدورهم مما قد يقع منهم مستقبلا في مسألة الإيمان وثبات القلوب عليه من عدمه. فناسب أن يأتي بصيغة المضارع المشعرة بتجدد مايقع منهم مما يحيط به علمه تعالى والتجدد هنا من دلالة المضارع على الاستمرار التجددي.
وعلمه تعالى ليس متغيرا بتغير الزمان لأنه لو حُكِم بأنه زاد علمه في الزمن المستقبل لدل ذلك على نقصه في الزمن الماضي، ويلزم من ذلك أنه تعالى لا يعلم ما يكون في المستقبل حتى يقع، وهذا مما ينزه عنه علمه تعالى، فهو محيط الآن وقبله بما يقع منهم مستقبلا، وإنما جيء بصيغة المضارع للإشارة إلى لازم العلم. أي أن كل ما تقولونه وتفعلونه مما يؤكد صدقكم إنما هو واقع في علم الله تعالى ويعلم الآن كيف يكون مستقبلا. والتجدد للازم وليس للعلم لأن علمه تعالى متصف بالكمال فلا يصح أن يكون علمه على صفة تشعر بتغيره بين زمنين. وإنما يستفاد من المضارع لازمه من أن العلم محيط بكل ما يتجدد من أفعال العباد الظاهرة والباطنة، وهي أمور دنيوية متجددة متغيرة، فكان الإخبار عن العلم بها بما يناسب تجددها وحدوثها وذلك بصيغة المضارع (يعلم).
أما آية فاطر: (إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور) وردت عقيب الحديث عن حال الذين كفروا يوم القيامة بعد دخولهم النار، فالآية في سياق الحديث عن يوم القيامة، والتعبير جاء باسم الفاعل الذي لا يلحظ فيه زمن فهو إخبار عن مطلق علم الله الذي أحاط بما عملوا في الدنيا فلا يناسب أن يجيء بصيغة المضارع المشعرة بتجدد لازمه من أفعال العباد المحاطة بالعلم، لأنهم في موقف انتهى فيه العمل ولا يقع منهم في المستقبل عمل يحاسبون عليه، وإنما هو موقف جزاء، وهم موقنون غاية اليقين في ذلك الحين أنه قد أحاط من قبل بما عملوا. وسواء كانت الآية تعليلا لقوله تعالى: ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاء كم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير)، أم كانت استئنافية لا تعلل لما قبلها فإنها تدل على مطلق العلم _ وليس كما في المضارع حين يشير إلى تجدد لازم العلم _ فلم يستعمل اسم الفاعل هنا للإشارة إلى لازم العلم مما يتجدد. لأنها إن كانت تعليلية فإنها من صلة الآية التي قبلها فتكون في نفس سياق ما خوطبوا به يوم القيامة، وإن كانت استئنافية لا تعلل لما قبلها فإنه ليس في الآية ما يحتاج إلى الإشارة إلى تجدد الإخبار عن العلم بتجدد لازمه.
وقد بينا في كتابنا المشار إليه أعلاه، أن الإخبار عن العلم بصيغة المضارع إذا أريد به التجدد فإنه ليس تجددا لعلمه تعالى بل التجدد للازم العلم، وصيغة المضارع تفيد الإخبار عن دخول ذلك التجدد في علمه تعالى ، وهذا هو الفارق المهم بين الآيتين لأن آية الحجرات عللت لتجدد ما يقع في العلم فجاء الإخبار عن العلم بصيغة المضارع، وآية فاطر ليس فيها ما يشير إلى تجدد ما يقع منهم من عمل لانقضاء دار العمل.
وللاستزاده في مسألة الأخبار بصيغة المضارع عن علم الله ينظر مبحث (وقوع المضارع موقع الماضي بعد حرف التحقيق للاستمرار) ص 208.
وبالمناسبة فإن صفة علم الله أغلب مجيئها -إن لم يكن كله -على صيغة اسم الفاعل إنما يكون في سياق الحديث عن اليوم الآخر.
فائدة:
إن الناصبة تفيد التعليل كما في قوله: (إن الله يعلم غيب السماوت والأرض) وكما في قوله تعالى: (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) فهي تفيد التعليل فالمعنى في سورة الحجرات _ والله أعلم _ : (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، فإن الله يعلم غيب السماوات والأرض، أي إن كنتم صادقين في إيمانكم دائمون عليه فإن الله يعلم غيب السماوات والأرض، وعلمه بغيب السموات والأرض يدخل فيه ما في صدورهم .
والمعنى في قوله تعالى: (فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) أي اسلكوه لأنه كان لايؤمن بالله العظيم أي عقابا لعدم إيمانه.
وكتابه المذكور " بلاغة القرآن الكريم "
الرابط في ملتقى أهل التفسير
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?p=58579
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .