وهذا مقال آخر للأستاذ محمد حبش :
ابن تيمية وابن عربي... حكاية من دمشق
دين ودنيا
الجمعة 12/1/2007
بقلم د. محمد الحبش
جبارة هي دمشق!! لقد احتضنت في وقت واحد رجلين كبيرين لا يمكن افتراض لقائهما في عالم المفهوم ناهيك عن الماصدق, وهما كالمتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان,
ابن تيمية وابن عربي!!
ولكن أي سر في ذلك, فدمشق تحتضن خلال التاريخ أهم الأنبياء, وفيها مزارات لإبراهيم وزكريا وأيوب وذي الكفل وإلياس وإليسع ويحيى وعيسى ابن مريم, وتحتضن من الصحابة الأطهار حنجرة بلال وسيف خالد وتجليات أبي بن كعب وديمقراطية سعد بن عبادة وبطش ضرار بن الأزور وحكمة أبي الدرداء وعدل عمر بن عبد العزيز.
ولكن حكاية الرجلين تختلف عن ذلك!.
يسكن ابن تيمية في جامعة دمشق خلف مدرج الجامعة الرئيسي, ويسكن ابن عربي في جبل الصالحية حيث سمي باسمه أكبر حي في قاسيون حي الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي.
عاش ابن عربي في الفترة من 558-638 هجرية حيث جاء قادماً من الأندلس واختار سفح قاسيون ليكون شاهداً باقياً على رسالة دمشق في الحب والتسامح, ولكن ابن تيمية الذي جاء بعده بأقل من قرن رفع صوته بالغضب من فتوحات ابن عربي وفصوصه وحكمه وإشاراته ودلالاته, ولم يتردد في اعتبار كل تلك الإشارات أشكالاً من الكفر الأكبر, إلى حد جعل أتباع ابن تيمية يستخدمون في وصف الشيخ محي الدين الشيخ الأكفر!!
وخلال عقود قليلة من الزمن كتب فقهاء كثر من تيار ابن تيمية يدينون فكر ابن عربي بأقسى العبائر, وظهرت سلسلة متعاقبة من الكتب في تكفير ابن عربي, وقال ابن حجر العسقلاني إذا لم يكن كتاب الفصوص لابن عربي كفراً فلا كفر في هذه الدنيا!!.
وتعاقب فقهاء كبار على اتهامه بأقسى النعوت, ونص على تكفيره أئمة كبار منهم الإمام الحافظ الذهبي والإمام الحافظ تقي الدين السبكي والسراج البلقيني, وقال عنه الحافظ زين الدين العراقي كلامه كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد, وقال عنه العز بن عبد السلام شيخ سوء يقول بقدم العالم, لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً, وبأشد من ذلك تحدث ابن كثير وابن حجر الهيتمي والإمام نور الدين البكري أما الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب المغني فقد كتب عن ابن عربي بيتين من الشعر:
هذا الذي بضلاله ضلت أواخر مع أوائل
من قال فيه غير ذا فلينأ عني فهو كافر
وقد جمع برهان الدين البقاعي هذه الأقوال في كتاب خاص سماه: تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي!! وصار كثير من الفقهاء لا يذكرونه إلا مع الملاحدة والزنادقة وأعداء الدين!!!
ومن جانب آخر فقد انبرى عدد من علماء الشريعة للدفاع عن ابن عربي وكتبوا عدداً من الكتب في منزلته وفضله, فكتب السيوطي كتابه تنبيه الغبي إلى تبرئة ابن عربي وكتب عبد الوهاب الشعراني كتابه اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر, وكتب أيضاً تنبيه الأغبياء إلى قطرة من بحار علوم الأولياء.
ولكن دمشق ظلت تحتضن ابن عربي وتمنحه أبرك صلواتها وزياراتها, وترسل إليه أعذب أشواق الزوار اللاهبة, وعند أعتابه كتبت أعذب قصائد الشوق وتألق القراء والحفاظ والعلماء, ولا زال علماء دمشق إلى اليوم يعقدون مجالس الإقراء عند روضته الكريمة, وجاء المغاربة فأقاموا إلى جواره, وغدا ابن عربي جسراً للمعرفة والعطاء بين العرب والأندلس وبين الشرق والغرب, وبكل أمانة فإنه لا يوجد في دمشق باستثناء الجامع الأموي معلم تاريخي أغزر من مرقد الشيخ محي الدين.
لا تحتاج لكثير عناء لتدرك كيف كان الشيخ محي الدين بن عربي يفكر, وإلى أي مدى كان شديداً في حربه على احتكار الخلاص, ولا يوجد في تاريخ التسامح الديني في العالم عبارة أشهر ولا أصدق من أبياته الخالدة:
لقد كنت قبلاً منكراً كل صاحب إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل ملة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وفي خبر ذي دلالة وبخلاف سلوك فقهاء الشام بتأويل كلام ابن عربي, واعتذارهم عن اتباعه في هذا الموقف فإن التاريخ سيسجل لرجل عظيم في تاريخ سورية والعرب, وهو الأمير عبد القادر الجزائري أنه كان صريحاً في تأييده لموقف ابن عربي في ترجمان الأشواق حيث كتب قائلاً:
ففي نوره من كل ما يأمل الورى
فمن شاء قرآنا ومن شاء فرقانا
ومن شاء توراة ومن شاء إنجيلا
ومن شاء مزمارا زبورا وتبيانا
ولا ينسى أهل الشام موقف الأمير عبد القادر من طوشة النصارى التي وقعت في الشام 1860 حيث لم يكن للنصارى ملاذ يلجؤون إليه إلا دار الأمير عبد القادر رحمه الله.
ومع أن عادتنا في مواجهة عبارات السادة الصوفية أن نصفها بالشطح حفاظاً على سمعة الإمام الصوفي لئلا يوصم بمخالفة الجمهور, ولكن محاذير الشطح لاتحل عند ابن عربي أي مشكلة, فالرجل ماض إلى خلاف الجمهور في كل مسألة نظر فيها, وحروف كتبه كلها ناطقة بتميزه وخلافه ويتعذر تأويلها وهو مصر على المضي في خلافه إلى الغاية على طريقة الدوماني الغضبان: كل ما حللها شيخ يحرمها مائة ألف شيخ!!
ولكن ابن عربي ظل يحتفظ في الذاكرة الجماعية لأهل الشام أطيب الذكرى, ولم تنطفئ على الرغم من كل ما قيل أشواق العاشقين الوافدين على مرقده, وظل أهل الشام ينذرون للفقراء عند ضريح الشيخ محي الدين بن عربي, ويشكرون الله عند روضته, وصار دعاؤهم الحمد لله على الإسلام والسكنى بالشام والسكنى بالصالحية وجوار الشيخ الأكبر.
أما ابن تيمية فليس سراً أنه نال هو الآخر شهرة واسعة, وسارت الركبان بفتاويه وأدهش العالم بصموده وثباته على مواقفه, وشدته على خصومه, وكان لا يتردد في مهاجمة مخالفيه, ويصرح بالقول بأن القول ما قلناه ومن قال خلاف هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل!!
ولكن ابن تيمية لم ينل قبولاً في الشام, فالشام بما هي عاصمة حضارية خلال التاريخ كانت واضحة في قبولها الآخر, واحترامها للتعدد والاختلاف, ولم تقبل من ابن تيمية احتكاره للحقيقة, وهكذا فقد ارتحل علمه إلى نجد وتلقاه أهل الجزيرة العربية بالقبول والاتباع, ومع ذلك فقد ظلت دمشق ظلت تحتضنه وتتقبله, على منهج قول الأول: أنا سني وليلى علوية وخلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
من الطبيعي أن تكون أفكار ابن تيمية في تكفير المخالف وقوداً للتطرف والفكر التكفيري, وهو ما نشعر أن سورية في مأمن منه, ولكن وللأسف فإن أفكار ابن عربي في التسامح لم تدخل منهج التعليم في سورية, وظلت تعامل على أنها شطح يرتجى له غفران الله وليس -كما أرادها- فتحاً يرتجى فيه رضوانه! على الرغم من أنها تعكس ذهنية المحبة والإخاء التي نجدها في أبناء سورية على اختلاف مذاهبهم.
يبقى الضريحان في دمشق رمزاً لتعايش الفكر المتعدد في سوريا, وتقسم بينهما دمشق بالسوية, ولكن سوريا إذ يتزاحم ملوكها ليدفنوا في جوار ضريح ابن عربي وأعتابه, وتنشد عند ضريحه أعذب مغاني الشوق والوصال, وتكلل اسم الشيخ الأكبر على أعلى أحيائها في جبلها الشامخ تقدم رسالة واضحة تذكرك بقول النبي الكريم :(اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك).