قال تعالى : (إن رحمة الله قريب من المحسنين) [ الأعراف : 56 ] ، فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ، مطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ، ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفاً وطمعاً ، فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم ، فإن الله هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وقوله : إن رحمة الله قريب من المحسنين [ الأعراف : 56 ] ، له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه ، فدلالته بمنطوقة على قرب الرحمة من أهل الإحسان ، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان ، فهو السبب في قرب الرحمة منهم ، ودلالته بمفهومه عنى بعد الرحمة منهم ، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين ، فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة . وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم ، لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين ، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته . وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعداً ببعد وقرباً بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته ، والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين . ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ، ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه . والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحساناً إلى الناس أو إلى نفسه . فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه . وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالاً ومهابة وحياء ومحبة وخشية ، فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنك تراه ، وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمة الله قريب من صاحبه ، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به وإنما كتب رحمته للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة . كما أنهم هم المحسنون ، وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان . يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه . قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة . وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، ثم قال : هل تدرون ما قال ربكم ، قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة .

انتهى كلام ابن القيم في بدائع الفوائد.