ليلة القبض على الرؤوس
عشر سنوات أو أكثر .. والجبانة ذاتها مستلقية على قارعة الطريق تتسع وتلتهم ، حتى يخيل إليك أنها ستخطفك من بيتك ، أو أنك ستفتح باب بيتك ذات صباح فلا يفتح ، لأنه ثمة قبر على الباب .
الداخل إلى القرية يراهم ، والخارج منها يودعهم ، ونلقي إليهم سلاما لا بل
هو موعد نضربه معهم «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».سبقون وفيهم من تمنى أن يمكث أن لا يلحق وفيهم من ترك الهموم فاغرة فاها تعض أكوام لحمه وفيهم من ترك الشقاء بل أطلقه .
القرية حزينة ....
وحزني عليها أكبر حزن على الطيور التي شردت وعلى شقائق النعمان التي باعت حمرتها للغدر والألم وما عادت تستهوي الحقول والمروج .
حزني يعقوبي على العوائل التي نكبت ، ثكلت ..وحزن تائه على الذين قتلوا وسفكوا باسم من لم يدروا ولأجل من لم يدروا !!!
كان السكين في أياديهم خوفا وضياعا وعلى رقاب- لطالما احتضنوها – ظلما وحيفا .لكنه تدحرج وغار وأغار هتك وفتك .
وكان الصبح كشقائق النعمان احمر وكالعلقم مر بل ماكان له طعم ... إنه صبح المغدورين والمذعورين صبح الشوك والعوسج . القاتل من قريتي والمقتول قريتي ,, والفتنة أصابت حتى دمعتي !!!
نمت تلك الليلة كألف ليلة من ليالي صيف القرية الحميمي سعيدة فرحة بداخلي نبض فرح قادم أداريه كتمانا وسرا حتى يكون للجميع سرورا في وقته المكتوب .
نمت رغم أن الجو كان حارا ,,,
وباتت الكلاب ليلتها تنبح واستوقفني نباحها عند مضارب العرب قديما فنار القرى تهد ي الضال وعابر السبيل والكلب الوفي مرابط يدل الغريب والمستجير..
نمت ليلتها . انتظر أن يوقظني أذان الفجر ليمنحني بعض كنوزه الروحية وبعض نسائمه الصافية .. نستحي أن نبقى نياما بعد الآذان حتى من العصافير التي تبدأ فرحها منذ الفجر . !!!
قبل الفجر استفقت .. وما كانت عادتي ..
كانت أختي الوسطى تقطع رواق البيت جيئة وذهابا تمشي على رؤوس أصابعها دون أن تنير مصباحا واحدا وسمعت الكبرى ترتل آي القرآن في هذه الظلمة الحالكة كانت نورة تفتح الباب وتقول لفايزة :
- اقرئي الإخلاص ...
هل أنا في سكرة من سكرات الموت ؟
هل أنا أهذي ؟؟
هل هذا حلم ؟؟؟
كدت أصرخ لكن صوتي خانني بل جبن ،
- ماذا هناك ؟
- اصمتي إنهم هنا . ..
- من ؟؟
- هم؟؟
هل عجزت المعاجم أن تجد لهم سميا أم أن الفتنة لا قاموس لها ولا صوت لها ؟؟
سمعت طلقات رصاص .. ليست كتلك التي أسمعها في غرة نوفمبر أو في عيد الاستقلال...
ركض في الشارع كان له صوت مجلجل كأن الأرجل قدت من حديد أوركبت فيها نواقيس ..
بكاء.. صراخ حاد.. حتى الأنفاس الحرى صار لها صدى ورنينا .. تتلقى ذبذباته القلوب الوجفة واستطالت أذناي واخترقت القلوب المحيطة بي كانت الدقات شرسة والصراخ يمتد من شريان لآخر والدم يرجو جلطة تبقيه في مكانه ....
انتظرت الصباح بشغف لكن الليل طال وطال ، ليل يخزن للصباح والضوء والشمس مآسيا ويهدي للعيون فرجة أليمة تحفر في ذاكرة الجميع وتمزق بعنف غلالات المشاعر .
أطل الصبح يحمل إرث ليل غادر وخرج كل مذعور من جحره كأن الكل يبحث في ركام الضياع عن شلو شارد أو عين جنت و ارتحلت أو قلب طار فزعا وفيهم من يبحث عن عنوان لهذا الصبح ، الكل يبحث عن عقل غائب قد يفسر حدثا جائر ا ،
قرب بيتنا المطل على الحقول والأودية ركض الكثيرون بحثا عن غائبين كانت للقاء فرحة غير عادية فيها ضحك وبكاء وصراخ عتاب و تقريع.
لحظات مرت وسكت بعدها الشارع وسكتت معه الضلوع والأعصاب ومنذ ذلك اليوم صار صبح قريتي حذرا وصار ليلها طويلا مخيفا يتعقب نباح الكلاب ويترصد بالريح الدوائر إن هي عربدت كان الصبح في قريتي ميلادا جديدا فالجبانة لازالت تحمل في بطنها دما فر قبل أن يتجلط ورؤوسا خطفت من وسائدها وسمع صراخ شرايينها باسم فتنة أقعدتني عقدا من الزمن في قارعة الألم أنتظر رأسي أن يغادرني وأنا التي لا زلت لم أتكلم ولا زلت لم أغزو برأسي فكرة أو مملكة .