الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول ( وهم القائلون بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا ) بأدلة متعددة ، بعبارات مختلفة ، وسأسوق بعضا منها :
- أن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ولا من الفقهاء ، بل هم من جملة العوام الذين لا يعتد بخلافهم (نقله في ( المفهم 1 \ 543 ) عن القاضي أبي بكر الباقلاني ). .
- أن الظاهرية في حيز العوام ، فلا اعتبار بخلافهم (الفصول في الأصول 3 \ 296 ، سير أعلام النبلاء 13 \ 104) . .
- أن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد ، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة ، فبإنكارهم القياس والاجتهاد يكونون ملتحقين بالعوام ، وكيف يدعون الاجتهاد ، ولا اجتهاد عندهم ، وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ . (البرهان للجويني 2 \ 818 ) .
- أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر ، فهو كالعامي الذي لا معرفة له (البحر المحيط 4 \ 472 ). .
- أنهم لا يعتد بخلافهم لأنهم من جملة العوام ، وأن من اعتد بخلافهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع ، والحق خلافه (المفهم 1 \ 543 ، وعنه البحر المحيط 4 \ 472 ). .
- ولأنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات (البحر المحيط 4 \ 472 ).
- أن منكري القياس من الظاهرية ليسوا من علماء الأمة ؛ لأنهم مباهتون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ، ومن لم يزعه التواتر ، ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه (البرهان للجويني 2 \ 818 ). .
- أنهم كالشيعة في الفروع ، ولا يلتفت إلى أقوالهم ، ولا ينصب معهم الخلاف ، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم ، ولا يدل مستفت من العامة عليهم (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ). .
- أنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد ، ولا يعتبر في الإجماع إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد .
بل بالغ بعضهم فلم يعدوا الظاهرية من العلماء والفقهاء .
- أنهم لما أحدثوا قواعد تخالف الأولين ، أفضت إلى المناقضة لمجلس الشريعة ، فلم يعتبر خلافهم (البحر المحيط ، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291) . .
- أنهم لما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق ، وأن غيرهم على الباطل أخرجهم أهل العلم من أهل الحل والعقد (البحر المحيط ، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291 ). .
- أنه قد دل الدليل القاطع على أصل القياس ، وهو لا يحتمل المنازعة فيه لظهوره . وقد نازع الظاهرية فيه .
وهذه المنازعة الظاهر أنها عناد ، والمعاند في الحق لا عبرة بقوله ، وهذا ظاهر .
وإن لم تكن عنادا - كما هو الظنون بذوي الحجى - ، فقد نفوا ما ثبت بالدليل القاطع باجتهاد ، قصاراه إفادة الظن الذي لا يعارض القطع الظاهر (الوافي بالوفيات ، للصفدي 13 \ 475) . .
والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به ، وينقض الحكم به (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ).
- أن من أنصف لنفسه علم أن النصوص التي أخذت منها الأحكام لا تفي بعشر معشار الحوادث التي لا نهاية لها ، فما الذي يقوله الظاهري في غير المنصوص إذا أتاه عامي وسأله عن حادثة لا نص فيها ، أيحكم فيها بشيء أم يدع العامي وجهله ؟
لا قائل من المسلمين بالثاني ؛ أعني أنا ندع العامي يخبط في دينه ، وإن حكم فيها - والواقع أن لا نص - ؛ فإما أن يقيس ، أو يخترع من نفسه حكما يلزم الناس الأخذ به .
إن اخترع من عند نفسه ونسبه إلى الحكم الشرعي كان كاذبا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا كان ملزما للناس بفلتات لسانه ، فما بقي إلا أنه لا يخترعه من عند نفسه ويقيسه على الصور المنصوص عليها .
والظاهري لا يقول بذلك ، فعاد الأمر إلى أنه إما أن يدع العامي يخبط في دينه بما لم ينزل الله به سلطانا ، أو يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يلزم الناس بهفواته ، والثلاثة لا يقولها ذو لب - معاذ الله – (الوافي بالوفيات ، للصفدي 13 \ 475 ). .
- أن داود ينفي حجج العقول . . . فمن كان هذا مقدار عقله ومبلغ علمه كيف يجوز أن يعد من أهل العلم وممن يعتد بخلافه . . . (الفصول في الأصول ، للجصاص 3 \ 296 ).
- أنهم قد أخذوا هذا القول - نفي القياس - عن النظام من المعتزلة ، وقد كفره جمع من أهل العلم (فقه أهل العراق وحديثهم ، للكوثري ص 17 ) . .
مما سبق من تعليلات القائلين بعدم الاحتجاج بخلاف الظاهرية يتبين أنهم يدورون حول معنى واحد وإن اختلفت العبارات ، وهو :
أن الظاهرية عندما أنكروا القياس خرجوا عن دائرة العلم ، وأهله [ وصاروا في دائرة العوام ، أو الجهال ، أو المبتدعة ،
أو المباهتين (البرهان للجويني 2 \ 818 . ، أو الكفار والمشركين - بحسب اختلاف العبارات - ] وهؤلاء لا يصح الاحتجاج بهم في الإجماع ، ولا يقدح خلافهم فيه .
والسبب في ذلك - مما تقدم - ثلاثة أمور :
أ - أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية ، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية .
ب - أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع .
ج - أن القياس قد دل عليه ( الدليل القاطع ) فإنكارهم له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، فخالفوا صريح العقول ، وصحيح المنقول .
أما الأمر الأول ؛ وهو أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية ، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية .
فلا يسلم ذلك - عندهم - فإن في القرآن والسنة بيانا لجميع الأحكام الشرعية إما بطريق المنطوق أو المفهوم أو غيرها من دلائل الألفاظ ووسائل الاستنباط غير القياس ، ويدل على ذلك عموم قول الله تعالى : سورة النحل الآية 89 وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، وقوله تعالى : سورة الأنعام الآية 38 مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ .
وقال ابن حزم (النبذ في أصل الفقه ، لابن حزم ص 118 ) : " كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله ، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا البتة " .
قال أبو إسحاق الشاطبي ( ت 790 هـ ) (الموافقات للشاطبي 4 \ 189 ) : " العالم بالقرآن على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ، والدليل على ذلك أمور . . .
ومنها : التجربة ؛ وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها أصلا ، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظاهر الذين ينكرون القياس ، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل " ا . هـ .
وقال الشوكاني ( ت 1255 هـ ) بعد ذكره لدليل المانعين من الاعتداد بخلاف منكري القياس : ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها ، وتدبر آيات الكتاب العزيز ، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة ، علم بأن نصوص الشريعة جمع جم ، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ، ولا سنة ، ولا قياس مقبول ( وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ) . نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جدا " (إرشاد الفحول ص 72 ). .
أما الأمر الثاني ؛ وهو أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع .
فقد دفع ابن حزم هذا التراشق بأمرين ؛ أحدهما : أنه لا يهمه من وافقه من أهل الباطل ، فلا ينكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ويقولها هو .
وثانيهما : أنها لا تخلو كلمة حق أو باطل يذهب إليها غيره من آخذ بها من أهل الباطل ، فالأخذ بالقياس قال به بعض المعتزلة ، والأزارقة ، وأحمد بن حابط ، ولكل هؤلاء من شنيع الأقوال ما هو كفر (تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب للعلامة ابن عقيل الظاهري ص 52 ) .
أما الأمر الثالث ؛ وهو أن القياس قد دل عليه ( الدليل القاطع ) ، فإنكار الظاهرية له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، فخالفوا بذلك صريح العقول ، وصحيح المنقول .
فهو محل النزاع بين الظاهرية وغيرهم ، وقد أطال الظاهرية في نقاش هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بصحة القياس (انظر مثلا : الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2 \ 761 وما بعده ) .
إضافة إلى أن ( الدليل القاطع ) إن سلم به ، فإنما هو قد دل على أصل القياس ، وصحة الاستدلال بجنسه . لا على صور آحاده ؛ فإنها باتفاق ظنية ، ما عدا بعض الصور التي قال بعض العلماء بأن القياس فيها قطعي ؛ كالقياس الأولوي على نزاع في تسميته قياسا .
وبذلك يتبين فساد المقدمات التي بنى عليها أصحاب هذا القول نتيجتها ؛ وهو عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية . فإذا سقطت المقدمات سقطت النتيجة المترتبة عليها . وعليه يتبين ضعف هذا القول - والله أعلم - .
واستدل أصحاب القول الثاني ( القائلون باعتبار خلاف الظاهرية مطلقا ) بأدلة متعددة ، وسأسوق أولا عباراتهم ؛ فمنها :
- أن ما تفردوا به هو من قبيل مخالفة الإجماع الظني ، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ) .
- قال الصنعاني ( ت 1182 هـ ) (العدة شرح إحكام الأحكام ، للصنعاني 1 \ 140 - بتصرف يسير ). : إن الظاهرية لم يخالفوا في المسائل المجمع عليها ؛ لأن التحقيق أنه لم يقم الدليل إلا على حجية الإجماع القولي ، وقد كذب من ادعاه إلا في المسائل الضرورية - كما قال الإمام أحمد - .
فإذا حققت فالحق أن دعوى الإجماع طريقة القاصرين ، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم ، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق ، فليس العمدة إلا الدليل من الكتاب والسنة أو قياس في معنى الأصل ، فإذا قام الدليل فلا ينظر إلى التنقيش قال به قائل أو لا ؟ ، فلا وحشة مع الدليل ، ولا ناظر بعد وجوده إلى قال ولا قائل ولا قيل ، والله يقول الحق ويهدي السبيل .
- أن هؤلاء المخالفين في القياس كلا أو بعضا ، هم بعض الأمة ، فلا بد من الاعتداد بخلافهم (إرشاد الفحول ص 210 ) .
- أنه لم يذكر أحد من العلماء أن من شرط المجتهد المعتبر قوله أن يكون من أهل القياس القائلين به .
- أن قول الظاهرية اجتهاد منهم ، ومن لم يعتد بخلافهم كان هذا اجتهادا منه فكيف يرد اجتهاد بمثله (سير أعلام النبلاء 13 \ 105) ، ونقله عنه الصفدي في (الوافي 13 \ 474 ) . .
- أن داود الظاهري كان يقرئ مذهبه ، ويناظر عليه ، ويفتي به في مثل بغداد ، وكثرة الأئمة بها وبغيرها ، فلم نراهم قاموا عليه ، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه ، ولا سعوا في منعه من بثه (سير أعلام النبلاء 13 \ 105 . ثم ذكر أمثلة لبعض العلماء الذين عاصروا داود ) .
- أنهم وإن جاء عنهم مسائل غريبة ، فإنهم علماء مجتهدون ، وقد صدر من كثير من العلماء مسائل تخالف الإجماع ، وإنما تحكى للتعجب ؛ كقول ابن عباس في المتعة ، والصرف ، وإنكار العول (سير أعلام النبلاء 13 \ 105 - 106 ) .
- أن كثيرا من الأئمة المصنفين أوردوا خلاف الظاهرية في كتبهم ، مما يدل على اعتبارهم له ، فلولا اعتدادهم بخلافهم لما أوردوا مذاهبهم في مصنفاتهم ، لمنافاة موضوعها لذلك (فتاوى ابن الصلاح ص 68) .
- أننا ما اعتددنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة ، بل لتحكى في الجملة ، وبعضها سائغ ، وبعضها قوي ، وبعضها ساقط (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ) .
- أنه يلزم القائل بعدم الاعتبار بخلاف الظاهرية في الإجماع يلزمه أن لا يعتبر خلاف منكر العموم ، وخبر الواحد ، ولا ذاهب إليه (البحر المحيط 4 \ 472 ، نقلا عن الأصفهاني شارح ( المحصول ) . .
- أن خلاف الظاهرية معتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ، ويمنع العموم ، ومن حمل الأمر على الوجوب ؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق (البحر المحيط 4 \ 472 ، نقلا عن القاضي عبد الوهاب في ( الملخص ) . .
- أن عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية غير صحيح ؛ لأنه إن كان نفيا للوجود فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان ، وإن قيل : إن الله أمر بعدم سماعه ، أو رسوله أمر بذلك فهذا شر من الأول لأنه كذب على الله ورسوله .
مما تقدم يتبين أن الحديث في قبول خلاف الظاهرية ما ادعي فيه الإجماع مقبول وأنه مانع من انعقاد الإجماع لأمور :
أ - منع صحة الإجماع شرعا ، وعقلا في المسائل التي خالف فيها الظاهرية (وقد أطال ابن حزم في ( الإحكام 2 \ 494 - 506 ) النفس في تقرير هذا الأصل ، فيراجع) .
ب - وعلى فرض صحة الإجماع قبل خلافهم ، فإنه يمنع من الوقوع ؛ لأن الوقائع التي ادعي فيها خلاف الظاهرية للإجماع ، إنما هو خلاف ظني (قاله الذهبي في ( السير 13 \ 104 ) ، والصنعاني في ( العدة شرح إحكام الأحكام 1 \ 140 ) وتقدم نقله . .
ج - أن إنكارهم للقياس لا يعني خروجهم من دائرة العلماء ؛ لأنهم مجتهدون توفرت فيهم جميع أدوات الاجتهاد - ولم يذكر أحد من العلماء أن من شروط المجتهد أن يكون عاملا بالقياس في المسألة المجتهد فيها - ، كما أنه يلزم من عدم الاعتداد بخلافهم عدم الاعتداد بخلاف منكري حديث الآحاد - مطلقا أو في وقائع معينة - ومنكري العمل بالحديث المرسل ، ومن يرى نسخ القرآن بالسنة ، ومنكري العموم ، وغير ذلك من صور عدم العمل ببعض آحاد الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة .
د - ( القلب للدليل ) وهو أن الإجماع منعقد على قبول خلاف الظاهرية ؛ لأن داود الظاهري أظهر قوله في عصره وكذا تلامذته من بعده وحكى خلافهم أهل العلم في كتبهم ، ولم يرو عن أحد معاصريه أنه أنكر خلافه ولم يعتد به .
واستدل أصحاب القول الثالث ( وهم القائلون بقبول خلافهم في المسائل غير القياسية ، وأما القياسية فلا يعتد بخلافهم ) بأدلة منها :
أن المسألة إن كانت مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي ، ولا مخالف للقياس فيها ، لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم - إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ - .
فإن قلنا بالتجزؤ ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون ، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية ؛ لأن له فيه مدخلا ، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم (البحر المحيط 4 \ 473 ، نقلا عن الأبياري).
ويظهر بتأمل هذا القول أنه عائد في الحقيقة إلى القول الأول القائل بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية ؛ لأن جل المسائل إنما هي قياسية ؛ كما قال إمام الحرمين الجويني ( ت 478 هـ ) (البرهان ، للجويني 2 \ 818 ) :
" إن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد ، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة " .
كما أن في التفريق بين المسائل التي يدخلها القياس والتي لا يدخلها القياس خلافا بين العلماء ؛ فمثلا مسائل الحدود ، والكفارات ، والعبادات فإن بين القائسين خلافا في جريان القياس فيها من عدمه .
إضافة لذلك فإن هذا التفريق هو محل النزاع ؛ فإن الظاهرية يرون أن جميع هذه المسائل ليست قياسية ؛ فيكون قولهم معتبرا .
واستدل أصحاب القول الرابع ( وهم القائلون باعتبار خلافهم فيما خالف القياس الخفي ، دون ما خالف القياس الجلي ) بأدلة منها :
أن خلاف الظاهرية فيما خالف القياس الخفي معتبر ؛ لما سبق في أدلة القول الثاني .
أما خلافهم فيما خالف القياس الجلي فهو غير معتد به ؛ لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه ، والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به ، وينقض الحكم به (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ) .
ولأنه يجوز تبعيض الاجتهاد ؛ بمعنى أن يكون العالم مجتهدا في نوع دون غيره ، فكذلك الظاهرية يعتبر قولهم فيما عدا ما خالفوا القياس الجلي (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ) .
ولأن المسائل التي خالفوا فيها القياس الجلي ، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه ، أو بنوه على أصولهم التي قام الدليل القاطع على بطلانها باتفاق من سواهم على خلافه ، إجماع منعقد . وقولهم حينئذ خارج من الإجماع ؛ كقولهم في التغوط في الماء الراكدة ؛ وقولهم : لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها .
فخلافهم في هذا ، وشبهه غير معتد به ؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه ، والاجتهاد على خلاف الدليل القاطع مردود ، وينتقض حكم الحاكم به (تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 \ 184) . .
ويعرض على تفريقهم بين القياس الجلي ، والقياس الخفي في الاعتداد بخلاف الظاهرية في الثاني دون الأول . أن يقال لهم :
أ - إن تقسيم القياس إلى جلي وخفي - بحسب تقسيم الشافعية - إنما هو تقسيم لما يطلق عليه القياس ، لا القياس الشرعي المعرف بين الأصوليين ، والذي فيه نزاع الظاهرية .
فإن الجمع بنفي الفارق - وهو القياس الخفي - ليس من حقيقة القياس (تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 \ 77 ). .
فعاد هذا القول للقول الأول ، وهو نفي الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا ، فيكون القول فيهما واحدا .
ب - كذلك فإنه يقال : إما أن يعمم عدم الاعتداد بخلاف من خالف قول الأكثر في القياس الجلي سواء كان من أهل القياس ، أم لا . أو أن يخص بأهل الظاهر فقط .
فإن قيل بالأول وهو أن كل من خالف في القياس الجلي لم يقبل قوله ، ولا يعتد بخلافه ، فهذا يؤدي إلى القول بقطعية هذا القياس ، وفيه نظر ؛ بدليل خلاف بعض القياسيين فيه .
وإن قيل بتخصيص منكري القياس فقط . ففيه تحكم ؛ لأنه ربما خالف في هذه المسألة التي يدعي أن القياس فيها جلي غير الظاهرية ممن يعمل القياس ؛ فيكون القائل هذا القول قد أهمل خلاف الظاهري ، وأعمل خلاف غيره في مسألة واحدة ، وهو تحكم .
مثال ذلك : ما ذكره أصحاب هذا القول من التمثيل للمسائل التي خالف فيها الظاهرية القياس الجلي ؛ بأن الظاهرية يقولون : " بأن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث فقط ، ولا يتعداها لغيره " .
وهذه المسألة لم ينفرد بها الظاهرية بل وافقهم عليها بعض أهل القياس ، فقال أبو الوفا ابن عقيل ( ت 513 هـ ) من الحنابلة ، وغيره .
فإن قبلنا خلافه ، ورددنا خلاف الظاهرية فهو تحكم . وإن قلنا برد خلاف الجميع فلا فائدة من تخصيص الظاهرية بعدم الاعتداد بقولهم ، بل نرد خلاف جميع من خالف في هذا القياس
.