أصول الفقه بين الثبات والتجديد
البعد الفكري ، والإمكان العملي
قراءة في السببية المطالبة ، وأوجه الإمكان التطبيقية التجديدية
تصنيف
يوسف بن محمد الغفيص
عضو هيئة كبار العلماء , عضو اللجنة الدائمة للإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله وآله وصحبة أما بعد :
فإن تحديد رؤية علمية أمام هذه الفرضية (( تجديد أصول الفقه )) يرتبط بوجود إمكانية مؤهلة من حيث المنهج النظري ، والواقعية التطبيقية لإجراء حوار يتطلع لقراءة مراجعة للكتابة الأصولية التاريخية.
هذه المبدئية أو الاتجاه على أقل تقدير يعطي مراجعة للسببية المطالبة بتجديد أصول الفقه، وربما كان من الرسم الصحيح للشكل العلمي: أن هذه الدعوة إنتاج(للعقل المنفعل حضارياً) أو (للعقل المدني المتحول) وفي تقديري : أن هذا العقل عقل ذرائعي افتراضي بدرجة ذوقية عالية !! ومقدّر: أنه يواجه أزمة تكوين ، وليس أزمة تطبيق ، وليس على علاقة معتدلة مع التراث الإسلامي من حيث الولاء والتصور .
من هنا فإن هذه الفرضية العلمية في شكلها الحضوري لا تحمل إلحاحاً ذاتياً من داخل علم ((أصول الفقه)) أو حتى معطيات علمية وتاريخية قادرة على ترسيم هذا الافتراض .
هذا الإنتاج لا يعني أن (علم أصول الفقه) علم متعالي على التجديد والمراجعة والتصحيح في سائر جزئيات بنيته ، بل هذه مراجعة متاحة ومؤهلة علمياً وتاريخياً بل وممارسة داخل هذا العلم أو عند من قرأه من كبار علماء ونظار المسلمين الذين كتبوا في التصحيح الأصولي .
ثمت فرق بين رؤية تقع استجابة لفرضية حضارية أو أزمة تكوينية فكرية وبين الاستجابة لواقعية علمية تاريخية أو حتى حظورية طارئة . هذا الفرق لا يتمثل في القراءة السببية المجردة بل يرتبط به التكوين التطبيقي ولو بمعدل اللغة التعاملية الأولية . ومن هنا فإن الكشف عن حقيقة هذه الدعوة داخل رؤية واتجاه العقل المدنى المتحول سواء كان في اتجاه ما يسمى "اليسار الإسلامي" أو "العقلاني الحر" أو "الوسط الحداثي" يعد قيمة مهمة في تقييم هذه الدعوة التي يحاول رموزها الفكرية المتحولة إقصاء الاتجاه الوسط الإسلامي المحافظ عن الامتياز التأصيلي .
حسب التقدير الشخصي : فإن الدعوة إلى (تجديد أصول الفقه) بهذه الدرجة من العمومية ، والنسق الفكري الذي ترفع فيه هذه المطالبة جاءت محاولة تجاوز للتنظيم التشريعي المذهبي القائم في القرون الإسلامية ، والممتد في الواقع المعاصر ، أو بعبارة أكثر تطبيقية مع الواقع الثقافي : محاولة تحييد النظامية التشريعية التي يمثلها الوسط العلمي المحافظ عن الممارسة التطبيقية المعاصرة ، وإعطاء واقعية معرفية لحرية العقل المتحول في كثير من الأوساط الثقافية العربية أو حتى في اليسار الثقافي الإسلامي لتجاوز المنهج العلمي الوسطي الذي مثله الفقهاء الأوائل، وهذه التوافقية بين هذين التجمعين الذي ربما صح أن نسميهم : رواد هذه الدعوة ليست توافقية منهجية ، وهذا منطق عدلي يجب أن يكون واضحاً ، فمن المؤكد أن "اليسار الإسلامي" أكثر تعقلاً بل لا يمكن أن يؤهل "العقل الحداثي" لمعادلة تعاملية تجاه هذه الدعوة مع كل الأشكال الإسلامية . لكن ربما كان مهماً أن ندرك أن هذه المطالبة ، أو بتصورية أكثر : الافتراض التحويلي لأصول الفقه ، ليست محاولة علمية داخل التجمع العلمي التخصصي أو اعتباراً شرعياً داخل التمثيل الإسلامي التعددي القائم ، وإن كنا ندرك أن هناك مناقشات وربما إيحاءات قبولية أو رفضية قائمة في هذين المسارين لكن البعد الثقافي المعاصر في أشكاله الاتجاهية الفكرية يتعامل مع هذه الفرضية كنظرية يحاول أن يسجل لها استجابة داخل التجمع العلمي التخصصي أو داخل التطبيق الإسلامي التعددي أي : خلق سببية معرفية أو شرعية ، ورغم وجود مقتضيات نسبية في المحورين فإن تجسير العلاقة مع العقل الوضعي أو العقل المتحول يمثل تسرعاً ولو بمستوى التصويت الأولي لصالح تصحيح النظرية ،وهنا يمكن أن نسجل رفض القبول لهذه الدعوة التي تقع تحت رؤية فكرية متحولة،وليست على علاقة مناسبة مع التراث الوسطي المحافظ بل يكون هذا ضرورة منهجية لازمة التحقيق.
إن هذا العلم الذي بدأ التصنيف فيه – حسب رأي الأكثرين خلافاً لبعض الأحناف – الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، في كتابه المسمى : بالرسالة . والتي كانت محاولة وضع قاعدة توافقية بين "مدرسة المحدثين" و"مدرسة الرأي" في التداول الفقهي ، حيث كان في تلك المرحلة التاريخية بعض الامتياز بين هاتين المدرستين في التحصيل الفقهي مع كثير من التوحُّد في أصول التلقي والاستدلال.
وبإمامة الشافعي العلمية المتعددة مثلت رسالته التي أرسلها إلى الإمام عبد الرحمن بن مهدي المحدث ، واقعية تطبيقية تمثلت بعد عصر الشافعي في النظم العلمية المكتوبة في المذاهب الفقهية الأربعة في الفقه وأصوله .
ويدرك القاري لكبار كتب الفقه عند الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة وكذا كبار الكتب الأصولية أن ثمت توافقية في اعتبار نظم التشريع وأصول الاستدلال وكثير من نتائجه وفروعه مع امتياز حاصل نتيجة معطيات متعددة علمية ومذهبية وغيرها ، وربما صح أن بعضاً من الاميتاز المسجل تاريخياً بين المذاهب لأربعة كان مرتبطاً بالطائفية التي تمثلت في التمذهب الشمولي والتعصب والتقليد عند كثير من أتباع الأئمة .
فهو إلى حد كبير لم يكن موقفاً علمياً محضاً فضلاً عن كونه ضرورة منهجية مذهبية تستلزمها الأصول المتحققة عن الإمام المتفقه على مذهبه كمالك والشافعي . بل بعض من الامتياز وإن كان له بناء ورسم علمي إلا أنه ولائي بنسبة مقدرة من حيث التكوين .
ولست ترى أن الأئمة الأربعة يمارسون هذا الامتياز بنفس الدرجة التي يمارسها كثير من أتباعهم ولا سيما متأخريهم .
ومن هنا فإن المحققين من علماء الإسلام الكبار لا يرون تفضيل أحد هذه المذاهب الأربعة في النظم الأصولية أو الفروع الفقهية المحصلة تفضيلاً عمومياً من حيث الأصل بل يرون ثمت تحقيقاً تفاضليا نسبياً بحسب الأبواب المقررة في الفقه وأصوله . كتقديم أحد هذه المذاهب في قواعد القياس والعلة و السبب، أو دلالات الألفاظ ، أو ترتيب و توفيق الأدلة المختلف فيها ونحو ذلك ، وكذا في الأبواب الفقهية كتقديم مذهب في مسائل الطهارة وآخر في المناسك وآخر في الأطعمة و هلم جرا . ومع هذا فلا يقع هذا التفضيل في سائر المسائل المقولة باطراد بل يكون هذا من حيث الجنس الذي يتخلف بعض أفراده . والناظر في كتب الفقه و أصوله يرى تداخلاً في كثير من الفروع والقواعد التطبيقية بين هذه المذاهب فضلاً عن التوافق في أصول الاستدلال ، وجماع الفروع المتفق عليها ، و بخاصة بين الشافعية والحنابلة في الفروع الفقهية ، وبين الشافعية والمالكية المتأخرين في كتب الأصول هذا التداخل الثاني بفعل الجمع المنهجي الكلامي الذي انتجته مدرسة الأشعرية التي أكثر ممثليها من الشافعية ثم المالكية ، حتى أطلق كثير ممن كتب في تاريخ أصول الفقه : أن ثمت طريقتين للتأليف فيه : طريقة المتكلمين الممثلة عند علماء الأصول من الشافعية و المالكية في الجملة ، وطريقة الفقهاء التي تضاف للأحناف ، ويذكر كثيرون وجود منهج توفيقي بين الطريقتين . وهذه القراءة التاريخية في التصنيف المنهجي لصياغة هذا العلم فيها مراجعة ، وعليها سؤالات ليس هنا إمكان للحديث عنها .
لكن المهم قوله هنا : أن أكثر كتب أصول الفقه التي يجري التعامل معها في هذا العصر ، بمعنى : أنها ورقة القراءة المفترضة ، مكتوبة بتكوين علمي مركب إلى حد الاختلاف إذا اعتبرنا الأصول التجذيرية لهذا التركيب ، حيث مثل "علم الكلام" الذي استعمله المعتزلة ثم الأشاعرة و الماتريدية في التقرير العقدي أثراً في التقرير والصياغة الأصولية ، وإن كان ليس بنفس الممارسة العقدية ، لكن حين تقرأ البرهان لأبي المعالي الجويني أو المستصفى لأبي حامد الغزالي أو المحصول لابن الخطيب الرازي أو الأحكام للسيف الآمدي وهم من أعيان الشافعية الأصولية ، المتكلمة على الطريقة الأشعرية أو في المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي الحنفي وترى رسم أصول الفقه عند هؤلاء المصنفين و أمثالهم من أعيان علماء الكلام فهنا يكون من الواضح أثر هذا العلم في صياغة أصول الفقه فضلا عن استعمال المنطق الأرسطي المترجم كآلية للتراتيب الأصولية عند كثير من المتكلمين المصنفين في الأصول ، وربما صار هو قانون العقل كما هو اتجاه الغزالي . وإذا أخذنا الاتجاه المذهبي الفقهي وجدنا أنه يُشكل مع الاتجاه القانوني ( الكلامي ـ المنطقي ) تركيباً متمايزاً ليس أثره يختص بصنعة الحرف والكلمة ،ونسق الصياغة بل يتحصل له أثر في النتائج العلمية، وانقطاع التواصل أحياناً مع المذهب الفقهي ،و ربما صح أن نقول : إن هذا الترتيب المتمايز شكّل العقل الأصولي في الطور الثاني بعد الشافعي .