محاضرة للشيخ سالم البصري المديني من شريط قديم له –عام 1984م، تحت عنوان
خالد و ماهان ،دروس وعبر
وهي من سلسلة محاضراته
" كلمات تقاتل !! "
قال رعاه الله تعالى :
...لما التقت صفوف جيش الإيمان في اليرموك مع الروم أرسل الروم طالبين من المسلمين إرسال من يرونه من عظمائهم وخيارهم ،فأرسل إليهم أبو عبيدة رضي الله عنه الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه ،وقال : القهم وادعهم الى الإسلام ،واعرض عليهم الخصلتين إن أبوا ذلك.
فشمر ابن الوليد لذلك ساعديه وذهب إليهم ،وجلس مع قائدهم ماهان ،وهنا لجأ ماهان لمحاورة هذا الصحابي فقال : أتحتاج الى مشورة هذا الرجل معك وأنت على هذه الحكمة والدهاء؟
قال البصري المديني : وكأنه يستفزه ،وهيهات وهو الثمال !!
فقال خالد : إن في عسكرنا لأكثر من ألفي رجل ،كلهم لا يستغنى عن رأيه ،وعن مشورته.
قال البصري المديني: وأي جابة- قلت : الجابة هي الجواب- من خالد هذه،وتأمل رعاك الله!
فقال ماهان:
إني أريد أن ألقي الحشمة فيما بيننا ،فان شئت بدأناك بالكلام ،وان شئت أنت فتكلم.
فقال خالد: ما أبالي أي ذلك كان ، أما أنا فلا أخالك إلا وقد علمت ،وبلغك ما أسأل وما أطلب ،وأدعو إليه، وقد جاءك بذلك أصحابك.
قال البصري المديني : أعطاه المطلوب مختصرا وبلغة مسددة واضحة .
فقال ماهان : الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء ،وملكنا أفضل الملوك ،وأمتنا خير الأمم .
قال البصري المديني: لاحظوا أحبتنا ،كيف جاء رد ابن الوليد عليه بهدوء وسعة صدر دون أن تأخذه عصبية أو ما يطفح عند البعض عندما يسمع مثل هذه الكلمات ،وهذا لعمري من بين أبرز ما يحتاج له صاحب الحُديا – قلت : المباراة- والقائد الحكيم.
قال خالد: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الأنبياء ،وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا ،فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا ، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا ، إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبر.
والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتقر بالذنب ،وتستغفر الله منه ،وتعبد الله وحده ،لا تشرك به شيئا .
قال البصري المديني : أرسى أجمل معاني الإيمان وحشد أروع صور السياسة الشرعية ، ومن ثم قذفه بقوة الكلمات فقال لماهان :
" قل الآن ما بدا ...."
قال البصري المديني: وهذه عبارة صلطح – قلت : عريض- تثير عادة السامع ، فاصفر وجه ماهان،ثم ما لبث أن تكلم ثانية ،وقال:
الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا ونصرنا، فقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن إليهم ،فلم يرعنا إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال ،وقد طلب هذا منا قبلكم من هو أكثر منكم عددا ،وأعظم مكيدة، ثم رددناهم فلم يرجعوا إلا وهم بين قتيل وأسير ،ولم تكن أمة من الأمم عندنا بأرق منكم شأناً،ولا أصغر أخطاراًً، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل،وأهل البؤس والشقاء ،وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلا جهد نزل بكم ،فأخذتم الذهب والفضة منا فهو لكم ،فان أبت أنفسكم إلا أن تحرصوا وتشرهوا ،وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما يقوي به الضعيف منكم فعلنا ،ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ،ونأمر لك بمثلها ،ونأمر لرؤساكم بألف دينار ،ولجميع أصحابكم بمائة دينار، على أن توثقوا لنا بالأيمان المغلظة ألا تعودوا الى بلادنا.
قال البصري المديني: أنظروا يا أخوتنا الى ماهان هذا،فلو كان قد قرأ على صفحة وجه هذا الصحابي العزام رضي الله عنه غير قوة الإيمان والثبات عليه والإقدام والتفاني والتضحية بكل شئ من أجل إعلاء راية الحق - وهي بلا ريب من أجل صفات القادة ،هل كان له أن يصرح ويقول بمثل ما قال ،برغم ما قدمه من عفاشة لفظية ،خاصة بعد قوله : ولم تكن أمة من الأمم .... ؟؟ وهاكم أسمعوا لقول خالد ،وقد تصعدت روحه فجاء بخطبته العُباهر – قلت : العظيم – وعجباً لخالد فكأنه الآن يتكلم ! :
الحمد لله الذي لا اله إلا هو ،واشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أما بعد:
فكل ما ذكرت من العز والتمكين في البلاد ،وما ذكرت من إنعامك على جيرانك منا فقد عرفناه
قال البصري المديني: لاحظوا أحبتنا ،كيف عامل هذا الصحابي الجليل قائد الروم،فتكلم معه بعلم وعدالة والدين كما قال شيخ الإسلام كله العلم والعدل –مجموع الفتاوى 28/179- ،وأن الله يحب الكلام بعلم وعدل وإعطاء كل ذي حق حقه –الفتاوى 12 / 205- فلم ينكر عليهم ما قدموه ولكنه جاء به (إليه) مفسرا ،هاكم اسمعوا لقول خالد :
وذلك لأمر تريدونه ،إلا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم دخلوا معكم في دينكم فهم يقاتلوننا معكم .
قال البصري المديني: وهكذا هم يفعلون – قلت وكأنه يشير إلى أصحاب بعض الفرق المعاصرة اليوم - ثم أراد ابن الوليد رضي الله عنه أن يأتي بخطبته العقيان ( قلت : الذهب الخالص) المتصاعدة لقصة الإسلام الخالدة وعلى ثرى أرض المعركة . والله اكبر كم من كلمات تبقى على مر الأعصر نافذة مهابة ،ولا ادري كيف يمر عليها الزمان وهي غير محفوظة بالصدور !! هاكم أسمعوا لقصة الإسلام المختصرة عند خالد بن الوليد وهي لعمري مشتهرة ،فقال :
واني سأقص عليكم قصتنا ،وأدعوك الى حظك إن قبلت .
قال البصري المديني: وتلكم هيمنة لفظية في الميدان.
وقال خالد:إلا إنا أمة أنزلنا الله – له الحمد- منزلا ً ليست به أنهار جارية ،ولا يكون به الزرع إلا القليل ،نقطع أرحامنا ،ونقتل أولادنا خشية الإملاق ،ويأكل قوينا ضعيفنا، نعبد من دون الله أرباباً ننحتها بأيدينا.
فبينما نحن كذلك على شفا حفرة من النار ،إذ بعث الله فينا رسولاً ،دعانا الى الله وحده ،وقال لنا : لا تتخذوا من دون الله ربكم إلهاً ،ولا ولياً ،ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا.
قال البصري المديني: وتابع رضي الله عنه قائلا
وقال لنا – قال البصري المديني: يشير الى الجوهرة الخالدة وواسطة العقد السائدة المصطفى محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى ،وكل من زعم أن لله ولداً ، وأنه ثاني اثنين ،أو ثالث ثلاثة ،حتى يقولوا : لا اله إلا الله ،ويدخلوا في الإسلام ،فان فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها ،وهم إخوانكم ،لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ،فان أبوا فاعرضوا عليهم الجزية ،فان فعلوا فاقبلوا ،وكفوا عنهم، وان أبوا فقاتلوهم .
قال البصري المديني: ثم أن خالدا لما قال هذه الكلمة كان قد وصل الى نتيجة عظمى وكان لا بد أن ينشأ لها التفرع على النتيجة فقال :
فانه من قُتل منكم –أي من المسلمين- كان شهيداً، وأدخله الله الجنة ، ومن قُتل من عدوكم قُتل كافراً ،وصار الى النار مخلداً فيها أبداً.
ثم قال خالد :
وهذا –والله الذي لا اله إلا هو – ما أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم فعلمنا ،وأمرنا به أن ندعو الناس إليه، فندعوهم إلى الإسلام ،فان فعلتم فأنتم إخواننا ،فان أبيتم فالجزية ،وان أبيتم فقد – والله- جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة ،فاخرجوا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله ،فقد قال الله سبحانه حكاية عن موسى :
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (الأعراف ،الآية 128)
فقال ماهان : إن هذه الأرض كانت لقوم قبلنا فأخذناها منهم ، فابرزوا على اسم الله ،فانا خارجون إليكم .

قال البصري المديني : فخرجوا وكتب الله تعالى النصر جَفراً للمسلمين .


سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت. .....له الفتوح وهل أغنى تواليها
غزى فأبلى وخيل الله قد عقدت.... باليمن والنصر والبشرى نواصيها
يرمي الأعادي بآراء مسددة.... وبالفوارس قد سالت مذاكيها
ما واقع الروم الا فر قارحها .... ولا رمى الفرس الا طاش راميها
ولم يجز بلدة الا سمعت بها .... الله أكبر تدوي في نواحيها
عشرون موقعة مرت محجلة .... من بعد عشر بنان الفتح تحصيها
وخالد في سبيل الله موقدها.... وخالد في سبيل الله صاليها